(الجزيرة) |
ملخص لقد كان دخول الجمهور "السني" بشكل مباشر في إدارة الصراع على السلطة، عبر حركة الاحتجاج الواسعة التي بدأت في ديسمبر/كانون الأول 2012، تحولاً حاسمًا في خارطة الصراع في العراق، بعد أن كان الصراع محصورًا بين القوى السياسية طيلة السنوات الماضية. ويبدو واضحًا على ضوء أنه لم تكن هناك أية إرادة سياسية حقيقية للتعاطي مع طلبات المحتجين، بل إن رئيس مجلس الوزراء اتبع سياسة منهجية للتقليل من أهمية هذه الاحتجاجات، ولجأ إلى التهديد المباشر للمعتصمين في أحيان كثيرة، فضلاً عن محاولة تصويرها على أنها ذات طابع طائفي يستهدف المكون الشيعي من أجل تحشيد الأخير خلف سياسات المالكي. |
مقدمة
في الأسبوع الأخير من ديسمبر/كانون الأول 2013، ظهرت سياسة جديدة ضد حركة الاحتجاج التي كانت قد تحولت إلى اعتصام سلمي في الرمادي والفلوجة (محافظة الأنبار)، وسامراء (محافظة صلاح الدين). وكان ذلك في إطار الترتيب لانتخابات مجلس النواب العراقي المقررة في 30 إبريل/نيسان 2014؛ ففي مؤتمر صحفي في مدينة كربلاء يوم 23 ديسمبر/كانون الأول 2013 وبمناسبة أربعينية الإمام الحسين، وهي الشعيرة الشيعية الأبرز بعد عاشوراء، أطلق المالكي عملية عسكرية واسعة أطلق عليها "ثأر القائد محمد" لمطاردة عناصر الدولة الإسلامية في العراق والشام في صحراء الأنبار، وتحديدًا في وادي حوران، واللواء الركن محمد الكروي قائد الفرقة السابعة في الجيش العراقي كان قد قُتِل هو و24 ضابطًا وجنديًا في عملية تبنّتها الدولة الإسلامية في العراق والشام. وقد تعمد المالكي في هذا الخطاب الربط المباشر بين هذه العمليات وساحات الاعتصام، واضعًا هذه الساحات ضمن قائمة أهداف العملية لأنها تحولت إلى مقر لتنظيم القاعدة، مؤكدًا أن ثمة "معلومات دقيقة ومؤكدة عن تواجد أكثر من (30) قياديًا بارزًا من تنظيم القاعدة في ساحة الاعتصام في الأنبار"، وأنهم "يتخذون من تلك الساحة مقرًا لقيادة أعمالهم الإرهابية التي تضرب مختلف مدن العراق". (1) ثم عاد المالكي في كلمته الأسبوعية يوم 25 ديسمبر/كانون الأول ليشير إلى أن "حكومة الأنبار المحلية أكدت بنفسها وجود أكثر من 36 قياديًا بالقاعدة" في ساحة اعتصام الرمادي، مؤكدا أنه "وبعد هذا كله أصبحت إزالة تلك الساحات والخيام مطلبًا شعبيًا لأهالي الأنبار الذين يشاهدون إخوانهم العراقيين يُقتلون يوميًا على أيدي أولئك القتلة". (2) ليصل الموقف ذروته يوم الجمعة 27 ديسمبر/كانون الأول 2013 عندما هدد المالكي بحرق خيام المعتصمين، واصفًا ساحة الاعتصام في الرمادي بأنها "ساحة الفتنة"، ومؤكدًا: "اليوم سيشهد آخر صلاة جمعة في ساحة الفتنة بمدينة الرمادي". (3)
