الممارسات السياسية الأخيرة لمقتدى الصدر تكشف عن انفصام شبه تام في العلاقة بين الإيرانيين والتيار الصدري (الأوروبية) |
يتفرد التيار الصدري من بين القوى الشيعية في الأزمة الراهنة بأنه شريك في حكومة نوري المالكي لكنه مع الاحتجاجات التي تعترض على سياسته، وتوجد سوابق لهذا الموقف تداخلت عوامل عديدة في تشكيلها، فهو تيار شيعي لكنه وريث تجربة سعت لأن يستقل التشيع العربي عن التشيع الإيراني، وهو في نفس الوقت تيار ظل موجودًا داخل العراق بشكل مستمر، بخلاف القوى الشيعية التي تواجدت بالخارج وعادت مع الاحتلال الأميركي، علاوة على عوامل أخرى مجتمعة جعلته يتصرف بشكل فريد؛ فيشارك في العملية السياسية لكنه يقاتل الأميركيين، ويحتمي بإيران لكنه ينتقد استراتيجيتها بالعراق، ويضع رِجلاً في السلطة وأخرى في المعارضة، ويشكّل جزءًا من البيت الشيعي لكنه ينخرط في احتجاجات السنّة.
الصدريون: مسار متفرد
أثّر الحصار الشامل الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق بعد احتلاله الكويت (قرار مجلس الأمن رقم 661 في 6أغسطس/آب 1990) في إعادة هيكلة المجتمع العراقي اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وقيميًا. وقد كانت الظاهرة الصدرية أحد إفرازات عقد التسعينيات من القرن الماضي-عقد الحصار، حيث استطاع رجل الدين محمد صادق الصدر أن يستثمر جملة من التحولات التي أعقبت حرب الخليج الثانية في أن يبرز بقوة في المشهد الشيعي في العراق بداية من العام 1992. فقد أعاد الرجل إعادة إنتاج الصراع حول "عروبة" الحوزة الدينية في النجف، وهو صراع بدأ مبكرًا مع بداية القرن العشرين، ربما بتأثير من الفكر القومي الذي هيمن على المنطقة. كما أعاد إنتاج الصراع المديني-الريفي، طبقيًا واجتماعيًا وسياسيًا، حول التمثيل الشيعي في داخل المؤسسة الدينية الشيعية ككل، من خلال كسر احتكار البيوتات الدينية المدينية لطبقة رجال الدين، تحديدًا في النجف وكربلاء وبغداد، وفسْح المجال واسعًا لأبناء المحافظات الجنوبية (ميسان، الناصرية، البصرة، الديوانية، المثنى)، سواء من المواطنين الأصليين لهذه المحافظات، أو المهاجرين منها إلى العاصمة بغداد بوجه خاص، كي ينخرطوا في الدراسة الحوزوية التي كان يتولاها بنفسه. وهو الصراع الذي تم التعبير عنه بالصراع بين حوزة المعدان (1) وحوزة النجف، أو الصراع بين الممثَّلين المهمشين من ذوي البشرة السمراء والمنتمين إلى عشائر ريفية، بعضها تشيع في وقت متأخر (بين نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر)، والممثِّلين التقليديين من ذوي البشرة البيضاء من سكان الحواضر الشيعية في النجف وكربلاء والكاظمية. وقد أفاد الرجل من المناخ الذي نتج عن القمع العنيف للتمرد الذي وقع في المحافظات الوسطى والجنوبية ذات الأغلبية الشيعية في أعقاب إخراج القوات العراقية من الكويت، والانتقادات الضمنية التي وُجهت للحوزة الدينية في النجف الأشرف، تحديدًا مرجعية السيد أبي القاسم الخوئي (1899-1992) بسبب موقفها غير الحاسم من دعم هذا التمرد، وذلك من خلال طرح الصدر لثنائية الحوزة الناطقة (يطلق عليها البعض "مرجعية الميدان")، أي المؤسسة الدينية العملية المرتبطة بالمجتمع بشكل مباشر ويمثلها هو شخصيًا، والحوزة الصامتة التقليدية التي انحصر دورها في الإطار الديني البحت. وقد استطاعت الظاهرة الصدرية الانتشار، بطريقة غير متوقعة، بين الطبقات الاجتماعية الفقيرة في هوامش المدن التي فشلت الأنظمة السياسية المتتابعة في إدماجها مجتمعيًا، مثل مدينتي الصدر (هذا اسمها بعد 2003، وكانت تُدعى مدينة الثورة في زمن عبد الكريم قاسم، ومدينة صدام في زمن صدام حسين)، والشعلة في بغداد، والحيانية في البصرة.
