أفغانستان: اللعبة الإقليمية بديلاً للعبة الدولية

تبحث هذه الورقة في مرحلة ما بعد الانسحاب الغربي من أفغانستان، وإمكانية أن يحل التنافس الإقليمي محل اللعبة الدولية، وتعقد الورقة مقارنة بين وضع أفغانستان عشية الانسحاب الغربي المقرر أن يستكمل مع نهاية هذا العام، والانسحاب السوفيتي عام 1989، والفرق بينهما.
20145493422611734_20.jpg
(الجزيرة)
ملخص
تبحث الورقة في مرحلة ما بعد الانسحاب الغربي من أفغانستان، وإمكانية أن يحل التنافس الإقليمي محل اللعبة الدولية الحالية بوجود عسكري لأكثر من 38 دولة تقاتل حركة طالبان أفغانستان، وتعقد الورقة مقارنة بين وضع أفغانستان عشية الانسحاب الغربي وعشية الانسحاب السوفيتي عام 1989، والفرق بينهما، ثم الأطراف الإقليمية المعنية بأفغانستان والتي تميل كفتها اليوم لصالح الحلف الإقليمي المؤيد للإدارة الأفغانية والمعادي لطالبان على حساب تراجع النفوذ الباكستاني ومن خلفه الخليجي مقارنة بتأثيره عام 1989. وترسم الورقة ثلاثة مشاهد لما بعد الانسحاب الغربي من أفغانستان: التقسيم، والحرب الطويلة، وخيار البجعة السوداء غير المتوقع وهو إمكانية عودة طالبان إلى السلطة.

يعكس عدم تفاعل الدول الإقليمية مع الانتخابات الرئاسية الأفغانية، انشغال واهتمام اللاعبين الإقليميين بما هو أبعد منها، على الرغم من أهميتها للأفغان كونها الأولى من نوعها في تاريخ الدولة الأفغانية الحديثة منذ 1747 التي يسلّم فيها رئيس لخلفه السلطة سلميًا ويخرج منها وهو محتفظ برأسه على كتفيه. كما أن الإقبال عليها بحسب المعلومات الأولية تعدى 58% من مجموع من يحق لهم التصويت.

إن ما تعيشه أفغانستان بالصورة المكبرة بعيدًا عن لحظة الانتخابات إنما هو تكرار للتجربة ذاتها ولثلاث مرات خلال قرن من الزمن تقريبًا، وتتلخص بثلاث احتلالات مقابل ثلاثة انسحابات كان أولها الاحتلال البريطاني وجلى عنها في 1919، والثاني السوفيتي وخرج منها عام 1989، والغربي الذي سيكمل انسحابه هذا العام مع توقعات باحتفاظه بقوات محدودة، قدّرها مسؤول أميركي في حديثه لوكالة رويترز بأقل من عشرة آلاف مقاتل لأغراض تدريبية للجيش الأفغاني، لكن بالمقابل يستبعد المسؤول أن ينجح الجيش الأفغاني بالحفاظ على المكتسبات الأميركية(1).

لن يجلس الرئيس الأفغاني القادم في "أرك" القصر الرئاسي، قبل يونيو/حزيران المقبل وسيكون على رأس أولوياته توقيع الاتفاقية الأمنية التي عزف سلفه كرزاي عن التوقيع عنها، تاركًا مسؤولية تاريخية لخلَفه، بعد أن تحمل مسؤولية جلب قوات دولية معه إلى السلطة قبل 14 عامًا، يضاف إلى هذه المسؤولية مسؤولية التصالح مع حركة طالبان أفغانستان، والتي لا يبدو أنها على استعداد لهذه المصالحة، يعزز ذلك تصريحاتها ورفضها لعملية انتخابية تصفها بالمهزلة في ظل وجود القوات "الغازية" لأفغانستان، وهي التي انتظرت لحظة الحقيقة المتمثلة بانسحاب القوات الغربية من أفغانستان، لتتفرغ لمقاتلة القوات الأفغانية.

تركة الجيش الأفغاني والدرس العراقي

تعد الحرب في أفغانستان الأطول في تاريخ الحروب الأميركية إذ امتدت لأربعة عشر عامًا خسرت فيها واشنطن الكثير، عسكريًا وأخلاقيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وحتى إعلاميًا، كما أن الكثير سيتكشف بعد الانسحاب وهدوء غبار الحروب، لتنفجر تناقضات المجتمع الذي عادة ما تخفيه الحرب فيكشفه السلم، وتبدأ عملية تبادل اللوم، والتقييم والانتقادات فشعار لا صوت يعلو على صوت المعركة لن يعود صالحًا في وقت اللامعركة.

