سراب الدولة: مستقبل فلسطين في خطة كيري

أوقعت خطة كيري القيادة الفلسطينية في مأزق، فإن قبلوا بها خسِروا قضيتهم وإن رفضوها نهائيا عرَّضوا أنفسهم لعقوبات قد تقضي على سلطتهم.
2014324112734611734_20.jpg
جون كيري بمعية محمود عباس يتحدث للصحفيين خلال زيارته لرام الله في 30 يونيو حزيران 2013 (رويترز)
ملخص
حددت خطة وزير الخارجية الأميركي جون كيري تاريخ 29 مارس/آذار 2014 كموعد لانتهاء المفاوضات في إنجاز اتفاق الإطار، لكن كل الشواهد تدلِّل على أن هذا التاريخ سيحلُّ دون أن يحدث أي اختراق في الخلافات بين الجانبين بشأن ما تضمنته الخطة. ومما سيزيد الأمور تعقيدًا أمام القيادة الفلسطينية هو إمكانية أن يوافق نتيناهو على التوقيع على خطة "كيري"، مع إرفاق تحفظاته على بعض بنودها؛ من أجل إظهار عباس كـ "رافض للسلام، وتحميله المسؤولية عن فشل المفاوضات". ومن الواضح أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس ليس بإمكانه الإقدام على خطة مماثلة؛ لأنَّ جميع بنود خطة كيري تتعارض بشكل واضح مع المواقف المعلنة للقيادة الفلسطينية. ولقد أوضحت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أن حلول تاريخ 29 مارس/آذار 2014 دون اتفاق على خطة كيري يعني تحلل القيادة الفلسطينية من تعهدها السابق للولايات المتحدة بعدم تقديم طلبات لانضمام "دولة فلسطين" للمؤسسات الدولية، لاسيَّما محكمة الجنايات الدولية، ورفع قضايا أمام هذه المحكمة في مسعى لتجريم إسرائيل؛ بسبب تواصل مشاريع الاستيطان والتهويد في مناطق "فلسطين" التي تم قبولها كدولة مراقب في الأمم المتحدة. ومن الواضح أن إقدام القيادة الفلسطينية على هذه الخطة سيمثِّل رافعة ضغط كبيرة على إسرائيل، لاسيَّما في ظل تعاظم وتيرة الدعوات في العالم، وفي أوروبا على وجه الخصوص؛ لفرض مقاطعة اقتصادية على تل أبيب بسبب تواصل مشاريع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. لكن بالنظر إلى اختلال الموازين في العلاقة بين السلطة الفلسطينية من جهة وكلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل، ونظرًا للظروف الداخلية والإقليمية، فإن هناك أساسًا للاعتقاد أن الرئيس عباس سيوافق على الطلب الأميركي بتمديد المفاوضات لعام آخر، واستمرار التزامه بعدم التوجُّه للمؤسسات الدولية.

مقدمة

تعدُّ الخطة التي أعدها وزير الخارجية الأميركي جون كيري، والتي تتضمن مشروع "اتفاق إطار" لإحلال تسوية سياسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي - أحدث مشاريع التسوية التي تسعى لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفق مبدأ "حل الدولتين"، وهو الحل الوحيد المقبول -نظريًّا على الأقل- من قِبل القيادتين الفلسطينية والإسرائيلية. لكن رغم استثمار كيري جهودًا كبيرة في محاولاته إحداث توافق فلسطيني إسرائيلي حول ما تضمنته خطته، ومع أن ممثلي الجانبين أمضيا وقتًا طويلاً في بحث صيغ توفيقية لجسر هوَّة الخلاف بينهما حول بنود الخطة، إلا أن فرص حدوث اختراق في المفاوضات استنادًا إلى هذه الخطة تبدو متدنية جدًّا، إن لم تكن مستحيلة.

ستحاول هذه الورقة الوقوف على الأسباب التي تنسف فرص تحقيق حل الدولتين استنادًا إلى خطة كيري، إلى جانب إبراز محددات تحرك الوسيط الأميركي، وتأثيرها على فرص تحقيق التسوية، وصولاً إلى استشراف آفاق الحل السياسي للصراع.