وقد دخلت بعض الأطراف السنية مع المالكي في هذه المسألة؛ فقد تم تسريب حديث لمحافظ الأنبار أحمد خلف الدليمي -وهو مرشح قائمة "متحدون" لهذا المنصب من خارج قائمة الفائزين في انتخابات مجلس المحافظة- يؤكد فيه أن ساحة اعتصام الرمادي تؤوي ما بين 30 و40 من قادة القاعدة في ساحة اعتصام الرمادي، وذكر في اجتماع جمع أعضاء مجلس محافظة الأنبار مع رئيس مجلس الوزراء يوم 25 ديسمبر/كانون الأول أن هؤلاء قد أدخلوا أسلحة إلى الساحة. (4)
ولكن المحافظ نفسه، الذي كان من المشاركين في حركة الاحتجاج والاعتصام قبل تسلمه منصبه، ووصف نفسه أكثر من مرة بأنه "جزء من هذه الساحات"، وأنه يرفض "التخلي عن ساحة الاعتصام"، (5) عاد ليناقض ما قاله في اجتماع مجلس محافظة الأنبار مع المالكي ليؤكد في تصريح له يوم 27 ديسمبر/كانون الأول أن "سلمية المظاهرات والاعتصامات أغاظت الجهات المتطرفة في العراق وبدأت بخلق فتنة بين أهالي الأنبار والحكومة الاتحادية"، وأن "ساحات الاعتصام لا تشكّل خطرًا على سلامة وأمن البلاد، وأن الخطر الأكبر هو من المناطق الصحراوية في الأنبار التي تتمركز فيها الجماعات الإرهابية ومن هناك تنطلق عملياتها الإرهابية ضد المدنيين الأبرياء". (6)
في هذا السياق جاءت عملية اعتقال النائب أحمد العلواني في 28 ديسمبر/كانون الأول 2013، الذي يعد القائد الفعلي لاعتصام الرمادي، وهي عملية قُتل فيها أخوه وآخرون من أفراد حمايته، ثم أزيلت الخيام بعد ذلك وفُضّ اعتصام الرمادي بعد يومين من حادثة الاعتقال هذه لتبدأ المواجهات بين القوات العسكرية والأمنية التابعة للمالكي يوم 30 ديسمبر/كانون الأول 2013 وجمهور مسلح من أبناء مختلف عشائر مدينتي الرمادي والفلوجة الذين تمكنوا من السيطرة على المدينتين، كما قام بعض المسلحين من أبناء مدينة الفلوجة بقطع الطريق السريع بين بغداد والرمادي من أجل قطع الإمدادات عن القوات العسكرية في الرمادي.
ومن أبرز ردود الفعل على فض اعتصام الرمادي، جاءت فتوى الشيخ عبد الملك السعدي بجهاد الدفع، موجهًا كلامه إلى أهالي الأنبار بالقول: "اصبروا وصابروا ورابطوا، ودافعوا عن أنفسكم بكل ما تستطيعون وببسالة وشجاعة؛ لأنَّكم المظلومون، والعدو غاشم يريد إهانتكم في عِقْرِ داركم". (7) وكذلك فعل رافع الرفاعي مفتي الديار العراقية الذي طالب بضرب القوات المهاجمة بيد من حديد. (8) كما حرّم المجمع الفقهي لكبار علماء "أهل السنة" المشاركة في عمليات الأنبار ودعا المرجعيات الشيعية إلى بيان موقفها. (9)
استثمارًا لهذه المواجهة المفتوحة بين الجمهور المسلح والقوات العسكرية والأمنية، دخلت الدولة الإسلامية في العراق والشام على الخط؛ ومن ثم تحوَّل المشهد من مواجهة ثنائية بين الجمهور وقوات المالكي، إلى مواجهة ثلاثية؛ حيث تتداخل ثلاثة أطراف اليوم في الصراع: الأول: قوات الجيش وقوات سوات وقوات جهاز مكافحة الإرهاب وبعض من عناصر الصحوات، والثاني: جمهور مدن الأنبار، وتحديدًا الرمادي والفلوجة، وأخيرًا: عناصر الدولة الإسلامية في العراق والشام.
