المغرب: خلفيات وتداعيات قرار حزب الاستقلال الانسحاب من الحكومة

أثار إعلان حزب الاستقلال الانسحاب من حكومة العدالة والتنمية جدلا سياسيا في المغرب، وهو محصّلة لتراكمات بدأت مع وصول أمين عام جديد لهذا الحزب. وقد فتح القرار الباب لقراءات عديدة للمشهد المغربي سياسيا ودستوريا. و يرجح أن يصوغ الملك مخرجا وسطا لقرار الانسحاب غير مؤسس على منطق الغلبة.
20136107144189734_20.jpg
إحدى جلسات البرلمان المغربي المنعقدة بالرباط في ديسمير 2011 (الأوروبية)

لم يكن إعلان حزب الاستقلال عن انسحاب وزرائه الستة من الحكومة(1) بقيادة حزب العدالة والتنمية مجرد خبر إعلامي عديم الأثر على الطبقة السياسية المغربية، بل كان قرارا سياسيا ذا تأثير واضح على الحياة العامة للمجتمع المغربي. وإن لم ينل بعد نصيبه الوافر من النقاش العمومي والتفاعل المجتمعي، مع ما قد يُتوقع منه من آثار منظورة وغير منظورة في المدى القريب والمتوسط. 
 
فمنذ انعقاد المؤتمر الوطني السادس عشر لحزب الاستقلال في 29 يونيو/ حزيران 2012، ردد العديد من الاستقلاليين، في القيادة والقاعدة، شعار "التجديد"، والاجتهاد في إعادة صياغة تصورات الحزب ومواقفه على أسس جديدة تتلاءم مع التغيرات النوعية التي حملها قانون الأحزاب الجديد (14 فبراير/ شباط 2006 ،(2) والدستور الموافق عليه في استفتاء فاتح يوليو/ تموز 2011 ، وفي صدارتها إعمال مبادئ الحكامة الجيدة والتدبير الديمقراطي في إدارة الحزب وصياغة سياساته العامة.(3) كما شدد الحزب على أن تاريخه الذي سيُنهي عقده الثامن بحلول عام 2014(4)، وعلى أن نضاله الطويل، ومواقفه السياسية على امتداد الخمسين سنة التي أعقبت الإعلان عن الاستقلال، لا تسمح له بتبديد مكتسباته داخل حكومة يعتبرها غير فعالة في مواجهة الوضع الاقتصادي والاجتماعي الدقيق الذي يعيشه المغرب. ولا تمارس هذه الحكومة من وجهة نظره الحوار والتوافق حول الإستراتيجية التي يتوجب اعتمادها لمواجهة تعقيدات المرحلة.

ودون الحكم على رجاحة هذا الطرف أو ذاك من أطراف الائتلاف الحكومي الذي يقوده حزب العدالة والتنمية، فإن القرار المصادق عليه بأغلبية كاسحة من قبل المجلس الوطني لحزب الاستقلال في دورته العادية الثالثة يوم السبت 11 مايو/ أيار 2013 ـ يُعد بكل المقاييس، حدثاً سياسيا يجدر الوقوف عنده. سواء بغرض فهم خلفياته وسياق الإقدام عليه أولا، أو تحليل تأثيراته على الائتلاف الحكومي، ومستقبل الحكومة بشكل عام ثانيا، أو على مستوى الخيارات الممكنة أمام حزب العدالة والتنمية لتدبير الأزمة ثالثا، دون أن ننسى الدور المفصلي المنتظر للمؤسسة الملكية في التعامل مع قرار الانسحاب والتحولات السياسية المرتقبة منه رابعا.

