المستوطنات: تآكل حل الدولتين

يُعد الاستيطان أكبر ثابت في السياسة الإسرائيلية، وتدل عدة تحولات على أنه سيستمر ويتوسع لأن القوى التي تناضل من أجله تعاظم نفوذها في النظام السياسي الإسرائيلي.
2013521104027237734_20.jpg
 

تصر الأطراف الفلسطينية التي تؤمن بالحلول السلمية للصراع مع إسرائيل على أن تفكيك المشروع الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية والقدس هو أحد متطلبات تحقيق مثل هذه الحلول؛ وذلك بعدما استولت إسرائيل على 78% من فلسطين التاريخية؛ إذ إنه بدون تحقيق هذا الشرط؛ فإن قدرة هذه الأطراف على تمرير أية تسوية سياسية تؤول إلى الصفر. لكن السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه هنا بقوة، هو: هل الوفاء بهذا الشرط ممكن؟

ستحاول هذه الورقة الإجابة على هذا السؤال من خلال رصد وتحديد آليات مراكمة القوة التي توظفها قيادات المستوطنين السياسية ومرجعياتهم الدينية في سعيها لنسف أية فرصة لتحقيق تسويات سياسية للصراع تنطلق من تفكيك المستوطنات؛ إلى جانب فحص موازين القوى الإقليمية والدولية التي تسهم في مساعدة المستوطنين على ذلك.

توظيف الثقل السياسي

لقد عززت نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة بشكل واضح موقع النخب السياسية التي تمثل المستوطنين بشكل مباشر؛ وتلك التي تتبنى مطالبهم بشكل كلي، أو جزئي داخل دوائر صنع القرار في إسرائيل بشكل واضح؛ فعلى سبيل المثال، قفز تمثيل حزب "البيت اليهودي"، المتدين؛ وهو الحزب الأكثر تمثيلاً للمستوطنين في الحلبة الحزبية الإسرائيلية من ثلاثة مقاعد في البرلمان السابق إلى 12 مقعدًا في البرلمان الحالي. في الوقت ذاته زاد تمثيل الأحزاب الدينية الحريدية (حركة شاس وحزب يهودت هتوراة)، التي تتبنى أيضًا مواقف المستوطنين، من 16 مقعدًا إلى 18 مقعدًا في البرلمان الحالي.

لكن من الأهمية بمكان التأكيد هنا على حقيقة أنه لا يشترك في الدفاع عن مصالح المستوطنين الأحزاب المتدينة فحسب، فهذه الأحزاب حصلت على 23% من الأصوات(1)، فداخل الأحزاب العلمانية هناك نواة صلبة تمثل لوبي أيديولوجي يخدم مصالح المستوطنين؛ سيما في حزب الليكود الحاكم؛ حيث إن جميع نواب الحزب الجدد هم جزء من هذا اللوبي؛ وقد تعزز موقع المستوطنين داخل حزب الليكود بانتخاب موشيه فايغلين، أحد قادتهم على قائمة الحزب؛ وهو في الوقت ذاته يتزعم معسكر "القيادة اليهودية"، أحد أهم المعسكرات تأثيرًا داخل الليكود. ومن المفارقة، أنه في الوقت الذي تُسلَّط الأضواء على مطالب الأحزاب الدينية الرافضة للمَسّ بالمشروع الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية؛ فإنه يتم تجاهل حقيقة أن جميع نواب حزب الليكود العلمانيين يرفضون إخلاء المستوطنات، حتى النائية منها، ويرفضون أي إبطاء في المشاريع الهادفة لاستكمال تهويد مدينة القدس وضواحيها(2). لقد غدا المستوطنون هم القوة الأيديولوجية الأكثر تأثيرًا داخل الحزب الحاكم؛ لدرجة أن هناك داخل إسرائيل من بات يطلق على الليكود بعد الانتخابات الأخيرة "حزب المستوطنين"؛ بل إن كل الدلائل تشير إلى أن الليكود العلماني تحديدًا هو الأكثر "إخلاصًا" من بين الأحزاب في إسرائيل للمشروع الاستيطاني(3). فعندما يصبح الحزب الحاكم في أي نظام سياسي حاضنًا وظهيرًا لجماعة أيديولوجية ما، فإنه يصبح من المتعذر أن تتخذ الحكومة أي قرار يتعارض بشكل كبير مع توجهات ومصالح هذه الجماعة.

