ليبيا: التحديات الأمنية وانعكاساتها على العملية السياسية

يشكل الاضطراب الأمني في ليبيا تحديا للمسار السياسي، وقد أدى التركيز على معالجة القضايا الأمنية إلى التأخر في إيجاد آليات لتطوير العملية السياسية. ورغم توفر رؤية لمعالجة الاختلال الأمني،إلا أن غياب التوافق بين الفاعلين السياسيين والقوى المؤثرة في القرار السياسي أدى إلى تعثر خطط الحكومة في هذا المجال.
2013559258266734_20.jpg

أ

 

أضحى الملف الأمني من أبرز التحديات أمام عملية الانتقال وبناء الدولة في ليبيا، وذلك بعد فشل الخطط والبرامج التي تم اعتمادها منذ تأسيس المجلس الانتقالي في 27 فبراير/ شباط 2011. وظهر جليا أن المشاكل الأمنية تزداد تعقيدا مع استمرار الفشل والعجز الحكوميين. يدل على ذلك عدد المجموعات المسلحة والمسجلين كثوار، حيث تضاعف عدد المجموعات المسلحة عدة مرات بعد الإعلان رسميا عن تحرير البلاد وتوقف القتال في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وبلغ عدد المقيدين لدى اللجنة الأمنية العليا التابعة لوزارة الداخلية نحو 143 ألفا، فيما لم تتعد التقديرات الرسمية لأعداد من حملوا السلاح ضد القذافي وخاضوا المعارك ضد كتائبه 30 ألف مقاتل.(1) ومن ناحية أخرى، فقد بدا أن خطط الحكومتين: الانتقالية (حكومة عبدالرحيم الكيب)، والمؤقتة (حكومة علي زيدان) ضعيفة الأثر، وتجلى ذلك في غياب تطورات ملموسة على أرض الواقع خصوصا فيما يتعلق ببناء الشرطة والجيش، إذ تشير الشواهد إلى أن ضبط واحتواء الخروقات الأمنية تتم في كثير من الأحيان على أيدي الكتائب التابعة للثوار وليس الأجهزة التابعة للشرطة.

السياسة الحكومية في مواجهة الاضطرابات الأمنية

نظرا لتعقد الملف الأمني في ليبيا وتشابكه بسبب تداخل عناصر عدة، فإنه سيكون من المفيد تقسيم عملية تقييم السياسات الرسمية تجاه الوضع الأمني إلى مرحلتين هما:

أ. مرحلة ما قبل انتخاب المؤتمر الوطني: وهي المرحلة التي امتدت من 27 فبراير/ شباط 2011 حتى 7 يوليو/ تموز 2012، تاريخ انتخاب المؤتمر الوطني العام، حيث شهدت هذه المرحلة تأسيس الجهاز الأمني على ما هو عليه الآن، من خلال تغيير مسمى الشرطة إلى الأمن الوطني، وتشكيل اللجنة الأمنية العليا المؤقتة، وإطلاق جهاز الأمن الوقائي. وقد اتفقت شرائح واسعة من الليبيين على أن هذه المرحلة شهدت أخطاء كبيرة وقع فيها المجلس الانتقالي والحكومة المنبثقة عنه. وقد عبر عن ذلك الدكتور محمد المقريف، رئيس المؤتمر الوطني العام، في أول لقاء متلفز بعد انتخابه قائلا :"إن ملفات الوضع الأمني وبناء الجيش وإعادة هيكلة النظام القضائي كلها قد أهملت من قبل المجلس الانتقالي والتنفيذي والحكومة المؤقتة، وإنهم لم يقوموا بعملهم بشفافية ونزاهة".(2) ويعود ارتباك المجلس الانتقالي والجهاز التنفيذي التابع له (مكتب تنفيذي ثم حكومة انتقالية) في إدارة الملف الأمني إلى غياب الرؤية وتضارب السياسات والقرارات. فمن ناحية أصدر المجلس قرارا بتفعيل جهاز الشرطة تحت مسمى جديد وهو "جهاز الأمن الوطني"، ولأن الأمن الوطني لم يقم بمهمة ضبط الأمن كما ينبغي أصدر المجلس قرارا بتشكيل جهاز أمني يضم الثوار تحت مسمى "اللجنة الأمنية العليا المؤقتة". بالمقابل أشرف أحد البارزين من أعضاء المجلس الانتقالي على تأسيس "جهاز الأمن الوقائي"، هذا علاوة على الكتائب المسلحة التي لم تكن جزءا من المؤسسات المشار إليها وتمارس مهام أمنية، الأمر الذي أدى إلى تضارب الأجهزة والصلاحيات وتداخل السياسات وتضخم المؤسسات الأمنية وارتفاع عدد المنتسبين لها بشكل فلكي. ويعزى ضعف جهاز الأمن الوطني "الشرطة" إلى ما يلي:(3)