ضياع الأرض والسيادة

على الرغم من أن كيري لم يعلن بنود خطته بشكل رسمي، إلا أنه استنادًا إلى ما نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية والأميركية حول بنود الخطة(1)، وبالرجوع إلى التصريحات الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين وكيري نفسه، يتبيَّن أن ما تعرضه الخطة على الفلسطينيين لا يعدو عن كونه حكمًا ذاتيًّا، لا يفتقر إلى مقومات السيادة الوطنية فقط، بل يُبقِي عمليًّا معظم الضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر. وإذا ما تمت مقارنة ما يعرضه كيري على الفلسطينيين بما أعلن عنه رئيس السلطة الفلسطينية كـ "مطالب الحد الأدنى" للجانب الفلسطيني في أية تسوية(2)، يتبيَّن أن الجانب الفلسطيني مُطالب بالتفريط بثوابته في كل القضايا الرئيسة التي تشكِّل الصراع، وهي: الأرض والمستوطنات، القدس، اللاجئون، السيادة. فعلى الرغم من أن خطة كيري تنص على أن تسوية الصراع يجب أن تتم على أساس حدود عام 1967، إلا أنها في الوقت ذاته تشدد على ضرورة أن يأخذ أي مشروع تسوية بعين الاعتبار التغييرات التي شهدتها الضفة الغربية منذ ذلك الوقت(3). وهذا يعني أن خطة كيري ستأخذ بعين الاعتبار الحقائق الاستيطانية التي أرستها إسرائيل على الأرض منذ احتلال عام 1967، مع العلم أن إسرائيل تواصل الاستثمار في بناء المستوطنات حتى الآن. وقد نصت خطة كيري بشكل صريح على ضمِّ التجمعات الاستيطانية اليهودية الكبرى في الضفة الغربية لإسرائيل، والتي يقطنها 70-80% من المستوطنين(4). لكن ما صدم السلطة الفلسطينية هو أن كيري لا يريد فقط ضم التجمعات الاستيطانية الكبرى لإسرائيل، والتي تنتشر على 10% من مساحة الضفة الغربية، بل إنه لا يرى أي مبرر لتفكيك المستوطنات التي تقع خارج التجمعات الاستيطانية والمستوطنات النائية، ويدافع عن إبقاء هذه المستوطنات داخل المناطق التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية(5). ومما يزيد الأمور تعقيدًا حقيقة أن الجانب الأميركي يوافق على أن تتولى إسرائيل الصلاحيات الأمنية في المناطق التي توجد فيها المستوطنات داخل حدود الدولة الفلسطينية والطرق التي تربطها ببعضها البعض وبإسرائيل، بحيث يكون من حق الجيش الإسرائيلي الاحتفاظ بقواعد عسكرية داخل مناطق السلطة لضمان أمن المستوطنين(6). وإلى جانب حقيقة أن الوجود العسكري الإسرائيلي في مناطق الدولة الفلسطينية سينسف أبسط مقومات سيادتها المفترضة، فإنَّ الاحتفاظ بعشرات الجيوب الاستيطانية داخل مناطق الدولة سيقلِّص المساحة الفعليَّة لهذه الدولة، وسيعني ضمان إبقاء القيود المفروضة حاليًا على حرية حركة الفلسطينيين في الضفة الغربية الهادفة لضمان سلامة المستوطنين. ليس هذا فحسب، بل إن كيري تراجع عما اقترحه في خطته بشأن الترتيبات الأمنية التي يتوجب أن تحظى بها إسرائيل على حدودها الشرقية مع الأردن، تحت ضغط نتيناهو. فبعدما كان كيري يقترح أن ترابط قوات إسرائيلية لفترة محدودة على الحدود مع الأردن تصل إلى 10-15 عامًا، فإنه قد أبلغ الرئيس عباس أن نتيناهو يرفض الاقتراح ويصرُّ على أن يواصل الجيش الإسرائيلي التمركز على طول الحدود مع الأردن بدون تحديد وقت(7). ومما لا شك فيه أن فقدان الدولة الفلسطينية السيادة على حدودها يضعها في حالة حرج مع مواطنيها، حيث إنَّ هذا يعني أن إسرائيل ستظل الطرف الذي يحدِّد هوية من يسمح له بدخول الدولة أو مغادرتها، إلى جانب توظيف سيطرتها على المعابر الحدودية في مواصلة اعتقال الفلسطينيين والتحقيق معهم، كما يحدث الآن. ولأوَّل وهلة يبدو تضمين خطة كيري بندًا حول تبادل الأراضي، ينص على منح الفلسطينيين أراضي "إسرائيلية" مقابل الموافقة على ضم التجمعات الاستيطانية للكيان الصهيوني(8) مصدر عزاء للفلسطينيين، على اعتبار أنه يمثل تعويضًا لهم عن بعض ما سيفقدونه لصالح المستوطنين، إلا أن نظرة متأنية تدلِّل على أن قبول هذا البند يمثل مسًّا بقطاع مهم من الشعب الفلسطيني ويمنح إسرائيل خدمة استراتيجية هائلة. فوزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان الذي يُبدي -على وجه الخصوص- حماسًا لفكرة تبادل الأراضي يقول إنه مستعد لـ "التنازل" عن منطقتي المثلث ووادي عارة، اللتين يقع فيهما القطاع الأكبر من فلسطينيي 48، مقابل ضم التجمعات الاستيطانية لإسرائيل؛ لأنَّه بذلك يصطاد عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية يتخلص من الثقل الديمغرافي لفلسطينيي 48، وفي الوقت ذاته يضفي شرعية على ضم التجمعات الاستيطانية لإسرائيل(9).

