(الجزيرة) |
ملخص تصدر القرم المشهد العالمي بعد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمه إلى الأراضي الروسية، ليقلب المعادلة لصالح روسيا، ولتتحول عمليًا من موضع الدفاع عن حدودها إلى زحف يقرّبها من "أوكرانيا الموالية للغرب"، ويقتطع أراضيها. وتدرك أوكرانيا أن جيشها لا يقوى على مواجهة نظيره الروسي، وتخشى أن ما حدث في القرم قد يُغري موسكو أو حلفاءها بتكرار هذا السيناريو في مناطق أخرى ما قد يكلفها اقتطاع جزء آخر من أراضيها وخسارة إطلالتها على البحر الأسود. لدى كييف أوراق ضغط على القرم، منها: قطع إمدادات الماء والكهرباء والغاز والاتصالات بالإضافة إلى ورقة إغلاق الحسابات البنكية الخاصة بحكومة الإقليم؛ الأمر الذي تم فعلاً ولكنها ليست حاسمة. أما القوى الغربية فهي تدرك أن تعاظم النفوذ الروسي في القرم وشمال البحر الأسود يشكّل تهديدًا لها ولن تتنازل بسهولة، ما قد يطلق ما يقرب من حرب باردة أو حروبًا بالوكالة. ولكن لا تزال أوروبا تعاني اقتصاديًا وبعض دولها لا يستطيع الاستغناء عن الغاز الروسي، ولن تمانع في عقد صفقات يتم بموجبها تبادل مواقع نفوذ عالمية ترضي الطرفين. |
تحولت احتجاجات أوكرانيا عن هدف الشراكة الاقتصادية مع أوروبا إلى أهداف سياسية؛ فباتت أوسع من مجرد توقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي؛ حيث جاء وصول الموالين للغرب إلى سدة الحكم، وعزلهم الرئيس فيكتور يانوكوفيتش وجميع رموز نظامه الموالين لموسكو(1)، ليؤذن بتغيير نظام الحكم وقواعد اللعبة السياسية في أوكرانيا والمنطقة برمتها؛ الأمر الذي جعل من الأزمة الأوكرانية ليست مجرد "أزمة نظام" بل "أزمة دولية" كبيرة بين فريقين دوليين -روسيا من جهة والغرب من جهة أخرى- تهدد بإعادة أجواء الحرب الباردة إلى المشهد العالمي، لاسيما بعد أن شهد إقليم شبه جزيرة القرم(2) جنوب أوكرانيا خلال الأسابيع الماضية، تدخلاً عسكريًا روسيًا، ترافق مع "حراك" أو تحريك حثيث نحو انفصال القرم عن أوكرانيا، وانتهى بضمه إلى روسيا.
يتصدر القرم حاليًا مشهد الأزمة الأوكرانية المستمرة منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2013 الماضي، خاصة بعد إعلان الرئيس فلاديمير بوتين ضم القرم إلى الأراضي الروسية. وكانت روسيا أنكرت أنها دخلت هذا الإقليم واحتلته قبل أسابيع، في حين يؤكد موالون ومعارضون لها أن المسلحين الذين أحاطوا وما زالوا يحيطون بمباني الحكم الرئيسة والمطارات والقواعد العسكرية الأوكرانية والمحطات التلفزيونية هم جنود تابعون لأسطول البحر الأسود العسكري الروسي، المرابط على سواحل مدينة سيفاستوبل جنوب غرب الإقليم.
وعززت روسيا من سيطرتها على القرم بعد أن حظيت بدعم البرلمان القرمي لتعيين سيرهي أكسينوف رئيسًا للحكومة، وهو زعيم حركة "الوحدة الروسية" التي حصلت على 3 مقاعد من أصل 100 في برلمان الإقليم، ولطالما جاهر وحركته بمطالب الانفصال عن أوكرانيا والالتحاق بروسيا، وكانت -ولا تزال- هذه الحركة توصف "بالمتطرفة" من قبل السلطات الأوكرانية والأقليات العِرقية والدينية القرمية.
