رئيس جنوب السودان سيلفا كير (يمين) أثناء زيارته الرئيس السوداني عمر البشير (يسار) (الفرنسية) |
ملخص توجد الخرطوم في معضلة حقيقية، فمن جهة حصلت من سيلفا كير على اتفاقات تجعلها تستفيد من مرور النفط عبر أراضيها وحرمان المتمردين من الدعم، لكن اندلاع الصراع بين الجنوبيين بدَّل التوازنات، حيث استعان سيلفا كير لمواجهة خصمه مشار بأعداء الخرطوم، ولم يعد مسيطرا على النفط، فوقعت الخرطوم في مأزق، فضلت التعامل معه من خلال الانخراط في تحرك دولي يدعم كير، لكن قد يتغير موقفها إذا تمكن مشار من فرض إرادته في الصراع. |
مقدمة
زار رئيس جنوب السودان سيلفا كير الرئيس السوداني عمر البشير، بداية شهر أبريل/ نيسان 2014، في الخرطوم، في إطار مساعيه من أجل تشكيل توافق إقليمي لإنهاء صراعه مع نائبه السابق رياك مشار. وتعد السودان البلد الأكثر تأثرا بهذا الصراع، لأن له آثار سلبية وخيمة اقتصاديًا وأمنيًا وسياسيًا؛ حيث سقط رهان حكومة الرئيس عمر البشير على خيار تقسيم البلاد كمخرج من أزماتها بدلاً من تسوية شاملة للأزمة الوطنية، بل إن الانفصال جعلها تتحمل كلفة عالية نتيجة تبعات إعادة إنتاج الحرب الأهلية في البلدين، مع قدرة محدودة للتأثير في التطورات بما يحقق مصالحها الوطنية.
فقد كان إعلان استقلال دولة جنوب السودان في التاسع من يوليو/تموز 2011 بمثابة قصة نجاح كبيرة احتفلت بها الأطراف المختلفة، لكن لم تكد تمر ثلاثون شهرًا على ذلك الحدث حتى أفاق الجميع مع خواتيم العام 2013 على قتال عنيف أشعله الصراع على السلطة في الدولة الوليدة أخلط أوراق الجميع، وعادت القوى المحلية والإقليمية والدولية لتعيد تقييم الحسابات التي بنت عليها تشجيع تقسيم السودان بحسبانه الحل الناجع للحرب الأهلية دون تحسب للتبعات والمآلات المستقبلية.
غير أنه من بين جميع الأطراف الخارجية المعنية بهذه التطورات يبرز السودان الطرف الأكثر تضررًا من هذا الصراع، ولم يكن في حاجة لنشوب هذه الحرب الأهلية ليختبر على أرض الواقع مدى تأثيرها السلبي على مصالحه الاقتصادية والأمنية، فقد بدأت الحكومة السودانية تدفع منذ وقت مبكر، حتى قبل انفصال الجنوب رسميًا، ثمن رهانها على اختيارها انفصال الجنوب بكل تداعياته المحتملة.
خلفيات الصراع في الجنوب
لم تكن هذه الجولة من الاقتتال سوى حلقة أخرى في سلسلة طويلة من النزاعات الداخلية المسلحة في الجنوب، فيرى الدكتور لام أكول أن قبائل جنوب السودان المختلفة لم تعرف ترابطًا قوميًا إلا حديثًا، وأن الاعتقاد السائد وسط الجنوبيين بأنهم كتلة واحدة تربطهم ثقافةٌ واحدة وتوجهٌ سياسي واحد انهار تمامًا منذ بروز الصراعات التي غذّتها الاعتبارات القبلية التي رافقت الحكم الذاتي بعد اتفاقية السلام في أديس أبابا 1972، وأن مفهوم "العدو المشترك" للشمال كعامل وحيد لتوحيد الجنوبيين لم يعد قائمًا منذ ذلك الوقت، ولكن جرى إغفال الصراعات الجنوبية الداخلية في خضم النزاع مع الشمال، وجاء الصراع على السلطة في ظل الاستقلال ليشكّل صدمة للمجتمع الدولي لاسيما الولايات المتحدة التي تعتبر انفصال جنوب السودان مشروعها.