وقد قام السيد محمد صادق الصدر في العام 1998 بخطوة راديكالية غير مسبوقة، في إطار سعيه للتمايز عن المراجع التقليديين، وهي إحياء صلاة الجمعة، التي كانت "فريضة معطلة" عند الشيعة، بل قال البعض بحرمتها وعدم وجوبها عينًا في عصر الغيبة (2)، وهي خطوة مثّلت في الوقت نفسه "استعراضًا" لقوته ونفوذه بين أتباعه ومقلديه (3). ولا يمكن النظر إلى هذه الخطوة بعيدًا عن "التنافس" مع "المرجعيات" التقليدية من جهة، والقائلين بـفكرة "ولاية الفقيه" المعاد إنتاجها من جهة أخرى (4)، ليس في العراق فحسب، وإنما في إيران أيضًا؛ فإحياء صلاة الجمعة كان الأداة العملية لمقولة "الولاية العامة المقيدة" التي قال بها الصدر، فهو يضع ثلاثة تقييدات للولاية العامة للفقيه، هي:
-
أولاً: التقييد بتطبيق الأحكام الشرعية العامة.
-
ثانيًا: التقييد بالتدني عن مستوى الأئمة المعصومين.
-
ثالثًا: التقييد بالمصلحة؛ إذ لا معنى للولاية بدون وجودها (5).
وهي ولاية تضعه في مواجهة مقولة: "ولاية الفقيه المطلقة" التي قال بها الخميني في عام 1988 والتي تجعل "المرشد الأعلى" قائدًا للشيعة في العالم كله، لأن ولايته شعبة من ولاية الله والرسول والأئمة المعصومين.
وما كان يمكن للسيد الصدر القيام بهذا الدور من دون "غطاء" رسمي، ونعني هنا الدولة العراقية التي رأت أن مرجعًا، أو فقيهًا من أصول عربية، يواجه سطوة الحوزة الدينية من داخل المؤسسة الشيعية نفسها، ويواجه المؤسسة الدينية/الرسمية الإيرانية بتنظير مضاد في الوقت نفسه، قد يكون أنجع من المواجهة المباشرة مع هاتين المؤسستين، لاسيما في ظل المناخ الطائفي الذي أخذ بالتصاعد بعد العام 1991، ولكن لحظة اغتيال محمد صادق الصدر وولديه في النجف في فبراير/شباط 1999 غيرت المعادلة القائمة مع السلطة تمامًا، وتم التعامل مع "الصدريين"، خاصة بعد المواجهات التي اندلعت في مناطق عدة بينهم وبين رجال الأمن، بوصفهم مصدر خطورة وتهديد.
البحث عن تمثيل سياسي
شكّل ظهور التيار الصدري بعد لحظة إبريل/نيسان 2003 مفاجأة للكثيرين؛ إذ كان ثمة اعتقاد بأن القبضة الأمنية المفرطة في العنف قد نجحت في القضاء عليهم تمامًا، خاصة وأنه لم يتم التعاطي بجدية حقيقية مع "الظاهرة الصدرية" التسعينية بوصفها حركة قادرة على الاستمرار والمطاولة بعد وفاة الصدر. وكانت لحظة مقتل عبد المجيد الخوئي يوم 10إبريل/نيسان 2003، أي بعد يوم واحد من مشهد إسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس وسط بغداد، التي اتهم فيها "أتباع مقتدى الصدر"، المرة الأولى التي سمع فيها الكثير من العراقيين بهذا الكيان، وبأن ثمة وجودًا حقيقيًا لشيء اسمه "التيار الصدري" (6). وقد تعزز اسم "الصدريين" بشكل واضح في الأسابيع اللاحقة، عندما عمد هؤلاء إلى ملء الفراغ الذي تركه سقوط مؤسسات الدولة من خلال أعمال تطوعية، ليس في بغداد وحسب، وإنما في المحافظات العراقية كافة. فقد نظّم الصدريون أنفسهم بسرعة بهدف الحفاظ على النظام العام، ومساعدة السكان في مناطق نفوذهم في توفير الخدمات العامة من خلال شبكة من المعمّمين صغار السن المقلدين للصدر الأب، متخذين من الحسينيات والبنايات العامة مقرات لهم. ولكن هذا الحضور "الاجتماعي" على الأرض لم يعطِ التيار أي اعتراف سياسي. هكذا خلا مجلس الحكم بوصفه "إدارة انتقالية مؤقتة"، والذي أنشأه الأميركيون في العراق في 13يوليو/تموز 2003 كصيغة من صيغ التمثيل، من