صراع تاريخي على القرم
إن التنافس والصراع الإقليمي على القرم ليس جديدًا، وإن خمد لعقود؛ فالقرم كان جزءًا من الدولة العثمانية في أجزائها الشمالية، بعد أن دخله الإسلام في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي، وكان معظم سكانه من أصول تركية، أُطلق عليهم لاحقًا اسم: "التتار". وتسمية "القرم" تترية تعني القلعة، وكانت تضم مناطق ما يُسمى الآن "شبه جزيرة القرم" والأراضي المحيطة ببحر آزوف (في روسيا الآن) وشمال جزيرة القرم (في أوكرانيا اليوم).
قامت على أراضي القرم مملكة قرمية تترية من العام 1441-1783، وهي مملكة ضعفت بضعف الدولة العثمانية، وتخلّت عنها هذه الأخيرة بتوقيع معاهدة "كوجك قينارجه"، التي نصت على منح القرم استقلالاً ذاتيًا عام 1774، ليبدأ الوجود الروسي لأول مرة في شبه الجزيرة، ولكن الإمبراطورة الروسية يكاتيرينا الثانية(3) أخلّت بالاتفاقية واحتلّت الجزيرة عام 1783، وأحرقت ودمرت عاصمتها (بغجة سراي آنذاك) والكثير من المعالم الحضارية التترية الإسلامية فيها(4).
تراجع الوجود التتري في القرم، وخاصة بعد سيطرة السوفيت عليه، ثم هجّر نظام الزعيم جوزيف ستالين التتار بالكامل عام 1944 قسرًا بدعوى الخيانة خلال الحرب، ووُزّعت بيوتهم وأراضيهم على "العمال الكادحين" من روسيا وغيرها، ليعظم وجود الروس في الإقليم. ووفق إحصائية أُعدت عام 2001 يشكّل الروس والمنحدرون من أصول روسيا نسبة تقارب نحو 58% من إجمالي عدد السكان البالغ 2 مليون نسمة، بينما يشكّل الأوكرانيون نسبة تقارب 24%، ويشكّل تتار القرم نسبة 12%. كانت جمهورية القرم واحدة من دول الاتحاد السوفيتي إلى العام 1954؛ حيث قرر الزعيم نيكيتا خروتشوف ضمها إلى أوكرانيا لتبقى كذلك بعد استقلال الأخيرة عام 1991.
الأهمية الجغرافية للقرم
ولتفسير الصراع على شبه جزيرة القرم تجدر الإشارة إلى أنه يتمتع بعدة ميزات، أولها: جيوسياسية؛ إذ تقع على الضفة الغربية لبحر آزوف، وتشرف على مضيق كيرتش الذي يفصل بينه وبين البحر الأسود، ويتحكم بمرور السفن التجارية والعسكرية إلى عدة موانئ أوكرانية وروسية وغيرها.
اقتصاديًا، يشكّل القرم وجهة رئيسية للكثير من السيّاح الروس والأوكرانيين والبولنديين والألمان ومن دول البلطيق؛ إذ يزور القرم ما بين 3 إلى 5 ملايين سائح سنويًا، لأنه يتمتع بجو دافئ شتاء ومعتدل صيفًا، وبطبيعة خلابة غنية بالغابات والجبال والأنهار، ما يعود على خزينة الدولة بنحو 2 مليار دولار. ولمناخه المعتدل، يُعتبر القرم سلة غذائية رئيسية لأوكرانيا؛ إذ ينتج العديد من المحاصيل والفواكه، كالعنب والخوخ والمشمش والتين، إضافة إلى إنتاج العسل، كما تحتوي أراضي القرم على النفط والغاز وبعض المعادن بكميات كبيرة غير مستثمرة.
أما في الجانب الأمني العسكري، فيطل شبه الجزيرة على شريط طويل من سواحل البحر الأسود الشمالية، وتوجد على أراضيه 15 قاعدة عسكرية أوكرانية بين برية وبحرية، لكنها صغيرة وضعيفة إذا ما قورنت بالتواجد العسكري الروسي، الذي يتمركز في ثلاث قواعد، أهمها: قاعدة سيفاستوبل التي تشمل أربعة خلجان مائية.