تأثير الصراع على السودان
من الصعب تحليل الصراع الراهن ودوافعه خارج سياق تداعيات الانفصال وتبعاته بما في ذلك مخاض تحول الحركة الشعبية من الثورة إلى الدولة، غير أنه اندلع في توقيت شديد الحساسية بالنسبة للحكومة السودانية، التي بدأت للتوّ التعافي، في رأي الدكتور منصور خالد، من "الصدمة النفسية" للانفصال التي دعت الخرطوم إلى اتخاذ "قرارات نزوية غير محسوبة العواقب"، سمّمت الأجواء وأدت إلى ردود فعل "لا تقل نزوية من الطرف الآخر"؛ وهو ما قاد إلى علاقات عدائية بين الطرفين على الرغم من أن استقلال الجنوب تم برضا واعتراف الخرطوم، وهو ما يشير إلى افتقادها إلى رؤية استراتيجية تتجاوز بها التعامل بانفعالية أضرّت بمصالحها، لأنها عرقلت تسوية الملفات العالقة، وقادت إلى إشعال حرب بينهما في منطقة هجليج النفطية في إبريل/نيسان 2012.
وقف عجلة التطبيع
في الوقت الذي بدأت فيه الخرطوم وجوبا تطويان خلافات الماضي وتستعدان لتطبيع علاقاتهما بعد إدراك قيادتي البلدين أن محاولات الإيذاء المتبادل ستقضي عليهما معًا، انفجر الصراع المسلح على السلطة في جوبا ليعيد خلط الأوراق من جديد.
وكان الرئيسان عمر البشير وسلفا كير وقّعا معاهدة تعاون شاملة بين البلدين في 27 سبتمبر/أيلول 2012 حوت ثماني اتفاقيات قدمت حلولاً متكاملة للخلافات بين الطرفين، وإن بقي النزاع حول منطقة أبيي عالقًا.
الاقتصاد في الواجهة
يمثل الاقتصاد أحد المؤشرات الأكثر دقة في قياس مدى تأثر المصالح السودانية بالوضع في الجنوب؛ فعلى الرغم من أنه لم يكن مصدرًا لتحقيق موارد للاقتصاد السوداني، إلا أنه بنهاية القرن الماضي حدث تحول استراتيجي في معادلاته حين تزايدت أهمية الجنوب بفضل الاكتشافات النفطية في أراضيه؛ مما مهّد لدخول السودان إلى نادي مصدّري النفط في العام 1999. وعلى مدار الأعوام الاثني عشر التالية أصبحت العائدات النفطية المورد المالي الرئيس للحكومة المركزية.
كان هذا التحول الاستراتيجي في تركيبة الاقتصاد السوداني الدافع الأساسي للولايات المتحدة للتدخل سريعًا، وفرض مسار لتحقيق تسوية سلمية لحرب الجنوب قبل أن يؤدي عامل النفط إلى تغيير استراتيجي في موازين القوى لصالح الخرطوم، فبعد أقل من عامين من بدء تصدير النفط غيّرت إدارة الرئيس جورج بوش الابن سياسة العزل والاحتواء التي انتهجتها إدارة بيل كلينتون إزاء الخرطوم، إلى الانخراط بفعالية لإنهاء حرب الجنوب.
اكتشفت الحكومة السودانية متأخرة أنها لم تعِ بدرجة كافية أهمية دخول النفط كعامل استراتيجي، مكتفية بالاستفادة من عائداته في سد عجز الموازنة، والتوسع في الإنفاق العسكري والأمني لمواجهة الحرب في دارفور، وغفلت تمامًا عن استخدام فورة العائدات النفطية في النهوض بمواردها المتجددة في الزراعة والثروة الحيوانية.
كان عدم تحسب الحكومة السودانية لتبعات الانفصال الاقتصادية هو أحد أخطائها الاستراتيجية، ولم تنتبه الحكومة السودانية لمخاطر الانفصال الاقتصادية إلا بعد وقوعه حيث عمدت إلى تبني برنامج إسعافي جاء متأخرًا ست سنوات.