الخلاف على موقع عاصمة الدولة

إن كان الفلسطينيون مطالبين -حسب خطة كيري- بتقديم تنازلات كبيرة في كل القضايا، فمما لا شك فيه أن التنازل الأكثر إيلامًا المطلوب تقديمه يتعلق بمستقبل مدينة القدس. فعلى الرغم من أن خطة كيري تنص على أن عاصمة الدولة الفلسطينية يجب أن تكون في "القدس"، إلا أنه لم يتم تحديد حدود هذه "العاصمة"، حيث إن "القدس" -حسب التوصيف الإسرائيلي- لا تضم القدس الغربية التي احتلت عام 1948 والقدس الشرقية التي احتلت عام 1967 فقط، بل تضم أيضًا البلدات الفلسطينية التي تقع في محيط القدس، مثل شعفاط والعيسوية وأبو ديس. وهذا ما دفع ممثلي السلطة الفلسطينية إلى الاعتراض على ما ورد بشأن القدس في خطة كيري، وطالبوا أن يتم تحديد "القدس الشرقية" كعاصمة للدولة الفلسطينية، وهو ما رفضه نتنياهو، مع العلم أن موقف نتنياهو حظي بدعم كيري(10). ومن الواضح أن الرفض الإسرائيلي لاعتبار القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية يعني أن أقصى ما تُبدي إسرائيل الاستعداد لتقديمه بشأن القدس هو الموافقة على إعلان عاصمة الدولة الفلسطينية في إحدى البلدات الفلسطينية المحيطة بالقدس، مثل شعفاط وأبو ديس والعيزرية.

معضلة الاعتراف بيهودية إسرائيل

تطالب خطة كيري بشكل واضح الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل كـ "الدولة القومية للشعب اليهودي"، مع العلم أن هذا الموقف عبَّر عنه أقطاب الإدارة الأميركية، ولاسيَّما الرئيس أوباما في أكثر من مناسبة. ولا تنبع خطورة قبول هذا الطلب فقط من حقيقة أنه يعني تنازل الفلسطينيين الضمني عن حق العودة للاجئين(11)، بل لأنَّه يعني أيضًا إضفاء شرعية على كل ما تقوم به إسرائيل من إجراءات لضمان طابعها اليهودي، سواء على الصعيد الديني والديمغرافي والقانوني والثقافي(12). لكن ما يثير التساؤل بشأن الاعتراف بيهودية إسرائيل هو الموقف الفلسطيني الرسمي وليس الموقف الإسرائيلي والأميركي. فإذا كان عباس يعلن رفضه الاعتراف بيهودية إسرائيل، فإنَّ نبيل عمرو -القيادي في حركة فتح، وعضو المجلس المركزي لمنظمة التحرير- قد كشف النقاب عن أن عباس "مستعد للتعاطي" مع الاعتراف بيهودية إسرائيل(13). وقد تبيَّن أن هناك بعض الصيغ "الإبداعية" التي يتم تداولها بحيث تسمح لعباس بتبرير تراجعه عن رفض الاعتراف بيهودية إسرائيل، مثل أن تعترف كلٌّ من الجامعة العربية والأمم المتحدة بيهودية إسرائيل، فيصبح اعتراف الدولة الفلسطينية بها أمرًا ضمنيًّا، على اعتبار أن "دولة فلسطين" عضو في المحفلين(14). وعلى الرغم مما قاله نبيل عمرو، فإنَّ هناك ما يدفع للاعتقاد أن الرئيس عباس لن يوافق في النهاية على الاعتراف بيهودية إسرائيل، ليس بسبب التداعيات الخطيرة لهذا الاعتراف فقط، بل للحساسية الكبيرة التي يبديها الرأي العام الفلسطيني لهذه المسألة.