لماذا قرر حزب الاستقلال الانسحاب من الحكومة؟

يصعب فصلُ قرار انسحاب حزب الاستقلال من الائتلاف الحكومي عن سياقه العام، فهو محصّلة لتراكمات بدأت مع انتخاب السيد حميد شباط أمينا عاما جديدا للحزب، ثم تنصيب الحكومة عقب انتخابات 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 برئاسة حزب العدالة والتنمية. وتظل المذكرة التي أعدها حزب الاستقلال وأعلن عنها يوم 03 يناير/كانون الثاني 2013 الوثيقة الأكثر تعبيرا عن مواقفه حِيال مشاركته في الحكومة، وطبيعة أداء هذا الأخيرة، وعلاقات مكونات الائتلاف الحكومي، وفي صدارتها مدى التزام رئيس الحكومة السيد عبد الإله بن كيران بروح ميثاق الأغلبية وأحكامه.(5)

وقد وجه حزب الاستقلال مذكرة إلى رئيس الحكومة، بوصفه المسؤول الأول عن مكونات الأغلبية، وحملت عنوان "تقوية التنسيق ورفع الأداء الحكومي". وتكمن أهم رسالة في المذكرة في سعي حزب الاستقلال إلى تأكيد موقعه المركزي في التحالف الحكومي بقيادة حزب العدالة والتنمية. فهو أقدم حزب وطني، يمتد تاريخه إلى قرابة الثمانين سنة (1934 ـ 2013(. ثم إن الحكومة الحالية التي يشارك في ائتلافها، لا تمثل قطيعة مع سابقاتها، سواء حين كان أحد أطرافها في سنوات (1998 ـ 2002)، أو عندما تحمل مسؤولية قيادتها ما بين 2007 ـ 2011 (6) ـ بل تمثل كما تقول المذكرة، استمرارا لما جاء قبلها من حكومات، كما أن المشاريع الإصلاحية الكبرى التي تروم الحكومة الحالية إنجازها سبق التفكير فيها، أو بدأ إطلاقها من قبل.

لذلك، نلمس في المذكرة، وهذه هي الرسالة السياسية الثانية، قلقاً واضحا من لدن حزب الاستقلال تجاه عمل الحكومة، وعدم فعالية تدبير رئيسها للائتلاف، وسوء استثمار الزمن الحكومي لتعميق الإصلاحات– كما يراها حزب الاستقلال- وفي مقدمتها القطاعات ذات الصلة بأوضاع المواطنين الاقتصادية والمالية والاجتماعية، واستكمال العملية الدستورية بوضع مشاريع القوانين التنظيمية، التي ألزم الدستور الجديد لسنة 2001 بضرورة إنهاء إعدادها والمصادقة عليها خلال الولاية التشريعية الجارية (2011 ـ 2016).

أما الرسالة السياسية الثالثة، فقد رصدت المذكرة جملة من الاختلالات في الحصيلة الأولية لأداء الحكومة،(7) على الرغم من إقرارها بمجموعة من الإيجابيات. فهكذا، يتجلى المظهر الأول للاختلال في الإخفاق في تنفيذ "ميثاق الأغلبية". وهذا يعني من وجهة نظر حزب الاستقلال عجز مكونات الأغلبية عن التوافق حول رؤية مشتركة لتدبير العمل الحكومي وقيادته نحو إنجاز الأهداف، التي حصرها الحزب في خمس أولويات، تخص" التعليم، والصحة، والسكن، والإدارة، والقضاء". أما المظهر الثاني للاختلال، فيكمن في ضعف ثقافة العمل المشترك، التي تستلزم متطلبات من قبيل التنسيق بين مكونات الأغلبية داخل البرلمان، لتقوية أدائها التشريعي، وإسعافها في إنتاج نصوص جيدة وذات فعالية، وكذلك الشفافية في التدبير. وهذا يقتضي إشراك جميع المكونات في ما يُعتمد من سياسات، ويتُخَذ من قرارات، والتضامن في المسؤولية، الذي يقتضيه الائتلاف الحكومي، و ينص عليه الدستور وميثاق الأغلبية.

