العنف السلفي في تونس: الواقع والخيارات

إن معالجة العنف داخل التيار السلفي بتونس تستوجب إجراءات مركبة بين القانوني الزجري والحواري التواصلي وملء الفراغات وترشيد الصحوة ونشر الثقافة الدينية الإيجابية، وبهذه الوسائل يمكن تشجيع إدماج الشباب السلفي ضمن النسيج الجمعياتي وتصريف طاقاته المتدفقة لخدمة المجتمع.
201447113615282580_20.jpg
ظهر منذ الثورة التونسية اهتمام متصاعد داخل التيار السلفي بالمسألة السياسية مما دفعه لمزيد من المساهمة في مناقشة القضايا السياسية والحرص على إبداء الرأي فيها (الفرنسية)

ملخص
برز بعد الثورة التونسية صراع أيديولوجي داخل التيار السلفي الجهادي بين اتجاه المحافظة على نفس المنهج الصدامي العنفي باعتبار عدم استجابة كل الفاعلين السياسيين لمطلب الدولة الإسلامية كما يتصورها هذا التيار وتورطهم في الولاء للغرب والعمالة له، بحسب رأيهم، واتجاه سلوك منهج الدعوة بدل الجهاد رغم تقارب الخلاصات في توصيف الواقع.

لا يحس كثير من التونسيين بالثقة في المعطيات التي تبني عليها الحكومة موقفها من السلفية الجهادية رغم الإجماع الحاصل داخل المجتمع التونسي في إدانته للعنف السياسي؛ فالسلفية تيار واسع في تونس يضم متدينين متشددين ومنحرفين معروفين بإجرامهم وسوابقهم، كما أنه معروف عنه تعرضه للاختراق الأمني والاستخباراتي على الأقل خلال حكم بن علي ومواجهته له، فضلاً عما أصبح يُتداوَل عن تدخل خارجي في الشأن السياسي التونسي الداخلي عبر الذراع السلفي العنفي؛ فقد كان غريبًا التزامن بين الأزمات السياسية المتتالية التي عاشتها البلاد في سنة 2013  وتصاعد عمليات الاغتيالات والتفجيرات؛ الأمر الذي جعل من العنف السلفي الأداة الرئيسية لبعض الأجندات لقوى سياسية معروفة على الساحة في مواجهتها الإعلامية خاصة لخصومها.

تعود جذور الدعوة السلفية في تونس إلى رسائل كان قد حملها حُجّاج تونسيون بداية القرن الثامن عشر من الجزيرة العربية إلى الباي التونسي آنذاك. لكن الوقائع التاريخية تشير إلى أنها لم تلق القبول والترحيب من المؤسسات السياسية والدينية التونسية؛(1) فقد كلّف الباي مشائخ الزيتونة بالرد عليها، كما أن عمق الحركة الصوفية في المجتمع التونسي حال دون أن تأخذ هذه الدعوة طريقها في الواقع.

واستمر هذا النهج في رفض الدعوة السلفية الواردة من الجزيرة العربية(2) خاصة مع تشكّل الحالة التونسية متمثلة في حركة الإصلاح التونسي وانفتاح الثقافة المحلية على الأطر المعرفية الحديثة التي عجّلت بالإصلاح الديني والمؤسسي متمثلاً في إدخال العلوم الحديثة للجامعة الزيتونية، وسنّ جملة من القوانين المنظمة للحياة العامة داخل المجتمع التونسي.

إلا أن الخيارات الثقافية الرسمية التي انتهجتها دولة ما بعد الاستقلال، المتصادمة مع الفكر الزيتوني، هيّئت الأرضية لموجة أولى من السلفية ظهرت في بداية السبعينات مع الجماعة الإسلامية باعتبارها حركة إحياء ديني، سرعان ما بدأت تتكيف مع الحالة التونسية ومع الشخصية الوطنية، منفصلة شيئًا فشيئًا عن جذورها السلفية حتى أضحت كما نراها اليوم حزبًا مدنيًا حديثًا. وبالتزامن مع هذا التحول الذي عاشه المشروع الإحيائي لحركة النهضة، ظهرت الموجة الثانية من السلفية في تونس نهاية التسعينات تحت تأثير ثلاثة عوامل، الأول: عامل داخلي تمثل في حالة التجهيل الديني ومقاومة كل مظاهر التدين؛ الأمر الذي دفع مجموعة من الشباب بوازع التدين الفطري إلى النهل من مناهل دينية غريبة عن منابع التدين المجتمعي في تونس. العامل الثاني دولي؛ حيث اشتدت المعركة بين التيار الجهادي ممثلاً في القاعدة والغرب بقيادة أميركية في أفغانستان والعراق خاصة. أما العامل الثالث فقد تمثل في الثورة التواصلية عبر الإعلام الفضائي ثم التواصل الافتراضي مما عمّق الصلة بين شباب يعيش في أرضية مهيئة بخوائها من أي مضمون تديني مجتمعي وتعبئة كبيرة ضد نزوعات الاستعمار الغربي للبلاد العربية والإسلامية، جعل التأثر الواسع بالخطاب الديني السلفي نتيجة منطقية لهذه المؤثرات.(3)