موقف ائتلاف نتنياهو من خطة كيري

على الرغم من أن قبول الجانب الفلسطيني ما ورد في خطة كيري يعني تصفية القضية الوطنية للشعب الفلسطيني، فإن الأغلبية الساحقة من نواب ووزراء الائتلاف الحاكم في تل أبيب يرفضون ما جاء في هذه الخطة، ويُقدِمون على خطوات سياسية تجعل من المستحيل مواصلة التعاطي معها. فعلى سبيل المثال، قدَّم حزب الليكود الحاكم مشروع قانون للبرلمان الإسرائيلي في 25 فبراير/شباط 2014 يدعو الحكومة إلى تطبيق السيادة الإسرائيلية على المسجد الأقصى، مع العلم أن معظم وزراء ونواب حزب الليكود وجميع وزراء ونواب حزب "البيت اليهودي" -ثالث أكبر الأحزاب المشاركة في الائتلاف- يؤيدون المشروع(15). وتعني المصادقة على القانون البدء بتقاسم مواعيد الصلاة في الحرم القدسي بين اليهود والمسلمين، على غرار ما هو حادث حاليًا في المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل، على أن ينتهي الأمر بوضع الحرم تحت إشراف وزارة الأديان الإسرائيلية. ومن الواضح أن المصادقة على القانون ستشعل الأرض وستقابل بردَّة فعل جماهيرية فلسطينية قوية، ستؤثر في قدرة عباس على مواصلة التفاوض مع إسرائيل. وفيما يشكل إحراجًا للإدارة الأميركية، رفض نواب الائتلاف الإسرائيلي الحاكم طلب كيري تجميد الاستيطان خارج التجمعات الاستيطانية الكبرى، حيث وقَّع ثلث نواب الائتلاف الحاكم على عريضة تحذر نتنياهو من أنَّ الاستجابة لطلب كيري يعني إسقاط حكومته(16). ولا تقف الأمور عند حد رفض تجميد الاستيطان في المستوطنات النائية، بل إن حكومة نتنياهو أصدرت قرارًا يقضي بتقديم تسهيلات إضافية للمستوطنين الذين يقيمون في هذه المستوطنات؛ من أجل إغراء المزيد من اليهود للإقامة فيها. مع العلم أن الذي دفع نحو إصدار هذا القرار هو وزير المالية يئير لبيد، رئيس حزب "ييش عتيد"، الذي يُوصف بأنه يمثل "الحمائم" في الائتلاف(17).

ضغوطات أميركية

إن الحماس الذي يبديه كيري لإنجاز اتفاق الإطار يرجع بشكل خاص إلى رغبة الإدارة الأميركية في ترميم مكانتها الإقليمية التي تراجعت إثر تفجُّر الثورات العربية، إلى جانب خوف واشنطن من إمكانية أن يفضي الجمود التي تشهده عملية التسوية إلى إشعال مواجهة فلسطينية إسرائيلية تقلِّص هامش المناورة المتاح أمام إدارة أوباما. وفي الوقت ذاته، ترى الولايات المتحدة أن تحقيق اختراق في ملف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية سيساعدها على بناء تحالف إقليمي ضد البرنامج النووي الإيراني. لكن عند اختبار سلوك الإدارة والكونغرس يتضح أن هذا لا يسهِّل مهمة كيري نفسه. فالإدارة الأميركية تمارس ضغوطًا على القيادة الفلسطينية لإجبارها على قبول مواقف اليمين الإسرائيلي، التي ترى قيادات إسرائيلية رسمية أنها غير مبررة. فعلى سبيل المثال، قَبِل كيري موقف نتيناهو بضرورة اعتراف الفلسطينيين بيهودية إسرائيل، على الرغم من أن الرئيس الإسرائيلي شمعون بيرس يرى أنه لا يوجد هناك ما يبرر الطلب الإسرائيلي باعتراف الفلسطينيين بيهودية إسرائيل(18). في الوقت ذاته، فإنَّ نتنياهو يلجأ إلى توظيف جماعات الضغط اليهودية والكونغرس لإقناع إدارة أوباما بالتراجع عن المواقف التي لا تتفق تمامًا مع الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل(19). ولا يكتفي الأميركيون بمساعدة نتنياهو، بل يذهبون إلى أقصى حد في تقليص هامش المناورة أمام القيادة الفلسطينية وإحراجها أمام رأيها العام. فقد أصدرت لجنة الموازنة في مجلس الشيوخ قرارًا بربط المساعدات الأميركية للسلطة الفلسطينية بوقف "التحريض الفلسطيني" على إسرائيل(20).