أي حضور للصدريين، وقد بدا واضحًا أن الأميركيين، وربما بتأثير من الزعماء الشيعة الذين أرادوا احتكار التمثيل الشيعي، لم يقدِّروا بشكل موضوعي قوة مقتدى الصدر، أو مدى جماهيرية التيار الصدري وحجم قوته. ومن هنا لم يتم منحهم أي تمثيل في المجلس (7)، فكانت المواجهة اللاحقة بين الصدريين والقوات الأميركية نتيجة طبيعية لعدم حصول التيار الصدري على تمثيل سياسي ضمن هذه المنظومة، خاصة وأن بعض الممثلين الشيعة (كان عدد أعضاء مجلس الحكم 25 عضوًا: 13 شيعيًا، و5 للسنة والكرد، وممثلين للتركمان والمسيحيين) لم يكونوا يمتلكون أية "شرعية" سوى الاختيار الأميركي لهم، فلم يكن لأحمد البراك أو عبد الكريم المحمداوي أو وائل عبد اللطيف أو رجاء الخزاعي الذين اختيروا ليمثلوا الشيعة من عراقيي الداخل في مجلس الحكم أي ثقل سياسي، أو أي حضور سياسي قبل 2003. صحيح أن الصدر الأب كان يردد دائمًا شعاره الشهير: "كلا .. كلا أميركا، كلا .. كلا اسرائيل، كلا..كلا للشيطان"، إلا أنه لم يكن هناك موقف صريح ومعلن للتيار الصدري من الاحتلال الأميركي حتى لحظة اختيار مجلس الحكم، ولكن بعدها مباشرة بدأ الصدريون يتحدثون صراحة عن "رفض الاحتلال"، بل أعلن مقتدى الصدر تشكيل "جيش المهدي" في وقت لاحق. ولكن العلاقة بين الطرفين، الصدريين والأميركيين، لم تصل إلى حد المواجهة الصريحة إلا في إبريل/نيسان 2004، ووصلت المواجهة ذروتها في معركة النجف في أغسطس/آب 2004 التي انتهت بهزيمة غير معلنة، وهدنة رعاها المرجع الشيعي علي السيستاني شخصيًا. ولكن الحضور الأهم للتيار الصدري ظهر من خلال الدور الذي قام به جيش المهدي في عمليات التصفية الطائفية في أعقاب تفجير مرقد الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء في 22فبراير/شباط 2006، وهي عمليات "استخدم" فيها جيش المهدي للقيام بأعمال انتقامية وصفت بأنها طائفية، مع اتهام القوات الأمنية بالتواطؤ، تحديدًا القوات التابعة لوزارة الداخلية، مع وجود رغبة سياسية "شيعية" واضحة كي يتولى "جيش المهدي" الحرب لفرض نتائج محددة على الأرض في إطار الصراع السني-الشيعي في بغداد تحديدًا من جهة، وليشكّل "توازن رعب" شيعي في مواجهة حركة "القاعدة" من جهة أخرى. لكن جيش المهدي دخل في صراع داخلي شيعي-شيعي تُوّج بمعارك كربلاء في أغسطس/آب 2007، والتي انتهت إلى إعلان مقتدى الصدر "وقف" نشاطات جيش المهدي في 29 أغسطس/آب 2007، بما فيها الهجمات على قوات الاحتلال، لمدة ستة أشهر، تم تمديدها لستة أشهر أخرى في فبراير/شباط 2008. وعلى الرغم من هذا الإعلان، فقد واجه الصدريون تهديدًا لنفوذهم الواسع في المحافظات الجنوبية، وتحديدًا في البصرة من قبل الحكومة العراقية هذه المرة فيما أُطلق عليه "صولة الفرسان" في 25مارس/آذار 2008 والتي انتهت بفقدان التيار الصدري لنفوذه بشكل كبير، وقد امتدت هذه المواجهة لتشمل معاقل الصدريين في قاعدتهم الأساسية في "مدينة الصدر"، وهي مواجهة تمثل امتدادًا للصراع الداخلي الشيعي-الشيعي على النفوذ أكثر منها صراعًا بين "الدولة" وميليشيا خارجة على القانون، لاسيما أن "الدولة" نفسها كانت فاعلاً أساسيًا في منح الصدريين هذا النفوذ بالدرجة الأساس. لينتهي الأمر بتجميد جيش المهدي "إلى أجل غير مسمى" في 28أغسطس/آب 2008، "ومن يخلّ بذلك لا يحسب نفسه منتميًا الى هذا العنوان العقائدي" كما جاء في نص البيان الصادر عن مكتب الصدر (8).
