المصدر: (الجزيرة) |
الاتجار بالبشر هي عملية استغلال الإنسان، عبر التهديد أو الابتزاز واستغلال ظروف الشخص المستهدف، بقصد التربح من ورائه من خلال البغاء، أو العمل الإجباري، أو نقل الأعضاء. وهي جريمة مصنفة في مؤسسات وهيئات الأمم المتحدة ضمن جرائم حقوق الإنسان.
ويقدر عدد ضحايا الاتجار بالبشر الذين يتم نقلهم عبر الحدود بـ 800,000 إنسان سنويًا (حسب تقرير وزارة الخارجية الأميركية للإتجار بالأشخاص المنشور في الرابع من يونيو من عام 2008 على موقع الوزارة). وبحسب المصدر ذاته، أكثر من مليون طفل يتم استغلالهم جنسيًا في كل عام، في أرجاء المعمورة. وحوالي 80? من البشر الذين يتم الاتجار بهم ونقلهم سنويًا هم من النساء، يعمل أكثر من 70? منهن في تجارة الجنس، و30? من هؤلاء النساء هن ضحايا للعمل القسري.
وبحسب مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة، فإن البلدان المعنية بالاتجار بالبشر يبلغ عددها 161 دولة. 127 بلدًا منها مصنفة كدولة منشأ لهذه الجريمة، و98 بلدًا مصنفة كدولة عبور، و137 دولة كوجهة نهائية. (بعض البلدان تعتبر منشأ وعبورًا ووجهة نهائية). وحسب إحصائيات منظمة العمل الدولية، فإن القيمة الربحية لجريمة الاتجار بالبشر تُقدر بأكثر من 30 مليار دولار سنويًا.
وبالرغم من التزام كافة دول الخليج بمعظم، إن لم يكن كل، الاتفاقيات الدولية المعنية بمكافحة الاتجار بالبشر، إلا أن هذا الالتزام يـظل منقوصًا لأسباب تتعلق بالبنية القانونية والثقافة السائدة في المجتمعات الخليجية. لذلك، فإن دول الخليج تواجه تحديًا جديًا يتمثل في مكافحة هذه الجريمة عبر سنّ القوانين وبيئة العمل، ورفع مستوى الوعي المجتمعي عبر مؤسسات مجتمع فاعلة، تساهم في تنمية ثقافة حقوق الإنسان. فهنالك عنف ثقافي، حيث يمكن أن نجده في مفردة "كفيل" أو في الصور النمطية السائدة عن بعض الجنسيات، أو حتى في ممارسات معينة، مثل احتجاز جوازات سفر العاملين. ولا يمكن للقوانين وحدها التعامل مع هذا الوضع.
بالإضافة إلى ذلك، فإن دول الخليج التي تستضيف ملايين العمال غير الخليجيين لا تقوم بجهد توعوي كاف؛ فمعظم هذه العمالة لا تتحدث اللغة العربية بشكل جيد، إن تحدثتها ابتداءً، ولا تعرف عن قوانين دول الخليج العربي ما يكفي للدفاع عن حقوقها أو حماية نفسها من الاستغلال. ولا يمكن الثقة ببلدان المنشأ بسبب انتشار الفساد الإداري هناك. وعليه، لا يكفي أن تطلب دول الخليج من تلك الدول توعية مواطنيها قبل قدومهم، بل يجب أن يكون هنالك جهد مواز في الخليج لتوعية هذه العمالة غير الخليجية بالقوانين والحقوق وطرق طلب المساعدة. وهنا يبرز دور مؤسسات المجتمع المدني في دول الخليج العربي للاضطلاع بدورها الرئيسي والمحوري في هذا الجانب.
وسنجادل هنا بأن الجهد القانوني وحده غير كاف. ولذلك لابد من جهد قانوني-ثقافي للتعامل مع هذه الجريمة "الاتجار بالبشر".
