الاتحاد الأوروبي: غلبة هموم الداخل على هموم الخارج

إن الاتحاد الأوروبي عملاق اقتصادي، قزم سياسي-عسكري: تم وضع إمكاناته الاقتصادية تحت تصرف وإدارة جماعية في إطار عملية تكامل واندماج، هي الأرقى من نوعها في تاريخ البشرية، لكنه عجز إلى الآن عن استنساخ هذه التجربة سياسيا وعسكريا.
20133411129610734_20.jpg

يبدو أن الاتحاد الأوروبي، الذي يقدم نفسه أو على الأقل يُقدَم باعتباره قوة معيارية، بدأ يفقد بريقه السياسي على الساحة الدولية. فتحركه إزاء الربيع العربي جاء متذبذبا ومحكوما بهاجس الهجرة، حيث تفاجأ وارتبك أمام التحولات داخل تخومه العربية المتوسطية. بيد أن الأزمة المالية مرت من هنا ولا زالت تفاعلاتها وآثارها تؤرق أوروبا اتحادا ودولا.

ولا نبالغ إذا قلنا إنه حتى في عز التوسيع الكبير (انضمام 8 دول شرق-أوروبية إضافة إلى مالطا وقبرص في 2004) لم ينكفئ الاتحاد الأوروبي على نفسه بهذه الدرجة الكبيرة.

وبناء على ذلك فإن القول بأن الأزمة الاقتصادية هي العامل الرئيس في تركيز جهود الاتحاد على ترتيب البيت الأوروبي، وأنها السبب في تراجعه دوليا أمر مبالغ فيه لسببين: تضخيم الدور الذي كان يلعبه في السابق (قبل الأزمة الاقتصادية) وعدم التركيز على طبيعة الاتحاد كفاعل يعبر عن إرادات عدة فواعل متعددة الحجم والنفوذ ومتعارضة المصالح أحيانا.

وسنركز في هذه المقالة على ثقل هموم الداخل الأوروبي (البيني والوطني)، وإشكالية إصلاح مؤسسات الاتحاد، ومحدودية التهديد البريطاني بالانسحاب منه، وتراجع نفوذ - في الظاهر - وموازين القوة عالميا.

أي إصلاح: مزيد أم قليل من أوروبا؟

تتجاذب أوروبا عموما رؤيتان للإصلاح، تقول الأولى –وتمثلها ألمانيا وفرنسا رغم بعض الفوارق في التصورات- بمزيد من أوروبا: تعميق الاتحاد بمزيد من الاندماج، ونقل صلاحيات وطنية جديدة إليه، ووضع أسس مراقبة سياسية أوروبية لعالم الاقتصاد والمال وطنيا وأوروبيا، وحتى تزويده بمؤسسات ديمقراطية كانتخاب المفوضية الأوروبية بالاقتراع العام.

وإذا كانت ألمانيا تركز على تدعيم صلاحيات المؤسسات الأوروبية للتكفل بالاستقرار المالي في منطقة اليورو، فإن فرنسا تهتم أكثر بإخضاع عالم المال للمراقبة السياسية، وهما متفقتان على ضرورة فرض "ضريبة توبين" على المعاملات المالية. بيد أن ألمانيا معنية بالدرجة الأولى بتصدير نموذجها للانضباط المالي (التحكم في الميزانية وفي الإنفاق العام) إلى دول الاتحاد، بينما تسعى فرنسا – الأقل انضباطا في هذا المجال – إلى إضافة فريضة النمو لترقى مصاف فريضة الانضباط المالي. وهنا يكمن التقاطع الألماني-البريطاني حول مبدأ الانضباط المالي.

الرؤية الثانية، وتمثلها بريطانيا، تقول بعدم تدعيم الاندماج الأوروبي، وترفض التنازل على المزيد من الصلاحيات الوطنية للاتحاد، مشيرة إلى أن تطوره نحو المزيد من الاندماج قد يجعلها تعيد النظر في روابطها معه. كما ترفض فكرة "ضريبة توبين" لأنها المستفيد الأكبر من المعاملات المالية بحكم موقع لندن في الأسواق المالية الأوروبية.

