تحدي "اللبننة": عقبات هيكلية أمام اختيار رئيس للجمهورية

يتميز اختيار رئيس الجمهورية اللبنانية هذه المرة بأن سوريا لم تعد كما في السابق تتدخل في شؤونه بل بات اللبنانويون هم الذين يتدخلون في شؤونها، وقد يتيح هذا التطور للبنانيين فرصة اختيار رئيسهم باستقلالية أكبر إن تمكنوا من التغلب على عوائق نظامهم الطائفي.
201451252850283734_20.jpg
متاهة اختيار رئيس الجمهورية اللبنانية (أسوشييتد برس)
ملخص
يخوض لبنان غمار رئاسيات 2014 بينما يشهد عدد من دول المنطقة، ذات النفوذ الفاعل تاريخيًا فيه، أزمات وحروبًا داخلية وتحولات على مستوى أنظمتها السياسية تضع بعضها أمام تحديات المحافظة على السلم الأهلي والقدرة على إدارة التنوع داخل مجتمعاتها، وتضع بعضها الآخر بمواجهة خطر تفكك كياناتها الوطنية. ولا تقف مفاعيل هذه الأزمات الداخلية عند حدود الدول المعنية بلبنان بل تتجاوزها لتُحدث تغييرات في موازين القوى داخل النظام الإقليمي العربي وفي مواقع وأدوار الدول المؤثرة في صنع القرار فيه. وينعكس التحول في موازين القوى كذلك تحولاً في طبيعة الاهتمام الخارجي بالاستحقاق الرئاسي اللبناني، وفي هوية الفاعلين الإقليميين المعنيين بهذا الملف وبمصالحهم وأجنداتهم.

مقدمة

يأتي موعد الانتخابات الرئاسية اليوم في ظل تحولات داخلية وإقليمية، وإلى حد ما دولية، جوهرية تضع لبنان بشكل عام والاستحقاق الرئاسي بشكل خاص أمام إشكاليات وتحديات مختلفة بالمقارنة مع ظروف وشروط الانتخابات السابقة سواء من حيث استراتيجيات مختلف القوى المعنية ونقاط التقاطع والاختلاف بينها أو من حيث تحديات المرحلة (1). والمفارقة التاريخية تكمن بشكل خاص في أن سوريا التي "كادت تكون الوحيدة تقريبًا الحاضرة في كل الاستحقاقات الرئاسية مداورة أو مباشرة"(2)، إلى جانب فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة ومصر والسعودية وقطر وإيران، واعتُبر تدخلها الدائم في شؤون لبنان أحد أبرز العوائق أمام تمتع الدولة اللبنانية باستقلال وسيادة ناجزين، تعيش اليوم حربًا داخلية وتواجه أزمة بقاء تشغلها عن لبنان. بل أصبح تدخل اللبنانيين في مجريات الأزمة السورية من أبرز الملفات الإشكالية المرتبطة بالانتخابات الرئاسية، وبتحديد هوية الرئيس اللبناني وسمات المرحلة المقبلة. إنه الاستحقاق الرئاسي الثاني الذي يحصل بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005؛ ففي الاستحقاق الأول كان النظام السوري لا يزال يتمتع برصيد من القوة والتأثير جعلا منه شريكًا أساسيًا في تسوية "اتفاق الدوحة" التي صنعت الاستحقاق الرئاسي في العام 2008، هذا النظام ينتظر اليوم بدوره تسوية دولية-إقليمية تخرجه من أزمته المدمرة، ولم يعد بالتالي يمتلك الموقع والقدرة ذاتهما للتأثير المباشر على الشأن اللبناني.