والواقع، أن قرار الإعلان عن الانسحاب من الحكومة لم يشذ عن روح ما نبّهت إليه مذكرة ثالث يناير/ كانون الثاني 2013، وخَبِرَته الوقائع التي سبقتها أو التي أعقبتها، سواء حين حذرت مقررات اللجنة المركزية للحزب إلى سوء أداء الحكومة، أو عندما أكدت مداخلات فريق الحزب في البرلمان على دقة الأوضاع الاجتماعية التي يعيشها المغرب، أو بالنسبة لضعف أداء مكونات الائتلاف الحكومي. غير أن الفارق بين قرار الانسحاب والمذكرة، الذي اعتبرته قطاعات واسعة من الطبقة السياسية جديداً هو اللجوء إلى موقف الانسحاب، الذي لم يرد ذكره، ولا التلميح إليه، في المذكرة. وإن لم تستبعده التوقعات المصاحبة للنقاش المتوتر بين حزبي الاستقلال والعدالة والتنمية تحديداً، خصوصاً عند تبادل الاتهامات بينهما أثناء تظاهرات احتفالات عيد العمال فاتح مايو/أيار 201(. لذلك، نقرأ في نص بيان المجلس الوطني لحزب الاستقلال، المُعلِن للانسحاب الحيثيات نفسها التي تكررت في كل الوثائق المنبهة لسوء أداء الحكومة، وضعف التنسيق بين مكوناتها، وغموض رؤيتها لمعالجة أوضاع المغرب.(8)
 
وتنضاف معطيات أخرى إلى ما اعتبره حزب الاستقلال في وثائقه أسبابا لإعلان خروجه من الائتلاف الحكومي، وهي تخفي رهانات تكتَّم حزب الاستقلال عن الإفصاح عنها، وإن ترددت في أوساط كثيرة . فهناك رهان انتخابات عام 2016. حيث أكدت نتائج الانتخابات التشريعية الجزئية الأخيرة فوز حزب العدالة والتنمية في أكثر من منطقة، كما لم يفوت، هذا الأخير، أي فرصة إلا واستثمرها لتعزيز قاعدته الشعبية.

وتشير تقديرات حزب الاستقلال إلى أن استمراره داخل الحكومة سيُفقده الكثير من شعبيته، لا سيما إذا استمر عضواً غير مقرر أو فاعل في السياسات العمومية التي تصوغها الحكومة بقيادة حزب العدالة والتنمية. و إذا صحّت فرضية تراجع أداء الحكومة الحالية، لأسباب ذاتية وموضوعية ذات علاقة بأوضاع الانكماش الاقتصادي والمالي الوطني والدولي، فإن خسارة حزب الاستقلال ستكون مضاعفة. وعلاوة على استمرار ضعف موقعه داخل الائتلاف الحكومي، فإن تجربته داخل الحكومة سوف تبدِّد رصيده الشعبي، ليفقد قدرته على الفوز في الانتخابات المقبلة.
 
وإلى جانب هاجس الانتخابات القادمة، هنالك مبرر آخر لقرار الحزب الانسحاب من الحكومة، ويتمثل في حماية موقعه السياسي وسط الائتلاف الحكومي، ورعاية مصالح أعضائه ومناصريه من أوساط اجتماعية مختلفة. حيث تشير تقديرات الحزب إلى تضرر مصالحه نتيجة هيمنة حزب العدالة والتنمية، فلا هو قادر على تحصيل المناصب الوزارية التي يعتبرها ذات أهمية كبيرة، كما أنه في موقع لا يسمح له بحماية مصالح المنتسبين إليه من الفئات الغنية في القطاعات الاقتصادية والإنتاجية الأساسية، في ظل رفع حزب العدالة والتنمية شعار محاربة الفساد والمفسدين، وحماية المال العام .