إن المستوطنين مطمئنون تمامًا إلى أن وزراء ونواب الليكود سيدافعون بكل قوة عن مصالح المشروع الاستيطاني. وفي الوقت ذاته، فإن أكثر من ربع النواب في البرلمان الجديد هم مستوطنون؛ وبالتالي فإن هؤلاء يرون في الدفاع عن المشروع الاستيطاني دفاعًا عن مصلحة شخصية وعائلية؛ إلى جانب كونه التزامًا أيديولوجيًا.

الإمساك بالحكومة

لقد منحت نتائج الانتخابات الأخيرة المستوطنين موطأ قدم مهم وخطير في الحكومة الإسرائيلية الجديدة؛ حتى إن كثيرًا من المعلقين الإسرائيليين باتوا يطلقون على الحكومة الجديدة "حكومة المستوطنين". لا تبدو هذه التسمية مبالغًا فيها على الإطلاق؛ حيث إن حزب "البيت اليهودي"، الذي يمثل المستوطنين، يحتفظ بأربع وزارات مهمة، على رأسها، وزارة الإسكان، المسؤولة بشكل مباشر عن توجيه المشاريع الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ووزارة الصناعة والتجارة، التي تعتبر ثاني أهم وزارة اقتصادية في إسرائيل. ومن المفارقة أن وزير الإسكان الجديد هو أوري أرئيل، أحد قادة المستوطنين، وأكثرهم تطرفًا، والذي حرص على طمأنة جماهير المستوطنين قائلاً إنه ملتزم بدفع المشروع الاستيطاني قدمًا، على اعتبار أن هذا السلوك "يعبر عن إرادة الجمهور الإسرائيلي". وإن كان أرئيل يطمئن زملاءه المستوطنين بأن مشاريع الاستيطان لن تتوقف، فإن زعيم حزبه نفتالي بنت، الذي يتولى منصب وزير الصناعة والتجارة في الحكومة الجديدة يعد المستوطنين بأنه سيسخر إمكانيات وزارته من أجل تحسين ظروف معيشتهم بشكل جذري. وضمن وعود بنت، الذي شغل في الماضي مدير عام مجلس المستوطنات اليهودية، للمستوطنين، إقامة تجمعات صناعية كبيرة في محيط المستوطنات الكبرى من أجل توفير فرص عمل للشباب تكون قريبة من مناطق سكناهم، بحيث لا يضطرون للسفر إلى قلب إسرائيل للوصول للعمل. كما تشمل الحكومة الجديدة ثمانية وزراء يقطنون في مستوطنات الضفة الغربية، بالإضافة إلى حقيقة أن الأغلبية الساحقة من الوزراء في الحكومة الجديدة معروفون بحماسهم للمشروع الاستيطاني.