-  تردد عدد كبير من عناصر الشرطة السابقة في العودة إلى مواقعهم إما خوفا بسبب انتشار السلاح، أو سلبية لغياب الرادع، وكذلك قصور القيادات الأمنية عن متابعة ومعاقبة المقصرين وفق القانون.
- رجع كثير ممن عاد من رجال الشرطة لمهامهم خوفا من تهديد الجهات الرسمية بوقف مرتباتهم، وعاد الكثير منهم ليستفيد من المكافئات التي خصصت للثوار مع استمرار تقاضي مرتباتهم بالشكل الذي أرهق ميزانية الدولة وأثر على الأداء الوظيفي للإدارة الرسمية.
- عدم وجود تشريع أو عرف ما بين القبائل يحمي رجل الأمن أثناء تأدية الواجب قد يسهم في ضعف أداء الأمن الوطني، والذي قد تترتب عليه مواجهات مسلحة وسقوط ضحايا، حيث يصبح رجل الأمن مسؤولا اجتماعيا ومطاردا بسببها، مما جعل الكثير من رجال الشرطة يقفون متفرجين أمام الخروقات الأمنية.

من هنا اتخذت الحكومة الانتقالية قرارها بدعم اللجنة الأمنية العليا المؤقتة، واعتبرته خيارا لا بديل عنه، وبالفعل أسند رئيس الحكومة، الدكتور عبدالرحيم الكيب، حقيبة الداخلية لعضو اللجنة الأمنية العليا، المحامي فوزي عبدالعال، حيث تم فتح الباب للانتساب للجنة دون معايير دقيقة تطبق عند الاختيار، فانتسب إليها عدد كبير من العاطلين عن العمل وعدد من أصحاب السوابق، وحتى بعض منتسبي كتائب القذافي والأمن الداخلي والخارجي واللجان الثورية. مما حدا بالعديد من ضباط الشرطة القدامى وحديثي التخرج إلى الاعتراض ورفض الاعتراف باللجان الأمنية في بعض المدن والعزوف عن التعاون معها. وقد تكرر تظاهر كثير من ضباط وعساكر الشرطة احتجاجا على دعم اللجنة الأمنية العليا، كما اعتبر خالد حيدر، المسؤول الإعلامي بمديرية أمن بنغازي، وهي الجهاز الذي يشرف على مراكز الشرطة، "أن اللجنة الأمنية العليا جسم دخيل على مديريات الأمن المكلفة بترسيخ الأمن بمختلف المدن الليبية". وأكد في تصريحه أن "تحديد تبعية اللجنة المذكورة لوزارة الداخلية مباشرة وليس لمدراء الأمن بالمناطق خلق تضاربا وتداخلا في الصلاحيات بين هذه اللجنة ومديريات الأمن".(4) بالمقابل، رفض قادة وكثير من عناصر اللجنة الأمنية الانضمام للشرطة بحجة فساد جهاز الشرطة ودعمه للنظام السابق ومشاركة العديد من قادته وضباطه وجنوده في قمع الثورة والثوار، الأمر الذي أخَّر عملية دمج الثوار في جهاز الأمن الوطني.