الحسم الروسي
حافظت روسيا على وجودها العسكري في القرم بعد استقلال أوكرانيا وتقاسم أسطول البحر الأسود السوفيتي معها، وكان لها النصيب الأكبر من ذلك الإرث، بثلاث قواعد عسكرية، من أبرزها وأكبرها قاعدة سيفاستوبل. ولكن الاتفاقيات الثنائية حظرت على الجانب الروسي زيادة أعداد قواته وتحديث قدرات أسطوله. برز الاهتمام الروسي بالأسطول مع وصول البرتقاليين الموالين للغرب إلى السلطة بين 2005-2010، ورفضهم التمديد لبقاء الأسطول إلى ما بعد العام 2017 وفق معاهدة الاستقلال 1991، وعزمهم ضم البلاد إلى الاتحاد الأوروبي حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ونصب قواعد صاروخية دفاعية للحلف على الأراضي الأوكرانية؛ الأمر الذي رفضته موسكو، وضغطت بجميع أوراقها السياسية والاقتصادية لمنعه، وما أن انتُخب فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا رئيسًا في العام 2010 حتى وقّع بعد أسابيع قليلة اتفاقية مدّدت لبقاء أسطولها حتى العام 2045، وسمحت بإجراء "إصلاحات وبعض التطوير" عليه، ليصبح حضور روسيا في القرم على الشكل التالي:
أولاً: القواعد العسكرية
-
قاعدة سيفاستوبل: القاعدة الرئيسية للأسطول البحري الروسي على سواحل البحر الأسود جنوب غرب القرم، تتمركز في أربعة خلجان: (سيفاستوبل-يوجنايا-كارانتينايا-كازاكيا)، وفيها أكثر من 30 سفينة حربية، وسفينة عبارة عن مستشفى، ومركز اتصالات متطور مجهز للحرب الإلكترونية، وعدة طائرات هليكوبتر.
-
قاعدة فيادوسيا: في شرق القرم.
ثانيًا: المطارات العسكرية الرئيسية
-
كفارديسكايا.
-
سيفاستوبل (كاتشا).
ثالثًا: المطارات العسكرية الفرعية
-
سيفاستوبل (خيرسونيس).
-
سيفاستوبل الجنوبي (يوجني).
رابعًا: وحدات الاتصالات العسكرية
-
كاتشا (في الجنوب الغربي).
-
سوداك (في شرق القرم).
-
يالطا (في جنوب القرم).
ويصل إجمالي عدد القوات الروسية الثابتة إلى 14000 جندي.
لا شك أن عزل يانوكوفيتش جاء ضربة قوية لموسكو، التي أدركت عزم السلطات الجديدة في العاصمة كييف على التقارب مع أوروبا؛ الأمر الذي سيتجاوز حتمًا البعدين: السياسي والاقتصادي إلى البعد العسكري، وبالتالي فإن زحف الغرب نحو حدودها الغربية بات وشيكًا؛ ما سيهدد أمنها وأمانها وقدراتها الدفاعية. لتدارك هذا الموقف، حسم الرئيس بوتين الأمر سريعًا، وقرر التدخل من بوابة القرم بشكل "عسكري استعراضي" للعضلات دون قتال عسكريًا، والعمل على ضمه إلى الأراضي الروسية، مستندًا إلى حقيقة أن الأسطول العسكري البحري الروسي قريب، ونسبة كبيرة من السكان تنحدر من أصول روسية وتعتبر أن روسيا هي "الوطن الأم".
وجاء التدخل الروسي بحجة حماية أمن وحقوق الغالبية الروسية فيه من السلطات "الفاشية" في كييف، مستغلاً انشغال الأخيرة بملء الفراغات السياسية والأمنية والعسكرية في الوزارات وغيرها من المؤسسات بعد هروب يانوكوفيتش وجميع رموز نظامه.
التدخل العسكري "الناعم"، وتغيير السلطات المحلية، ثم الإعلان عن ضم القرم إلى روسيا، منح موسكو سيطرة شبه كاملة على سواحل وأراضي الإقليم، لا على جزء من شريطه الساحلي فقط؛ ما قد يمكّنها من نشر قواتها ودفاعاتها في جميع أرجاء القرم، وبهذا تصبح هي القوة الأكبر في شمال البحر الأسود. وبهذه السيطرة وذلك الولاء أيضًا، تستطيع روسيا أن تستخدم أراضي وسواحل القرم لتنفيذ مشروع خط "التيار الجنوبي" لنقل الغاز إلى أوروبا؛ ما يعني توفير نحو عشرين مليار دولار كانت ستنفقها لتجاوز المياه الإقليمية الأوكرانية.