 آفاق ومآلات

حددت خطة كيري تاريخ 29 مارس/آذار 2014 كموعد لانتهاء المفاوضات لإنجاز اتفاق الإطار، لكن كل الشواهد تدلِّل على أن هذا التاريخ سيحلُّ دون أن يحدث أي اختراق في الخلافات بين الجانبين بشأن ما تضمنته الخطة. ومما سيزيد الأمور تعقيدًا أمام القيادة الفلسطينية هو إمكانية أن يوافق نتيناهو على التوقيع على خطة "كيري"، مع إرفاق تحفظاته على بعض بنودها؛ من أجل إظهار عباس كـ "رافض للسلام، وتحميله المسؤولية عن فشل المفاوضات"(21). ومن الواضح أن عباس ليس بإمكانه الإقدام على خطة مماثلة؛ لأنَّ جميع بنود خطة كيري تتعارض بشكل واضح مع المواقف المعلنة للقيادة الفلسطينية. ولقد أوضحت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أن حلول تاريخ 29 مارس/آذار 2014 دون اتفاق على خطة كيري يعني تحلل القيادة الفلسطينية من تعهدها السابق للولايات المتحدة بعدم تقديم طلبات لانضمام "دولة فلسطين" للمؤسسات الدولية، لاسيَّما محكمة الجنايات الدولية، ورفع قضايا أمام هذه المحكمة في مسعى لتجريم إسرائيل؛ بسبب تواصل مشاريع الاستيطان والتهويد في مناطق "فلسطين" التي تم قبولها كدولة مراقب في الأمم المتحدة(22). ومن الواضح أن إقدام القيادة الفلسطينية على هذه الخطة سيمثِّل رافعة ضغط كبيرة على إسرائيل، لاسيَّما في ظل تعاظم وتيرة الدعوات في العالم، وفي أوروبا على وجه الخصوص؛ لفرض مقاطعة اقتصادية على تل أبيب بسبب تواصل مشاريع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. لكن بالنظر إلى اختلال الموازين في العلاقة بين السلطة الفلسطينية من جهة وكلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل، ونظرًا للظروف الداخلية والإقليمية، فإن هناك أساسًا للاعتقاد أن الرئيس عباس سيوافق على الطلب الأميركي بتمديد المفاوضات لعام آخر، واستمرار التزامه بعدم التوجُّه للمؤسسات الدولية(23).
 
يدرك الرئيس عباس أن قرار التوجُّه للمؤسسات الأمم المتحدة يمثل إقرارًا بفشل برنامجه السياسي، وهذا ما سيفرض عليه إحداث تغيير في نمط تعاطيه مع الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، حيث سيكون مُطالب بوقف مظاهر التعاون الأمني مع سلطات الاحتلال، ووضع حد لتعقب عناصر المقاومة في الضفة الغربية من قِبل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية(24)، وإبداء المرونة اللازمة لإنهاء حالة الانقسام. لكن من المشكوك فيه أن يرفض عباس طلب أوباما بتمديد المفاوضات لعام؛ حيث إنه يخشى أن يؤدي الإعلان عن فشل المفاوضات إلى توقف المساعدات الأميركية والأوروبية للسلطة، إضافةً إلى تهيئة الظروف أمام استئناف عمليات المقاومة ضد الاحتلال، وهو ما قد تتبعه ردَّة فعل إسرائيلية كبيرة تهدِّد بقاء السلطة الفلسطينية ذاتها. وفي الوقت ذاته يدرك عباس أنه لا يجد في النظام الرسمي العربي القائم حاليًا مناصرًا له في مواجهة كلٍّ من واشنطن وتل أبيب، وهذا ما قد يدفعه لقبول تمديد المفاوضات لعام.