لقد استطاع التيار الصدري في هذه المرحلة أن يحقق مكاسب اقتصادية بفضل ما يُعرف بالاقتصاد السياسي المرتبط بالنزاعات الداخلية، ومن خلال هذه المكاسب استطاع أن يثبّت نفوذه؛ حيث تمكن التيار عبر ذراعه العسكري "جيش المهدي" من خلال نشاطاته العنفية (الاختطاف، الاستيلاء على الأملاك الخاصة، فرض الأتاوات، التهريب) من جهة، وعبر النفوذ السياسي في مؤسسة الدولة من جهة أخرى، من توفير موارد اقتصادية مهمة ساعدته على تثبيت مصالحه السياسية والاقتصادية في آن.
يجب التمييز بين الصدريين أو التيار الصدري من جهة، وجيش المهدي من جهة ثانية؛ فالتسمية الأولى تُطلق على الجناح السياسي للتيار، والذي يتشكّل تنظيميًا من كيان يضم تشكيلين رئيسين:
-
التشكيل الأول: الهيئة السياسية لمكتب الشهيد الصدر التي يرأسها كرار الخفاجي، وله نائبان: النائب الأول الشيخ وليد الكريماوي، والنائب الثاني الشيخ علي المطيري.
-
التشكيل الثاني: كتلة الأحرار ويرأسها الدكتور ضياء الأسدي، وهذا الاسم أُطلق بداية عام 2009 قبيل انتخابات مجالس المحافظات. وتضم الهيئة السياسية لكتلة الأحرار 106 أعضاء، وهو تنظيم يرتبط مباشرة بمكتب الشهيد الصدر ويرأسه "القائد" مقتدى الصدر. وينظم انتخابات دورية لاختيار أمين عام له، وقد فاز الدكتور ضياء الأسدي بمنصب الأمانة العامة في الجولة الثانية من الانتخابات، التي جرت في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2011 بعد أن فشل المتنافسون في الجولة الأولى في الحصول على نسبة 50% + واحد المطلوبة للفوز. وتعتبر كتلة الأحرار النيابية التي يرأسها النائب بهاء الأعرجي جزءًا من هذا التشكيل.
وهناك أسماء أخرى بارزة في هذا التنظيم الثنائي، من بينها الشيخ صلاح العبيدي الناطق الرسمي باسم مقتدى الصدر، والشيخ مصطفى اليعقوبي، والشيخ عون آل النبي، والشيخ محمود الجياشي مدير المكتب الخاص لمقتدى الصدر.
أما جيش المهدي فلا يمثل تنظيمًا هرميًا متماسكًا يمكن توصيف تراتبيته، أو آلية اتخاذ القرار فيه، بل يصعب وصف طبيعته أصلاً، وفي كثير من الأحيان يبدو، أقرب إلى نموذج "القاعدة"، أي تنظيمات منفصلة متعددة في مناطق مختلفة تنتسب لجيش المهدي اسمًا لكنها تعمل بشكل منفرد، وتقوم بعملياتها مستقلة عن التنظيم الأصلي المفترض ودون أي تنسيق معه، إنه تنظيم أفقي شديد المرونة، وهو ما دفع مقتدى الصدر إلى محاولة ضبطه عبر تجميد نشاطه في أغسطس/آب 2007 ، ثم الإعلان في إحدى خطب الجمعة في الكوفة في نوفمبر/تشرين الثاني 2008 عن تشكيل كتائب مسلحة باسم "لواء اليوم الموعود" (وهو تنويع على اسم جيش المهدي، والاسم مستمد من الجزء الرابع من كتاب لمحمد صادق الصدر الأب الموسوم بـ"موسوعة الإمام المهدي"). ولكن لم يتم تسجيل أية أعمال عنف قام بها اللواء المذكور، وظل الأمر في حدود استعراضات القوة التي يقوم بها الصدريون بين حين وآخر، وفي إطار التهديدات المرَحَّلة: سنقاتل الأميركيين في حال بقائهم في العراق، أو سنقاتل الأميركيين في حال عدم التزامهم بمعاهدة الانسحاب، أو سنقاتل الأميركيين في حال عودتهم إلى العراق بأي شكل من الأشكال.