وارتكبت الخرطوم خطأ استراتيجيًا آخر حين حاولت استخدام النفط كورقة ضغط على جوبا، بمساومة السماح بمرور نفط الجنوب إلى ميناء التصدير السوداني الوحيد المتاح أمامها في مقابل تعهد حكومة الجنوب بوقف دعمها لمتمردي الحركة الشعبية/شمال في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق المتاخمتين للجنوب؛ وهو ما حدا بالرئيس سلفا كير إلى اتخاذ قرار بوقف إنتاج النفط في حقول الجنوب في يناير/كانون الثاني 2012، وأدى إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية في البلدين، ولكن كان تأثيره الأكبر على الحكومة السودانية لأن حجم اقتصادها هو الأكبر. واستؤنف إنتاج وتصدير النفط بعد خمسة عشر شهرًا من التوقف بعدما أدى لخسائر جسيمة للطرفين.
سباق السيطرة على النفط
ما كاد القتال يندلع في جوبا حتى بدأت عملية سباق بين قوات كير ومشار للسيطرة على حقول النفط؛ المورد الذي يشكّل نحو 98% من إيرادت موازنة حكومة الجنوب؛ حيث سارعت قوات مشار لتسيطر على مدينة بانتيو عاصمة ولاية الوحدة الغنية بالنفط، وأدى القتال إلى توقف الإنتاج فيها بعد سحب الصين لشركتها العاملة في هذه الحقول، وانتقل القتال إلى ولاية أعالي النيل التي تضم حقول النفط الرئيسية في منطقة عدار ييل، وتسببت هذه الاضطرابات الأمنية في تراجع الإنتاج إلى متوسط 150 ألف برميل من جملة 245 ألف برميل كان يتم إنتاجها في حقول الجنوب النفطية.
ترتب على مسارعة الطرفين المتصارعين للسيطرة على حقول النفط لتحقيق ميزة استراتيجية، إلى تهديد مستمر لإنتاجه، قاد فعليًا إلى عرقلة تنفيذ اتفاق الترتيبات المالية الانتقالية الموقعة ضمن اتفاقية التعاون بين البلدين، التي من المقدّر أن توفر عائدات للحكومة السودانية سنويًا تبلغ 2.4 مليار دولار سنويًا. ومن شأن أي اختلال في حصول الخرطوم على هذه العائدات أن يوجه ضربة موجعة للاقتصاد السوداني الذي يعاني أصلاً من صدمة الانفصال، ومن العقوبات الأميركية، في وقت يواجه حصارًا اقتصاديًا مستجدًا من السعودية والإمارات اللتين تردت علاقاتهما مع السودان أخيرًا.
كما أن أضرار مصالح السودان الاقتصادية جرّاء الصراع في الجنوب لا تقتصر على النفط؛ فالقتال أدى أيضًا إلى فقدان مورد آخر ذي أهمية وهو التجارة الحدودية بين البلدين؛ حيث يستفيد السودان من تصدير أكثر من مائة وخمسين سلعة للجنوب، وتقدر وزارة التجارة والغرفة التجارية السودانية حجم العائدات المتوقعة من التجارة الحدودية مع الجنوب بأكثر من مليارين ونصف مليار دولار.
ومن خلال مؤشرات الاقتصاد الكلي يتضح حجم الأضرار الاقتصادية التي تراكمت على السودان منذ انفصال الجنوب، فقد تراجع النمو القياسي الذي ظل يسجله الاقتصادي السوداني من متوسط 8% سنويًا على مدار السنوات العشر الأولى من هذا القرن، إلى متوسط يقل عن 2%، وارتفع التضخم من أرقام أحادية ليسجل بنهاية العام الماضي متوسط 46% كواحد من أعلى معدلات التضخم على مستوى العالم، وانهارت العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية لتفقد ضعف قيمتها الرسمية، وضعفي قيمتها في السوق الموازي، فاضطرت الحكومة لتدارك هذا التدهور الكبير إلى اتخاذ إجراءت قاسية أدت إلى اضطرابات عنيفة العام الماضي.
تزايد المهددات الأمنية
شكّلت التبعات الأمنية لانفصال الجنوب الجانب الأكثر خطورة؛ فقد راهنت الحكومة السودانية على استدامة السلام مقابل تقسيم البلاد، ولكنها خسرت وحدة البلاد ولم تكسب السلام، فقد تمت إعادة إنتاج الحرب في الجنوب الجديد؛ فقبل شهر واحد من نهاية الفترة الانتقالية دخلت الحركة الشعبية/قطاع الشمال في تمرد مسلح في ولاية جنوب كردفان، ولم يكد يمر شهران على إعلان الدولة الجديدة حتى انضمت الحركة الشعبية/شمال في منطقة النيل الأزرق الحدودية أيضًا للتمرد المسلح في جنوب كردفان.