تشير المعلومات المتوفرة من داخل مدينتي الرمادي والفلوجة بوضوح إلى أن عناصر الدولة الإسلامية في العراق والشام لا يمثلون ثقلاً حقيقيًا في المواجهة، فأعدادهم على أبعد التقديرات لا تتجاوز بضع عشرات، وقد وُوجِه هؤلاء برفض الجمهور الصريح من دون أن يتحول هذا الرفض إلى مواجهة مسلحة إلا في حدود ضيقة، تحديدًا في مدينة الرمادي، في حين لم تُسجل أية مواجهة من هذا النوع في الفلوجة حتى الآن؛ فالجمهور وعلى الرغم من رفضه الصريح لوجود هذه العناصر في المدينتين بسبب الصراع السابق بين الطرفين، فإنه ما زال يعتقد أن المواجهة الأساسية هي مع سياسات/سلطة المالكي، وأن الدولة الإسلامية ليست سوى هامش على المتن الذي تمثله هذه المواجهة، ومن السهولة التعامل مع القاعدة بعد حسم المواجهة مع المالكي وممارساته في منطقة الأنبار.
ولكن دخول الدولة الإسلامية منح المالكي، وبعض الأطراف السنية الموالية له الفرصة لاختزال سياق الصراع؛ حيث تم تصوير الأمر على أنه صراع بين الدولة والإرهاب في محاولة منهجية للتركيز على وجود الدولة الإسلامية المحدود في الأنبار وتهميش كل القضايا الأساسية التي خرج لأجلها أهل الأنبار وجمهور المحافظات المنتفضة الأخرى، ولغرض إلهاء الرأي العام عن العملية غير الدستورية التي قام بها المالكي حين أمر بإلقاء القبض على النائب أحمد العلواني في انتهاك صريح للمادة 63 من الدستور التي منحت النائب الحصانة. ثم فض اعتصام الرمادي في انتهاك صريح آخر لأحكام المادتين 38 و46 من الدستور العراقي؛ ومن ثم محاولة تسويق فكرة أن ما يجري في الأنبار ليس نتيجة مباشرة لسياسات المالكي، وإنما نتيجة مؤامرة إقليمية. وقد اعتمد المالكي هذه الاستراتيجية فيما سبق حين اتهم دول الجوار بالوقوف وراء الاعتصامات وتمويلها، وقد أشار إلى ذلك بالقول: إن "دولة إقليمية استبدادية وطائفية واحدة مكشوفة للجميع" هي التي تقف وراء القاعدة نفسها. (10)
تصفية الخصوم السياسيين
إن العملية العسكرية في صحراء الأنبار، لا يمكن فهمها إلا على أنها رد فعل القصدُ من ورائه تحشيد جمهور المالكي في ما يزعم أنها حرب ضد الإرهاب سوف يباركها المجتمع الدولي ويضمن معها المالكي ولايته الثالثة. ومن ثم ليس من السهل قبول فكرة أنها عملية استراتيجية لتعقب عناصر الدولة الإسلامية، وأنها عملية ساهمت فيها الولايات المتحدة من خلال المعلومات الاستخبارية وصور الأقمار الصناعية. ولعل هذا ما يفسر المعلومات المتداولة عن أن أغلب التجمعات التي تم قصفها إنما كانت تجمعات وقوافل لمهربي أغنام؛ كما أن سرعة التحول من حرب الصحراء إلى مدينتي الرمادي والفلوجة، ودخول بعض عناصر الدولة الإسلامية بيسر إلى هاتين المدينتين على الرغم من أنهما محاصرتان بالكامل من القوات العسكرية، وتحول الخطاب من الحديث عن عملية لتطهير محافظة الأنبار من "الإرهابيين" -كما جاء في حديث المالكي، ثم عن "هروب عدد من قيادات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام إلى سوريا فور بدء تنفيذ عملية «ثأر القائد محمد» كما نقلت صحيفة الصباح الحكومية يوم 26 ديسمبر/كانون الأول 2013 عن مصادر أمنية رفيعة (11) - إلى الحديث عن "احتلال" الدولة الإسلامية لمدينتي الرمادي والفلوجة التي يقطنها ما بين 800 ألف ومليون نسمة، يبدو حديثًا غير متسق.