وبلغ الخلاف ذروته بين ألمانيا وبريطانيا حول إدارة الأزمة المالية وتسيير ملف المديونية. فألمانيا تريد مراجعة المعاهدات الأوروبية لتكريس مبدأ انضباط الميزانية (الانضباط المالي) وتريد "المزيد من أوروبا". على النقيض من ذلك، تريد بريطانيا اندماجا أوروبيا محدودا. ويسبب الموقف الألماني متاعب سياسية لبريطانيا، لأن ألمانيا –عكس فرنسا– أقوى اقتصاديا وأكثر انضباطا (ميزانية، إنفاق...).

وتتخوف بريطانيا من بروز نواة أوروبية قوية تتشكل من دول منطقة اليورو بقيادة ألمانية. ومعضلتها حقيقية: لا تريد أن تنهار منطقة اليورو لما لذلك من انعكاسات على أوروبا وعليها، لكنها لا ترغب في نجاحها لأن ذلك يعني تعميق الاندماج الأوروبي.

وبسبب هذه التجاذبات وتعارض الرؤى، انتهت آخر قمة أوروبية لعام 2012 (المنعقدة في منتصف ديسمبر/كانون الأول ببروكسل) بالحفاظ على الوضع المؤسساتي القائم مؤجلة بذلك إصلاح الاتحاد وتحديدا منطقة اليورو. فقد اتفق على تأجيل القرارات الكبرى لما بعد عام 2014، وهو العام الذي سيشهد انتخابات البرلمان الأوروبي وتشكيل مفوضية أوروبية جديدة. ولم يلتزم الأوروبيون بأي شيء قبل هذا الموعد بسبب الاستحقاقات الانتخابية الأوروبية، وطلبوا مجددا من رئيس الاتحاد الأوروبي تقديم نسخة جديدة لتصور حول إصلاح الاتحاد.

بيد أن أوروبا لم تخرج خالية الوفاض تماما من هذه القمة، فقد تم اتفاق على مراقبة أوروبية (وليس وطنية) للبنوك في منطقة اليورو أسندت للبنك المركزي الأوروبي، وعلى مساعدة اليونان. ويخص الاتفاق البنكي تحديدا كيفية إعادة رأسمالة البنوك الخاضعة لمراقبة البنك المركزي الأوروبي، وستدخل هذه المراقبة حيز التنفيذ في مارس 2014. وأكدت ألمانيا على أن هذا لن يكون على حساب المساهم الأوروبي في ميزانية الاتحاد وعلى ضرورة تحمل المتسببين في الأزمات البنكية مسؤوليتهم. كما تم الاتفاق على "آلية التضامن" قصد تحفيز الدول التي تعرف أزمات للقيام بالإصلاحات الضرورية.

أما فيما يخص ميزانية الاتحاد للفترة 2014-2020، فبعد معركة سياسية طويلة النفس تم الاتفاق على ميزانية بـ 908 مليار يورو، بتخفيض قدره 3% مقارنة بسابقتها. وهي أول مرة في تاريخ الاتحاد الأوربي يتم فيها خفض ميزانيته. وطغت المصالح الوطنية على المصلحة الأوروبية في النقاش حول الميزانية؛ ففرنسا كانت تريد الإبقاء على الغلاف المالي المخصص للسياسة الزراعية للاتحاد لأنها المستفيد الأول منها وعليه نجحت في التقليص من التخفيضات التي طرأت عليها. أما بريطانيا (التي طالبت بتخفيض الميزانية بـ 80 مليار من أصل 960 مليار طالبت بها المفوضية الأوروبية في البداية) فرحبت بالاتفاق ونجحت في فرض تخفيض ولو رمزي لرواتب موظفي الاتحاد الأوروبي.

بريطانيا والاتحاد: قدم في الداخل وقدم في الخارج

مشكلة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي ليست جديدة، وهي تعود إلى إستراتيجيتها البنيوية القائمة على المزج بين مبدأين لا يمكن التوفيق بينهما: الاستثناء البريطاني والانتماء الأوروبي، وهيكلة الإستراتيجية البريطانية على أساسهما، جعلها تساهم في تطوير الاتحاد تارة (لما ترى مصلحة في ذلك) وتمتنع أو تعترض على ذلك تارة أخرى.

ولا يمكن اختزال علاقة بريطانيا بالاتحاد في التعارض بين التوجهين الأوروبي والأطلسي لأنها كثيرا ما فضلت العلاقة مع أميركا على العلاقة مع شركائها الأوروبيين. والواقع أن موقفها من الاتحاد برغماتي إلى حد الأنانية – كما يتهمها بذلك شركاؤها الأوروبيون. فلندن ترمي إلى الاستفادة من محاسن الاتحاد دون الـتأثر بمساوئه أو بالتداعيات والالتزامات التعاقدية المنبثقة عن معاهداته؛ فهي لم تدخل في نظام شينغن ولا في منطقة الأورو متذرعة بمبدأ التمايز الذاتي الذي يمنح الحق لأي طرف بأن يلتحق بسياسة أوروبية وقت ما شاء على ألاَّ يعرقل تبنيها.