المستوطنات: محل إجماع إسرائيلي

إن أوضح مؤشر على نجاح المستوطنين في بلورة "الإجماع الوطني" الإسرائيلي بما يخدم مصالحهم هو النجاح الكبير والمفاجئ الذي حققه حزب "ييش عتيد"، بزعامة يئير لبيد؛ والذي يمثل الوسط الإسرائيلي؛ والذي خاض الانتخابات لأول مرة؛ حيث حلّ الحزب في المكانة الثانية بعد تحالف حزبي الليكود ويسرائيل بيتنا. ومن المفارقة أن بعض النخب العربية اختارت أن تقرأ تحقيق هذا الحزب لهذه المفاجأة كدليل على تراجع قوة اليمين في إسرائيل، وضربة للمستوطنين؛ في حين أن الصحيح هو العكس تمامًا؛ فالبرنامج السياسي لحزب "ييش عتيد" ينص بشكل أساسي على تحصين معظم المكاسب التي حققها المستوطنون منذ حرب عام 1967 وحتى الآن؛ وبكل تأكيد لا يمكن أن يكون هناك قائد فلسطيني يقبل تصور هذا الحزب لحل الصراع. فعلى سبيل المثال، يدعو برنامج الحزب إلى عدم تخلي إسرائيل عن القدس؛ التي يجب أن تبقى "عاصمة إسرائيل الموحدة والأبدية". وفي الوقت ذاته، فإن هذا الحزب يدعو إلى ضم كل التجمعات الاستيطانية الكبرى، في الضفة الغربية، إلى إسرائيل في أية تسوية سياسية للصراع؛ مع العلم أن هذه التجمعات تضم حوالي 75% من المستوطنين في الضفة الغربية. ليس هذا فحسب؛ بل إن الحزب يدعو إلى احتفاظ إسرائيل بمنطقة غور الأردن؛ التي تشكّل 25% من الضفة الغربية؛ أي أن التسوية السياسية للصراع مع الفلسطينيين، كما يقبل بها حزب "ييش عتيد"، تُبقي حوالي 50% من مساحة الضفة الغربية تحت سيطرة إسرائيل. إن أكثر ما يُبدي هذا الحزب مرونة تجاهه هو استعداده لتفكيك المستوطنات النائية في أرجاء الضفة الغربية. ولم يكتف لبيد بعرض هذه المواقف؛ بل إنه غازل المستوطنين بالتعبير عن مواقف ذات طابع عنصري من العرب(4). إن أوضح مؤشر على التناغم والانسجام الأيديولوجي بين حزب "ييش عتيد"، الذي يمثل الوسط في إسرائيل والمستوطنين، حقيقة أن هذا الحزب قد هدد بعدم الانضمام لحكومة نتنياهو في حال لم يتم ضم حزب "البيت اليهودي"، الذي يمثل المستوطنين، للحكومة القادمة. وحتى حزب العمل؛ الذي يمثل اليسار الإسرائيلي؛ والذي كان يقدم نفسه على أنه ممثل "معسكر السلام الإسرائيلي"، فإن مواقفه الأيديولوجية من الصراع باتت تتقاطع مع مواقف المستوطنين؛ فقد حرصت زعيمة الحزب، شيلي يحموفيتش، منذ بدء الحملة الانتخابية الأخيرة، على ترديد الحجة، التي تمثل إحدى ركائز الخطاب السياسي للمستوطنين؛ حيث قللت يحموفيتش من أهمية حل الصراع مع الشعب الفلسطيني بالنسبة للإسرائيليين؛ وأكدت أن على إسرائيل أن تستثمر في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية؛ بدلاً من تخصيص الوقت والجهد للتفرغ لحل الصراع(5).

وبخلاف القراءة المقلوبة التي قرأت بها معظم وسائل الإعلام والنخب العربية نتائج الانتخابات؛ فإن النخب الإسرائيلية اليسارية واليمينية، على حدّ سواء، قد رأت في نتائج الانتخابات الإسرائيلية انتصارًا واضحًا للخط الرافض لتقديم إسرائيل الحد الأدنى من المرونة التي يضمن تحقيق تسوية سياسية للصراع مع الفلسطينيين، وهذا يمثل إضافة كبيرة للموقف الذي يتشبث به المستوطنون(6). لذا فإن الحكومة الإسرائيلية المشكلة في أعقاب الانتخابات الأخيرة ستحافظ على المشروع الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية والقدس؛ بشكل لن يكون من الممكن معه التوصل لتسوية سياسية للصراع، يمكن أن يقبل بها أي طرف فلسطيني، بغض النظر عن خلفيته الأيديولوجية والحزبية. وإن كان عام 2012 قد شهد تشييد أكبر عدد من الوحدات السكنية التي بنتها الحكومة الإسرائيلية داخل المستوطنات اليهودية؛ فإنه لا يوجد ما يؤشر على أن الحكومة الجديدة ستقبل بوتيرة بناء أقل. وإن كان عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، باستثناء القدس، قد بلغ أكثر من 350 ألف مستوطن؛ فإن هذا العدد سيتزايد؛ سيما وأنه حتى أحزاب اليسار والوسط تدافع عن حق المستوطنين في البناء من أجل الاستجابة للزيادة الطبيعية في عددهم؛ مع العلم بأن الزيادة في عدد السكان في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية تبلغ خمسة أضعاف الزيادة في نسبة السكان داخل إسرائيل(7).