على الرغم من أن المحاذير التي تمت الإشارة إليها سابقًا، فإنَّ عباس يخاطر كثيرًا في حال وافق على تمديد المفاوضات، وهو يعي أن إسرائيل ستوظِّف هذا التمديد من أجل حسم مصير ما تبقَّى من أرض فلسطينية عبر بناء المزيد من المستوطنات، بحيث إنه لن يتبقى من الأرض الفلسطينية ما يمكن التفاوض بشأنه مع إسرائيل، مع العلم أن الوقائع على الأرض تؤكد أن فرص تحقُّق حل الدولتين باتت مستحيلة.

إن السيناريو الأمثل للرئيس الفلسطيني للخروج من هذا الانسداد هو مواجهة الواقع عبر تحرك نضالي شامل يكسر قواعد اللعبة القائمة، فيتوجَّه لمؤسسات الأمم المتحدة لتقليص هامش المناورة أمام إسرائيل وإحراج الإدارة الأميركية، مع العلم أن واشنطن تدرك التبعات  السلبية التي ستلحقها نتيجة قطع المساعدات الدولية عن السلطة الفلسطينية. إنَّ مثل هذه الخطوة ستضع النظام الرسمي العربي أمام مسؤولياته، لاسيَّما أن خطة كيري تهدف عمليًّا لتصفية القضية الفلسطينية. ومما لا شكَّ فيه أن الخطوة الأساسية التي يتوجب على عباس القيام بها في البداية هو توسيع هامش المرونة من خلال إنهاء حالة الانقسام الداخلي، وتوحيد الصف الفلسطيني خلف مناورته الجديدة. ومن نافلة القول إن حركة حماس مطالبة أيضًا في هذا السيناريو بمنح عباس الأوراق الضرورية التي تساعده في التحرك على الساحة الدولية.
_________________________________________
صالح النعامي - باحث في الشؤون الفلسطينية-الإسرائيلية