نتائج قرار الانسحاب على مستقبل الحكومة

فتح قرار الانسحاب الباب لأكثر من مشهد من مشاهد تطور الائتلاف الحكومي الذي يقوده حزب العدالة والتنمية منذ قرابة عام ونصف. ولأن حزب الاستقلال هو القوة الثانية بحسب نتائج انتخابات 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011،(9) ولخبرته في العمل الحكومي منذ الاستقلال، فقد شكل قرار الإعلان عن الانسحاب حدثاً هاماً، ومصدر قلق لمستقبل الائتلاف الحكومي، وإن كان استناد حزب الاستقلال إلى الفصل الثاني والأربعين من الدستور في نهاية نص القرار يفتح المجال واسعاً للتساؤل والتأويل عن أبعاد الحزب ومقاصده.

فالفصل الثاني والأربعون يتضمن الاختصاصات الدستورية الاستراتيجية للملك، من قبيل تمثيله للأمة والسهر على استمرار الدولة وحماية الدستور، وضمان حقوق وحريات الأفراد والجماعات(10)، ما يعني أن حزب الاستقلال يعي طبيعة الموقف الذي أقدم عليه برلمانه )المجلس الوطني(، ويُقدِّر ما يمكن أن تنجمَ عنه من آثار و تفاعلات سياسية. ويسعى لأن يكون للمؤسسة الملكية دور في ما يُنتظَر من حلول، بل إنه أشار صراحة في نص القرار إلى دقة الوضع في المغرب، والتمسَ عبر تصريحات قادته وصحافته أن يكون الملك حَكَماً في الموضوع.

ثمة وجهان لمستقبل الحكومة حين دخول قرار الانسحاب حيّز التنفيذ: أولهما دستوري، وثانيهما سياسي. والوجهان معاً يتكاملان. فدستورياً، يُفضي انسحاب وزراء حزب الاستقلال إلى فقدان الأغلبية المشكّلة وفقا للفصل السابع والأربعين من الدستور،(11) والتي تم تنصيبها بمقتضى الفصل الثامن والثمانين.(12) أما سياسيا، فينجُم عن الانسحاب تفكك الائتلاف الحكومي وتحوّل الحكومة إلى "حكومة أقلية"، مما سيُعرِّض شرعية إنجازها للاهتزاز، ويُفقدها الغطاء البرلماني الضروري لتمرير قوانينها، والدفاع عن سياساتها العمومية. فالفصل السابع والأربعون من الدستور المغربي الجديد 2011، أكد لأول مرة، قاعدةَ انبثاق الحكومة من الأغلبية الانتخابية. ونصت فقرته الأولى على أن "يُعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدَّرَ انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها".

أما رئيس الحكومة، وفقا للدستور، فهو غير معرّض للإقالة أو الإعفاء من مهامه من أي جهة كانت، إلا إذا قدم استقالته بإرادته، كما هو واضح في الفقرة السادسة من الفصل السابع والأربعين، مما يُفيد صراحة أن شرعية رئيس الحكومة مرتبطة بصفة دستورية بصناديق الاقتراع، أي بنتائج الانتخابات، وهو ما لم يكن مألوفاً في الممارسة السياسية المغربية السابقة، حيث كان الملك يلجأ بانتظام إلى إقالة رئيس الوزراء وإعفائه من مهامه، طالما أن الدستور لا يمنعه ذلك صراحة.
 
تسمح قراءة أحكام الدستور المغربي الجديد باستخراج خمس عشرة صيغة دستورية لمواجهة الآثار الناجمة عن قرار انسحاب حزب الاستقلال من الحكومة، تبدأ من صيغة "حكومة أقلية"، مروراً بحل مجلس النواب من قبل الملك، أو إعفاء رئيس الحكومة وإجراء انتخابات جديدة، بُغية تكوين أغلبية جديدة، ووصولاً إلى الإعلان عن حالة الاستثناء المنصوص عليها في الفصل التاسع والخمسين من الدستور.