ومن ثم فلا غرابة أن تتوتر العلاقة في وقت الأزمات، لأن بريطانيا لا ترغب في المساهمة في الجهد المالي والسياسي للخروج من الأزمة وتريد فرض رؤيتها للإصلاح رافضة رؤى شركائها. وذهبت إلى حد التهديد بالانسحاب من الاتحاد. وهنا مكمن خطئها الإستراتيجي، فنخبتها الحاكمة تعتمد على الرأي العام المحلي المناوئ لأوروبا، لكنها تغفل حقيقة أخرى وهي أن الرأي العام الأوروبي مناوئ أيضا لسياساتها حيال الاتحاد.

نظريا يمكن لأي بلد أن ينسحب من الاتحاد الأوروبي وقت ما شاء، لكن الأمر معقدة للغاية عمليا، لأن الانتماء للاتحاد خلق مع مرور الزمن ارتباطات هيكلية وتوافق مصالح من الصعب التنصل منها بين عشية وضحاها. ثم إن بريطانيا ستخسر من انسحابها أكثر مما سيخسر الاتحاد: ثقلها الدولي سيكون مختلفا تماما إن هي غادرت البيت الأوروبي، وثقلها الأوروبي سيختل تماما لأنها ستترك القارة للنفوذ الألماني والفرنسي. وحسبنا أن تهديدها بتنظيم استفتاء - محسوم النتيجة سلفا- مناورة سياسية للضغط على الشركاء الأوروبيين لا أكثر. ذلك أنه رغم السبق السياسي الذي سيحدثه انسحابها من الاتحاد فإن موازين الربح والخسارة تميل وبقوة للاتحاد الأوروبي. فضلا عن هذا فإن بريطانيا التي عجزت على توجيه سياسات الاتحاد حسب رغبتها وهي عضو مؤثر فيه لن تنجح على الإطلاق في التأثير فيه وهي خارجه.

تراجع نفوذ الاتحاد دوليا

يبدو أن هموم الداخل وتعارض الرؤى بين الشركاء حول تشخيص الأزمة والعلاج الأنسب، جعل نفوذ الاتحاد يتراجع دوليا. ونلاحظ العلاقة الوطيدة بين اهتمامات القوى الفاعلة في الاتحاد ودوره العالمي. فكلما ركزت قواه الفاعلة (فرنسا، بريطانيا وألمانيا) جهودها على هموم الداخل، كلما تراجع نفوذ الاتحاد، وهذا يعني أن نفوذه وثقله الدوليين مرهونان بتوجهات القوى الفاعلة فيه والتي تحدد أجندته الدولية.

إضافة إلى ذلك، فإن سياسة الاتحاد هي نتاج توافق أوروبي بيني، يتكون عبر عملية معقدة وطويلة الأمد. ومع الأزمة الداخلية للاتحاد ودوله، تم التركيز على ضرورة التوافق على الهموم البينية، فيما تركت هموم الخارج جانبا، لتتكفل بها دول بعينها وفق مصالحها. ومن هنا يمكن القول إن الأزمة الداخلية للاتحاد تجعله يغض البصر عن بيئته الدولية ويترك العنان لبعض دوله لتبني سياسات وطنية دون إشراكه، بل ولتتحرك خارج إطاره ساعية لجره إلى سياستها مستقبليا، (مثال تحرك فرنسا الأحادي في أزمة مالي).