لا يمكن بالتأكيد الحديث عن الجمهور المسلح على أنه كلٌّ منسجم، أو أنه يمتلك بنية تنظيمية محددة، فنحن هنا أمام جمهور متنوع؛ بعضه ينتمي إلى فصائل سياسية؛ وبعضه كان ينتمي إلى فصائل مسلحة، مثل كتائب ثورة العشرين وجيش المجاهدين والجيش الإسلامي وجيش رجال الطريقة النقشبندية؛ وبعضه الآخر ينتمي إلى جيل جديد أعماره بين سن 18 و25 سنة كانوا أطفالاً ومراهقين لحظة الاحتلال وما تبعه من مقاومة مسلحة في الأنبار. وعلى الرغم من الحديث عن فصائل محددة، إلا أنها أسماء وهمية ليس لها وجود تنظيمي على الأرض، أو أنها نواة تمثل بضعة أفراد لا يشكّلون أي ثقل على الأرض. إن أشخاصًا مثل علي حاتم السليمان الذي أعلن عن تشكيل "المجلس العسكري في الأنبار" في الرمادي، أو عبد الله الجنابي (أحد قادة حربي الفلوجة الأولى والثانية، والذي كان يرأس مجلس شورى المجاهدين، وهو صوفي، على عكس ما يتردد من أنه كان من السلفيين الجهاديين، أو أنه وهابي النزعة، أو حتى من المنتمين لتنظيم القاعدة في الفلوجة)، هؤلاء لا يشكّلون سوى أفراد يقودون مجموعات صغيرة يمكن لها إذا ما طال الصراع، أو تحوِّل إلى مواجهة مفتوحة بين الجيش العراقي وأهالي الأنبار، أن تتحول إلى نواة يتجمع حولها المريدون لتشكيل تنظيمات مسلحة مقاتلة.
لقد انتهج المالكي سياسة عزل القوى السياسية عن بعضها البعض، فاستطاع حشد الجمهور الشيعي، بحيث لا يتيح للفاعلين السياسيين الشيعة الدخول على خط الأزمة، لاسيما مع قرب الانتخابات التشريعية. لذلك لم نجد أية مبادرة من السيد مقتدى الصدر الذي كان على مدى السنتين الماضيتين الفاعل السياسي الأبرز في معارضة سياسات المالكي ومن الرافضين لفض اعتصام الرمادي بالقوة، بل إنه وصف الأمر في حال تنفيذه بأنه "مقدمة لتصفية الحسابات مع السنة وتأخير الانتخابات"، داعيًا الحكومة إلى الحوار مع المتظاهرين السلميين بدل تهديدهم بالقمع (يوم 27 ديسمبر/كانون الأول 2013).
كما أن مبادرة السيد عمار الحكيم، التي جاءت متأخرة (صدرت يوم 8 يناير/كانون الثاني 2014 أي بعد عشرة أيام من بدء الأزمة)، لم تتعاط مع الأزمة القائمة المتمثلة في المواجهة في الأنبار، وإنما تعاطت مع حالة ما بعد الأزمة حيث تحدث عن مبادرة تضمنت عشر نقاط، أهمها: تخصيص أربعة مليارات دولار لإعادة إعمار محافظة الأنبار، وتشكيل قوات للدفاع الذاتي من أبناء المحافظة، وتشكيل مجلس أعيان من شيوخ المحافظة. أما المرجعية الشيعية، وتحديدًا مرجعية السيد علي السيستاني، فقد التزمت بمنهجها المعهود وهو النأي بنفسها تمامًا عن الأزمة.