عززت الظروف الراهنة داخليًا وإقليميًا من اعتقاد القوى اللبنانية (السياسية والدينية والمدنية) بأن لديها هامشًا أكبر من ذي قبل في "لبننة" الاستحقاق الرئاسي، وقد يكون شعار "رئيس قوي صُنع في لبنان" النقطة التي تتقاطع حولها مواقف مختلف القوى، والعنوان المشترك لبرامج أبرز المرشحين لمنصب الرئاسة (3). غير أن لكل فريق لبناني تفسيره الخاص لهذا الشعار؛ فالرئيس القوي بالنسبة لفريق "14 آذار" (الذي يضم تيار المستقبل والقوات اللبنانية والكتائب وعددًا من الأحزاب والشخصيات السياسية)، ومن ورائه واشنطن وباريس والرياض، هو الرئيس القادر على فرض سيادة الدولة في قرار الحرب والسلم، وفي حصرية حمل السلاح بالقوى الشرعية وفي النأي بالنفس عن الأزمة السورية، وعلى الالتزام بالقرارات الدولية (تحديدًا القرارين 1559(4) و1701(5)) والقبول بإعلان بعبدا(6). أما الرئيس القوي بالنسبة لفريق "8 آذار" (الذي يضم حركة أمل وحزب الله والتيار الوطني الحر والمردة وعددًا من الأحزاب والشخصيات السياسية)، ومن ورائه طهران وإلى حد ما موسكو، هو الرئيس القادر على تحقيق التوافق بين مختلف مكونات الشعب اللبناني، والتعامل مع المقاومة كقوة تحرير ودفاع على المستويين: الوطني والإقليمي، ومكافحة الإرهاب، والمحافظ على السيادة الوطنية والاستقلال وكرامة اللبنانيين (7). إلى جانب هذين التفسيرين وأمام تعارضهما وتصادمهما، هناك فريق "وسطي" (الذي يضم الحزب التقدمي الاشتراكي وعددًا من نواب طرابلس ومن المستقلين)، يطرح انتخاب رئيس توافقي "يدير الأزمة ويساهم في التقريب بين المكونات اللبنانية على اختلافها وكذلك بين القوى السياسية" (8)، ويسعى إلى تبني جميع الدول المعنية بالانتخابات الرئاسية، وتحديدًا فرنسا وروسيا، طرحه هذا (9).

فكرة "اللبننة"، كآلية داخلية يستخدمها اللبنانيون، بشكل سيادي وطوعي، لتقرير أمورهم الوطنية الأساسية، وشعار "الرئيس القوي"، يكشف لنا تحديات أساسية، داخلية وخارجية، تواجه تطبيق هذا الهدف، نظرًا إلى أن القوى المعنية بلبنان تمتلك فاعلية وصلاحيات، تتفاعل مع السياق التاريخي الذي أوصل إلى إصلاحات اتفاق الطائف وموازين القوى والممارسات التي نتجت عن تطبيقها في مرحلة ما بعد الحرب.

تحديات لبننة الاستحقاق الرئاسي

تظهر التجارب المرتبطة بعملية اتخاذ القرارات الوطنية التي مر بها لبنان، تحديدًا منذ العام 1975 وحتى اليوم، أن الاستحقاقات الأساسية كافة احتاج إقرارها وتنفيذها إلى تسوية ثلاثية المستويات: دولية وإقليمية وداخلية. فالاستحقاقات التي لم تتشكل حولها تسوية على أي مستوى من هذه المستويات كانت تفقد إحدى ركائزها وتتعثر؛ فلم يحدث أن فُرضت تسوية من القوى الخارجية ما لم تتوافق حولها أغلبية القوى اللبنانية الفاعلة داخليًا، وفي المقابل لم تستطع هذه الأخيرة حل خلافاتها الأساسية دون تدخل الخارج ورعايته. هذه هي القاعدة التي حكمت عملية انتخاب الرؤساء، ومصير مختلف الاتفاقيات، ما أُقِرّ منها وما لم يُقَرّ وما نُفّذ وما لم يُنفذ(10) يعدد نقولا ناصيف الاتفاقات التي حكمت انتخاب الرؤساء ومنها، على سبيل المثال، انتخاب إلياس سركيس باتفاق أميركي-سوري عام 1976، وانتخاب بشير الجميل ومن ثم أمين الجميل باتفاق أميركي-إسرائيلي عام 1982، وانتخاب رينيه معوض باتفاق أميركي-سعودي-سوري عام 1989، وانتخاب الوجود العسكري السوري لرئيسين للجمهورية، هما: إلياس الهراوي عام 1989، وإميل لحود عام 1998 والتمديد لهما(11).