ثم جاء الإعلان عن تشكيل تحالف الجبهة الثورية السودانية التي ضمت متمردي الحركة الشعبية/شمال إلى جانب الحركات المسلحة الرئيسية الثلاث المتمردة في دارفور الرافضة لاتفاقية الدوحة للسلام، ليتشكّل بذلك هلال تمرد امتد من غربي البلاد بدارفور مرورًا بجنوب السودان الجديد وحتى حدود البلاد الشرقية مع إثيوبيا.
كان تشكيل هذه الجبهة التي أعلنت أن هدفها هو إسقاط النظام في الخرطوم عسكريًا، سببًا رئيسيًا في إشعال فتيل التوتر الحاد بين البلدين إثر اتهام الحكومة السودانية لنظيرتها الجنوبية بتوفير قاعدة خلفية لإمداد متمردي الجبهة الثورية بالعتاد والسلاح والدعم اللوجستي.
وكما حدث بشأن التطورات التي لحقت بملف النفط، ففي الوقت الذي بدأت تدور فيه عجلة التطبيع استنادًا على اتفاقية أديس أبابا للتعاون، التي شدّدت على ضمان وقف تلقي متمردي الجبهة الثورية لأية مساعدات عسكرية أو لوجستية من الجنوب عن طريق آلية رقابة إفريقية، وبينما كانت الخرطوم تنتظر حصد ثمار اتفاق الترتيبات الأمنية لمحاصرة المتمردين تزامنًا مع إطلاق عمليات عسكرية واسعة للقضاء على قواعدهم المنتشرة في جنوب كردفان؛ اندلع النزاع المسلح في الجنوب ليخلط أوراق الخرطوم؛ حيث تغيرت أجندة حكومة جوبا مع هذا التطورات.
ومن أخطر ما نجم عن الصراع في الجنوب ليس إفشاله لحملة الحكومة السودانية العسكرية في بسط سيطرتها على جنوب كردفان فحسب، بل منح فرصة للحركات المسلحة؛ فالتقدم الذي أحرزته القوات الحكومية في قتالها ضد المتمردين لم ينجز مهمته بالكامل؛ حيث سارعت القوات المتمردة لاسيما تلك التابعة لحركة العدل والمساواة إلى استغلال أجواء الصراع الجنوبي فانحازت إلى جانب الرئيس سلفا كير ضد مشار في القتال الذي دار في منطقة بانتيو الغنية بالنفط، فمكّنها لعب هذا الدور من الحصول على مساعدات عسكرية ولوجستية مهمة من حكومة جوبا لإعادة إمداد قواتها في جنوب كردفان، وبذلك تكون الحرب في الجنوب تسببت في خسارة الخرطوم لأحد أكبر المكاسب التي كانت على وشك الحصول عليها من تطبيع علاقاتها مع جوبا.
تصاعد الدور الأوغندي
كانت أوغندا دائمًا على لائحة المهدد للأمن القومي السوداني طوال سنوات الحرب الأهلية؛ حيث ظلت تشكّل القاعدة السياسية والعسكرية لمعظم حركات التمرد الجنوبي. وظل التنافس قائمًا بين الخرطوم وكمبالا بعد استقلال جنوب السودان.
ما أن اندلع الصراع المسلح على السلطة في جوبا حتى تبين مدى النفوذ الفعلي الذي تتمتع به أوغندا في جنوب السودان، وانكشف عمق التحالف الاستراتيجي بينهما، فقد تدفقت القوات الأوغندية إلى جوبا بطلب من الرئيس كير ولعبت دورًا حاسمًا في أيام القتال الأولى، منع المتمردين من الاستيلاء على العاصمة، فحدث تحول استراتيجي في مجريات النزاع المسلح، ولم تكتف بذلك فقط فقد امتد دورها القتالي إلى ولايتي جونقلي والوحدة؛ حيث مكّنت القوات الحكومية من استعادة السيطرة على عاصمتي الولايتين وطرد قوات مشار، وهكذا وجدت الخرطوم أن خصومها الأوغنديين باتوا مجددًا على حدودها.