كرديًا، كان آخر بيان صدر عن الناطق الرسمي باسم إقليم كردستان يوم 29 ديسمبر/كانون الأول 2013 قد دعا من خلاله إلى عدم الخلط "بين محاربة الإرهاب والمطالب المشروعة لمواطني المحافظة"، وأنه "ينبغي الإصغاء إلى تلك المطالب وإيجاد الحلول المناسبة لها". ولم يكن هناك أي موقف من الأزمة حتى يوم 9 ديسمبر/كانون الأول 2014 عندما نشر موقع رئاسة الإقليم بيانًا عن تلقي رئيس الإقليم مسعود البرزاني مكالمة هاتفية من جوزيف بايدن نائب الرئيس الأميركي، وأن الجانبين قد أعربا عن "دعمهما للجهود المشتركة التي تبذلها الأطراف السياسية العراقية ورؤساء العشائر في الأنبار والقيادات المحلية ضد الجماعات الإرهابية"، وعلى أن الحوار "هو الوسيلة لحل المشاكل السياسية في العراق"؛ وهو ما يشير إلى رفض الطرفين لوجهة نظر الحكومة العراقية التي تريد تصوير الأمر في الأنبار على أنه مواجهة بين الدولة العراقية والدولة الإسلامية. وقد تكرر الموقف نفسه في اليوم التالي حين استقبل البرزاني وزير الدفاع العراقي بالوكالة سعدون الدليمي؛ فقد أشار بيان رئاسة الإقليم إلى أن البرزاني أكد في اللقاء على ضرورة "اتباع الحوار مع العشائر والجهات الأخرى في محافظة الأنبار من أجل إخراج العراق من هذه الأزمات والتهديدات التي يواجهها". في السياق نفسه أشار نائب رئيس كتلة التحالف الكردستاني في مجلس النواب العراقي إلى أن ثمة "مبادرة" سيطرحها البرزاني "لحلحلة المشكلة بالطرق السلمية".
سُنيًا، ثمة انقسام تجاه الأزمة؛ إذ لم يكن الموقف السني واضحًا تجاه مسألة اعتقال النائب العلواني، كما انقسم الموقف تجاه الرد على فض اعتصام الرمادي والمواجهات التي أعقبت ذلك؛ فقد أعلن 44 نائبًا فقط من النواب السنة تقديم استقالاتهم، وهذا الرقم لا يمثل سوى نصف عدد النواب السنة في البرلمان العراقي، وفي الوقت نفسه لم يلتزم أي من الوزراء بالدعوة التي أطلقها إياد علاوي للاستقالة من الحكومة احتجاجًا على العمليات العسكرية في الأنبار.
والواضح أن هناك اختلافًا في الرؤى داخل قائمة "متحدون" نفسها، التي تعد الكيان الوريث للقائمة العراقية؛ فأحمد أبو ريشة، القيادي في هذه الكتلة، تبنّى وجهة النظر الحكومية بأن ما يجري في الأنبار هو حرب ضد الإرهاب. ونجد، على مستوى الحكومة المحلية في الأنبار، الانقسام ذاته؛ فقد روِّج المحافظ أحمد الدليمي ونائب رئيس المجلس فلاح العيساوي رؤية رئيس الحكومة للأزمة، في حين وجدنا موقفًا مختلفًا من أعضاء آخرين، من بينهم رئيس مجلس المحافظة صباح الحلبوسي.
تدويل الأزمة
يبدو رد الفعل الدولي أكثر وضوحًا من ردود الفعل المحلية والإقليمية على السواء. لقد حاول رئيس مجلس الوزراء تسويق فكرة أن ما يجري في العراق ليس نتاج أزمات حقيقية مرتبطة بالنظام السياسي وبممارساته هو شخصيًا في إدارة الأزمة، وإنما هو نتيجة مباشرة للإرهاب المدعوم إقليميًا. وقد روّج لهذه الرؤية في زيارته الأخيرة للولايات المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2013 داعيًا إلى ما أسماه "حربًا عالمية ثالثة على الإرهاب". وأدرج، في هذا السياق، ما يجري في الأنبار في هذه الحرب على الإرهاب، واستطاع بذلك اجتزاء السياق الذي أدى إلى هذه الأزمة