وهذه القاعدة، التي تكرست بحكم الممارسة عبر العقود، تفسر اليوم استحالة انتخاب النواب رئيسًا في الجلسات التي دعا إليها رئيس المجلس النيابي مؤخرًا (12)؛ فلقد سمحت جلسة الانتخاب الأولى في 23 إبريل/نيسان 2014 لمختلف القوى الداخلية بتحديد مرشحها أو موقفها من المرشحين، وبالتالي بتحديد دورها وموقعها من الاستحقاق، مع الإشارة إلى أنها الجلسة الأولى منذ انتهاء الحرب التي تشهد تنافسًا بين أكثر من مرشح بهذا الشكل. فيتبيّن أن أيًا من الفريقين الكبيرين، أي: 14 و8 آذار، لا يمتلك القدرة وحده على إيصال مرشحه إلى سدة الرئاسة الأولى، بالرغم من امتلاكه القدرة منفردًا على تعطيل نصاب الثلثين المطلوب لانعقاد جلسات الانتخاب. كما تبين أيضًا أن أصوات الفريق الوسطي هي المطلوبة في انتخاب الرئيس في حال تأمين نصاب الثلثين لعقد الجلسة. بالمحصلة، تظهر جلسات الانتخاب، مع ما سبقها وما تلاها من ديناميكيات مرتبطة بالاستحقاق الرئاسي، عجز القوى السياسية، من جهة أولى، عن التوصل إلى توافق في ما بينها لانتخاب رئيس جديد. ومن جهة ثانية، تعكس هذه الجلسات قدرة تلك القوى على استخدام الآليات الدستورية لتعطيل الاستحقاق.

تتوقف إذًا قدرة القوى السياسية على "لبننة" الاستحقاق الرئاسي عند ممارسة الآليات الدستورية في حدود معينة لا تتخطى البعد الاجرائي الشكلي. وأمام العجز الداخلي تعود "التسوية الخارجية" لتحتل موقعها كآلية أساسية لانتخاب الرؤساء في لبنان. وفي هذا السياق، يُجمع المحللون المتابعون للشأن اللبناني على أن شروط التسوية المتعلقة بالانتخابات الرئاسية لم تنضج بعد بين القوى الخارجية المعنية اليوم بهذا الاستحقاق، أي: السعودية وإيران على المستوى الإقليمي، وفرنسا وأميركا وروسيا على المستوى الدولي. فتسوية الانتخابات الرئاسية اللبنانية تنتظر "اكتمال التسوية الأميركية-الإيرانية حول الملف النووي، والتي من شأنها أن ترتب بيوتًا عدة في الشرق الأوسط ومنها البيت اللبناني، خصوصًا أن تلك التسوية ستنسحب أيضًا اتفاقًا سعوديًا-إيرانيًا حول لبنان" (13).

إشكاليات انتخاب "رئيس قوي"

في حين ترتبط "لبننة" انتخاب الرئيس بدرجة أولى بإرادة القوى الخارجية الفاعلة على الساحة اللبنانية وبدرجة ثانية بهامش المبادرة المتاح للقوى الداخلية، فإن موضوع "قوة الرئيس" يطرح عدة إشكاليات داخلية، يقتضي التفاهم حولها وجود حاضنة خارجية لها، من أبرز هذه الإشكاليات:

إشكالية صلاحيات رئيس الجمهورية كما أقرها اتفاق الطائف: جرّد اتفاق الطائف الرئيس من الصلاحيات الأساسية الفعالة التي كان يتمتع بها في دستور الجمهورية الأولى، وأناطها بمجلس الوزراء (14). فوفقًا للدستور الجديد لم تعد السلطة الإجرائية مناطة برئيس الجمهورية، ولم يعد يحق له اقتراح القوانين ولا تعيين الوزراء وتسمية رئيس الوزراء من بينهم، ولا القدرة على حل مجلس النواب، وما سوى ذلك. لكن ممارسة السلطة، وفقًا لإصلاحات الطائف، على مدى ربع قرن أظهرت اختلالات في التوازن بين السلطتين: التشريعية والتنفيذية أدت إلى شلّ الحياة السياسية وتعطيل عمل المؤسسات، وظهر بوضوح عدم قدرة رئيس الجمهورية على لعب دور حامي الدستور والحكم بين السلطات، لفقدانه الآليات الدستورية اللازمة لممارسة هذا الدور. وبالتالي، يُحمّل الرئيس عبئًا أكبر من صلاحياته، لأنه بالواقع لا يحكم ولا سلطة فعلية لديه. وعليه، فإن المطالبة برئيس قوي تعني بالدرجة الأولى إدخال بعض التعديلات على اتفاق الطائف، لتصحيح الاختلالات التي ظهرت بالتجربة ومن خلال ممارسة السلطة. وهذا المطلب يلتقي حوله المرشحون كافة لمنصب رئيس الجمهورية دون استثناء، ويؤكده الفقهاء الدستوريون ورجال القانون، لكن هذا المطلب يعني أيضًا إنجاز نوع من اتفاق "طائف ثان" مع ما يقتضي ذلك من تفاهمات وتسويات داخلية بين مختلف القوى السياسية لا تقتصر على الموارنة فحسب، وتتناول إلى جانب صلاحيات الرئيس سلة إصلاحات متكاملة، كموضوع إلغاء الطائفية السياسية، وقانون الانتخابات واللامركزية الإدارية، فتعيد التوازن إلى النظام ككل في أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والطائفية. وهذه التفاهمات الداخلية بحاجة بدورها إلى رعاية وتسوية خارجية غير متوفرة في الظرف الراهن، لأنها ترتبط بدورها بنتائج التوازنات السياسية والطائفية التي ستقوم عليها بعض الأنظمة الفاعلة في المنطقة، وتحديدًا في سوريا وفي العراق.

إشكالية موقع الرئاسة ضمن التوازنات الطائفية داخل النظام التوافقي: إلى جانب أن مفهوم الرئيس القوي لم يعد له من معنى فعلي على مستوى الصلاحيات الدستورية، كرَّس النظام السوري، عبر هيمنته على لبنان في مرحلة ما بعد الحرب، مبدأ انتخاب ماروني "غير قوي" لرئاسة الجمهورية، وعمل في الوقت عينه على إقصاء القيادات المارونية الفاعلة، المعارضة والمعترضة على الوجود السوري، وعلى تشتيت قواعدها الحزبية والشعبية؛ فالرئيس "القوي" في النظام الطائفي التوافقي اللبناني هو الذي يتمتع بقاعدة شعبية قوية تمكّنه من الفوز بكتلة برلمانية وازنة وبعدد من الحقائب الوزارية، فيكون بالتالي شريكًا فعليًا بالحكم من خلال حجم التمثيل السياسي الذي يحظى به في مختلف المؤسسات التمثيلية، وذلك بمعزل عن صلاحياته الدستورية. ولذلك عمل النظام السوري على إيصال رؤساء للجمهورية استمدوا قوتهم بشكل أساسي من دعمه لهم وليس من أية شرعية تمثيلية فعلية؛ بحيث أصبح رئيس الجمهورية "غير القوي" أعجز من أن يؤمّن التوازن الطائفي الضروري له ضمن النظام التوافقي، لكن بالتوازي هناك رئيس مجلس نواب ورئيس مجلس وزراء كلاهما قويان ليس بصلاحياتهما الدستورية وحسب بل تحديدًا بشعبيتهما داخل طائفتيهما، وبتمثيلهما السياسي داخل المؤسسات.