ب. مرحلة ما بعد انتخاب المؤتمر الوطني العام: بالرغم من وضوح الرؤية لدى وزير الداخلية في الحكومة المؤقتة، العميد عاشور شوايل، فيما يتعلق بدور وزارته خلال الفترة الانتقالية(5) إلا أن الإنجاز محدود والتنفيذ بطيء، فعلى سبيل المثال لم توفر الوزارة الدعم المادي المطلوب لتنفيذ قرارات الوزير المتعلقة بدمج منتسبي اللجنة الأمنية العليا إلى جهاز الشرطة، الأمر الذي مثل أهم العقبات أمام برامج تأهيلهم.(6)

وقد صرح هاشم بشر، رئيس اللجنة الأمنية العليا المؤقتة في فرع طرابلس بأن إدارة التدريب التابعة لوزارة الداخلية والمشرفة على برنامج تأهيل أعضاء اللجنة الأمنية العليا لأجل دمجهم في الوزارة اضطرت إلى الاستدانة لتوفير مستلزمات تدريب الدفعة الأولى، وتعزى استقالة وكيل وزير الداخلية لشؤون التدريب إلى ما سبق ذكره. كما أن استراتيجية "المجاهرة بالأمن" من خلال نشر رجال الشرطة وعناصر المرور في كافة المدن ما تزال متعثرة لعدم التزام الكثير من عناصر الشرطة بما يسند إليهم من مهام، وعدم اتخاذ الوزارة إجراءات حازمة حيال ذلك.

أيضا، لا تزال الحكومة ووزارة الداخلية وحرس الحدود التابع لرئاسة الأركان عاجزة عن ضبط الحدود والمنافذ البرية والبحرية. وبحسب مبعوث الأمم المتحدة الخاص ورئيس بعثتها في ليبيا طارق متري فإن "الأمن على امتداد الحدود الليبية ما زال مبعث قلق رئيسي في ظل القدرات الحالية المحدودة، والأثر المحتمل لأحدث التطورات في مالي، كما أن الوضع في الشرق يمثل تحديا حقيقيا للحكومة ويهدد بإعاقة محاولات تأمين الاستقرار".(7)

وتشكل الخروقات على الحدود بين ليبيا والجزائر وتونس وكذلك في الجنوب قلقا كبيرا لهذه الدول، وقد أظهرت الاجتماعات المتكررة بين وزراء داخلية ليبيا والجزائر وتونس، والقمة التي جمعت رؤساء حكومة ليبيا وتونس والجزائر وانعقدت في مدينة غدامس، القريبة من الحدود الليبية التونسية الجزائرية، في يناير/ كانون الثاني الماضي، شعورا بخطورة النشاطات الخارجة عن القانون والمتمثلة في تهريب الأسلحة والمخدرات والسلع الغذائية والوقود المدعوم، والتي تشكل تهديدا كبيرا لاستقرار البلاد وهدرا لمواردها المالية، حيث تصل مخصصات الدعم السلعي ودعم المحروقات في ليبيا إلى ما يزيد عن 8 مليارات دولار أمريكي، فيما لا يتجاوز ما يصل إلى مستحقيه من هذا الدعم 50% من القيمة المخصصة.(8)

عجز الحكومة والتعثر في ضبط الوضع الأمني وإعادة الهيبة للأجهزة الأمنية السيادية أوجد حالة من الانقسام لدى الرأي العام، وبالرغم من تأييد الجميع لمبدأ تسلم الشرطة والجيش مهام الأمن وتسليم الكتائب العسكرية أسلحتها، إلا أن هناك اعتقادا لدى بعض أوساط الناشطين السياسيين والمثقفين من أن الحاجة لا تزال ماسة لكتائب الثوار لحفظ الأمن، ويدللون على ذلك بأن الخروقات الخطيرة والمتكررة لا يتصدى لها في غالب الأحيان الشرطة والجيش، بل الكتائب العسكرية، فمديرية أمن بنغازي لم تفلح في القبض على المتورطين في الاعتداء الجنسي على الفتيات البريطانيات من أصل باكستاني، بينما اعتقلتهم مجموعات مسلحة تابعة لكتائب درع ليبيا. كما أن بعض السجون التي تخضع لإشراف بعض سرايا الإسناد في طرابلس، وهي كتائب ثوار، تمتاز بدرجة أعلى في الضبط قياسا على بعض السجون التي تخضع للشرطة القضائية.