المصادر
(1) انظر مثلاً: "توخنيت كيري" (خطة كيري)، النسخة العبرية لموقع صحيفة يديعوت أحرونوت، 29-1-2014، http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4482341,00.html 
(2) تتضمن خطة عباس النقاط التالية: الدولة الفلسطينية ستكون منزوعة السلاح تتولى الدفاع عنها قوة من "الناتو"، الجيش الإسرائيلي يحتفظ بقواته في الضفة الغربية لمدة 5 سنوات، المستوطنات اليهودية في الضفة تفكك بالتدريج، رفض الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية. انظر: إسحاق بن حورين، "هتوخنيت شهتسيغ أبو مازن لهسدير عم يسرائيل" (الخطة التي قدمها أبو مازن للتسوية مع إسرائيل)، موقع "واي نت"، 3-2-2014، http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4484003,00.html
(3) آفي سيخاروف، "كول هسيبوت شبغللان هسكيم همزكيرت شل هأمريكانيم لا يعفور" (كل الأسباب التي ستؤدي إلى إفشال اتفاق الإطار الذي يعكف عليه الأميركيون"، النسخة العبرية لموقع صحيفة الجيروسلم بوست، 14-2-2014، http://www.thepost.co.il/news/new.aspx?pn6Vq=EE&0r9VQ=EMHII 
(4) أمير تيبون، "ههتنحليوت شنتنياهو روتسي لهشئير بيدي يسرائيل" (المستوطنات التي يريد نتنياهو إبقاءها في يد إسرائيل)، موقع "وللا"، 5-2-2014، http://news.walla.co.il/?w=/9/2718170
(5) "كيري روميز شهمتنحليم لو يفونو مي بيتيهيم" (كيري يلمح أنه لن يتم إخلاء المستوطنين من بيوتهم)، معاريف، 19-2-2014، http://www.nrg.co.il/online/1/ART2/555/416.html?hp=1&cat=404&loc=3 
(6) هذا ما كشف عنه أودي سيغل، المعلق السياسي في قناة التلفزة الإسرائيلية الثانية في برنامج " أولبان شيشي"، الساعة الثامنة مساءً في (15-2-2014).
(7) كيري لعباس: مسألة الأغوار حياة أو موت بالنسبة لنتنياهو‎، موقع فلسطين اليوم، 21-2-2014، http://paltoday.ps/ar/post/191060 
(8) "توخنيت كيري"، مرجع سابق.
(9) "ليبرمان: لو أتموخ بهسكيم للو حيلوفي شطحيم فأوخلسيوت" (ليبرمان: لن أوافق على تسوية لا تتضمن تبادل أراضٍ وسكان) ، هآرتس، 5-1-2014، http://www.haaretz.co.il/news/politics/1.2207961
(10) موقع "ذي بوست"، 14-2-2014، http://www.thepost.co.il/news/new.aspx?pn6Vq=EE&0r9VQ=EMHII 
(11) تتضمن خطة كيري بندًا صريحًا ينص على عدم عودة اللاجئين إلى إسرائيل. انظر: "توخنيت كيري"، مرجع سابق.
(12) للإحاطة بالتداعيات الخطيرة للاعتراف الفلسطيني بيهودية إسرائيل، انظر: صالح النعامي، "دلالات الاعتراف بيهودية إسرائيل"، مجلة البيان، 13-1-2014، http://www.albayan.co.uk/article2.aspx?ID=3411 
(13) وكالة "قدس الإخبارية"، 19-2-2014، http://www.qudsn.ps/article/38170 
(14) صحيفة "عربي 21"، 20-2-2014، http://arabi21.com/a-1/a-327/729199-a 
(15) تضمنت مداخلات أعضاء الكنيست المؤيدين لسنِّ القانون أثناء طرحه إساءات كبيرة للإسلام ولنبيه صلى الله عليه وسلم، حيث وصفت النائب ميري ريغف المسلمين بأنهم "حيوانات محمد". انظر: أريك بندر، "ديون عل ميموش هربينوت بهر هبيت" (نقاش حول تطبيق السيادة على المسجد الأقصى)، موقع صحيفة معاريف، 25-2-2014، http://www.nrg.co.il/online/1/ART2/558/388.html?hp=1&cat=404&loc=1 
(16) موقع "واي نت"، 20-2-2014، http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4490751,00.html 
(17) موقع "واي نت"، 26-1-2014، http://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-4481196,00.html 
(18) صحيفة "يسرائيل هيوم"، 1-2-2014، http://www.israelhayom.co.il/article/151505 
(19) يتوسع ران إيدليست في شرح ماكينزمات التحرك التي تتبعها جماعة الضغط اليهودية "أيباك" في محاولاتها "إملاء" مواقف نتنياهو من التسوية على إدارة أوباما. انظر: ران إيدليست، "هئم يسبيك أيباك بيتح ميلوت لنتنياهو" (هل سيوفر أيباك نافذة لتمكين نتنياهو من الهروب؟)، النسخة العبرية لموقع الجيروسلم بوست، 16-2-2014، http://www.thepost.co.il/news/new.aspx?pn6Vq=EE&0r9VQ=EMHKF 
(20) ومن المفارقة أن الذي أقنع اللجنة بإصدار هذا القرار هو الوزير الإسرائيلي يوفال شطينتس، الذي رثى زعيم حركة شاس السابق عفوديا يوسيف عند وفاته، قائلاً إنه "معلم العصر"، على الرغم من يوسيف وصف العرب مرارًا وتكرارًا بأنهم "صراصير وحيوانات". انظر: صحيفة "عربي 21"، 23-2-2014، http://arabi21.com/a-1/a-288/729901-a
(21) معاريف، 1-3-2014، http://www.nrg.co.il/online/1/ART2/559/400.html?hp=1&cat=404 
(22) حنا عميرة، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في مقابلة تليفونية مع الباحث بتاريخ 28-2-2014.
(23) بن كاسبيت، "مي تسريخ زيباك" (من يحتاج زيباك)، المونتور، 3-3-2014، http://www.al-monitor.com/pulse/iw/contents/articles/originals/2014/02/zpac-aipac-j-street-netanyahu-washington-mahmoud-abbas.html 
(24) يقر الجنرال إيتان دينجوت، مسؤول شؤون الضفة الغربية في وزارة الدفاع الإسرائيلية أن التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة لم يكن في يوم من الأيام أوسع وأعمق مما هو عليه الآن. انظر: صحيفة "يسرائيل هيوم"، 2-1-2014، http://www.israelhayom.co.il/article/154065

نبذة عن الكاتب