والتركيز على حضور الدولة الإسلامية في العراق والشام في المشهد فقط. وقد جاءت ردود الفعل الدولية، برفض الإرهاب وضرورة التصدي الحازم له، لتزيد من ضبابية الموقف؛ فالحكومة العراقية عمدت إلى اجتزاء المواقف الدولية وتصويرها على أنها تتطابق مع رؤية الحكومة العراقية، وعلى أنها تمثل دعمًا غير مشروط لها في حربها المفترضة على الإرهاب. ولكن بيان رئيس مجلس الأمن الدولي يوم 11 يناير/كانون الثاني 2014 جاء ليؤكد أن ثمة رؤية مختلفة للمجتمع الدولي تجاه الأزمة؛ فالبيان يشدد على شجب الأحداث الأخيرة التي وقعت في الرمادي والفلوجة، والتي أدت إلى المواجهة ما بين أبناء المدينتين والقوات الحكومية، وهو ما يعني ضمنًا شجب مجلس الأمن للممارسات التي أدت إلى هذا الوضع. كما أن تأكيد البيان مرتين على الأهمية البالغة لاستمرار الحوار الوطني والوحدة الوطنية، واعتبار هذا الأمر حيويًا لدعم موقف وطني موحد لمكافحة الإرهاب، وضمان أمن العراق على المدى الطويل، يعني، بالضرورة، إقرار مجلس الأمن بأن السياسات التي يعتمدها المالكي تساهم إلى حد بعيد في خلق المناخات التي تستثمرها قوى التطرف والإرهاب. فضلاً عن ذلك؛ فإن تشديد البيان على الحق في الاحتجاج السلمي على النحو الذي يكفله الدستور العراقي، يعني أيضًا رفض مجلس الأمن لاستعمال القوة في فض اعتصام الرمادي، كما أن خلو البيان من أية إشارة إلى القوات المسلحة العراقية، والإشارات المتكررة إلى زعماء العشائر والزعماء المحليين الآخرين، وقوات الشرطة المحلية، يعني أن مجلس الأمن لا يقر الموقف الحكومي العراقي الذي يحاول اجتزاء السياق والمقدمات المؤدية إلى أحداث الأنبار؛ ومن ثم يشير إلى أن الأزمة لا يمكن أن تحل عسكريًا، وأنه لابد من مشاركة المجتمع المحلي في إدارة هذه الأزمة وإيجاد التسوية المناسبة لها.
وقد جاءت زيارة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى العراق بعد يومين من هذا البيان للتأكيد على الأهمية الاستثنائية التي يوليها المجتمع الدولي للأزمة القائمة في الأنبار، وضرورة إدارتها بطريقة عقلانية تضمن عدم تطورها إلى مواجهة مفتوحة؛ فقد أكد بان كي مون في مؤتمره الصحفي المشترك مع المالكي على أن التحديات التي تواجه العراق تتطلب من القادة السياسيين "ضمان التماسك الاجتماعي والحوار"، وقد أدان أيضًا الهجمات التي يتعرض لها المدنيون، من دون أن يحدد الجهة المعنية؛ مما يعني ضمنيًا إدانته للهجمات العشوائية بسلاح المدفعية وقنابل الهاون (المورترز) التي تقوم بها قوات الجيش ضد المدن الآهلة بالسكان في الأنبار. وفي أثناء إجابته على أحد الأسئلة، أشار الأمين العام للأمم المتحدة إلى "معالجة الأسباب الجذرية للمشكلات"، من خلال تحديد طبيعة هذه المشكلات، والوقوف عند التظلمات، وضمان أن لا يُقصى أحد من ذلك، فضلاً عن تعزيز النسيج الاجتماعي من خلال ضمان المشاركة السياسية؛ وهو ما يؤشر بوضوح إلى عدم تطابق رؤية الأمين العام للأمم المتحدة، ومن خلفه مجلس الأمن، مع رؤية المالكي الذي أعلن في المؤتمر الصحفي نفسه أن لا مشكلة سياسية في العراق، وأن لا تغليب للغة الحوار، وأن لا حوار مع القاعدة، ثم أضاف: إن ما يجري في الأنبار قد وحّد العراقيين.