الضعف الحالي للاتحاد ليس حتما تراجعا بنيويا لدوره عالميا، فمحدداته أوروبية بالأساس، بمعنى أن الأزمة الاقتصادية هي التي جعلته يركز جهوده على ترتيب البيت الأوروبي. كما أن "الفراغ" الذي قد يتركه ولو ظرفيا لا يعني أن قوى أخرى ستستغله، وذلك لسببين: "انسحاب" الاتحاد الأوروبي من الساحة الدولية ليس نتيجة منافسة قوية من طرف القوى الأخرى، دور الاتحاد يختلف بعض الشيء عن دور غيره لأنه يعبر عن جملة من الإرادات السياسية كما أنه يعتبر نفسه قوة مدنية لا عسكرية. فضلا عن هذا، فإنه لم يتدخل في أي أزمة كاتحاد، باستثناء أزمة البلقان وبعد تدخل الناتو. وعليه، فإذا كان دوره حتى في أوروبا تابعا لدور الأطلسي عسكريا، فلا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك خارجها. إن التحرك العسكري الأوروبي يكون دائما وطنيا، أي من فعل دولة أو أكثر، وبعدها يأتي الغطاء السياسي-المالي الأوروبي (المحتشم في غالب الأحيان) كما حدث في ليبيا ومؤخرا في مالي. وعليه فغياب الدور الأوروبي في سوريا يعود أيضا إلى غياب أي تحرك أوروبي-وطني تقوده قوة أوروبية أو أكثر. ولا ننسى أن الحالة السورية تتوفر فيها ثلاثة عوامل تحول دون التدخل العسكري: روسيا والصين تعتبران أن القوى الغربية خدعتهما في الأزمة المالية بتجاوز صلاحيات القرار الأممي، طبيعة العلاقة التقليدية بين روسيا وسوريا تجعل التدخل صعبا دون تحييد روسيا، موقع سوريا والجوار مع إسرائيل يعقد أي تحرك أوروبي (أو غربي).

تكمن معضلة أوروبا أيضا في كونها تقول بضرورة تدعيم المنظومة الأممية القائمة على مبادئ الأمم المتحدة وهذا يعني نوعا من الحياد في بعض الصراعات للدفع نحو التسوية السلمية، بيد أن دولا من الاتحاد تنحاز لأطراف معينة. ففي الأزمة السورية يرى الاتحاد ضرورة التسوية السلمية واحترام إرادة الشعب السوري ويرفض تسليح المعارضة مكتفيا بالمساعدات الإنسانية، بينما بعض دوله تنحاز لطرف على حساب الآخر وتنسق مع تركيا (التي تقوم بمناولة لحساب أوروبا في الأزمة السورية بغض النظر عن كونها معنية بالدرجة الأولى بهذه الأزمة بحكم الجوار). ثم ما معنى مواصلة رفض تسليح المعارضة السورية إذا كان الطرف الآخر (النظام) يواصل التسلح بفضل روسيا... إن مشكلة أوروبا مع الأزمة السورية هي مشكلة ثقة في المعارضة، فهي غير متيقنة من الأيادي التي ستؤول إليها هذه الأسلحة والتي قد تستخدم فيما بعد ضد إسرائيل، وربما في صراعات داخل لبنان مثلا. ومن غير المستبعد أن تكون سابقة انتقال الأسلحة من ليبيا إلى مالي أحد المحددات الرئيسية للموقف الأوروبي فضلا عن شح الموارد المالية.

لا تضر الأزمة السورية بمصالح أوروبا ولا تضعها على خط المواجهة مباشرة من خلال الهجرة مثلا. كما أنها ليست بؤرة توتر ذات أولوية قصوى بالنسبة للاتحاد أو دوله. ومن هنا، فعدم التكفل بها ليس حتما دلالة على ضعف جديد –فضعف الاتحاد كفاعل سياسي وعسكري مسألة معروفة. ثم هل يمكن اعتبار بقاء الولايات المتحدة على الهامش في الأزمة الليبية وعدم انخراطها في أزمة مالي دلالة على ضعفها أو تراجع نفوذها؟ ليست المسألة بهذه البساطة.

الاتحاد الأوروبي وتوازنات القوة عالميا

إن مقارنة الاتحاد الأوروبي بالقوى التقليدية (أميركا وروسيا)، والصاعدة (الصين، الهند، البرازيل...) فيه إجحاف في حقه، فلا يمكن أن نتغاضى عن أن قرارات الاتحاد الإستراتيجية تتخذ بتوافق بين 27 دولة عضو، بينما قرارات القوى الأخرى تتخذ بشكل فردي، أي أن عملية صنع القرار ولعبة المصالح داخل الاتحاد تختلف تماما عن تلك المعهودة في الدول، لأنها تكون دائما بصيغة الجمع. فالاتحاد ليس فاعلا دوليا عاديا كما اعتدنا على ذلك منذ ميلاد منظومة "واستفاليا" في 1648، بل هو فاعل من نوع جديد، فاعل متعدد الفواعل الفرعية إن صح التعبير. كما أنه إلى الآن لا يتكلم بصوت واحد. فحتى في المجال الاقتصادي، يتعدد ممثلوه في الاجتماعات الدولية، إذ يمثله العديد من المسئولين (رئيس المفوضية، رئيس المجلس، ممثل البلد الذي يتولى الرئاسة الدورية للاتحاد، وممثلي القوى الاقتصادية الأربع الأقوى فيه).