تُجمع الأحزاب المسيحية الرئيسية اليوم على المطالبة بانتخاب رئيس قوي، ويقدم مرشحو هذه الأحزاب لرئاسيات 2014، المعلنون والمحتملون، كسمير جعجع وأمين الجميل وميشال عون وسليمان فرنجية، فهمًا مشتركًا لصفات هذا الرئيس وللقواعد التي يجب أن ينطلق منها، وذلك على الرغم من اختلافهم حول النهج السياسي الذي يجب أن يتبعه في حكمه (15). لكن تحقيق هذا المطلب دونه تحديات كثيرة لأن وجود رؤساء غير أقوياء لثلاثة عهود وعلى مرّ ربع قرن في سدة الرئاسة ترك أثرًا مباشرًا على التوازنات الطائفية الدقيقة في بلد يُحكّم أساسًا بالتوافق أكثر مما يحكم بالقواعد الدستورية والقانونية، وأنتج آثارًا متعددة أصبح من الصعب تخطيها بشكل تلقائي بعد انسحاب الجيش السوري. على سبيل المثال، أعطى ضعف موقع رئاسة الجمهورية لممثلي الرئاسات الأخرى هامشًا أوسع من هامش صلاحياتهم الدستورية في ممارسة سلطتهم وبسط نفوذهم على مؤسسات الدولة وفي المجتمع، وغدا من الصعب إعادة ترسيم هذا الهامش بعد أن أصبح مكونًا أساسيًا للحياة السياسية. وعليه، فإن انتخاب رئيس ماروني قوي يقتضي حصول اقتناع وتوافق سني-شيعي على ضرورة إعادة التوازن إلى الصيغة الميثاقية وتقوية ركائزها (16).

إشكالية الرئاسة والصراع على زعامة الطائفة المارونية: إن الصراع على زعامة الطائفة المارونية بين القادة الموارنة، من رجال سياسة ورجال دين، ليس بالجديد، بل هو سابق لإنشاء دولة لبنان الكبير وقيام الجمهورية ومستمر حتى اليوم. لكن مرحلة ما بعد الحرب أدخلت على هذا الصراع أبعادًا جديدة، لم يعرفها من قبل، أحدثت شرخًا ليس بين الزعماء الموارنة ورئيس الجمهورية وحسب كما كانت عليه الحال في بعض العهود السابقة (17)، بل بين القاعدة الشعبية للطائفة المارونية ورئاسة الجمهورية. وقد كان أحد الأسباب الأساسية في حصول هذا الشرخ، إضافةً إلى السبب المباشر في تسمية الرؤساء من قبل النظام السوري، مقاطعة الناخبين المسيحيين للانتخابات النيابية التي حصلت في العام 1992، بنسبة عالية جدًا، بناء على طلب الأحزاب المسيحية الرئيسية والكنيسة، وفي العام 1996 والعام 2000، وإن بنسب مقاطعة أقل، واعتبارهم أن رؤساء الجمهورية المنتخبين من قبل هذه المجالس لا يمثلونهم. ونسج رؤساء الجمهورية، الذين حكموا من دون أن يتمتعوا بتمثيل عريض داخل طائفتهم، نوعًا من العلاقة الحذرة والفاقدة للثقة بينهم وبين قواعد طائفتهم الشعبية ونخبها السياسية وأحزابها؛ مما جعلهم في أغلب الأحيان في عزلة عن تلك القواعد أو في سعي دائم إلى استقطاب تلك النخب بمنطق زبائني. وعلى صعيد آخر، وسَّع إقصاء المرشحين الأقوياء من إمكانية الوصول إلى سدة الرئاسة من مروحة الطامحين إلى هذا المنصب، من نواب وموظفين من الفئة الأولى وتكنوقراط ورجال أعمال ومتمولين ووجهاء محليين؛ بحيث أصبح من مصلحة هؤلاء، إضافة إلى حقهم في تبوؤ هذا المنصب، تكريس نموذج الرئيس "غير القوي وغير الممثل" لأنه يعزز من فرص وصولهم إلى الرئاسة الأولى. كما استفادت مواقع سلطوية مختلفة، سياسية ودينية ومدنية، داخل الطائفة المارونية من ضعف موقع رئاسة الجمهورية، خلال مرحلة ما بعد الحرب، في تقوية موقعها والمكانة التي تحتلها داخل الطائفة وعلى المستويين: الوطني والخارجي بشكل متضخم، وللعب أدوار غير مناطة بها أصلاً. وعليه، فإن مسؤولية الاتفاق على "مرشح قوي" وفرضه على الآخرين في الداخل والخارج تقع بالدرجة الأولى على عاتق القيادات المسيحية الرئيسية، إلا أن هذه القيادات لا تزال تجتر حروبها المدمرة.