المخاطر والفرص
يختلف الوضع الميداني من منطقة إلى أخرى في الأنبار؛ فالوضع في الفلوجة (يقطنها حوالي نصف مليون نسمة) مستقر نسبيًا، بعد اتفاق أبناء المدينة على تشكيل مجلس محلي لإدارتها، وإعادة الشرطة المحلية للعمل، فضلاً عن إبعاد المظاهر المسلحة ومحاولة العودة إلى الوضع الطبيعي، مع الرفض القاطع لدخول الجيش أو القوات الأمنية التابعة للمالكي إلى المدينة. ويرجع السبب في هذا الوضع إلى أمرين: الأول: عدم وجود أية قوات للجيش أو جهاز مكافحة الإرهاب أو قوات سوات في المدينة، الثاني: إلى عدم وجود الصحوات.
أما في الرمادي فالوضع أكثر تعقيدًا، بسبب وجود قوى أمنية تابعة للمالكي في بعض مناطق المدينة، تحديدًا قوات سوات؛ وهذا الأمر يصعب معه أن تستتب الأمور كما في الفلوجة؛ فالجمهور المسلح يرفض دخول قوات الجيش والقوات الأمنية من غير الشرطة المحلية إلى المدينة، وهو مصرّ على المواجهة. في الوقت نفسه ثمة إصرار حكومي، مدعوم من الصحوات على دخول المدينة (عمد المالكي إلى إعادة إنتاج الصحوات مرة أخرى عبر دعم أحمد أبو ريشة وإعادته إلى زعامة هذه الصحوات بعد أن كان قد أُخرج منها في فبراير/شباط 2013 وانضم إلى تحالف "متحدون"، وشارك أيضا في حركة الاحتجاجات في الرمادي حينها). وتبقى عناصر الدولة الإسلامية في انتظار المواجهة التالية مع أي الأطراف ستكون. كما يمثل وجود مجلس المحافظة المنتخب في المدينة مشكلة إضافية، خاصة وأن بعض الأعضاء قد تبنّوا الموقف الحكومي بشكل واضح، وهو ما يجعلهم مرفوضين من قطاع واسع من جمهور المدينة؛ فهذا الأمر سيصعّب أية إمكانية لإيجاد مجلس محلي يحظى بدعم الجمهور لإدارة المدينة.
ميدانيًا أيضًا يحاول المالكي استعراض قوته من خلال مهاجمة بعض المناطق الصغيرة الواقعة على مقربة من مدينتي الرمادي والفلوجة بعد أن فشلت قواته في إحراز أي تقدم في الأولى، مع استمرار محاصرة الفلوجة؛ فثمة اشتباكات في منطقة البوبالي والجزيرة والخالدية شرق الرمادي، والكرمة شرق الفلوجة، ويبدو جليًا أن المالكي يعتقد أن إحراز تقدم في هذه المناطق الصغيرة كفيل بأن يشكّل نصرًا كبيرًا سيكون دعاية انتخابية مبكرة.
إن تحليل الوضع المركب القائم في الأنبار اليوم يجعلنا أمام ثلاثة مشاهد لمسار الأزمة:
-
الأول: اعتماد العنف والمواجهة المسلحة إذا ما قرر المالكي اقتحام مدينة الفلوجة، أو توسيع نطاق سيطرة قواته في الرمادي؛ وهو ما يمكن أن يفضي إلى مواجهة مفتوحة تشمل ليس الأنبار فقط وإنما أغلب المحافظات ذات الثقل السني، لاسيما إذا ما حسب المالكي أن المواقف الدولية والإقليمية مساندة ضمنيًا لاعتماد الخيار العسكري لإنهاء التمرد. مع التنبيه على أن المالكي لا يمتلك قوات كافية لاقتحام المدينتين (تتمركز بعض ألوية الفرقة الأولى والثانية فضلاً عن الفرقة السابعة في الأنبار، كما تم إرسال بعض الألوية والأفواج التابعة للفرقة السادسة (ومقرها بغداد) والفرقة الثامنة (ومقرها بابل)، والفرقة العاشرة (ومقرها الناصرية)، والفرقة 14 (ومقرها البصرة) لتلتحق بهذه القوات)؛ وذلك لضعف المرونة اللازمة لتحقيق مثل هذا التحشد خشية من مواجهة مفتوحة يمكن أن تغطي ست محافظات في آن واحد (نينوى، صلاح الدين، كركوك، ديالى، بغداد، بابل)؛ ومن ثم فهو مضطر للإبقاء على الجزء الأكبر من قواته الموزعة في هذه القواطع (الفرقة الثانية والثالثة، الفرقة الرابعة، الفرقة 12، الفرقة الرابعة والخامسة، الفرقة السادسة والفرقة التاسعة والفرقة 11 والفرقة 17، الفرقة الثامنة على التوالي).