الخلفية القانونية
يعيش في منطقة الخليج العربي أكثر من أربعة عشر مليون وافد. ويوضح الجدول التالي أعداد العمالة غير الخليجية في دول الخليج العربي، والزيادة السنوية التي تطرأ عليها (المصدر: الغرفة التجارية الصناعية بالرياض):
|
2007 |
2008 |
2009 |
2010 |
الكويت |
1768205 |
1751714 |
1741731 |
2365970 |
قطر |
766095 |
1100373 |
1191390 |
1357563 |
البحرين |
373655 |
435702 |
461959 |
569000 |
الإمارات |
3624000 |
3873000 |
4143000 |
- |
عمان |
820000 |
900000 |
1052846 |
- |
السعودية |
6551242 |
6691723 |
6830266 |
8429401 |
وتشكّل هذه الأرقام نسبًا عالية، بالمقارنة مع عدد السكان في كل بلد خليجي على حدة، وفي مقابل سكان دول الخليج مجتمعة. ويوضح الجدول التالي هذه النسب، من عام 2010 (المصدر ذاته):
الدولة |
النسبة المئوية للعمالة الوافدة إلى إجمالي عدد السكان |
السعودية |
31.1 |
الكويت |
67.9 |
البحرين |
51.4 |
قطر |
79.9 |
الإمارات |
50.6 |
عُمان |
24.2 |
وبالإضافة لضحايا الداخل، يشكّل هذا الوضع بيئة خصبة لممارسة الاتجار بالبشر؛ فبالرغم من وجود التشريعات والقوانين التي تجرّم هذا العمل، إلا أن المصالح المتشعبة والبنية الاقتصادية لا تسمح بمراقبة دقيقة ومتقنة لهذه الجريمة، ناهيك عن مكافحتها والقضاء عليها. هذا على صعيد، وعلى آخر، فإن هنالك قصورًا تشريعيًا وثقافيًا فيما يتعلق بالبنية التحتية للتعامل مع ضحايا الاتجار بالبشر وتأهيلهم وإدماجهم في المجتمع. بمعنى آخر، هنالك جهد ما قبل الجريمة، وهنالك جهد ما بعد الجريمة. وفي كلا المرحلتين، هنالك متطلبات قانونية وثقافية في إطار مؤسساتي للتعامل مع هذه القضية "الاتجار بالبشر".
وبالرغم من انضمام دول الخليج العربية للاتفاقيات الدولية لمكافحة الاتجار بالبشر، إلا أن هذه الجريمة لا تزال حاضرة وبقوة في هذه الدول. ويرجع السبب الرئيسي في ذلك إلى كون الجهد المتعلق بتعريف هذه الجريمة قانونيًا، وخلق إطار تشريعي متكامل، ليس جهدًا شاملاً، وإلى كون الثقافة السائدة لا تدعم بشكل فاعل جهود المكافحة. على سبيل المثال، تتداخل عدة عوامل ثقافية وقانونية فيما يتعلق بالاتجار بالبشر. فمسألة زواج الصغيرات في السن تصنف في القانون الدولي على أنها استغلال غير تجاري للجنس، بالرغم من كون الزواج مؤسسة شرعية وقائمة بذاتها. إلا أن هذه الممارسة لا تزال قائمة في بعض دول الخليج العربية. ولهذا نقول بتداخل عوامل الثقافة، كتحديد سن الزواج والشروط الموضوعية لصحته، مع جريمة الاتجار بالبشر. ويتطلب التعامل مع هذه الجريمة جهدًا يتجاوز التشريعات، ليمس الثقافة. وعلى هذا يمكن القول بأن جريمة الاتجار بالبشر حاضرة في دول الخليج ولكن على مستويات متعددة وتحت مسميات كثيرة.
التشريعات
يمكن ملاحظة التفاوت التشريعي بين دول الخليج العربية فيما يتعلق بجريمة الاتجار بالبشر؛ فمن ناحية، هنالك تفاوت في البنية التشريعية والثقافية فيما بين دول منظومة مجلس التعاون الخليجي الست. ومن أخرى، فطبيعة البنية الأساسية للسلطة في هذه الدول متفاوتة.