ومع ذلك، يرجح، في حالة ما إذا تم تنفيذ قرار الانسحاب، تفاوض حزب العدالة والتنمية مع الأحزاب التي يُقدر إمكانية إعادة بناء الائتلاف معها، قصد استعادة الأغلبية المفقودة، واستمرار قيادة العمل الحكومي إلى حين انتهاء الولاية التشريعية عام 2016. ويستبعد، بالمقابل، اللجوء إلى حل مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة، بسبب كُلفة هذا الطريق من الناحيتين السياسية والمالية، فوضع المغرب لا يسمح، بكل المقاييس، باعتماد هذه الصيغة، بل سيكون من اللاعقلانية في السياسة.

إن صحة فرضية انسحاب الاستقلال من الائتلاف الحكومي سوف ينتج عنه تجنب الحزب التعرّض للمساءلة عند إنهاء الحكومة ولايتها عام 2016، إذا لم تتمكن من تطبيق برنامجها كاملا. كما أن حزب الاستقلال في حال انسحابه، سيكون مضطراً إلى إعادة صياغة خطابه واستراتيجيته داخل صفوف المعارضة، لتقوية صفوفه وحظوظه في انتخابات عام 2016.

وقد تمس مصداقية الحزب ورصيده السياسي إن ثبت في المستقبل أن هدفه من قرار الانسحاب هو انتزاع امتيازات أكثر، أو تعظيم مواقع بعض قادته وأعضائه، وتحديدا الموالين لأمينه العام الجديد، خلافا لما أكدت عليه وثائقه التي دعت إلى تفعيل ميثاق الأغلبية وتطوير أداء الحكومة، والاستجابة لتطلعات المواطنين، والناخبين الذين صوتوا عليها في اقتراع 25 نونبر/ تشرين الثاني 2011.

خيارات صعبة في تدبير الأزمة

يبدو أن التفاوض من أجل استعادة بناء الأغلبية هو الحل الأمثل، إذا ما نفَّذ حزب الاستقلال قرار الانسحاب. بيد أن النجاح في سلوك هذا النهج يحتاج إلى جملة مستلزمات، غير متوفرة بما يكفي من الاكتمال والنضج في المجال السياسي المغربي. فمن جهة، يحتاج بناء الأغلبية إلى شركاء جدد قادرين على تقوية الائتلاف وإمداده بدماء جديدة وفعالة لمواجهة الظروف الصعبة التي يعيشها المغرب. ومن جهة أخرى، تبدو الأحزاب الأكثر تمثيلا في البرلمان، أقرب إلى صفّ المعارضة منها إلى مكونات الأغلبية المحتمل تشكيلها.

فانسحاب حزب الاستقلال يعني فقدان ستين مقعدًا، وهو نصيب الحزب في مجلس النواب الحالي، وهو ما يستلزم من حزب العدالة والتنمية البحث عن أكثر من شريك لترميم الأغلبية التي يقودها. فبحسب نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة 25 نونبر / تشرين الثاني 2011، يكون كل من حزب التجمع الوطني للأحرار (52 مقعدا)، وحزب الأصالة والمعاصرة (47 مقعدا)، والاتحاد الاشتراكي (39 مقعدا).(13) الأكثر تأهيلا لتكوين الأغلبية المطلوبة، بيد أن واقع العلاقة بين الطرف الرئيس في الائتلاف، أي حزب العدالة والتنمية وحزبي الأصالة والمعاصرة والاتحاد الاشتراكي لا يُقنع بإمكانية إقدام هذين الأخيرين على خيار الانضمام إلى التحالف الحكومي، لضعف درجة الثقة بين هذه الأحزاب، كما أن المرجعيات متباعدة.

يبقى الحزب الأكثر احتمالاً هو التجمع الوطني للأحرار، مع ما لبعض قادته وأعضائه من تحفظات حيال حزب العدالة والتنمية، لم يترددوا في التعبير عنها صراحة في أكثر من مناسبة.