العلاقة مع إيران: الاستراتيجية والتكتيك
ظل التيار الصدري تنظيمًا محليًا، وبسبب من ظروف نشأته وطبيعة خطابه، لم يتمكن من بناء علاقات خارجية إلا في نطاق محدود بعد الاحتلال. وتكاد علاقاته مع إيران، وبالتبعية مع حزب الله، أن تكون العلاقات الخارجية الوحيدة تقريبًا.
قامت الاستراتيجية الإيرانية في العراق على العمل على وجود كتلة شيعية قوية وموحدة تتمكن من القبض على السلطة وإدارة البلد في إطار علاقة خاصة مع إيران. وبموازاة هذه الاستراتيجية، كان ثمة تكتيك إيراني يعتمد على دعم ميليشيات مسلحة قادرة على إدامة حرب استنزاف مع قوات الاحتلال، والقوات الأميركية بوجه خاص، تمنعها من التفكير بأية خطوة عسكرية تجاه إيران. وكانت العلاقة مع التيار الصدري بوجه عام، والجناح، أو الأجنحة المسلحة، الرسمية ممثلة بجيش المهدي، أو المنشقة عنه مثل عصائب أهل الحق، فضلاً عن ميليشيات أخرى صغيرة عديدة ترتبط ارتباطًا عضويًا بإيران، جزءًا من هذا التكتيك. ومن ثم، فإن الحديث يجري هنا عن تلاقي مصالح بين الطرفين الرئيسين: إيران والتيار الصدري أكثر منه لقاء عقائديًا أو أيديولوجيًا؛ فالتيار الصدري كان بحاجة ماسّة للدعم الإيراني، تحديدًا فيما يتعلق بالتسليح، فضلاً عن الحاجة إلى "ساحة خلفية" للتدريب بصورة أساسية، وتوفير الملجأ الآمن عند الضرورة. وقد استطاعت إيران من خلال هذه العلاقة الضغط على مقتدى الصدر، الذي كان مقيمًا في إيران بسبب الخشية من الاعتقال، للقبول بتسمية نوري المالكي رئيسًا للوزراء لولاية ثانية بعد أن كان رافضًا بشدة هذا الترشيح على مدى أشهر (صادقت المحكمة الاتحادية العليا على النتائج النهائية للانتخابات في 1يونيو/حزيران2010 ولم يقبل الصدريون بترشيح المالكي رئيسًا للوزراء إلا في 1أكتوبر/تشرين الأول2010).
ولكن الممارسات السياسية الأخيرة لمقتدى الصدر تكشف عن انفصام شبه تام في العلاقة بين الإيرانيين والتيار الصدري، وتحديدًا بعد قرار مقتدى الصدر زيارة أربيل؛ ومن ثم المشاركة في حملة سحب الثقة، مع التحالف الكردستاني والقائمة العراقية في 29إبريل/نيسان2012 (9)، ثم تأكيد هذا الموقف في اجتماع النجف في 19مايو/أيار 2012. وهو ما دفع مقتدى الصدر إلى ترك إيران والإقامة في لبنان.
أشرنا عند الحديث عن محمد صادق الصدر، فيما تقدم، إلى مسألة رفضه نظرية ولاية الفقيه المطلقة التي قال بها الخميني، وكيف أنه دخل في صراع مع الحوزة التقليدية في النجف عبر إعادة إنتاج الجدل حول عروبة الحوزة، تحديدًا فيما يتعلق بالمرجع الأعلى. وقد جسّد ذلك موقفين موجهين ضد النموذج الإيراني المراد تسويقه شيعيًا، عقائديًا وأيديولوجيًا في العراق، ومن ثم فإن انفراط عقد العلاقة بين الصدريين وإيران لم يكن أمرًا مستغربًا.