والنجاح الروسي في القرم قد يغري موسكو أو حلفاءها بتكرار هذا السيناريو في مناطق أخرى تضم رعايا روس في شرق وجنوب أوكرانيا، لتحويلها إلى مناطق موالية أو حتى تابعة، أو رمادية تفصلها عن الغرب على الأقل، فتحمي بذلك حدودها ونفوذها.
موقف أوكرانيا
قلبت روسيا المعادلة لصالحها، فتحولت عمليًا من موضع الدفاع عن حدودها إلى زحف يقربها من "أوكرانيا الموالية للغرب" ويقتطع أراضيها، كما يقربها من الغرب الداعم لكييف. وتدرك أوكرانيا أن جيشها بعدته وعتاده وتعداد جنوده لا يُقارَن بقدرات نظيره الروسي، وأنه لم يخض أي حرب تمكّنه من كسب تلك الخبرات اللازمة لدفع أو هزيمة موسكو، ولهذا يؤكد على عدم استخدام القوة لتحرير القرم ومنع انفصاله.
كما تخشى أوكرانيا من تكرار السيناريو القرمي في مدينة أوديسا الساحلية وعدة مدن شرقية أخرى، خاصة وأنها تشهد حراكًا وأصواتًا تنادي فعلاً بالاقتداء بنهج القرم؛ ما يعني أن البلاد قد تخسر أية إطلالة لها على البحر الأسود، وأجزاء واسعة من مناطقها الشرقية. ولكن لدى كييف أوراق ضغط كثيرة على الإقليم، لا يتحدث المسؤولون عنها صراحة، ولكن بعضهم يلوح بها بين الحين والآخر؛ فأوكرانيا هي مصدر إمدادات الماء والكهرباء والغاز والاتصالات المهددة بالوقف أو الحجب، بالإضافة إلى ورقة إغلاق الحسابات البنكية الخاصة بحكومة الإقليم؛ الأمر الذي تم فعلاً.
قد تسهم روسيا فعلاً بدعم الإقليم كجزء بات من أراضيها، ولكن ذلك قد لا يطول؛ ما يشكّل تهديدًا كبيرًا لاقتصاد القرم الذي سيعتمد لأول مرة على نفسه منذ عقود؛ أما إذا ما وقعت معارك عسكرية، فإن القرم مرشح لتكرار سيناريو أبخازيا، بفقر شديد، وقلة من الدول تعترف به كدولة مستقلة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن جميع المسؤولين في كييف يؤكدون على عدم اعترافهم بالقرم كجزء من روسيا، وجميع ما تقوم به سلطاته من إجراءات.
أوروبا وأميركا والناتو
بدعم المعارضة وتأييد مطالب المحتجين في الميادين والشوارع، حقق الاتحاد الأوروبي والغرب إنجازًا كبيرًا، بوصول سلطات موالية له مجددًا إلى الحكم، وهي سلطات أكثر عزمًا على التقارب معه من سلطات الثورة البرتقالية حتى؛ ما يعني أن أوكرانيا تحولت إلى معسكره بعد عقود من بقائها في المعسكر الشرقي.
لكن الموقف الأوروبي اليوم أمام اختبار كبير، فما حققه كان يعني تقديم دعم لإنقاذ اقتصاد أوكرانيا من الانهيار عبر مساعدات من صندوق النقد الدولي تقارب 15 مليار دولار، واليوم -بعد انفصال القرم- تتجه الأمور إلى مواجهة مع الدب الروسي، قد تخرج من الإطار السياسي والاقتصادي إلى العسكري.
يدرك الغرب حقيقة أن نفوذ روسيا سيتعاظم الآن في البحر الأسود بعد ضم القرم، وبالتالي فإن قوة عسكرية قديمة جديدة تظهر الآن في أجزائه الشرقية الجنوبية، وقد تشكّل تهديدًا استراتيجيًا لدوله. ويفرض الأوروبيون عقوبات على روسيا للضغط عليها، لكنها عقوبات رمزية لا تؤثر على المشهد حتى الآن؛ فالاعتماد على غاز واستثمارات الروس في أوروبا كبير، ووقف هذا الاعتماد بتوسيع العقوبات والقطيعة يعني خسارة كبيرة لها.
ولكن رغم الوضع الاقتصادي الصعب، يبقى الخيار العسكري واردًا، يُبحث ولا يتم الإعلان عنه لصد روسيا، وبغضّ النظر عن تكاليفه الباهظة؛ فالأمن أهم من الاقتصاد، وروسيا كسبت في القرم نقاطًا كثيرة كان من الممكن أن تُحسب للأوروبيين.