وعلى امتداد عقدين من عمر هذا التيار، مثّل الشباب (أقل من 35 سنة) الفئة العمرية الأوسع داخله (حوالي 78 بالمائة من منتسبي هذا التيار؛(4) حيث الحماسة الدافعة وراء القناعات والتصورات المثالية عن التجارب الإنسانية الراهنة والتاريخية والبحث عن أداء دور رسالي يتجاوز الشروط المعيشية للحياة. إذا أضفنا لكل ذلك ضعف هياكل المجتمع في تأطير الشباب والقطيعة بينه وبين مؤسسات الدولة المستبدة وانعدام فضاءات الحوار قبل الثورة خاصة، وانتشار الإحباط بين صفوفه والرغبة في التغيير فإن تبني هذا الشباب للفكر السلفي يعد علامة رفض للواقع دولة وثقافة ومجتمعًا. أما عن التوزيع الجغرافي للتيار السلفي الجهادي فيتوزع بنسبة 46% في الشمال و31% وسط البلاد و23% في الجنوب.(5) كما يحتل العمال نسبة 36%، بينما الطّلبة والتّلاميذ 34%، والتجار 15%، ويتوزّع البقية على مختلف المهن الأخرى.(6) لكن تبقى هذه المعطيات نسبية لأنها تعود إلى ما قبل 2011، كما تشمل فقط 1200 موقوف في قضايا كانت معروضة حينها أمام القضاء من أبناء هذا التيار.

لقد اصطدم الشباب السلفي في تونس مع الدولة المستبدة خلال العقد الأول من القرن العشرين بسبب عجز السلطة عن تفهم مبررات ظهور هذا التيار وسوء ترتيب بيتها الداخلي في التعامل معه وارتهان سياساتها للاستراتيجيات الدولية في مقاومة الإرهاب. كل ذلك أدى إلى تحول اهتمام هذا التيار من مقاومة العدوان الخارجي إلى مواجهة الطغيان الداخلي؛ ما دعا لتوفير مستلزمات هذه المواجهة من جهاز مفهومي إلى عدّة مادية.

ورغم السجون والمحن التي تعرض لها أبناء هذا التيار إلا أن ذلك لم يحدّ من قدرته على الاستقطاب والتجنيد وبروز قيادات محلية لم تتحول بعد إلى قيادات حركية على المستوى الوطني رغم هيمنة بعض المرجعيات الشرعية وحظوتها باحترام واسع داخل هذا التيار.

برز بعد الثورة صراع أيديولوجي داخل التيار السلفي الجهادي بين اتجاه المحافظة على نفس المنهج الصدامي العنفي باعتبار عدم استجابة كل الفاعلين السياسيين لمطلب الدولة الإسلامية كما يتصورها هذا التيار وتورطهم في الولاء للغرب والعمالة له، بحسب رأيهم، وبين اتجاه سلوك منهج الدعوة بدل الجهاد رغم تقارب الخلاصات في توصيف الواقع. ولئن استطاع المنهج الدعوي السلمي أن يبدو أكثر إقناعًا وانتشارًا إلا أن غياب المعطيات الدقيقة حول حجم كل طرف وآليات تفكيره وقدرته على تأطير أتباعه في خياره التغييري الذي يدعو إليه؛ كل ذلك يمثل صعوبة في حُسن قراءة الواقع. كما أن اشتداد العمليات الأمنية دفع هذا التيار للتقوقع من جديد وخفوت كل صوت يدعو للتعقل داخله؛ فمثل كل الجماعات الدينية، كلما زاد الإحساس بالخطر تضاعف النزوع للانطواء على الذات والتجذر والراديكالية.

كما نلاحظ تمايزًا جليًا بين المرجعيات الحركية لهذا التيار ومرجعياته الشرعية رغم إمكانية الالتقاء الفكري والميداني؛ فشيوخ التيار السلفي الجهادي لا يزالون يتحركون رغم التضييقات الأمنية والإعلامية، إلا أنهم لا يعلنون صراحة مساندتهم لأعمال العنف التي يقوم بها بعض أبناء التيار السلفي الجهادي.