البنية التشريعية في دولة مثل الكويت مثلاً، ذات البرلمان الذي يعتبر من أكثر البرلمانات العربية فعالية وأكثرها تمتعًا بالصلاحيات، مختلفة كليًا عنها في المملكة العربية السعودية، ذات مجلس الشورى المعين. ففي السعودية، يضطلع مجلس الوزراء بمهمة التشريع، مما يقصر عمل مجلس الشورى على تقديم المشورة؛ ولهذا انعكاسات كبيرة على عامل الثقافة والرأي العام، كما سنحاول تبيانه والمجادلة لصالحه. فعندما يقر مجلس الأمة الكويتي تشريعًا ما، فهذا يعني سياقًا مصاحبًا لهذا التشريع، ليس أقله أهمية تفاعل الرأي العام مع مشروع القانون المقترح على المجلس، وأخذه حيزًا كبيرًا في الجدل الاجتماعي والرأي العام. فالمساحة الفاصلة بين مجلس الأمة والرأي العام في الكويت، أقل بكثير من تلك الفاصلة بين مقابليهما في السعودية (أي بين مجلس الشورى السعودي والرأي العام في المملكة العربية السعودية). وهذا مهم جدًا، لأسباب كثيرة وعوامل متشعبة من بينها الانعكاسات الخطيرة على مسألة الثقافة الحقوقية وأنسنة الفضاء العام؛ مما يساعد على بناء بيئة طاردة لجرائم الاتجار بالبشر. فتقديم مشروع لمجلس الأمة في الكويت يصاحبه جدل عمومي وعملية حشد للرأي العام، وتداول للمشروع على نطاق واسع بين شرائح المجتمع المتعددة، مما يخلق فرصة ثقافية لتنمية المفاهيم الحقوقية وتنمية الثقافة السياسية.
بمعنى آخر، التقدم أو التأخر في مسألة مكافحة الاتجار بالبشر يعكس بشكل أو بآخر تقدم الثقافة الحقوقية، سواءً للمواطنين أو للمقيمين.
إنّ الحديث عن التشريعات المتعلقة بمكافحة الاتجار بالبشر يستدعي مستويين للتحليل: الأول متعلق بالتشريعات التي تتعامل مع هذه الجريمة بشكل مباشر، كقوانين مكافحة الاتجار بالبشر والهيئات المسؤولة عن القيام بذلك. والثاني يتعلق بالإطار القانوني الشامل والذي لا تتم عملية مكافحة الاتجار بالبشر بدونه، مثل جريمة غسيل الأموال أو الفساد الإداري، أو حقوق الطفل، أو مكافحة العنف ضد المرأة، أو الجرائم المعلوماتية (مواقع الإنترنت المتعلقة بالاتجار بالجنس وبيع الأعضاء وما شابه ذلك)، أو المعاهدات المتعلقة بمكافحة الرق. ولذلك، يجب علينا التعامل مع التشريعات والقوانين المتعلقة بهذه الجريمة على هذين المستويين.
وسنقوم بتناول مستويي التحليل المشار إليهما في بعض دول الخليج العربية، لاعتبارات ضيق المساحة ولتشابه الحال، قبل أن نتناول التشريعات الموحدة على مستوى منظمة التعاون بين دول الخليج العربي. وتبرير هذا التناول يكمن في تشابه الظروف السياسية والتشريعية والثقافية، وحجم السكان، والحاجات التنموية، والعلاقات التجارية، وأخيرًا حجم المشكلة في هذه الدول، بحيث إن التعامل مع الجريمة لا يكتمل دون التعامل مع بيئة الجريمة. لكن قبل الشروع في ذلك، تجدر بنا الإشارة إلى أن بروز مسألة الاتجار بالبشر في منطقة الخليج في هذا الإطار التشريعي الذي نراه، جاء في ظروف عالمية ومزاج دولي يصب في اتجاه مكافحة هذه الجريمة.
المزاج الدولي
هنالك اهتمام كبير في دول الخليج العربي بمسألة مكافحة الاتجار بالبشر، بدأ في عام 2005 وهو مستمر حتى هذه اللحظة. ولعلَّ نلاحظه في اهتمام هذه الدول بهذه القضية الحساسة، أنه جاء في خضم جو عالمي يسير في هذا الاتجاه. ولا يعود الفضل في ذلك لسياسات الدول الكبرى، بل لمؤسسات المجتمع المدني في أوروبا وأميركا الشمالية ومؤسسات حقوق الإنسان. وتجدر الإشارة هنا لدور مفكري "الهامش"، إذا ما استعرنا بعض مفردات الفيلسوف السعودي عبدالله الغذامي، سواءً كان ذلك من دول عرب الشمال (بلاد الشام) أو مصر أو شمال إفريقيا، أو من أميركا اللاتينية أو دول آسيا. وهذه نقطة تغيب عن المؤسسات الإعلامية العربية. كان للعرب، ولا يزال، دور فاعل ومهم في تنمية هذه الثقافة الحقوقية، أسوة بالمفكرين الآخرين من جهات ودول وقارات متعددة. فصل المقال هنا أن هذا الجهد هو جهد تراكمي، ساهمت فيه أمم وثقافات متعددة.