بهذا لم تعد أوكرانيا مجرد ساحة تجاذب واستقطاب بين روسيا وأوروبا، بل تتحول شيئًا فشيئًا إلى ساحة مواجهة بينهما، وهي مواجهة يحاول من خلالها كل طرف كسب أوكرانيا أو أجزاء منها إلى صفه، وحماية نفوذه ودعم اقتصاده وتعزيز حضوره فيها، والأهم من ذلك كله هو ضمان أمنه بخلو أراضيها من أي تهديد لحدوده وأراضيه. ولا يختلف الموقف الأميركي كثيرًا عن موقف الاتحاد الأوروبي؛ فتعاظم النفوذ الروسي في القرم وشمال البحر الأسود يشكّل ضربة لنفوذ أميركا وحلف شمال الأطلسي "الناتو"، لأنه يُضعف حضورهما في هذه المنطقة القريبة من العدو التاريخي غير المعلن: روسيا. وانفصال القرم على وجه الخصوص يضع أوروبا وبريطانيا وفرنسا أمام اختبار كبير أيضًا؛ فهي الدول الغربية التي ضمنت لأوكرانيا أمن وسلامة أراضيها عندما تخلّت عن السلاح النووي بموجب اتفاقية بودابست عام 1994، واليوم "تُحتل" من قبل روسيا الضامنة أيضًا، وبالتالي فإن إخفاقها برد روسيا لن يمكّنها من إقناع دول كإيران وكوريا الشمالية بالتخلي عن الأسلحة والمساعي النووية مقابل ضمانات؛ ما قد يعني حدوث فوضى نووية عالمية.
الموقف التركي
ولا يمكن إغفال الموقف التركي إزاء أحداث القرم، وإن كان الأقل تفاعلاً حتى الآن؛ فبالعودة إلى تاريخ الإقليم ندرك أن لأنقرة مصالح قديمة جديدة فيه، من أبرزها وجود تتار القرم الذين تعتبرهم بمثابة رعايا لها، وهم معرضون لخطر الاضطهاد مجددًا بفرض نظام وقوانين الحكم الروسي.
تعي تركيا جيدًا أن الهيمنة الروسية عادت إلى القرم الذي كان جزءًا منها، وأعلنت سابقًا ومؤخرًا عن دعمها لحقوق التتار خوفًا على مصيرهم، وطلبت المشاركة في مجموعة الاتصال لبحث أزمة القرم إلى جانب الأطراف الرئيسية. قد لا تريد تركيا إعادة القرم إلى نفوذها مجددًا كما كان في القرون الوسطى، ولكنها أيضًا لا ترضى أن يعود النفوذ الروسي إليه مجددًا، فهذا سيذكّرها بهزائم الماضي، والأهم ربما أن ذلك النفوذ سيطوقها من الشمال ومن الجنوب الغربي، في قواعد القرم على البحر الأسود، وقاعدة طرطوس السورية في البحر المتوسط.
تركيا هي من أكثر الدول المعنية بما يحدث في القرم، ومن المؤكد أنها ستشارك بقوة في أي حل لأزمته، أو حتى تصعيد عسكري قد يحدث بسببه، كدولة لها مع القرم ارتباطات تاريخية واجتماعية واقتصادية، وكذلك كدولة عضو في حلف شمال الأطلسي "الناتو" إذا ما تدخل.
مآلات الأزمة
الأزمة الأوكرانية ليست أزمة سياسة أو اقتصاد، بل هي أزمة جغرافيا ونفوذ بالدرجة الأولى، وانطلاقًا من جميع المعطيات السابقة، لا يُستبعد نشوب حرب باردة ما أو شبه ساخنة بين روسيا والغرب، وإن لم يكن ذلك، فاتفاقيات بين الطرفين على تبادل مواقع عالمية ترضي الطرفين.
روسيا لن تسمح بسحب أراضي أوكرانيا من معسكرها، فهي حديقتها الخلفية إن صح التعبير، وخاصرتها التي أحست بالطعن فيها خلال الشهور الماضية.
الإدارة الروسية كانت -ولا تزال- تنظر إلى أوكرانيا كدولة يجب أن تكون تابعة لقرارات موسكو أو فيتو الكريملن، أو رمادية لا تريد تقاربًا مع روسيا ولا تجنح نحو الغرب في أسوأ الأحوال.