توظيف ورقة الجيش

لم يكتف المستوطنون بأشكال العمل السياسي المختلفة لضمان تعاظم مكاسبهم، بل إنهم فطنوا إلى آليات عمل أخرى تضمن تقليص قدرة مؤسسات الحكم في تل أبيب على اتخاذ قرارات سيادية تمس المشروع الاستيطاني. لقد أدرك قادة المستوطنين الحساسية التي تنظر بها النخب الحاكمة لموقع الجيش، كالمؤسسة الضامنة لبقاء الكيان الإسرائيلي؛ فحثوا أبناءهم على اختراقه بشكل منهجي؛ وذلك في مسعى واضح لتوظيف هذا التغلغل في منع النخب السياسية الحاكمة من القيام بأية خطوة تهدد المشروع الاستيطاني. صحيح أنه من ناحية نظرية، فإن القيادة المدنية هي التي تتخذ القرارات السيادية، لكن التجربة دلَّت على أن المؤسسة الأمنية تحتفظ بتأثير كبير على طابع قرارات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من الصراع، لدرجة أن هناك من وصف إسرائيل بأنها: "جيش يملك دولة". فتقاليد الحكم في إسرائيل تسمح للمستوى العسكري باحتكار مهمة تقديم المشورة المهنية، التي على أساسها تتخذ الحكومات قراراتها بشأن القضايا الحساسة.

من هنا، فقد أدركت المرجعيات الدينية للمستوطنين أهمية أن يكون لهم أكبر عدد من الممثلين في قيادة الجيش؛ لذا فبعد أن كانت هيئة أركان الجيش تضم فقط جنرالاً متدينًا واحدًا، هو الحاخام العسكري حتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، فإن هناك حاليًا أحد عشر جنرالاً متدينًا من أصل تسعة عشر يشكّلون هيئة أركان الجيش. إن ما عزز موقع المستوطنين في الجيش حقيقة تراجع الدافعية للخدمة في الوحدات القتالية لدى العلمانيين؛ وهو ما جعل الحكومات الإسرائيلية تُبدي اهتمامًا كبيرًا باسترضاء المستوطنين؛ الذين باتت الوحدات القتالية في الجيش تعتمد على أبنائهم في تنفيذ المهام العسكرية. لقد أحسنت المرجعيات الدينية للمستوطنين توظيف الحساسية التي تنظر بها النخب الحاكمة لاستقرار الجيش، فدعت الجنرالات والضباط والجنود المتدينين إلى رفض تنفيذ أية تعليمات للحكومات الإسرائيلية بشأن إخلاء مستوطنات. ولهذا، فإن الحكومات الإسرائيلية تماطل حتى في تنفيذ قرارات المحكمة الإسرائيلية العليا التي نصت على إخلاء بعض الجيوب الاستيطانية، لأنها أقيمت بدون إذن الحكومة؛ خشية أن يؤدي الأمر إلى حدوث تمرد. والمفارقة أن قادة أحزاب وساسة ونخبًا ثقافية علمانية باتت تدافع عن حق الجنرالات والضباط المتدينين في رفض تعليمات المستوى السياسي الحاكم(8). إن هذا السبب دفع سياسيًا علمانيًا بارزًا، مثل وزير القضاء الأسبق، يوسف لبيد، إلى التعبير عن يأسه من إمكانية أن تنجح أية حكومة إسرائيلية في تمرير قرار بشأن إخلاء مستوطنات في الضفة الغربية.

تهديد استقرار النظام السياسي

لا يكتفي المستوطنون بتوظيف ثقلهم السياسي وتغلغلهم في الجيش من أجل الحفاظ على المشروع الاستيطاني، بل إنهم لا يترددون في تهديد استقرار النظام السياسي الإسرائيلي في حال شعروا بأن هناك أية محاولة للمسّ بهذا المشروع، وذلك عبر الدعوة لاستخدام القوة من أجل إثناء الحكومة عن اتخاذ أية قرارات تهدد هذا المشروع. فقد أدت الرصاصات التي أطلقها المستوطن، إيغال عمير، على صدر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، إلى إسدال الستار على أية إمكانية للتوصل لتسوية سياسية للصراع. لقد اغتال عمير رابين أواخر عام 1995؛ لأنه اعتقد أن رابين مستعد للتنازل عن الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1967؛ وقد حقق عمير هدفه؛ حيث إن الانتخابات التي أُجريت بعد اغتيال رابين مباشرة، في صيف عام 1996 قد أدت إلى انتصار اليمين الإسرائيلي؛ وهو التطور، الذي قضى على فرص التوصل للتسوية. ولقد سجّل المفكر الإسرائيلي، روفيك روزنتال، حقيقة مفادها أنه منذ اغتيال رابين ودوائر صنع القرار في إسرائيل تخشى حتى مجرد طرح جدل حقيقي بشأن مستقبل الأراضي المحتلة؛ خوفًا من تكرار الاغتيال السياسي؛ مما جعل لهذا الحدث تأثير الدومينو؛ بحيث إنه يردع الساسة عن التعاطي بجدية مع أي مقترح لتسوية الصراع سلميًا مع الفلسطينيين(9). وما زالت المرجعيات الدينية تصدر الفتاوى التي تبيح إراقة دماء الساسة الذين يبدون استعدادًا لـ "التفريط" بالأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967.