لكن وبفضل البنية المؤسساتية الغربية وقدرتها التمويلية الضخمة، تم الضغط على حكومات تلك الدول لدفع الساحة الدولية بهذا الاتجاه.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن تكون تواريخ المصادقة على القوانين والبروتوكولات المعنية بمسألة مكافحة الاتجار بالبشر لدى معظم دول العالم، بما فيها دول الخليج العربي، هي تواريخ متقاربة، جاءت بعد أخذ الأمم المتحدة بزمام المبادرة.
ولنأخذ السعودية كمثال. للسعودية ثقل سياسي اقتصادي ثقافي ديني كبير، ويبلغ عدد سكانها حسب آخر ما نُشر من قبل مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات 29 مليون نسمة. نسبة اليد العاملة غير السعودية فيها تبلغ 31?. وللسعودية ثقل رمزي بحكم كونها مركز العالم الإسلامي، لوجود الحرمين الشريفين بها، وبحكم كونها أرض القبائل العربية ونقطة انطلاق الهجرات العربية والفتوحات. ولذلك، فهي في حالة بحث مستمر عن توازن بين الأصالة والمعاصرة. ولهذا انعكاس ذو دلالة على موضوع هذا البحث. على سبيل المثال، يدور النقاش القانوني فيما يتعلق بمسألة الاتجار بالبشر في المملكة العربية السعودية حول تحريم الشريعة الإسلامية لكافة أشكال هذه الجريمة... ولا نجد الشيء ذاته في بعض الدول الخليجية الأخرى.
على العكس من ذلك، ففي الوقت الذي تحدد فيه المادة التاسعة والعشرون من دستور الكويت أن "الناس سواسية"، لا نجد الإطار الدستوري ذاته في النظام الأساسي للحكم في السعودية. عوضًا عن ذلك، يؤكد النظام الأساسي للحكم في السعودية أن الإسلام هو دين الدولة وأن دستورها هو الكتاب والسنة، كما هو وارد في المادة الأولى. وهذا يجعل الجدل القانوني حول الاتجار بالبشر يأخذ منحى مختلفًا كليًا عنه في الكويت. ففي السعودية، لا يسمى القانون قانونًا، بل نظامًا، وفي ذلك مدلولات عميقة على الإطار التشريعي الحاكم ودور التنظيم والتشريع ونفاذيتهما، وخضوعهما لتفسير الشريعة الإسلامية وملاءمتها لأحكام الدين.
وفي الوقت الذي أصدرت فيه بقية دول الخليج قوانين مكافحة الاتجار بالبشر، صدر "نظام" مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص الصادر بموجب المرسوم الملكي رقم 40 وتاريخ 1430/7/21(2009) عن مجلس الوزراء السعودي، على أن يكون نافذًا بعد تسعين يومًا من نشره في الجريدة الرسمية. وبموجبه، وعلى خلاف بقية دول الخليج التي أنشأت هيئات وطنية لمكافحة هذه الجريمة، قامت هيئة حقوق الإنسان الوطنية بإنشاء لجنة داخلية لمتابعة حالات الاتجار بالأشخاص.
ومما يلاحظ على هذا القانون، التزامه التعريفات الأممية للجريمة، ومراحلها وأساليبها. وفي الوقت الذي تم تعريف الطفل فيه، وبموجب هذا النظام كما هو الحال في بقية دول الخليج، على أنه من لم يتجاوز الثامنة عشر، وبالرغم من وجود أنظمة أخرى (قوانين) تتوافق مع هذا التعريف، كرعاية الأحداث التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية، والتي تعرّف الحدث بأنه من كان عمره بين السابعة والسابعة عشر، إلا أن قوانين الأحوال المدنية والأسرة لا تتبع التعريف ذاته. فيمكن تزويج قاصرة لم تبلغ الثامنة عشرة برجل يكبرها بعقود كثيرة، دون أن يكون في ذلك مخالفة لأي نظام في السعودية. وهذا يُعد في اتفاقيات الأمم المتحدة المعنية بحماية الطفل، على أنه استغلال غير تجاري للجنس. وهذا يقودنا للإطار القانوني الشامل لمكافحة الاتجار بالبشر.