تباين ردود الأفعال

تباينت ردود الأفعال إزاء قرار الانسحاب، وتعددت تصريحات الفاعلين السياسيين. وإذا كانت أحزاب وهيئات سياسية كثيرة التزمت الصمت خلال الأيام الأولى التي أعقبت الإعلان عن موقف حزب الاستقلال، تاركة الفرصة للإعلام المقروء والمسموع، وإلى حد ما المرئي، وبشكل كثيف لوسائط التواصل الاجتماعي، فإن نغمة المراوحة بين التحذير من خطورة القرار، والتخفيف من أهميته، بل ووصفه بـ"المسرحية، تتزايد حدتها، لاسيما بين طرفي الخلاف، أي حزب العدالة والتنمية ونظيره حزب الاستقلال.

وقد اعتبر رئيس الحكومة، السيد عبد الإله بن كيران، استناد حزب الاستقلال على الفصل الثاني والأربعين إقحاماً غير مبرر للملك في خلاف بين حزبين عضوين في الأغلبية، وهو ما جعله يشدد خلال أول اجتماع لمجلس الحكومة بعد الإعلان عن قرار الانسحاب، على أن الحكومة التي يقودها، تحظى بدعم الملك وتأييده، وأنها مستمرة في تعميق الإصلاحات الكبرى، من قبيل "صندوق المقاصة (الدعم الاجتماعي)"، و"نظام التقاعد"، و"تخليق الحياة العامة"، و"منظومة العدالة".

بالمقابل، ما زال حزب الاستقلال متردداً بين التأكيد على إصراره على تنفيذ قرار الانسحاب أو التراجع عنه إن انتفت أسبابُه، بالاستجابة للمطالب المتضمنة فيه. ومهما تصاعدت لغة شدّ الحبل بين الحزبين، فإن آفاق الحل تتجه صوب خيار يجمع الحزبين المتنازعين عليه ضمنياً، ويحيلان عليه تلميحاً، وأحياناً بلغة مترددة، أي المؤسسة الملكية، ومن هنا يبرز دور الملك في رسم صورة الحلول المحتملة للتعامل مع قرار إعلان حزب الاستقلال انسحابه من الائتلاف الحكومي الحالي.

دور الملك

لا يوجد في استناد قرار الانسحاب من الحكومة إلى الفصل الثاني والأربعين من الدستور المغربي الحالي 2011 أي سند قوي يمكن الاعتداد به في الخلاف الحاصل بين حزبي العدالة والتنمية والاستقلال. فالفصل الثاني والأربعون يحدد وظائف استراتيجية تمنحها الدساتير العصرية لرؤساء الدول، تحديداً في مجالات "المحافظة على استمرار الدولة، وصيانة السير العادي للمؤسسات، وحماية الحقوق والحريات". والحال أن قراءة متمعنة له تساعد على حصر زهاء إحدى عشرة وظيفة حددها الدستور للملك.

ولا نعثر بين ثناياها على أي إشارة إلى الوظيفة الخاصة بالفصل في الخلافات بين الأحزاب ويمكن تطبيقها على قرار الانسحاب. لذلك، يرجح أن احتماء حزب الاستقلال بالفصل الثاني والأربعين كان القصد منه الوصول إلى حلول سياسية يكون للملك دور محوري في صناعتها، أكثر من الاعتداد بالشرعية الدستورية لتأكيد صحة قرار الانسحاب من الائتلاف الحكومي. ولا يوجد في الفصل الثاني والأربعين الذي لجأ إليه حزب الاستقلال ما يُسوِّغ التحكيم الملكي بين الأحزاب، ويدعو إليه.
 