اللعبة المزدوجة وتغيير التحالفات
واجه الصدريون، فضلاً عن صراعهم مع الحوزة الدينية التقليدية في العراق، بعد إبريل/نيسان 2003، تحديًا مباشرًا من القوى المختلفة القادمة من المنفى، وتحديدًا المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وحزب الدعوة بشقيه (المقر العام وتنظيم العراق)، ومن الشخصيات الشيعية الدينية والسياسية التي حظيت بالنفوذ بعد الاحتلال مباشرة. وربما أثَّر تجاهل الأميركيين للتيار، وعدم تمثيله سياسيًا في مجلس الحكم، إلى حد ما بتأثير مباشر من هذين الطرفين. ومن ثم لم يكن الصراع العنفي الذي خاضه التيار الصدري من أجل التمثيل السياسي موجهًا ضد الأميركيين وحسب، بل ضد التيار في صراعات داخلية: (شيعية–شيعية) عنفية وسياسية من أجل إثبات حضوره وانتزاع الاعتراف السياسي. وقد اختار التيار ما أطلقنا عليه "اللعبة المزدوجة"، سواء في إدارته للصراع، أو في تغيير تحالفاته، أو في استراتيجيته لتعزيز موقعه السياسي. هكذا كان "جيش المهدي" حاضرًا في إدارة الصراع على الأرض مع "قوات الاحتلال" والقوى الشيعية الأخرى، في حين كان التيار الصدري يشارك بقوة وفاعلية في "العملية السياسية" التي أنشأها وأدارها الاحتلال وشاركته القوى الشيعية في إرسائها! (كان الصدريون حاضرين بقوة في المنطقة الخضراء، وكان جيش المهدي يقصف المنطقة الخضراء بشكل دائم!).
نجح الصدريون بشكل مذهل في إدارة معاركهم السياسية، وفي إبداء المرونة في تشكيل تحالفاتهم بداية من العام 2005، الأمر الذي مكّنهم من التقدم ببطء ولكن بثبات في تعزيز موقعهم في الخارطة السياسية العراقية بوجه عام، والشيعية بوجه خاص. فقد حصل الصدريون على 23 مقعدًا من مجموع 275 مقعدًا في انتخابات الجمعية الوطنية في يناير/كانون الثاني2005، ثم حصلوا على 30 مقعدًا من مجموع 275 مقعدًا في انتخابات مجلس النواب في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه (ضمن القائمة المغلقة للائتلاف العراقي الموحد التي ضمت القوى السياسية الشيعية جميعًا وحصلت على 130 مقعدًا توزعت كالآتي: 30 للمجلس الأعلى، 30 لحزب الدعوة بشقيه المقر العام وتنظيم العراق، 15 للفضيلة، 15 للمستقلين، 10 متفرقة (تركمان وكرد فيلية وشبك)، فضلاً عن مقعدين إضافيين من خلال قائمة (رساليون الانتخابات) بشكل منفرد. وكان لهم دور رئيس في عدم تسمية مرشح المجلس الأعلى رئيسًا للوزراء واختاروا ابراهيم الجعفري عن حزب الدعوة، ولكنهم فشلوا في النهاية في فرضه رئيسًا للوزراء بسبب الاعتراض الأميركي-الكردي-السني حينها، فأيدوا اختيار المالكي مرشح تسوية بعد تأخير استمر لأشهر.
ثم بدوا أكثر حرفية في إدارة انتخابات مجلس النواب 2010؛ حيث تمكنوا من الفوز بـ 39 مقعدًا من مجموع 325 مقعدًا، في مقابل 21 للمجلس الأعلى وبدر على الرغم من أن أصواتهم كانت أقل من الأخيرين ضمن الائتلاف الوطني الموحد، وكان لهم هذه المرة أيضًا الدور الحاسم في ترشيح المالكي رئيسًا لمجلس الوزراء، نتيجة للضغط الإيراني بعد رفض استمر لأشهر. وقد حصل الصدريون في مقابل ذلك على ضعف حصتهم من الوزارات (حصل الصدريون على 8 وزارات بمجموع مقاعدهم الـ(39) في مقابل 5 وزارات للتحالف الكردستاني بمجموع مقاعدهم الـ(43)، فضلاً عن إطلاق سراح الآلاف من أعضاء جيش المهدي).
وقد استمر الصدريون في لعبتهم المزدوجة؛ ففي الوقت الذي شكّلوا فيه العامل الحاسم في فوز المالكي بولاية ثانية، وفي دعم حكومته، كانوا الخصوم الأشد وقعًا عليه في مجلس النواب، وهو ما منع المالكي من الإفادة من دعم كتلته السياسية المفترضة (التحالف الوطني) داخل مجلس النواب، فطوال السنتين الماضيتين كان الصدريون يصطفون إلى جانب القائمة العراقية والتحالف الكردستاني في تمرير قوانين لا ترضي المالكي ودولة القانون، مثل: (قانون مجلس القضاء الأعلى، وقانوني هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية قبل أن تنقضهما المحكمة الاتحادية، وقانون تعديل قانون انتخابات مجالس المحافظات، وأخيرًا قانون تحديد ولايات رئيس مجلس الوزراء)، أو في رفض مشاريع قوانين تريدها الحكومة والمالكي، مثل: (قانون البنى التحتية، وقانون الأحزاب، وقانون جرائم المعلوماتية، وقانون حرية التعبير). كما صوَّت الصدريون ضد إقالة رئيس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وإقالة أمين العاصمة، على الرغم من أن كتلة رئيس الوزراء (دولة القانون) كانت هي القائمة بالاستجواب والداعية إلى هذه الإقالة.