لقد وافقت المملكة العربية السعودية على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية المعتمدة في عام 2000. وقد كان اعتماد المملكة في عام 2004، مع تحفظات معينة. وقد تبع ذلك اعتماد المملكة للبروتوكول المكمل لهذه الاتفاقية، والمتعلق بمنع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، وبخاصة النساء والأطفال. وقد صاحب هذا الاعتماد تحفظات من جانب المملكة العربية السعودية. وقد اعتمدت السعودية أيضًا بروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو، والمكمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود. يلي ذلك انضمام المملكة للمعاهدات المتعلقة بالرق وتجارة الرقيق والقضاء على أشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقية حقوق الطفل، وعمل الطفل، وإلغاء السخرة، واتفاقيات العمل والسن القانونية للعمل.
وعلى صعيد آخر، تتمتع السعودية بوضع اقتصادي جيد، مقارنة بدول المنشأ (بالنسبة لضحايا الاتجار بالبشر). ولذلك، فهي تمثل وجهة لكثير من طالبي الفرص المعيشية الكريمة. شأنها شأن بقية دول الخليج العربية الأخرى كقطر والإمارات العربية المتحدة. وغالبية هؤلاء يأتون من دول مجاورة كاليمن، أو من آسيا، كأفغانستان والفلبين وبنغلاديش والهند، أو من إفريقيا، ككينيا وإثيوبيا. ولا تحدد التقارير الصادرة من المنظمات والهيئات المعنية، كمكاتب الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، أو حتى التقارير التي تصدرها بعض الحكومات، كتقارير وزارة الخارجية الأميركية، أية أدلة على أن قدوم هؤلاء إلى السعودية، أو إلى بقية دول الخليج، قد تم قسرًا. بل يأتون بمحض إرادتهم طلبًا لحياة أفضل. لكن هنالك بعض التقارير التي تحدثت عن تهريب الأطفال للعمل في سباقات الهجن في السعودية (كهجانة)، كتقرير وزارة الخارجية الأميركية المشار إليه في بداية هذه الدراسة، والمنشور في الرابع من يونيو من عام 2008 على موقع الوزارة.
لكن الكثير من الأسئلة يتم طرحها حول بيئة العمل في السعودية، كما هو الحال في الكويت والإمارات وقطر، وحقوق العمال بشكل عام، سواءً كانوا خليجيين أو غير خليجيين. ومن ذلك ساعات العمل الطويلة، وغياب التنظيم فيما يتعلق بالإجازات الأسبوعية أو السنوية (خصوصًا فيما يتعلق بالعمالة غير المدربة)، والتجاوزات اللفظية والجسدية، والتأخر في دفع المستحقات، والتحرش الجنسي، والأذى الجسدي، وتقييد حرية التنقل، وتغيير العقود.
ولا يختلف الأمر في البحرين؛ فقد أصدرت دولة البحرين قانون مكافحة الاتجار بالأشخاص في عام 2008. وكما هو الحال مع السعودية، فقد اعتمدت البحرين التعاريف الأممية للاتجار بالبشر. وقد انضمت البحرين لاتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، لعام 1989، في عام 1991. وفي عام 2002 وافقت على اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة. وفي عام 2004 انضمت البحرين لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية وللبروتوكولين المكملين لها.
وبالرغم من الإطار القانوني المتكامل، إلا أن دولة البحرين، ممثلة في هيئة تنظيم سوق العمل في البحرين وجدت أن أكثر من 65? من العاملين الأجانب في هذه الدولة لم يروا عقود عملهم، ولا يعرفون البنود المكونة لها. هذا، وتعد دولة البحرين إحدى الوجهات لجريمة الاتجار بالبشر خاصة فيما يتعلق بالعمل القسري وأعمال البغاء والدعارة الجبرية. ويأتي إلى هذه الدولة أناس كثر من عدة جنسيات، مثل: الهند، وبنغلاديش، وإندونيسيا، وتايلاند، والفلبين، وأريتيريا، وإثيوبيا بغرض العمل. إلا أن معظم القادمين من هذه الجنسيات لا يتمتعون بمهارات عالية، ولذلك فهم يرتضون بأعمال يدوية بسيطة. وهذا مشابه للوضع في الإمارات العربية المتحدة وقطر، حيث تحتاج هذه الدول، بحكم حجم الإنفاق العالي على مشاريع البنية التحتية، إلى اليد العاملة غير المدربة والمدربة على السواء. لكن اليد العاملة غير المدربة، تتعرض لانتهاكات معينة لحقوقها في بيئة مهنية تغيب عنها الشروط الصحية وظروف العمل الملائمة مع غياب الحد الأدنى من الخدمات الأساسية.