-
الثاني: الوصول إلى حل توافقي بين الطرفين (المالكي-أبناء الأنبار)، وليس ثمة إمكانية للوصول إلى هذا الحل سوى وفق صيغة رابح-رابح، وهي صيغة لا يبدو المالكي، حتى اللحظة، قابلاً بها، لأنها ستعني بالضرورة تنفيذ بعض المطالب التي ظل يرفضها على مدى أعوام، وهو أمر يمكن أن يحرجه أمام الجمهور الشيعي وهو مقبل على انتخابات برلمانية تشهد صراعًا شيعيًا-شيعيًا حادًا (لم يستطع المالكي الحصول على أية أصوات إضافية في انتخابات مجالس المحافظات 2013 عما حصل عليه في انتخابات 2009، في حين تمكن مقتدى الصدر وعمار الحكيم في هذه الانتخابات من الحصول على ما يزيد عن ضعف الأصوات التي حصلا عليها في انتخابات 2009)، خاصة أن استراتيجية المالكي اعتمدت أساسًا على التحشيد الطائفي.
-
الثالث: ترك الأمور على وضعها الحالي، مع محاولة الاعتماد على الفاعلين المحليين في تحييد الدولة الإسلامية في العراق والشام، ودفعها إلى الانسحاب من مدينتي الرمادي والفلوجة، وهو خيار سبق أن نجح في حالة مدينة "سليمان بك" في محافظة صلاح الدين، التي سقطت بيد الدولة الإسلامية في أعقاب مجزرة الحويجة في إبريل/نيسان 2013؛ وهذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا.
وكغيرها من الأزمات، كشفت أحداث الأنبار الأخيرة إشكالية حقيقية تتعلق بالدولة العراقية؛ فاللجوء إلى التمرد، وإسقاط سلطة المالكي في المدينتين، مع الحرص على إبقاء الشرطة المحلية، يعني أن الأمر لا يتعلق برفض سلطة الدولة، بقدر ما هو رفض لسياسات المالكي التي ما فتئت تتجاهل مطالب جمهور هذه المنطقة؛ ومن ثم لابد من حل سياسي تقدمه بغداد لطمأنة هذا الجمهور بأن السياسات، التي قادت إلى التمرد، لن تستمر، ولا يمكن في هذا الصدد، الاعتماد على المالكي وحده لتقديم مثل هذا الحل، وإنما لابد من رؤية سياسية يشترك فيها الفاعلون السياسيون جميعًا، وتحظى في الوقت نفسه بدعم من المرجعية الدينية القادرة على إقناع الجمهور الشيعي بخطورة نتائج ممارسات الحكومة على العراق ككل.
________________________________
يحيى الكبيسي - باحث في الشؤون السياسية العراقية
المصادر
1- http://www.imn.iq/news/view.33619 /
2- http://www.alsumaria.tv/news/89091/ar
3- http://www.almadapress.com/ar/NewsDetails.aspx?NewsID=23447
4- http://www.youtube.com/watch?v=igx1KiuOySQ
5- http://xendan.org/arabic/drejaA.aspx?Jmara=17191&Jor=2
6- http://www.ninanews.com/arabic/News_Details.asp?ar95_VQ=GLJLEE
7- الموقع الشخصي للشيخ عبد الملك السعدي: http://www.alomah-alwasat.com/newsMore.php?id=169
8- https://www.youtube.com/watch?v=0h1MpbHcT78
9- http://www.almadapress.com/ar/NewsDetails.aspx?NewsID=23613
10- http://www.imn.iq/news/view.33619/
11- http://www.alsabaah.iq/ArticleShow.aspx?ID=60762