ولئن بدا أن تنظيم أنصار الشريعة خاصة يدعي أنه وحّد مرجعياته التنظيمية والسياسية والشرعية إلا أن ذلك ما زال لم يتأكد عمليًا بالنظر إلى أن كل مرجعية تحتاج إلى أن تكتسب حضورها الواقعي من خلال بعض الشيوخ والرموز. أما فيما يخص المجموعات الأخرى فما زالت تنازع من أجل تحقيق هذا المطلب دون جدوى حتى الآن.(7)

ولقد ظهر منذ الثورة اهتمام متصاعد داخل هذا التيار بالمسألة السياسية مما دفعه لمزيد المساهمة في مناقشة القضايا السياسية والحرص على إبداء الرأي فيها. لكن ربما ما أعاق تحول بعض فصائل التيار السلفي الجهادي إلى أحزاب سياسية هو عدم وجود تأصيل شرعي معتمد عندها للعمل الحزبي وعدم اقتناعها بالآراء السلفية الأخرى في هذا المجال؛ لذلك اختار التيار السلفي الجهادي أن يشتغل ضمن الفضاء العام غير المهيكل لأنه يحقق له المرونة المطلوبة في تصريف اهتماماته من دون أن تترتب عليه أية التزامات قانونية أو أخلاقية أو سياسية.

لذلك فقد وُجد توجه داخل التيار السلفي الجهادي خاصة لبذل جهد كبير للتواصل مع بيئته الاجتماعية الحاضنة من خلال مشاريعه الخدماتية والدعوية والإعلامية، وسعى لتنظيم عمله كما قام بتوزيع إداري للمهام داخله (لجنة شرعية-سياسية-إعلامية-اجتماعية-دعوية...).

اللافت للانتباه هنا هو صعوبة التحول التي عاشها هذا التيار؛ فلقد عاش تمزقًا بين أرضية ثقافية عنفية يكتسب من خلالها التعبئة الداخلية لما يعبّر عنه من قناعات وبين أدوار اجتماعية يروم القيام بها تتطلب منه تكيفًا هيكليًا وواقعيًا يهيئ له الفضاء العام لإنجاز مهامه. انعكس هذا الاضطراب عندما شاهدنا الاصطدامات المتتالية مع الحكومة حول السفارة الأميركية في 14 سبتمبر/أيلول 2012، ثم تحولت إلى مواجهات مسلحة مفتوحة بعد اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي؛ حيث اتُّهِم هذا التنظيم بجريمتي الاغتيال. كما انعكس الاضطراب أيضًا في المواجهات المتقطعة في جبل الشعانبي وفي المناطق الحدودية مع الجزائر. 

زادت عمليات المواجهة بين التيار السلفي وبين الدولة من حدة القلق الذي يعيشه أبناء هذا التيار وفاقمت الشك والشعور بعدم الاطمئنان؛ وهذا ما يمكن أن يفسر الحرص على مراكمة وتكديس وسائل العنف وتخزينها في وضع انتقالي هش بطبيعته. ربما ما ضاعف المخاوف من هذا التيار بروز صلة قوية تربطه بالتيار الجهادي العالمي، وعلى الرغم من بعض التصريحات التي ترسم خطوط الفصل بين تنظيم أنصار الشريعة وتنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي إلا أن التواصل المؤكد مع أنصار الشريعة بليبيا وثبوت تورط جزائريين ومن جنسيات أخرى في العمليات الأمنية الأخيرة ألقى بكثير من الشكوك في هذه المسألة.

مشكل السلفية الجهادية في تونس أولاً في عدم وضوح خطابها ورؤيتها؛ فلقد سقطت كل التطمينات الخطابية على أعتاب المواجهات الأمنية المتكررة والغدر بمجموعة من قوات الجيش الوطني والأمن الداخلي وذبحها. كما أن عدم تهيكل هذا التيار ضمن الأطر القانونية المتعارف عليها في المجتمعات الحديثة ألقى بظلال من الشك حول النوايا الحقيقية لهذه المجموعات، بل وتعدى الأمر ذلك عندما أصبح إطار العيش المشترك بين التونسيين -أي الدولة- مهددًا من هذه القوى. وأخيرًا، تحولت حالة الغموض في مواقف أنصار الشريعة خاصة تجاه العمليات التي تستهدف السلم الأهلي، عامل إدانة لهذا التنظيم؛ فرغم عملية التشكيك التي يمكن أن تطول الجهات التي تقف وراء بعض العمليات وإمكانية تدخل أطراف غير سلفية في تذكية المواجهة مع الدولة والمجتمع، إلا أن الصمت المريب الذي يلف مواقف السلفيين عزز توجيه الاتهام لهم.