الخلاف بين الثوار والحكومة ووزارة الداخلية

العديد من قيادات اللجان الأمنية في المناطق والكتائب المسلحة دخلت في جدال مع الحكومة ووزير الداخلية حول ما اعتبروه تساهلا في التعامل مع من عملوا في الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق، وتمكينا لـ"الأزلام" في مفاصل الدولة وأجهزتها الحيوية، فيما يعتقد الوزير أن "إقصاء وإبعاد كل العناصر الأمنية التي كانت تعمل بالأجهزة المعلوماتية، الأمن الداخلي– الأمن الخارجي، بغض النظر عن أفعالهم السابقة، نجم عنه غياب الخبرة الأمنية في تقصي ومتابعة المعلومات والكشف عن المؤامرات التي تحاك ضد الوطن.

وأصبحت الساحة الليبية منتهكة بالكامل لجواسيس من مختلف دول العالم ولكل مندس بالداخل لزعزعة الأمن والنظام العام، كما أصبحت الإدارات الأمنية تفتقر للمعلومات الأمنية اللازمة لاتخاذ القرار المناسب والحاسم في بعض الأحيان لمواجهة الظروف الأمنية المتلاحقة".(9) وقد أسهم هذا الخلاف في تعثر مساعي مأسسة الأجهزة الأمنية والتقدم بخطوات سريعة نحو إعادة الاستقرار الأمني.

تأزم الوضع الأمني وانعكاساته على الوضع الاقتصادي

الحوادث المتكررة ضد الرعايا الأجانب في بنغازي من القنصلية الأمريكية إلى الهجوم على القنصل الإيطالي ثم الاعتداء المشين على الناشطات البريطانيات من أصل باكستاني، وضعف مواقف الحكومة حيالها أسهم في عزل المنطقة الشرقية. وكانت العديد من الدول الغربية قد قررت سحب ممثلياتها، وحثت رعاياها على عدم البقاء أو السفر إلى المدينة. كما أن استمرار الخروقات الأمنية في العاصمة من عمليات خطف وسطو مسلح وقفل الطرقات من قبل مجموعات مسلحة أضعف جهود الحكومة لعودة الشركات الغربية واجتذاب الاستثمارات الأجنبية لأجل تحريك عجلة الاقتصاد، كون ذلك من أهم عوامل احتواء الاضطرابات الأمنية الحادثة في البلاد. وفي تعليق للمحللة "كلوديا غازيني" من مجموعة الأزمات الدولية الموجودة في طرابلس حول حادث الاعتداء على القنصل الإيطالي ذكرت أن "الهجوم هو بالتأكيد سبب لقلق العديد من شركات النفط التي تعمل في ليبيا أو تخطط للعودة إلى ليبيا. وقد يكون له تأثير سلبي على قرارهم بالبقاء في البلاد أو العودة إليها".(10) وهو ما أكدته موفدة وزارة الخارجية الفرنسية لشؤون المواطنين الفرنسيين في الخارج، "هيلين كونوي موريه"، إلى طرابلس في يناير الماضي/ كانون الثاني، وكان غرض الزيارة تقييم الوضع وتشجيع الشركات الفرنسية على العمل في ليبيا، بقولها إن" القضايا الأمنية تشكل هاجسا لشركاتنا.. ولشركات كبيرة لديها بروتوكولات أمنية. ولكن أصحاب المشاريع الصغرى الذين يأتون لوحدهم يفتقرون إلى الدافعية لأن الصور التي نراها عن ليبيا في فرنسا لا توحي بوجود أمن".(11)

وفي هذا السياق يعتبر البعض أن هناك فعلا متعمدا لمنع استقرار البلاد، حيث إن حادث الاعتداء على القنصل الإيطالي جاء بعد يومين من توجه محمد المقريف، رئيس المؤتمر الوطني العام، إلى روما لإجراء محادثات مع رجال الأعمال، وسبق زيارة المقريف بفترة وجيزة إعلان شركة النفط الإيطالية "إيتى" عن استئناف عملياتها للتنقيب عن النفط، وهي من أكبر المتعاقدين مع ليبيا في مجال النفط.