السلطة الفلسطينية: التزام بحماية المستوطنات

دلت عدة سوابق على أن الرأي العام الإسرائيلي لا يتردد في التحرك ضد حكوماته في حال أحس أن سياساتها من الصراع تؤدي للمسّ بأمنه الشخصي؛ فعلى سبيل المثال أدت الخسائر الكبيرة التي مُنِي بها الجيش الإسرائيلي خلال احتلاله لجنوب لبنان إلى ولادة العديد من الحركات الجماهيرية داخل إسرائيل، التي حملت لواء الدعوة إلى الانسحاب من المنطقة بدون قيد أو شرط، ولعل أكثر هذه الحركات فاعلية، كانت مجموعة "النساء الأربعة". وعند تفجر الانتفاضة الأولى عام 1987 انطلقت أيضًا حركات جماهيرية إسرائيلية حرصت على تعبئة الرأي العام الداخلي ضد سياسات الحكومة.

وبكل تأكيد فإن الجمهور الإسرائيلي كان سيتحرك ضد سياسات الحكومات الإسرائيلية المتواطئة مع المستوطنين في حال تبين له أن هذه السياسات تمس بأمنه، سيما في حال هددت حياة الجنود، الذين يتولون حماية هؤلاء المستوطنين. لكن كل الدلائل تؤكد أنه في ظل التعاون الأمني الكبير الوثيق والمعلن الذي تبديه الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية مع أجهزة الأمن الإسرائيلية في تعقب حركات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية؛ فإنه لا يوجد تهديد ما يقنع الجمهور الإسرائيلي، بأن سلوك الحكم في تل أبيب المهادن للمستوطنين يهدد مصالحه؛ وبالتالي يتم السماح للمستوطنين بأن يحددوا قواعد التعاطي مع الصراع. لقد أدى التعاون الأمني الذي تبديه الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية إلى تحسين البيئة الأمنية للمستوطنين أنفسهم، وسمح لهم بتدشين المزيد من المستوطنات في ظل أقل قدر من المخاطر الأمنية(10). ونظرًا للتعاون الأمني العميق، فلم يعد هناك مطلوب فلسطيني واحد على قائمة المطلوبين لدى جهاز المخابرات الإسرائيلية العامة "الشاباك". من هنا، فإن تعاون السلطة الفلسطينية الأمني يوفر البيئة الإقليمية المناسبة لتعاظم الاستيطان.

في الوقت ذاته؛ فإن الموقف الأميركي يعزز البيئة السياسية للمشروع الاستيطاني؛ حيث إنه على الرغم من الضريبة الكلامية التي تدفعها الإدارة الأميركية في انتقاداتها الخجولة للبناء في المستوطنات؛ إلا أن سلوكها العملي يشجع الحكومة الإسرائيلية على مواصلة دعم المستوطنين. فعلى سبيل المثال لم تَحُل الانتقادات التي ترددها إدارة أوباما تجاه الاستيطان من مواصلة الدعم العسكري والاقتصادي والاستراتيجي لإسرائيل؛ لذا لا يوجد ما يقنع دوائر صنع القرار في تل أبيب بتغيير سلوكها إزاء المستوطنات في حال لم تؤثر ردة الفعل الدولية، وتحديدًا الأميركية على مصالح إسرائيل بشكل سلبي. وأكثر من ذلك، أن الولايات المتحدة التي تنتقد الاستيطان لا تتردد في استخدام حق النقض الفيتو ضد أي مشروع قرار في مجلس الأمن يدين الاستيطان(11). ناهيك عن حقيقة أن القانون الأميركي يعفي التبرعات السخية التي يقدمها الأثرياء اليهود للمشروع الاستيطاني من الضرائب، بزعم أنها تذهب لأغراض خيرية (12).