وعلى الرغم من إقرار الدول الخليجية للقوانين والأنظمة المعنية بمكافحة الاتجار بالبشر، الإمارات في عام 2006، البحرين وعمان في عام 2008، السعودية في عام 2009، وإنشاء المنظمات والجهات المعنية بمكافحة هذه الجريمة والإشراف على تطبيق القوانين المعنية، إلا أن بعض الممارسات لا تزال قائمة. وهذا يعود، كما أشرنا سابقًا لكون عملية مكافحة هذه الجريمة تتطلب عملاً يمس الثقافة. وفي هذا المقام، يمكن القول بأن مؤسسات المجتمع المدني لا تزال غير قادرة على أداء عملها في هذه القضية.
تجارة التأشيرات (الفيز)
لا يمكن الحديث عن تجارة التأشيرات (في السوق السوداء) دون الحديث عن ثقافة العمل والمنظومة القيمية للعمل في الخليج بالإضافة إلى التشريعات الحاكمة لعمل القطاعين الخاص والحكومي. في البدء لابد من الإشارة إلى أن القطاع الخاص يواجه مشكلة كبيرة فيما يتعلق بتوطين الوظائف؛ حيث تشير بعض الدراسات، كتقرير أعدته غرفة تجارة وصناعة المدينة المنورة والذي نشرته جريدة إيلاف الإلكترونية بتاريخ 23 إبريل/نيسان 2013، إلى مواجهة القطاع الخاص لمشاكل في توظيف السعوديين.
فهنالك صعوبات فيما يتعلق بمسألة الالتزام بساعات العمل على فترتين، والرغبة في إشغال الوظائف القيادية مباشرة، والعزوف عن العمل خارج المدن، بالإضافة إلى صعوبات ترتبط بإمكانية انتقال الموظف الخليجي من شركة إلى أخرى دون كثير عناء، وذلك فيما يتعلق بالتشريعات المنظمة لعملية الانتقال. عليه، يجد القطاع الخاص نفسه إلى حد ما، مهتمًا باستقطاب غير الخليجيين لعدة أسباب، أهمها: أن مستقدم العامل يعتمد جملة وتفصيلاً على الجهة التي استقدمته، وفي هذا استقرار أكبر للجهة المستقدمة. وضعف التشريعات الحامية لحقوق هذا العامل تعطي مساحة كبيرة للجهة المستقدمة للاستفادة منه بشكل أكبر من الاستفادة من المواطن الخليجي.
هذه البيئة تجعل التسابق على استقدام الأيدي العاملة محمومًا، خصوصًا في الوظائف التي لا تتطلب مهارة وتدريبًا عاليًا. ومن هنا، يمكن القول بأن الأجهزة الحكومية تبدي قدرًا من التفهم لهذه الحاجة، وعليه يصبح الاستقدام إلى حد ما أمرًا يتفق عليه القطاع الخاص مع الأجهزة الحكومية الخليجية. في هذه اللحظة ترعرع سوق الاستقدام. وبسبب البنية الريعية للإدارة في دول الخليج، يمكن القول بأن شبكات الزبونية تهيمن على الأجهزة الإدارية، بما فيها الجهات المعنية بالاستقدام واستخراج تصاريح الاستقدام، كوزارات العمل مثلاً.
وبهذا ينفذ إلى حاجة القطاع الخاص مجموعات من المتنفعين الذين يتمتعون بعلاقات ونفوذ لدى الدوائر المعنية بالاستقدام، ليستخرجوا تصريحات التأشيرات، دون أن يكون لديهم حاجة فعلية لها، ليقوموا بعد ذلك ببيعها في سوق سوداء أو شبه سوداء.