يعتبر فريد الخازن أن "ثمة لبننة ممكنة بقرار يتخذه اللبنانيون، وآخر يتخذه الآخرون بعدم التعاطي "المكثف" بالشأن اللبناني، إن بسبب عدم الاكتراث أو بسبب انشغالات تفوق الوضع اللبناني أهمية وجدوى في لعبة مصالح الدول التي لا ترحم. إنها فرصة قد لا تتكرر فتجعل من الانتخابات الرئاسية انطلاقة لمسار جديد في الحياة السياسية اللبنانية بعد انقطاع طويل، وبعد أن تغيّر العالم، القريب والبعيد، من حولنا" (18). لكن التركيبة المجتمعية والسياسية للبنان، كمجتمع تعددي قائم على مأسسة الانقسامات الداخلية وتسيسها، ووجوده في منطقة جيوستراتيجية تشهد بشكل دائم نزاعات أمنية وتحولات سياسية، يفتحان أبواب ساحته الداخلية لصراعات المنطقة، ويرهنان مصير استحقاقاته بنفوذ ومصالح القوى الخارجية وبالموازين التي تحكمها. وعليه، يرتبط تحدي "لبننة" الاستحقاق الرئاسي بشكل أساسي بإرادة القوى الخارجية وبكيفية استخدامها للانقسامات الداخلية أما بدفعها نحو التوافق والتسوية أو بتحويلها إلى أداة للتعطيل والمواجهة. واذا كان جُلّ ما تُجمع عليه هذه القوى حتى الآن هو تأكيدها على الحفاظ على الاستقرار في لبنان وتحييده عن الحرب السورية وتداعياتها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وتأكيدها على أن أي فراغ مؤقت في منصب رئاسة الجمهورية ينبغي أن لا يؤثر سلبًا على هذا الاستقرار، يبقى السؤال عن كيفية ترجمة هذا الإجماع حول الاستقرار إلى إجماع حول شخص الرئيس العتيد. هل يقتضي الدور الذي تطالب القوى الخارجية لبنان ورئيسه بالقيام به في المرحلة المقبلة، على الصعيد الداخلي وعلى صعيد مواجهة الأزمة السورية بمختلف أبعادها وعلى المدى الطويل، إجراء إصلاحات فعلية في بنى النظام السياسي اللبناني أم لا؟
___________________________
كرم كرم - أستاذ العلوم السياسية بالجامعة اللبنانية