سياسة تكريس الأمر الواقع

بتوظيف قوتهم السياسية داخل مؤسسات الدولة، وبفعل تلويحهم بتغيير قواعد اللعبة الداخلية، وفي ظل الموقف الأميركي وموقف السلطة الفلسطينية؛ يواصل المستوطنون تكريس الحقائق على الأرض بما يخدم منطلقاتهم الدينية والأيديولوجية. ويبادر المستوطنون للسيطرة على الأراضي الفلسطينية الخاصة، التي تقع في محيط المستوطنات؛ وإقامة نقاط استيطانية عليها؛ بعد تجريف ما عليها من حقول. ومنذ التوقيع على أوسلو تمكن المستوطنون من تدشين أكثر من مائة نقطة استيطانية تقع في محيط المستوطنات. وعلى الرغم من أن الحكومة الإسرائيلية التزمت أمام إدارة الرئيس بوش بإزالة كل النقاط الاستيطانية؛ إلا أنها لم تحرك ساكنًا. ومع أن جميع هذه النقاط الاستيطانية التي تُدشَّن في محيط المستوطنات القائمة تُعتبر "غير قانونية"، حسب تعريف الحكومة الإسرائيلية لأنها أقيمت بدون إذنها، إلا أن الحكومة والجيش يحرصان على توفير الأمن وكل مرافق الخدمة لقاطنيها. وفي الوقت ذاته، يحرص المستوطنون على محاولة المس بإرادة الصمود والبقاء لدى الفلسطينيين الذين يقطنون بالقرب من المستوطنات؛ وذلك عبر استهداف مصالحهم ومنازلهم وتجريف أراضيهم وتسميم آبارهم؛ والاعتداء الجسدي عليهم؛ ووصل الأمر إلى حد جلب قطعان من الخنازير البرية لتعيث فسادًا وخرابًا في حقول الفلسطينيين. وإلى جانب ذلك، يحرص اللوبي الداعم للمستوطنين في الحكومة والكنيست الإسرائيلي على تنفيذ سياسات تستهدف المس بالحياة الطبيعية للفلسطينيين في محيط المستوطنات؛ مثل رفض منح رخص للبناء للفلسطينيين في هذه المناطق؛ وتدمير كل منزل يُبنى دون ترخيص، والقيام بمصادرة أراضٍ فلسطينية خاصة، بزعم أن الخطوة جاءت لأغراض عسكرية، وبعد ذلك يتم تسريبها للمستوطنين.

المستوطنون: قوة متنامية

لا يوجد ما يهدد قدرة المستوطنين على مواصلة مراكمة القوة والنفوذ وإملاء مواقفهم السياسية والأيديولوجية على الكيان الصهيوني، وسيواصلون توظيف فائض القوة السياسية على الصعيد الداخلي بشكل يسمح لهم بمواصلة مشروعهم الاستيطاني التهويدي للأرض الفلسطينية في بيئة مثالية. ومما لا شك فيه أن أكثر ما يساعد قيادات المستوطنين على مواصلة هذا النهج هو غياب تحديات إقليمية ودولية تجعل إسرائيل تدفع أثمانًا حقيقية بسبب المشروع الاستيطاني. إن أكبر إنجاز حققه المستوطنون على مدى أكثر من أربعة عقود على انطلاق مشروعهم يتمثل في جعل هذا المشروع في بؤرة الإجماع الإسرائيلي العام؛ وهذا ما يجعلهم يشعرون بقدر كبير من الثقة بالنفس.
______________________________________
صالح النعامي - باحث في الشؤون الإسرائيلية