هذه الممارسة أغرت القطاع الخاص الذي يحتاج لهذه الأيدي العاملة، لكنها في نفس الوقت أغرى الطامعين في الاستفادة من هذه الأيدي العاملة بشكل غير قانوني وغير أخلاقي، كأن يتحصل مواطن على عشر تأشيرات عمل لعمال في تخصصات مختلفة. ولكن حين وصولهم، يقوم هذا المواطن "بتسييب" هذه الأيدي العاملة، على أن تجلب له دخلاً شهريًا أو سنويًا، فتصبح هذه العمالة حرة في التحرك، فيما يتعلق بالسوق وبالقدرة على ممارسة نشاط ما أو عدة أنشطة، شريطة أن تدفع أجرًا معلومًا للكفيل، أي الشخص الذي قام باستقدام هذه الأيدي العاملة. وفي هذا استغلال وممارسة للاتجار بالبشر، وله مضار جسيمة بالسوق وبالأمن.
مؤسسات المجتمع المدني
لمؤسسات المجتمع المدني دور كبير في مكافحة هذه الجريمة. ويمكن تقسيم دور مؤسسات المجتمع المدني إلى نوعين: الأول: لتعزيز الرقابة ورفع مستوى الشفافية، والثاني: لرفع مستوى التعاون بين القطاعين الحكومي والخاص فيما يتعلق بزيادة الوعي والتدريب على التعامل مع جريمة الاتجار بالبشر. وفي كلا النوعين، تعمل مؤسسات المجتمع المدني على المساعدة في تحديث الأنظمة والتشريعات بشكل دوري، وعلى المساعدة في رفع الطاقة الإنتاجية لآلية العمل.
ودور مؤسسات المجتمع المدني لا يقتصر على مكافحة جريمة الاتجار بالبشر بشكل مباشر، بل يمتد إلى العمل بشكل مساند فيما يتعلق بالإطار الشامل لهذه الجريمة (بقية الجرائم المصاحبة للاتجار بالبشر، كغسيل الأموال مثلاً).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هنالك ارتفاعًا ملحوظًا في حالات الاشتباه بعمليات غسيل الأموال، يرافقه ارتفاع في كفاءة التشريعات ومهنية الأجهزة المعنية بمكافحة هذه الجريمة. بالإضافة إلى ذلك، هنالك عدة خطوات قامت بها الأجهزة المعنية، في القطاعين العام والخاص، أدت لخلق بيئة أكثر قدرة على كشف عمليات غسل الأموال. ولذلك، يمكن القول بأن لمؤسسات المجتمع المدني دورًا حاسمًا يمكن أن تلعبه في المساعدة على القضاء على -أو تحجيم- هذه الآفة. عليه، يتوجب مراجعة الأنظمة والتشريعات بشكل دوري، وهنا يمكن أن تكون مؤسسات المجتمع المدني جزءًا لا يتجزأ من الحل.
ففي الولايات المتحدة مثلاً، قام تحالف FACT، وهو تحالف يضم أكثر من 60 مجموعة لمكافحة الفساد والرقابة المالية وتعزيز الشفافية، بدعوة وزارة الخزانة الأميركية في سبتمبر/أيلول 2011 لمراجعة تنظيمات مكافحة غسيل الأموال (AML). وقد أدى نشاط هذه المؤسسة، التي تعتبر من مؤسسات المجتمع المدني، سواءً من خلال الدعوة أو تحديد نقاط الخلل الواجب مراجعتها، إلى استجابة الإدارة الأميركية وقيامها بإنشاء فريق عمل، Task force، مخصص لهذه المهمة. وهذا مثال على فعالية مؤسسات المجتمع المدني في هذا المجال.
وفي هذا السياق، يجب تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني، والذي سيكون عنصرًا فاعلاً لا غنى عنه لدرء مخاطر هذه الجريمة. فوجود جمعية أهلية لمكافحة الاتجار بالبشر، وجمعية أهلية للرقابة المالية وتعزيز الشفافية، وجمعية أهلية لمكافحة الفساد، مثلاً، سيساهم بفعالية في إنجاح كافة الجهود المبذولة في هذا الاتجاه.
الاتجار بالبشر ومجلس التعاون الخليجي
تعمل دول مجلس التعاون للخليج العربي وفق اتفاقية (أبوظبي) لمكافحة الاتجار بالبشر التي تم تمديد العمل بها في عام 2011. لكنها تبقى في إطار القانون الاسترشادي، أي أنها غير ملزمة، مما يعكس عدم انسجام الأنظمة والقوانين الخليجية المعنية بمكافحة جريمة الاتجار بالبشر، هذا من ناحية، ومن أخرى، فإن الطبيعة الدولية، أو عابرة الحدود لهذه الجريمة تستلزم تعاونًا دوليًا.