من جهة أخرى ربما لا يحس كثير من التونسيين بالثقة في المعطيات التي تبني عليها الحكومة موقفها من السلفية الجهادية رغم الإجماع الحاصل داخل المجتمع التونسي في إدانته للعنف السياسي؛ فالسلفية تيار واسع في تونس يضم متدينين متشددين ومنحرفين معروفين بإجرامهم وسوابقهم، كما أنه معروف عنه تعرضه للاختراق الأمني والاستخباراتي على الأقل خلال حكم بن علي ومواجهته له، فضلاً عما أصبح يُتداوَل عن تدخل خارجي في الشأن السياسي التونسي الداخلي عبر الذراع السلفي العنفي؛ فقد كان غريبًا التزامن بين الأزمات السياسية المتتالية التي عاشتها البلاد في سنة 2013 وتصاعد عمليات الاغتيالات والتفجيرات؛ الأمر الذي جعل من العنف السلفي الأداة الرئيسية لبعض الأجندات لقوى سياسية معروفة على الساحة في مواجهتها الإعلامية خاصة لخصومها.

في النهاية، من الضروري التنبيه وفي كل الأحوال إلى عدم الانزلاق وراء رؤية استصحابية لمواجهة السلفية الجهادية وفق نواميس دولة الاستبداد وأجهزتها وسياساتها الأمنية. باعتبار عدم انسجام هذه السياسات مع فلسفة الدولة التونسية لما بعد الثورة حيث علوية القانون واحترام حقوق الإنسان. ثم لا يجب أن ننسى أن النظام السياسي السابق فشل في تصفية التيار السلفي من خلال المعالجات الأمنية والتعسفية الصرفة.

إن معالجة العنف داخل التيار السلفي تستوجب إجراءات مركبة بين القانوني الزجري والحواري التواصلي وملء الفراغات وترشيد الصحوة ونشر الثقافة الدينية الإيجابية. وهذا يستدعي أيضًا التمييز بين ما يمكن أن تقوم به مؤسسات الدولة الأمنية والتعليمية والتنموية، وما يجب أن تقوم به هياكل المجتمع المدني من تواصل وحوار وترشيد وسدّ فراغات وتطوير قدراتها التأطيرية بين الشباب خاصة، وممكناتها في إسناد هذه الجهود ودعمها من تشجيع على إدماج الشباب السلفي ضمن النسيج الجمعياتي وتصريف طاقاته المتدفقة لخدمة المجتمع.
______________________________________
رياض الشعيبي - باحث وسياسي تونسي.

الهوامش
1- ابن أبي الضّياف، كتاب الإتحاف ج3؛ حيث قال: "ولمّا شاعت فتنة الوهابي وردت رسالته إلى الحاضرة"، وقد طلب حمّودة باشا 1759/1814 الذي وصلت الرسالة في عهده، من علماء الزيتونة الرد عليها؛ فكتب الشّيخ إسماعيل التّميمي مثلاً كتاب "المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابيّة" في 154 صفحة.
2- صلاح الدين الجورشي، السلفية التونسية بين قمع السلطة ومخاوف النخبة، كتاب المسبار التاسع والأربعون، يناير/كانون الثاني 2011.
3- حيث يورد الأستاذ أحميدة النّيفر في مقال "السلفية تقتحم المغارب"، جريدة العرب القطرية 20 مارس/آذار 2008، أن هذا الاختراق السلفي بموجتيه المتتاليتين يعيد إلى الأذهان ما يمكن اعتباره خاصية مغاربية تميّز حركة نخبه ومجتمعاته منذ عصور، إنه التحول بين قطبين: قطب الحرص على الاستقلال عن جذور مشرقية بالانفتاح على الفضاء الأوروبي، وقطب الإقبال على كل ما يصدر عن المشرق العربي الإسلامي وما يعتمل فيه من عناصر التأثير السياسي والحضاري والروحي.
4- بحسب تقرير أوردته الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين.
5- نفس المصدر.
6- نفس المصدر.
7- السلفية في تونس: الواقع وآفاق التطور، ?مهدي بن يوسف سفيان بن صغيّر خير الدين باشا، بدون تاريخ.

نبذة عن الكاتب