لم يقف الأمر عند حدود مجلس النواب، فقد اتهم مقتدى الصدر رئيس مجلس الوزراء المالكي بالتفرد والديكتاتورية، وبأنه لم ينفذ اتفاقية أربيل التي أوصلته إلى منصبه، وبأنه يعتمد سياسة إقصاء منهجي لشركائه وخصومه على حد سواء، وهي التهم نفسها التي يكررها معارضو المالكي. وكانت الخطة الأهم في هذا الاتجاه وقوف الصدريين إلى جانب العراقية والتحالف الكردستاني في مشروع سحب الثقة عن المالكي، بعد أن تعهد مقتدى الصدر لهم بأن نوابه جميعًا سيصوتون إلى جانبهم إذا ما استطاعوا أن يجمعوا 120 صوتًا مؤيدًا لسحب الثقة.
بمعنى آخر، لم تكن هذه المواقف مجرد تكتيكات مرحلية، وإنما استراتيجية يلتزم بها التيار الصدري بحزم. إن هذا الاصطفاف أعاد رسم الخارطة السياسية العراقية باتجاه كتلة عابرة للطائفية السياسية، الإثنية والمذهبية، التي حكمت العراق بعد إبريل/نيسان 2003. ويُحسب لمقتدى الصدر شخصيًا أنه قام بهذه الخطوة على الرغم من معرفته بإمكانية أن يستخدم المالكي ومؤيدوه هذه الخطوات "العقلانية"، التي يبديها التيار، لتسويقها "شعبويًا" على أنها مواقف تُضعف "المذهب" و"تشق عصا التشيع" من أجل إضعاف شعبية التيار، ومن ثم تقليص فرصه في الانتخابات القادمة. وقد أكد موقف مقتدى الصدر الأخير من حركة الاحتجاجات الشعبية في الجغرافيا السنية، مرة أخرى، التزامه بهذه الاستراتيجية، خاصة وأنه واثق بأنه سيظل رقمًا صعبًا في الخريطة السياسية الشيعية.
والخلاصة، فإن التيار الصدري مرشح أن تتزايد قوته مستقبلا لأنه يرتكز على عاملين يسمحان بحدوثها:
-
قوى اجتماعية مهمشة، ستتزايد أعدادها بسبب النموذج الاقتصادي المتبع في العراق.
-
وايديولوجية تستمد تصوراتها من جعل المرجعية الشيعية عراقية وعربية وفي تضاد مع مرجعية الخميني.
هذه القوة قد تعطي التيار الصدري دورا مركزيا في المستقبل، لأن استراتيجيته تتضمن امكانات تشكيل جسور تعلو الصراعات الطائفية وتصل بين مكونات العراق في اطار وطني عربي.
____________________________________
يحيى الكبيسي - باحث في الشؤون العراقية
الهوامش
1- المعدان مصطلح يطلق على سكان محافظة أهوار محافظة ميسان بوجه خاص ولكن تم تعميمه لتوصيف القادمين الجدد من المحافظات الجنوبية. وهو مصطلح تمييزي يعكس طبيعة تعاطي هذه الحواضر مع النازحين إليها، وهو ما يفسر جزئيًا العنف الرمزي والمادي الذي مارسه هؤلاء تجاه المدن المضيفة لهم.
2- "كان الشيعة يقيمون صلاة الجمعة حتى أواسط القرن الخامس الهجري، وخاصة في مسجد براثا في بغداد، ولكن التطرف في التنظير لنظرية (التقية والانتظار) واشتراط حضور الإمام العادل أو إذنه، وتفسير الإمام العادل بالإمام المعصوم الغائب (المهدي المنتظر) أدى إلى تجميد الشيعة لإقامة صلاة الجمعة في القرن الخامس والسادس، وولادة الفتاوى التي تحرّم إقامتها في (عصر الغيبة)، وكان ابن إدريس الحلي أشد الفقهاء سلبية منها حيث أفتى بتحريمها وادعى إجماع الشيعة الامامية على ذلك" (أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي).