الانتهاكات على أيدي المجموعات المسلحة وموقف المجتمع الدولي

تغولُ العديد من المجموعات المسلحة، ووقوعُ انتهاكات من خطف لمسؤولين في الدولة واعتقال المئات وربما الآلاف من رجال النظام السابق، والتعذيب الذي يقع في العديد من المواقع التي يسيطر عليها منتسبون إلى الثوار أصبح من أبرز أسباب قلق المنظمات الدولية المعنية بملف حقوق الإنسان. وقد نجحت تلك المنظمات في نقل هذا الملف إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويمكن أن تكون عواقب تدويل هذا الملف وخيمة في حال استمر العجز عن سيطرة مؤسسات الدولة الجنائية والقضائية عليه. وقد أظهرت الاضطرابات التي تشهدها العاصمة طرابلس بعد حصار العديد من الوزارات مدى الضعف الشديد للحكومة وقدرة المجموعات المسلحة على التأثير عل المشهد بشكل يعرقل الانتقال الديمقراطي ويقدم صورة سلبية عن الأوضاع في ليبيا ويعزز من فرص التدخل الخارجي بشكل من أشكال.

ولا يقتصر التجاوز على الكتائب خارج أجهزة الدولة، بل تتورط أجهزة وكتائب منضوية تحت شرعية الدولة في تجاوزات مماثلة، ويعزى سبب ذلك إلى غياب معايير ثابتة لمهام حفظ الأمن عند اللجنة الأمنية العليا المؤقتة، والقرار في الكثير من الحالات يأخذ على مستوى الكتيبة وليس القيادة المركزية في الوزارة، ويتكرر المشهد عند القبض على ما يصفهم العديد من أعضاء اللجان الأمنية بـ"الأزلام" أو المجرمين. وقد ذكر رئيس اللجنة الأمنية لطرابلس أن 70% من عمليات القبض والاعتقال تتم دون مذكرات أو أوراق اعتقال، وكذلك ما حدث من هدم للأضرحة ونبش القبور.(12) وتمنح بعض وحدات اللجان الأمنية نفسها صلاحيات قضائية من خلال قبضها على متلبسين بجرائم شرب الخمر والزنا وتطبيق أحكام الجلد والحبس دون الإحالة إلى جهات الاختصاص، وهي ليست حالات شائعة أو متفشية لكنها تكررت في مدن عدة.

انعكاسات تردي الوضع الأمني على العملية السياسية

لا شك أن تردي الوضع الأمني من أهم أسباب عرقلة التقدم على المسار السياسي. فمن ناحية لكون القضية الأمنية تتبوأ قمة أولويات السلطات الليبية، فقد أدى بحث سبل معالجتها على مستوى المؤتمر الوطني وعلى مستوى المكونات السياسية والاجتماعية خارج المؤتمر إلى تأخير التركيز على تطوير آليات وبرامج وثيقة الصلة بتطوير العملية السياسية. ومن ناحية أخرى، فإن الخلاف حول سبل معالجة الوضع الأمني، خصوصا فيما يتعلق بالتعامل مع رجال النظام السابق ودورهم في العمل الأمني أدى إلى تعقد المسار السياسي بسبب تفنن الأطراف السياسية في ممارسة الضغوط على الخصوم السياسيين لتحقيق كسب سياسي، على سبيل المثال، الجدل حول قانون العزل السياسي أو التعديل على الإعلان الدستوري، وغيره من القضايا التي تطرح على المؤتمر الوطني العام لإصدار تشريع أو اتخاذ قرار حيالها.