سيكون دور الملك حاسِما في التعامل مع قرار الانسحاب، لاعتبارات يمكن نسج بعض خيوطها مما هو ظاهر ومتاح في النقاشات الجارية في المغرب، و يمكن تكوين أخرى مما يتأتى من طبيعة السياسة وبواطنها. ففور دخول قرار الانسحاب من الحكومة دائرة الضوء، صرح الناطق الرسمي باسم حزب الاستقلال بالاتصال الحاصل بين الملك والأمين العام لهذا الحزب، وكانت نتيجة الاتصال وقف سريان تطبيق القرار إلى حين اطلاع الملك على حيثيات لجوء الاستقلاليين إلى خيار الانسحاب. وبذلك جمّدت قيادة حزب الاستقلال قرار مجلسها الوطني، وركزت على صياغة مذكرة توضيحية للملك، وتكثيف التواصل مع قواعدها في الأقاليم والجهات لتقوية فرص نجاح الخطوة التي أقدمت عليها.

وفي المقابل، استمر حزب العدالة والتنمية في التشديد على أن الحكومة مستمرة في إنجاز الإصلاحات المحددة في برنامجها السياسي، وأنها ملتزمة بالوفاء بها خلال ما تبقى لها من سنوات ولايتها.
 
يرجح أن الملك سيروم صياغة مخرج لقرار الانسحاب، نتصور أن يكون وسطا، متوازناً، غير مؤسس على منطق الغالِب والمغلوب. فالحزبان المتنازعان يستثمران معاً الشرعية الملكية، ويدركان القيمة الإستراتيجية لهذا الاستثمار، وتعي الملكية بدورها وظيفتها التحكيمية، حتى وإن لجأ الفاعلون السياسيون، بغير حق، إلى الاحتماء بها، كما كانوا يفعلون قبل الدستور الجديد. أما طبيعة الحل وإخراجه، فيتصور ألاّ يتجاوز في أقصاه إدخال تعديل حكومي جزئي، يتمكن حزب الاستقلال من خلاله من ترشيح أسماء جديدة تعبر عن طموحات التوازنات السياسية الجديدة التي أفرزها المؤتمر السادس عشر للحزب. وقد لا ينحصر التعديل في تغيير الأسماء، بل قد يشمل الهندسة الحكومية وتوزيع الحقائب بداخلها، بشكل يرضي الطرفين المتنازعين، ولا يمس مواقع باقي الأطراف الأخرى.

كما يرجح أن يمتد دور الملك، وإن بشكل غير مباشر، إلى حلحلة طبيعة العلاقة بين مكونات الأغلبية، في اتجاه تجاوز ما اعتبرته مذكرة حزب الاستقلال 03 يناير/ كانون الثاني 2013 مظاهر اختلال في الأداء الحكومي، لاسيما من حيث ضعف التشاور والتحاور بين مكونات الائتلاف، ورفع إيقاع العمل الحكومي، والتركيز على الملفات ذات الأولويات الاقتصادية والاجتماعية. علاوة على التركيز على إعداد القوانين التنظيمية والعادية التي تم تحديدها في "المخطط التشريعي".
 
تشير الخلاصة الأساسية بخصوص قرار انسحاب حزب الاستقلال من الائتلاف الحكومي، والنقاشات التي أعقبت لحظة الإعلان عنه، إلى أن المجال السياسي المغربي ما زال يعرف قدرا من الغموض والارتباك، وضعفا في ثقافة إدارة الاختلاف، وهو في حاجة لتعزيز قدرة الأطراف السياسية على إدارة الاختلاف.

يحتاج حزب الاستقلال أن يدرك أن هنالك خياراتٍ أخرى سوى خيار الضغط عبر قرار الانسحاب، والاختباء وراء ما يمنحه الفصل الثاني والأربعون للملك من وظائف. ويحتاج حزب العدالة والتنمية أن يدرك أن الشرعية الانتخابية، التي منحته أحقيةَ قيادة الحكومة، تكليف يلزمه ببناء المشترك مع حلفائه بالتشاور، والبحث عن التفاهمات الجماعية.
_______________________________________
امحمد مالكي - أستاذ العلوم السياسية/ مدير مركز الدراسات الدستورية والسياسية – المغرب.