3- وهو ما يفسر اقتراح محمد باقر الحكيم، زعيم المجلس الأعلى، على الحوزة في النجف إقامة صلاة الجمعة في يونيو/حزيران 2003 في مرقد الإمام علي بن أبي طالب، ووافقت عليه الحوزة، خاصة بعد تخلي المجلس عن مرجعية علي خامنئي إلى مرجعية علي السيستاني.
4- من المعروف أن مفهوم/نظرية "ولاية الفقيه"، أي "النيابة العامة" للفقيه الجامع للشروط في عصر الغيبة، ترجع في تاريخها الى المحقق "علي الكركي" في القرن العاشر الهجري، الذي شارك الشاه الصفوي الحكم بوصفه "نائب الإمام المهدي: الفقيه العادل"، ولكن التأطير النظري لم يبدأ إلا مع "أحمد بن المولى النراقي" في بداية القرن التاسع عشر الميلادي، الذي حاول في كتابه "عوائد الأيام"، بيان "ولاية الفقهاء الذين هم الحكام في زمان الغيبة والنواب عن الأئمة، هل أن ولايتهم عامة فيما كانت الولاية فيه ثابتة للإمام الأصل أم لا؟" وانتهى فيه إلى أن "كل ما كان للنبي وللإمام ... فيه الإمامة وكان لهم، فللفقيه أيضًا ذلك"، أي أن لهم "الولاية العامة". ومع آية الله الخميني وكتابه "الحكومة الإسلامية"؛ سنكون أمام نظرية حكم قائمة على هذا المبدأ؛ ففي الفصل المعنون "نظام الحكم الإسلامي"، يتحدث عن شرطين للحاكم: العلم بالقانون الإسلامي والعدالة، لينتهي إلى "وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا ويطيعوا" (ص49). وإلى أن "كل من يتخلف عن طاعتهم، فإن الله يؤاخذه ويحاسبه على ذلك" (ص80). والطاعة هنا مطلقة وليس للمكلف حق الاعتراض أو العصيان، كما يصفها آية الله محمد هادي معرفة "لأن الطاعة المفروضة على الناس تجاه أوامر النبي وأولي الأمر الشرعيين هي الطاعة المطلقة، سواء استصوبها رعاع الناس وعامة أفرادهم أم لم يستصوبوها، الأمر الذي يعني أعرفية ولاة الأمر بمصالح العامة من أنفسهم، فلولاة الأمر حق التصرف في شؤون العامة إداريًا وسياسيًا، ويكون تصرفهم هو النافذ إطلاقًا، وليس لعامة الناس حق أي اعتراض" (ولاية الفقيه أبعادها وحدودها). وقد نص الدستور الإيراني على أن المرشد أو القائد هو أعلى سلطة في إيران وله السيادة السياسية والدينية. وجاء في (المادة 5) "في زمن غيبة الإمام المهدي -عجّل الله تعالى فرجه- تكون ولاية الأمر، وإمامة الأمة، في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، والشجاع القادر على الإدارة والتدبير".
5- يُنظر كتابه: ما وراء الفقه، ج4، ص 65.
6- نقلت الـ بي بي سي يوم 10 إبريل/نيسان 2003 نقلاً عن أحد الصحفيين المرافقين أن الخوئي قُتل على يد "أتباع مقتدى الصدر، ابن الإمام الراحل محمد صادق الصدر". انظر الرابط: http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/middle_east_news/newsid_2936000/2936775.stm
7- إن مراجعة مذكرات ل. بول بريمر المعنونة "سنتي في العراق" تكشف بوضوح عن حجم الإخفاق في تقدير قوة التيار الصدري، يقول بريمر في مذكراته اعتمادًا على تقارير لأحد مساعديه الذي وصف مقتدى الصدر بأنه "إسلامي بلشفي يفهم شيئًا واحدًا هو القوة الغاشمة"، وأنه "يفتقر حاليًا إلى الدعم الشعبي الواسع"، وبأنه "يعتمد على جماعة موالية له بتعصب، من الأتباع المسلحين لا يزيد عددهم عن 200 فرد"! Paul Bremer, My Year in Iraq (New York, 2006) p. 129
8- العربية نت يوم 28 أغسطس/آب 2008.
9- يروي مقتدى الصدر في المنشور الذي أسماه "الهدف النبيل من زيارة أربيل" أن المالكي وقاسم سليماني، قائد فيلق القدس حينها، طلبوا منه عند لقائه بهما في طهران عدم الذهاب إلى أربيل، متهمًا إياهم بأنهم ممن "بات يعزف على وتر الطائفية"؛ ومن ثم فإن مثل هذه اللقاءات "تستفزه وتثيره" (المنشور ص4).