هوامش
1) الرئاسة اللبنانية ماضيًا ومستقبلاً: دروس وتحديات (عمل جماعي)، أعمال مؤتمر الجامعة الأنطونية الوطني للعام 2009 (بيروت: منشورات الجامعة الأنطونية، 2009).
2) نقولا ناصيف، الرئاسة اللبنانية في مهب الدول 2007، مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية، http://www.if-cl.org/Library/Files/uploaded%20Files/Leb-Presidency-Nassif.pdf .
3) على سبيل المثال، "الجمهورية القوية والرئيس القوي" هما أساس برنامج رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع لرئاسة الجمهورية. للاطلاع على البرنامج على موقع القوات اللبنانية: http://www.lstatic.org/PDF/president-program/prog-ar.pdf .
4) يراجع نص القرار 1559 على موقع الأمم المتحدة: http://www.un.org/News/Press/docs/2004/sc8181.doc.htm .
5) يراجع نص القرار 1701 على موقع الأمم المتحدة: http://www.un.org/News/Press/docs/2006/sc8808.doc.htm .
6) يراجع إعلان بعبدا على موقع رئاسة الجمهورية اللبنانية: http://www.presidency.gov.lb/Arabic/News/Pages/Details.aspx?nid=14483 .
7) وليد شقير، "عن رئاسة عون ببرنامج جعجع"، الحياة، 2 مايو/أيار 2014؛ "حزب الله": لرئيس قوي مؤهل مع المقاومة ووحدة اللبنانيين"، السفير، 28 إبريل/نيسان 2014.
8) إيلي الفرزلي، "زعيم المختارة يطلق مبادرة توفيقية. جنبلاط لـ"السفير": لرئيس يدير الأزمة"، السفير، 26 إبريل/نيسان 2014.
9) مارلين خليفة، "نوعية الاتفاق السياسي أهم من توقيته" زاسبكين لـ"السفير": لا تناقض بين الرئيس القوي والتوافقي"، السفير، 30 إبريل/نيسان 2014.
10) منذ الوثيقة الدستورية عام 1975 مرورًا، على سبيل المثال، باتفاق 17 مايو/أيار عام 1983، والاتفاق الثلاثي عام 1985، واتفاق الطائف عام 1989، وتفاهم نيسان عام 1996، واتفاق الدوحة عام 2008، وصولاً إلى إعلان بعبدا عام 2012.
11) نقولا ناصيف، بحثًا عن رئيس صُنع في لبنان (عمل جماعي)، التقرير النهائي لندوة "صانعو رؤساء لبنان" (مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية، بيروت، 2007)، 35.
12) الجلسة الأولى عُقدت بتاريخ 23 إبريل/نيسان 2014، لم ينل فيها أي من المرشحين عدد الأصوات اللازم للفوز من الدورة الأولى، أي: ثلثي عدد أصوات أعضاء المجلس النيابي، أي: 86 صوتًا من أصل 128؛ ومباشرةً بعد الانتهاء من فرز الأصوات في الجلسة الأولى تمت الدعوة إلى جولة تصويت ثانية، لكن النصاب الدستوري المحدد بحضور ثلثي أعضاء المجلس، أي: 86 نائبًا، لم يتأمّن بعد أن انسحب عدد من النواب من القاعة العامة للمجلس؛ في حين أن الفوز في الدورة الثانية محدد بالنصف زائد واحد، أي: 65 صوتًا من أصل 128؛ عُقدت الجلسة الثانية بتاريخ 30 إبريل/نيسان، دون أن يكتمل نصابها الدستوري؛ وتمت الدعوة إلى عقد الجلسة الرابعة في 7 مايو/أيار.
13) مارلين خليفة، "نصائح غربية بالتزام المواعيد الدستورية: تحذير أوروبي من "فراغ مؤقت وقصير"، السفير، 24 إبريل/نيسان 2014.
14) مي عبود أبو عقل، "رئاسيات 2014-مقارنة بين صلاحيات رئيس الجمهورية قبل الطائف وبعده: التعديلات أضعفت دوره وأحدثت خللاً في توازن السلطة"، النهار، 17 إبريل/نيسان 2014.
15) هذا التقاطع في النظرة الاستراتيجية إلى موقع الرئاسة وإلى شخص الرئيس يدفع بمرشح محتمل كسليمان فرنجية إلى الاعتراف بأن خصمه سمير جعجع هو مرشح قوي لرئاسة الجمهورية. "سليمان فرنجيه: أنا مع انتخاب الرئيس من قبل الشعب"، موقع المردة، 2 مايو/أيار 2014، http://www.elmarada.org /.
16) غسان حجار، "المسيحيون شركاء بالقول فقط؟"، النهار، 6 مايو/أيار 2014.
17) لمراجعة ملخص حول تاريخ هذه الصراعات منذ إنشاء دولة لبنان الكبير: بيار عطا الله، "التنافسات المارونية على الرئاسة قصة كُتبت بحبر الصراعات: الزعماء لم يتراجعوا عن نزاعاتهم غير عابئين بمصير لبنان"، النهار، 15 إبريل/نيسان 2014.
18) فريد الخازن، "اللبننة بين الواقع والمتخيل"، السفير، 28 إبريل/نيسان 2014.

نبذة عن الكاتب