ومن جانب آخر، فإن محاصرة أشغال المؤتمر الوطني والاعتداء عليه من قبل بعض الثوار وجرحى المعارك ضد كتائب النظام السابق، وبعض المكونات السياسية والاجتماعية، والتي بلغت نحو 60 اعتداء، بحسب أمن رئاسة المؤتمر الوطني العام، ساهمت في تعطيل المسار السياسي، كما وقع أعضاء المؤتمر تحت حصار دام يوما كاملا من قبل أنصار قانون العزل السياسي، ومن بينهم ثوار ومسلحون، ومنعوا من الخروج قبل إصدار القانون. كما عززت إفرازات الوضع الأمني المختل الانقسام بين الكتل السياسية، وكان من أبرز مظاهر هذا الانقسام ما حدث من تنازع بين بعض أعضاء المؤتمر الوطني ورئاسته، وحادثة إهانة رئاسة المؤتمر الوطني متمثلة في رئيسه والنائب الأول، بالبصق عليهم من قبل أحد الأعضاء المنتسبين لتحالف القوى الوطنية.

وينبغي ألا نغفل تأثير الاضطرابات الأمنية على العملية السياسية من ناحية ردود الفعل الغربية حيال ما يجري في ليبيا بشكل عام، وتجاه التهديدات المباشرة لمصالح وممثليات تلك الدول. وقد تضيف حادثة تفجير السفارة الفرنسية مؤخرا عبئا إضافيا على العملية السياسية وعلى صانع القرار الليبي، الذي أصبح أكثر عرضة للضغوط الغربية، بل وأكثر قابلية للاستعانة بالأطراف الدولية لحفظ الأمن. وقد تكرر ذلك على لسان رئيس الحكومة، كما أن مؤتمر باريس الأخير تركزت أعماله حول ملف الأمن في ليبيا مما يعكس إمكانية تدخل قوى غربية بشكل غير مباشر لاحتواء الوضع الأمني للأهمية الاستراتيجية لليبيا بالنسبة لها. وهو الأمر الذي سيكون له ردود فعل رافضة، مما يعني التهاب المشهد السياسي لاحتمال ازدياد التجاذبات السياسية، وقد حملت رسائل بعض القوى السياسية والعسكرية إلى رئيس الحكومة قلقا كبيرا فيما يتعلق بالتعاون الأمني مع بعض الدول الغربية.

بدائل معالجة الخلل الأمني

1) بالرغم من توفر رؤية لمعالجة الاختلال الأمني لدى وزارة الداخلية الحالية، إلا أن غياب التوافق بين الفاعلين السياسيين والقوى المؤثرة في القرار السياسي أدى إلى تعثر خطط الحكومة، بل وتفاقم الاختلال الأمني. لذا فإن مساعي إيجاد وفاق وطني حول سياسات احتواء الاختلالات الأمنية وبناء الجيش والشرطة ينبغي أن تكون المدخل للتصحيح.

2)  مع التسليم بأن الدولة الحديثة لا تقوم على العشائرية والقبلية، إلا أن معالجة الخروقات الأمنية في ليبيا اليوم لا يمكن أن يتحقق دون إشراك القبائل في ممارسة ضغوط اجتماعية على غير الممتثلين للسياسات والخطط الأمنية، وتوفير الدعم لرجال الشرطة ومن تسند إليهم مهام حفظ الأمن من خلال ميثاق يهدر حقوق من يتورط في الإخلال بالأمن، ويوفر الحماية الاجتماعية لعناصر الأمن عند تأدية واجباتهم الأمنية.

3) رصد الواقع الأمني بشكل علمي دقيق، حيث لا تزال أعداد المجموعات والكتائب المسلحة غير معلومة، ولا توجد معلومات عن العديد من مقارها والمنتسبين إليها ووسائل تمويلها وعلاقاتها الأفقية والرأسية، واستمرار الجهل بهذه المعلومات قد يضعف قدرة الدولة على اتخاذ قرارات ناجعة لضبط الأمن وحفظ النظام العام.

4) ما تزال خطط دمج الثوار تفتقر إلى النضج، كما أن آليات تطبيقها تتسم بالقصور، والمطلوب بناء استراتيجية متكاملة ومترابطة يُعتمد في تنفيذها على آليات واضحة ودعم كامل من قبل الحكومة، ومساندة مستمرة وفاعلة من الرأي العام.