المصادر
1- يتعلق الأمر بوزارات الاقتصاد والمالية، والخارجية، وشؤون الجالية المغربية في الخارج والطاقة والمعادن، والتعليم، والصناعة التقليدية.
2- صدر القانون الجديد للأحزاب بمقتضى ظهير (نص قانوني) برقم 18 .06 .1، بتاريخ 14 فبراير/ شباط 2006.
3- تمثل الإحالة على قانون الأحزاب الجديد والدستور الأخير لعام 2011 مكانة خاصة في مذكرات حزب الاستقلال والتصريحات والبيانات المكملة له ذات الصلة بانتقاد أداء الحكومة منذ تنصيبها يوم 3 يناير 2012.
4- يُرجع الاستقلاليون تاريخ ميلاد الحزب إلى عام 1934 حين تشكلت كتلة العمل الوطني، مما يعني أن الحزب سيكمل ثمانين عاما بحلول 2014.
5- وقعت أحزاب الائتلاف الحكومي (حزب الاستقلال، والعدالة والتنمية، والحركة الشعبية، والتقدم والاشتراكية) يوم 16 ديسمبر/ كانون الأول 2011 ما سمي "ميثاق الأغلبية الحكومية"، وينبني على أربعة مرتكزات، هي: التشارك في العمل، والفعالية في الإنجاز، والشفافية في التدبير، والتضامن في المسؤولية". أما الأهداف، فحصرها الميثاق في" احترام ثوابت الأمة المنصوص عليها في الدستور، و" تفعيل مقتضيات الدستور في اتجاه تحقيق مزيد من الإصلاحات وبناء الدولة الديمقراطية."، و"خدمة المصالح العليا للوطن والدفاع عن سيادته واستقلاله ووحدته الوطنية"، و" الالتزام بمستوى عال من التنسيق والانسجام والتضامن في تحمل الأغلبية الحكومية كامل مسؤوليتها الدستورية والسياسية لتدبير الشأن العام. للاطلاع على مضمون الميثاق، أنظر الموقع التالي: http://www.hespress.com/politique/43411.html
6- المقصود هنا الحكومة التي ترأسها الأمين العام السابق لحزب الاستقلال السيد "عباس الفاسي".
7- صدرت مذكرة حزب الاستقلال بعد مرور سنة على تنصيب الحكومة ومائة يوم على انتخاب الأمين العام للحزب.
8- يُذكر أن قرار الانسحاب تمت الموافقة عليه من قبل 870 عضوا من إجمالي 976 عضوا شاركوا في اجتماع المجلس الوطني للحزب، الذي يوصف ببرلمان الحزب (للاطلاع على الوثائق الصادرة عن هذه الدورة و الكلمة الافتتاحية للأمين العام، وبيان المجلس الوطني، أي قرار الانسحاب، والكلمة الختامية)، انظر جريدة العلم، عدد22595، الصادرة يوم 13 مايو/ أيار 2013
9- حظي حزب الاستقلال بالرتبة الثانية في انتخابات 25 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2011 ب 60 مقعداً من أصل 395 مقعدا المكونة لمجلس النواب المغربي، في حين حصل حزب العدالة والتنمية على 107 مقعدا 
10- للاطلاع على نص الفصل 42 كاملا، أنظر نص الدستور المغربي لعام 2011 في الجريدة الرسمية، عدد 5964، بتاريخ 30 يوليو/ تموز 2011
11- يتضمن الفصل 47 من الدستور سبع فقرات تتعلق كلها بتعيين رئيس الحكومة والحكومة واستقالتها، فرادى أو جماعات.
12- يتعلق الفصل 88 بالتنصيب البرلماني للحكومة، من حيث الشروط والوسائل المطلوبة.
13- للاطلاع على النتائج النهائية لانتخابات مجلس النواب، أنظر الموقع التالي:
www.medi1tv.com/resultats_complets_elections_2011.aspx

نبذة عن الكاتب