في هذا الإطار، يمكن لدول الخليج العربي أن تتعاون فيما بينها على توحيد الجهود، وهذا عائد لكون عملية التنقل للضحايا أو للمجرمين المرتبطين بالاتجار بالبشر، يعني عبور الحدود الخليجية. ولذلك، فمن مصلحة دول الخليج أن تتكاتف وتتعاون للقضاء على، أو الحد من، هذه الجريمة، لكن واقع الحال يشير إلى عكس ذلك. فلا توجد هيئة موحدة لمتابعة أو مراقبة الأنشطة الإجرامية المتعلقة بالاتجار بالبشر بين دول مجلس التعاون الخليجي، ولا يوجد إطار قانوني للربط بين منظمات المجتمع المدني في هذه البلدان، والتي أشرنا إلى مركزية دورها في هذه القضية. حتى إنّ منظمات المجتمع المدني المعنية بإعادة تأهيل الضحايا وإدماجهم بالمجتمع، لا تكاد تكون حاضرة أو فاعلة. بالإضافة إلى ذلك، لا توجد جهود بحثية كافية للتعامل مع هذه الجريمة، حتى إنّ البرامج التوعوية تكاد تكون نادرة.
كما أن الثقافة التجارية-الحقوقية التي تُعنى بقضايا الاتجار بالبشر تكاد تكون معدومة في دول الخليج العربية. ففي الوقت الذي يجتهد فيه الخليجيون لمقاطعة بضائع ومنتجات بعض الدول (بسبب رسوم كاريكاتورية مسيئة أو الحرب على غزة) لا نجد الشيء ذاته يحدث مع المنتجات المشبوهة. لا يمكن القول بأن ثقافة المقاطعة "الحقوقية" حاضرة بقوة. حيث لا يهتم المستهلك الخليجي إن كان المنتج الذي يشتريه قد تم تصنيعه بأيدي أطفال قسروا وسيقوا إلى العمل وهم لم يزالوا في مهد الطفولة، أم غير ذلك. والشيء ذاته يمكن أن يقال، فيما يتعلق بالثقافة الحقوقية وأنسنة البيئة، عن التعامل مع العمال غير الخليجيين من ذوي المهارات المحدودة.
ففي الوقت الذي تعتبر دول الخليج العربي من أهم الدول، ليس إقليميًا فحسب، بل دوليًا، من حيث حجم المساعدات المقدمة للدول الأخرى والمنح المالية، لا نجد استراتيجية واضحة المعالم تدعم مكافحة الاتجار بالبشر؛ ففي الوقت الذي تقرن الولايات المتحدة تقديمها المساعدات للدول الفقيرة، بتحسين بيئة العمل والتعاون من أجل مكافحة الجريمة المنظمة، بما فيها الاتجار بالبشر، لا نجد الشيء ذاته فيما يخص سياسات دول الخليج العربية. فتقديم المساعدات الخليجية مقترن دومًا بالمصالح الاستراتيجية لهذه الدول، دون إعطاء البعد الإنساني ما يكفيه من الاهتمام. وهذا محل قصور؛ فمن أجل التخفيف، على الأقل، من هذه الجريمة، يجب العمل على إيجاد بدائل اقتصادية لدول المنشأ والعبور والمنتهى، مما يخفف من وطأة هذه الجريمة على الضحايا.
الخاتمة
يشكّل الحضور الكبير للأيدي العاملة غير الخليجية، في الخليج بيئة خصبة لممارسات الاتجار بالبشر، هذا بالإضافة لضحايا الداخل. وعلى الرغم من وجود القوانين والتشريعات، التي من المفترض أن تحد من هذه الجريمة، إلا أنها لا تزال حاضرة وبقوة. وذلك عائد لكون الجهد القانوني وحده لا يكفي، بل يجب أن يصاحبه جهد ثقافي أيضًا. يضاف إلى ذلك أنه لا توجد مؤسسات مجتمع مدني فاعلة لخلق بيئة طاردة لهذه الجريمة من جهة، وللمساهمة في إدماج ضحاياها من جهة أخرى. وأخيرًا، يمكن القول بأن مستوى التعاون بين دول الخليج منخفض جدًا في هذا المجال مما يسهم في استمرارية هذه الجريمة.
____________________________________
* منصور المرزوقي البقمي - باحث مختص بالشأن الخليجي