5) الكتائب المنضمة إلى الجيش والشرطة في حاجة إلى فرز وإعادة ترتيب أوضاعها مع التركيز على تصحيح ولاءاتها ومصادر توجيهها، وإلزامها بمهام الجهاز الذي انضمت إليه بما في ذلك إعادة تمركزها.

6) اتضح أن من يرى جمع الأسلحة أمرا ضروريا يرفض الانصياع لمطالب الحكومة الآن لعدم ثقته في الإجراءات الأمنية، ولثبوت تسرب الكثير من قطع السلاح التي تم تسليمها إلى جهات رسمية في بعض المناطق إلى سوق بيع الأسلحة، هذا علاوة على خوف المواطنين من تغول بعض المجموعات المسلحة ومجموعات السطو المسلح، زد على ذلك اعتقاد الثوار بأن الثورة لا تزال في خطر وأن من المجازفة تسليم أسلحتهم، لذا فإن جمع السلاح منوط بتقدم في بناء شرطة وجيش فاعلين وثقة المواطنين في السياسات وخطط وبرامج الحكومة ومشاهدة آثارها. 

7) لقد أنفقت الحكومتان الانتقالية والحكومة المؤقتة مليارات الدنانير على الجيش وحرس الحدود والمنشآت الحيوية، غير أن الحدود الشرقية والغربية والجنوبية منتهكة، ومساهمة الجيش في حفظ الأمن ما تزال قاصرة، وقد أسهم تنازع وزارة الدفاع مع رئاسة الأركان وقوة حرس الحدود إلى الوصول إلى الحالة الراهنة من الفشل، ويتطلب تصحيح الوضع تناغما كاملا بين القوات المسلحة والجهات المشرفة عليها من خلال إجراءات صارمة تصدر عن المؤتمر الوطني والحكومة بهذا الخصوص.

8) تعزيز الرقابة الرسمية من المؤتمر الوطني والقضاء وديوان المحاسبة، وتفعيل الرقابة الشعبية بقيادة منظمات المجتمع المدني، لمحاسبة المقصرين من التنفيذين المعنيين بالملف الأمني، والرقابة على المخصصات الضخمة للجيش والشرطة، لمنع الهدر والفساد الذي ارتبط بهاتين المؤسستين.

_____________________________________

*السنوسي بسيكري - كاتب وباحث ليبي
الإحالات
1 - عمر الخذراوي، وكيل وزير الداخلية، طرابلس 18 نوفمبر/ كانون أول 2012.
2  - محمد المقريف، قناة ليبيا الأحرار، الجمعة الموافق  10/8/2012.
3 - عاشور شوايل، "رؤية وزارة الداخلية خلال الفترة الانتقالية"، ورقة مقدمة إلى المؤتمر الوطني العام 2013.
4 - خالد حيدر، الوكالة الليبية للأنباء، 2-4-2012.
5 - عاشور شوايل، ورقة مقدمة إلى المؤتمر الوطني العام.
6 - انتقادات تكررت على لسان هاشم بشر، رئيس اللجنة الأمنية المؤقتة بطرابلس.
7 - صحيفة قورينا الجديدة، 30 يناير / كانون الثاني 2013.
8 - أنس رخا، سياسة الدعم في ليبيا: الاستراتيجية البديلة وطرق التنفيذ، المركز الليبي للبحوث والتنمية، فبراير/ شباط 2013.
9 - عاشور شوايل، ورقة مقدمة للمؤتمر الوطني العام.
10 - هشاشة الوضع الأمني تعمق الأزمة الاقتصادية في ليبيا، صحيفة العرب، 14-1-2013.
11 - صحيفة العرب، 14-1-2013.
12 – انظر الرابط التالي:
w w w .thawralibya. net/index.php?option=com_content&view=article&id
=3189:2012-09-15-09-51-58&catid=111

 

 

 

انتهى

نبذة عن الكاتب