ومن ثم، يجب أن يكون تركيزنا على الأطراف النافذة في الاتحاد وليس على الاتحاد نفسه، فهذا الأخير شأنه شأن الناتو حبيس إرادات دوله النافذة، حتى وإن كان يريد أن يستقل بذاته مقدما نفسه كفاعل عالمي وكقوة معيارية. وحتى تكون المقارنة بينه وبين القوى الأخرى صحيحة يجب التسليم بوجود سياسة خارجية وأمنية أوروبية حقيقية تجعله يقرر بسرعة ويتكلم بصوت واحد وهذا طبعا لم يحدث بعد، وآفاق حدوثه لا زالت بعيدة.

 كما يجب ألاَّ ننسى أن قوة الاتحاد ذات طبيعة اقتصادية، وثقله العالمي لم يهتز رغم الأزمة الاقتصادية. فنفوذه في منظمة التجارية العالمية (التي هو عضو فيها زيادة عن عضوية دوله في ذات المنظمة) وفي مجموعة العشرين لم يتأثر بفعل الأزمة. إن الاتحاد الأوروبي عملاق اقتصادي، قزم سياسي-عسكري: تم وضع إمكاناته الاقتصادية تحت تصرف وإدارة جماعية في إطار عملية تكامل واندماج، هي الأرقى من نوعها في تاريخ البشرية، لكنه عجز إلى الآن عن استنساخ هذه التجربة سياسيا وعسكريا. ومن ثم، فمشكلة الاتحاد ليست في القدرات المتاحة وإنما في الانسجام بينها وفي التنسيق السياسي بين قواه الفاعلة.

هناك عامل يجب الإشارة إليه، وهو أن الأهم في العلاقات الدولية ليس القوة الحقيقية لفاعل ما، وإنما المهم هو مدركات الآخرين لحقيقة هذه القوة، فقد يكون بلد ما ضعيفا بقدر ما، لكن تدركه بلدان أخرى على أنه قوي، وهذا الإدراك (الخاطئ) هو الذي يحدد سلوكها حياله. فكثيرة هي البلدان التي تقرأ ألف حساب لمواقف فرنسا، ألمانيا، وبريطانيا، ليس لقوتها وإنما أيضا لمجرد عضويتها-مركزيتها في الاتحاد الأوروبي، وما قد يترتب عن ذلك من دعم وتدعيم لها عالميا، هذا بغض النظر عن الدعم الحقيقي الذي قد تتلقاه من الاتحاد. وهنا تصبح المدركات أكثر حسما في تحديد سلوك الغير.

وخلاصة القول، إن الاتحاد الأوروبي لم يتمكن من إحداث تغير في بنية النظام العالمي رغم ثقله الاقتصادي، وبالتالي فوجوده كفاعل دولي لم يغير من قواعد اللعبة السياسية الواقعية بالأساس (الغلبة فيها للتصورات الهوبزية على التصورات الكانتية). ومن هنا، فـ "تراجعه" – الظرفي- لن يؤثر على هيكلة النظام العالمي.

ثم إن الأزمات الدولية التي تكون فيها القوة العسكرية – والتي يفتقر إليها الاتحاد كفاعل– هي الحكم تقود دائما إلى عمليات إعادة البناء والإعمار والتي تقتضي كما حدث في السابق دورا أوروبيا مميزا. وربما هنا مكمن التساؤل المركزي حول تقاسم الأدوار –بغض النظر عن الاتفاق حول ذلك من عدمه– بين القوى الدولية رغم تعارض مصالحها. فالاتحاد تقاسم بين أركان الكتلة الغربية، فكانت أميركا والأطلسي ذراعه العسكرية، وأوروبا (اتحادا ودولا) ذراعه اللوجستية والإعمارية، على أن يُترك هامش المناورة في بؤر الأزمات المنخفضة الحادة (أزمة مالي مثلا) لدول أوروبية.
________________________________
عبد النور بن عنتر - أستاذ محاضر بجامعة باريس 8 في فرنسا، وباحث مختص في الشؤون الأوروبية والعلاقات الدولية

نبذة عن الكاتب