المراجع
1-  جدعون بيرغ، جفولوت همرحاف هدتي (حدود الوسط الديني)، هارتس 27-1-2013، http://www.haaretz.co.il/opinions/1.1915951
2- لمعلومات أكثر حول طابع المواقف المتطرفة لقائمة الليكود النيابية بشأن الاستيطان، انظر: يهودا يفراح، كأيف هروش شل نتنياهو (وجع رأس لنتنياهو)، معاريف، 27-11-2012، http://www.nrg.co.il/online/1/ART2/418/466.html?hp=1&cat=479
3- للإحاطة بمظاهر تعاظم تأثير المستوطنين على "الليكود"، انظر: نوعم شيزف، هكيبو شهو شلام (لقد اكتمل الاحتلال)، معاريف،  http://www.nrg.co.il/online/1/ART2/429/049.html?hp=1&cat=479&loc=11
4- لقد توسع أستاذ القانون الدولي أوري فايس في إبراز مدى توظيف لبيد المواقف العنصرية تجاه الفلسطينيين في مغازلته للمستوطنين، انظر: أوري فايس، موريشت إيغال عمير (تراث إيغال عمير)، هارتس، 28-1-2013، http://www.haaretz.co.il/opinions/1.1916826
5- لقد استفزت مغازلة يحموفيتش المستوطنين الأديب الإسرائيلي عاموس عوز، حتى إنه اعتبرها أسوأ من سلفها في زعامة الحزب إيهود باراك، انظر: يوسي فيرتر، عاموس عوز: يحموفيتش جروعا من باراك-هو أمار شأين بترون، هي أوميرت شأين بعيا (عاموس عوز: يحموفيتش أكثر سوءًا من باراك، فهو أنكر وجود حل للصراع، أما هي فقد أنكرت وجود الصراع ذاته)، 11-2-2013، http://www.haaretz.co.il/news/elections/1.1905138
6- على سبيل المثال، المفكر الإسرائيلي شاؤول روزنفيلد، اعتبر أن صندوق الانتخاب قد صوّت ضد التسوية مع الفلسطينيين، انظر: شاؤول روزنفيلد، شلوم لشلوم بكلبي (سلام على السلام في الصندوق)، يديعوت أحرونوت، 28-1-2013،http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4337752,00.html
7- شاؤول أرئيلي، بنيجود لحوكي همتمتيكا (بعكس قوانين الرياضيات)، هارتس، 23-7-2012، http://www.haaretz.co.il/opinions/1.1782721
8- لقد أيد نفتالي بنت زعيم الحزب اليهودي رفض الجنود تنفيذ أوامر الحكومة في حال طلبت منهم الإسهام في إخلاء مستوطنات، وانبرت للدفاع عن موقفه نخب علمانية من الوزن الثقيل، مثل الفقيه الدستوري روت جبيزون، انظر: يهودا يفراح، برفسور جبيزون: عمدتوا شل بنت بعنيان هسربنون هجيونيت (البرفسور جابيزون: موقف بنت من قضية رفض الخدمة العسكرية منطقي)، يديعوت أحرونوت، 17-1-2013،
http://www.nrg.co.il/online/1/ART2/429/930.html?hp=1&cat=333&loc=4
9- روبيك روزنتال، عمير فأبروشمي محيخيم، (عمير وأبروشمي يضحكان)، معاريف 102-2013، http://www.nrg.co.il/online/1/ART2/435/365.html
10- لقد أبلغ وزير الحرب الصهيوني إيهود باراك مؤتمر "الحصانة القومية"، الذي نظمه "مؤتمر هرتسليا متعدد الاتجاهات"، الذي عُقد عام 2011 بأن قادة المستوطنين يشعرون بالامتنان للدور الذي قامت به الأجهزة الأمنية في تحسين ظروفهم الأمنية، وقد كان رئيس حكومة السلطة سلام فياض من ضمن الحضور أثناء إلقاء باراك كلمته.
11- في الوقت الذي كان فيه نتنياهو، عشية الانتخابات الأخيرة، يصدر القرارات بشأن بناء آلاف الوحدات السكنية في المستوطنات؛ حرص السفير الأميركي في إسرائيل دان شابيرو على نشر مقال في الصحف الإسرائيلية يفيض بالمشاعر التي تعكس التزام الولايات المتحدة الراسخ بدعم إسرائيل. انظر: دان شابيرو، تميخا بلتي متفشيرت (تأييد قوي)، 2-12-2012، http://www.israelhayom.co.il/site/newsletter_opinion.php?id=10167&hp=1&newsletter=02.12.2012
12- الجامعة العربية: جمعيات أميركية معفاة من الضرائب تمول الاستيطان في القدس، موقع مؤسسة شهيد فلسطين، 17-10-2009، http://www.shahidpalestine.org/index.php?option=com_content&view=article&id=2508:2009-10-19-08-13-35&catid=140:2009-03-17-09-52-01&Itemid=122

نبذة عن الكاتب