تميز التدخل الأوغندي بعدد من السمات، فهو يحظى بمظلة أميركية على الرغم من اعتراضات إقليمية، ثم إن كمبالا تحتضن قيادة الجبهة الثورية المتمردة، التي أصبحت الآن بفضل هذا التدخل على مقربة من حدود السودان مع الجنوب، وتدخل قوات الجبهة الثورية للقتال إلى جانب قوات الرئيس كير لا يفسره فقط حاجتها للحصول على السلاح والعتاد، ولكن حتّمه أيضًا تحالفها مع كمبالا. وهو ما يعني أن الخرطوم باتت تواجه محورًا جديدًا يضم أوغندا، ومتمردي الجبهة الثورية، وحكومة الرئيس كير على الرغم من إبقائها على دعمها للأخير.
استراتيجية التعامل مع الصراع
رغم التأثيرات السلبية سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا على السودان من النزاع الجنوبي، إلا أن الخرطوم آثرت أن تتعامل مع هذه التطورات في إطار التحركات الإقليمية والدولية، وتجنّبت اتخاذ موقف منفرد للدفاع عن مصالحها بخلاف ما فعلت أوغندا؛ فتبنت الخرطوم الموقف الرسمي لـ"إيغاد" المعترف بشرعية الرئيس سلفا كير.
اكتفت الخرطوم بعضوية لجنة الوساطة الثلاثية المكلفة من "إيغاد"، وظهر دور السودان ثانويًا في هذه الوساطة مقارنة بالدور الأبرز الذي يلعبه مبعوثان بارزان لإثيوبيا وكينيا، ولم تثبت اللجنة فعالية بالنظر إلى أن اتفاقية وقف إطلاق النار التي توصلت إليها لم يحترمها الطرفان حيث استمر القتال سجالاً، كما أن المفاوضات السياسية لم تحقق اختراقًا يُذكر.
وعلى الرغم من أن الموقف السوداني تجاه التطورات في الجنوب غير مؤثر ولا يتناسب مع الدور المفترض القيام به للدفاع عن مصالحه المتضررة بالحرب، إلا أنه من الجانب الآخر أكسبه نوعًا من التقدير النادر من قبل الولايات المتحدة، حيث نوّه المبعوث الرئاسي الأميركي للسودان وجنوب السودان، دونالد بوث، أمام اللجنة الفرعية لإفريقيا بلجنة العلاقات الخارجية في جلسة استماع بالكونغرس، بموقف الخرطوم المتحفظ من الانخراط في النزاع، واعتبره مؤهلاً للعب دور أكبر تأثيرًا في التوسط بين الفرقاء بحكم علاقاتها التاريخية مع الطرفين؛ وذهب المبعوث البريطاني في الاتجاه نفسه، وهو تطور مهم في موقف البلدين على خلفية العلاقة المتردية مع واشنطن، إلا أنه ليس واضحًا إلى أي مدى يمكن ترجمة ذلك.
غياب الاستراتيجية مع خطورة المهددات
تشير القدرة المحدودة التي أظهرها السودان، حتى الآن، في التعامل مع الآثار البالغة الخطورة على مصالحه جرّاء الحرب الأهلية في جنوب السودان، إلى افتقاده بالأساس إلى استراتيجية متماسكة لإدارة تحديات أمنه القومي.
خيارات السودان
تعتمد خيارات السودان للتعامل مع التطورات في جنوب السودان على بدائل محدودة، بسبب قلة أدواتها للتأثير على عوامل متداخلة محلية وإقليمية ودولية.
خيار دعم جهود الاستقرار
سيناريو الوساطة الدولية: تشارك الخرطوم في الجهود التي تبذلها الأطراف الإقليمية والدولية لإيقاف الحرب الأهلية، وتحقيق تسوية سلمية تضمن الاستقرار في الجنوب تحت سيطرة حكومة قوية في جوبا قادرة على فرض سلطتها، والمضي قدمًا في تطبيع العلاقات مع السودان بتنفيذ اتفاقيات التعاون الموقعة بين البلدين. وهو ما يستدعي أن تواصل الحكومة السودانية سياستها حالية بأن تتحرك في إطار الجهود الإقليمية المدعومة دوليًا.