وكما ساهمت بإخفاق الثورة البرتقالية، وبعد احتلال القرم والاستحواذ عليه وضمه، ستعمل روسيا على استخدام جميع أوراق ضغطها السياسية والاقتصادية على حكومة العاصمة كييف، كرفع أسعار الغاز الذي يحرك عجلة الاقتصاد أو وقف إمداداته، وعرقلة مرور البضائع الأوكرانية عبر الحدود الروسية، وعدم الاعتراف بالحكومة الأوكرانية وعزلها سياسيًا، حتى لا تحقق الحريات والديمقراطية في أوكرانيا أية نجاحات قد تحرك الشارع ضد السلطات الاستبدادية في روسيا وغيرها من الدول التابعة والموالية.
أما الغرب، فمعني بنجاح أوكرانيا، لا نصرة للديمقراطية والحريات فيها، بل لأن في ذلك نصرًا على روسيا في ساحة بعيدة عن حدود الطرفين، وشرارة قد تشعل الاحتجاجات ضد نظام بوتين لتحد من بروز نفوذه العالمي.
يستخدم وسيستخدم كلا الجانبين أوراق الضغط التي لا تستثني المواجهة العسكرية، ولكن من بين الحلول أيضًا اتفاقيات لتقاسم مواقع النفوذ في أوكرانيا وحول العالم، وتبادل بعض الملفات أو تقديم تنازلات فيها، والحديث هنا يدور بشكل رئيس عن المواقع في القرم وسوريا، وعن ملفات إيران وكوريا الشمالية.
إذا ما أصرت روسيا على التمسك بالقرم كجزء منها، وهذا هو المتوقع، فإن الغرب قد يعمل على زيادة حضور نفوذه على حساب النفوذ الروسي في البحر المتوسط، وقد يكون له موقف أكثر حزمًا إزاء الملفات الإيرانية والكورية الشمالية التي تدعمها موسكو. الخلاصة، أن الغرب لن يسمح لروسيا بالسيطرة على القرم بسهولة، وإن سمح، فإن ذلك سيكون على حساب نقاط وملفات نفوذ لها حول العالم.
______________________________________
محمد صفوان جولاق - صحافي وباحث متخصص بالشأن الأوكراني
المصادر
1- محمد صفوان جولاق، معارضة أوكرانيا والطريق لأوروبا عبر الحكم، الجزيرة نت.
http://www.aljazeera.net/news/pages/47ea560b-5c58-40d7-bfbf-3216d15e3796
2- يقع شبه جزيرة القرم جنوب أوكرانيا ويتصل بها عن طريق شريط ضيق من الأرض، ويحيط به البحر الأسود من الجنوب والغرب، ويحده من الشرق بحر أزوف ويفصله عن روسيا مضيق كيرتش وتنوي روسيا بناء جسر عبره. مساحته حوالي 27 ألف كيلومتر مربع، وسكانه حوالي مليوني نسمة، وقد أظهر إحصاء سكاني عام 2001 أن نحو 58 في المئة من السكان من أصول روسية و24 في المئة من أصل أوكراني و12 في المئة من التتار الذين يؤيدون الحكومة الجديدة المؤيدة للغرب في كييف. يمكن العودة لرويترز:
http://ara.reuters.com/article/worldNews/idARACAEA2903Q20140310?pageNumber=1&virtualBrandChannel=0
3- الإمبراطورة الروسية "يكاتيرينا الثانية" اسمها: صوفيا فريديريكا أفغوستا، وُلدت عام 1729 في مدينة شيتسين (أو شتيتين) وهي مدينة ألمانية حتى عام 1945؛ حيث ضُمت إلى بولندا بعد أن انهزمت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. ويعتبر الروس الإمبراطورة يكاتيرينا روسية خالصة، وهي التي جاءت روسيا وعمرها الـ14 عامًا، ودرست اللغة والثقافة الروسية واعتنقت الأرثوذكسية، واقترنت بولي عهد روسيا بطرس الثالث، ثم وصلت إلى عرش روسيا نتيجة انقلاب سياسي.
4- د. أمين القاسم، جغرافيا شبه جزيرة القرم وتاريخ التتار فيها، أوكرانيا برس.
http://ukrpress.net/node/2512