وهذا يعتمد بالطبع على فعالية ونجاعة الوساطة الحالية في تحقيق مصالحة بين أطراف الصراع. والمعضلة في هذا الخيار أن إرهاصات الجهود الحالية لا تنبئ بنجاح وشيك للوسطاء بعد اتخاذ النزاع أبعادًا قبلية يصعب إدارتها والسيطرة عليها، وهو ما يعني أن الأضرار الواقعة على السودان جرّاء ذلك ستتفاقم لفترة غير معلومة.
سيناريو التدخل
إلى أي مدى تستطيع الخرطوم تحمل حالة عدم الاستقرار في الجنوب في وقت تُستنزف فيه اقتصاديًا وأمنيًا؟ قد تجد الخرطوم نفسها مضطرة للتدخل لحماية مصالحها مع كل التبعات المحتملة لذلك القرار، لكن مخاطر هذا السيناريو تتعلق بفرص نجاح هذا التدخل والاستفادة منه.
هناك عوامل ترجّح نجاح سيناريو التدخل؛ فمصالح السودان الحيوية مع جنوب السودان تتركز قرب الحدود بين البلدين؛ فحقول النفط الرئيسية التي لا تزال تشكّل عائداته عماد موارد السودان الاقتصادية تتركز في ولايتي الوحدة وأعالي النيل المجاورتين، كما أن المخاطر الأمنية تأتيه عبر الحدود.
العامل الآخر المساعد لتدخل سوداني محدود يأتي من طبيعة الصراع الراهن في الجنوب الذي بدأ تنازعًا سياسيًا حول السلطة وانتهى ليأخذ أبعادًا قبلية بامتياز بين الدينكا التي ينتمي إليها الرئيس كير والنوير التي ينتمي إليها مشار، فبينما يوجد الدينكا في ولاية مختلفة من الجنوب، يتركز وجود النوير بكثافة في الولايات الحدودية القريبة من السودان.
تتبنى الخرطوم الآن موقفًا رسميًا مؤيدًا للرئيس كير، إلا أن استمرار الصراع قد يدفعها لتغيير موقفها والانحياز إلى مشار، وهي على أية حال لن تكون المرة الأولى التي يتحالفان فيها؛ فقد أبرمت الخرطوم معه اتفاقية للسلام عام 1997 بعد انشقاقه عن الحركة الشعبية قبل أن يعود إليها لاحقًا. كما أن الحكومة السودانية اعتمدت بصورة شبه كاملة على قوات النوير في حماية مناطق حقول النفط إبان الحرب الأهلية.
لكن ستضطر الخرطوم، إن لجأت إلى استعادة الصيغة التحالفية السابقة مع النوير، إلى الاستعداد لمواجهة ضغوط دولية وإقليمية قد تعارض هذا الأمر، كما ستضطر إلى وضع الموقف الصيني في حسابها؛ فبكين هي المستثمر الأكبر في صناعة النفط السودانية التي أنفقت فيها نحو 16 مليار دولار, وتشكّل وارداتها من النفط السوداني نحو 7% من مجمل وارداتها النفطية، وقد تضرّرت مصالحها بدرجة كبيرة جرّاء الصراع السوداني-الجنوبي، والجنوبي-الجنوبي، الذي تسبب في تعطيل مصالحها النفطية وتسبب لها في خسائر فادحة، لتوقف الإنتاج لفترة طويلة؛ فهل تستطيع مواصلة سياسة الصمت تجاه ما يجري في جنوب السودان أم تتحرك لضمان تدفق النفط. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن الصين لم تكن بعيدة عن التحالف بين الخرطوم والنوير الذي ضمن استقرار مناطق إنتاج النفط في سنوات الحرب الأهلية.
توجد الخرطوم في معضلة حقيقية، فمن جهة حصلت من سيلفا كير على اتفاقات تجعلها تستفيد من مرور النفط عبر أراضيها وحرمان المتمردين من الدعم، لكن اندلاع الصراع بين الجنوبيين بدَّل التوازنات، حيث استعان سيلفا كير لمواجهة خصمه مشار بأعداء الخرطوم، ولم يعد مسيطرا على النفط، فوقعت الخرطوم في مأزق، فضلت التعامل معه من خلال الانخراط في تحرك دولي يدعم كير، لكن قد يتغير موقفها إذا تمكن مشار من فرض إرادته في الصراع.
_____________________________
خالد التيجاني - باحث سوداني