ونقض الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي كان قد تعهد في خطابه الشهير بجامعة القاهرة عام 2009 بأنه لن يحتفظ بقواعد له في أفغانستان والعراق، التزامه في أفغانستان، لكن ما الذي يمكن أن يفعله بضع آلاف من القوات بعد أن عجزت عشرات الآلاف المدعمة بكل ما تفتقت عنه الذهنية الغربية العسكرية وبحضور 38 دولة عن تحقيق هدف الحرب الذي رفعه الرئيس الأميركي جورج بوش الابن حينها بالقضاء على القاعدة ومن يوفر لها الملاذات الآمنة "طالبان أفغانستان".

ستواجَه واشنطن في اليوم التالي لانسحابها بحسب توصيفها، وانهزامها بحسب توصيف عدوتها طالبان والقاعدة، ستواجه بالكلفة الاقتصادية لجيش أفغاني وليد بعُرف تاريخية الجيوش التي يستغرق بناؤها في العادة عقودًا من الزمن؛ فمجموعة الدراسات في واشنطن تقدر تمويل القوات الأفغانية التي بلغ عددها 352 ألف عنصر عام 2013 بـ6.5 مليارات دولار تكفلت واشنطن منها بـ5.7 مليارات وهو ما يشكّل ضعف عائدات الدولة الأفغانية، أما في عام 2015 فإن حاجة الجيش الأفغاني ستكون لـ 5 مليارات منها 3.2 مليارات توفرها أميركا والباقي يقع على عاتق الأسرة الدولية"(2).

لكن أفغانستان لن تكون الوحيدة على قائمة الدعم الأميركي إن أرادت واشنطن استقرارها فباكستان تنتظر أيضًا نصيبها، كثمن لعدم تدخلها فيما يزعزع استقرار السياسة الأميركية فيها؛ ولذا فقد عرضت واشنطن تقديم معداتها العسكرية المتبقية في أفغانستان لباكستان لضمان عدم دعمها لمسلحي طالبان، رافق ذلك توقف واشنطن عن غارات طائرات بلا طيار على مناطق القبائل كما كانت تطالب الحكومة الباكستانية فتوقفت تمامًا منذ ديسمبر/كانون الأول العام الماضي في حين تراجعت العام الماضي إلى 26 غارة، بعد أن بلغت ذروتها في 2012 بـ122 غارة(3).

لم يفلح الجيش الأفغاني في أن يكون وطنيًا بحيث يعكس الموزاييك الأفغاني، وهو نفس الخطأ الذي دشنته واشنطن بالعراق، والذي أنتجه الاحتلال الأميركي، فلا يزال يُنظر إلى الجيش الأفغاني على أنه يركز على الأقليات وتحديدًا الأوزبك والطاجيك والهزارة الشيعة، يضاف إلى ذلك حالات تعرض العسكريين الأفغان للجنود الأجانب وقتلهم. ويتردد أن حركة طالبان اخترقت الجيش الأفغاني بدفعها لمقاتليها لاختراقه، لكن الأسوأ فيما يتعلق بالجيش الأفغاني ما نشره تقرير أميركي عن حجم الفساد والترهل في صفوفه: "إن تقديرات عام 2012 تكشف أن نصف عدد القوات الأفغانية مدمنون على المخدرات، وفي عام 2013 تم فصل 65 ممن يعملون في الأجهزة الأمنية لتعاطيهم المخدرات، ويبلغ عدد الأميين في أجهزة الجيش والشرطة 95% من تعداد الجهازين، بينما وصل عدد الهاربين من خدمة الجيش الأفغاني خلال العام الماضي 30 ألف جندي"(4).

والفساد الذي يعانيه الجيش والشرطة هو رأس قمة جليد لفساد ينخر باقتصاد البلد ككل حيث إن 44% فقط يتم جبايته من الجمارك؛ وهو ما يعني أن توقف المساعدات الدولية للحكومة الأفغانية سيقود إلى العجز عن دفع رواتب الموظفين؛ فالوكالة الأميركية للعون الدولي تتحدث أن من ضمن 600 مليون دولار قدمتها الوكالة كمساعدات للدولة لم يُنفَق منها سوى الثلث بينما أُهدر الثلثان(5).

هنا لابد من المقارنة بين حالة الجيش الأفغاني عشية انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان، وحالته اليوم مع انسحاب القوات الغربية؛ ففي الأولى كان الجيش الأفغاني وريث جيش مهني بغض النظر عن حزبنته لاحقًا، بالإضافة إلى وجود ميليشيات من كافة العرقيات تسانده. اختصر المقارنة أحد قادة طالبان أفغانستان للمؤلف بقوله: "عسكريًا، الجيش الأفغاني اليوم أضعف بكثير مما كان عشية الانسحاب السوفيتي من أفغانستان، لكن الحكومة الأفغانية أقوى سياسيًا كونها مدعومة من فئات وأقليات وبعض عناصر الأغلبية البشتونية بالإضافة إلى مساندة إقليمية ودولية لم يحظ بها الجيش الأفغاني ما بعد السوفيت"(6).

أطراف اللعبة الاقليمية

كان التاريخ دائمًا قاسيًا ووحشيًا مع أفغانستان؛ فالكل يتذكر ما بعد الانسحاب السوفيتي من أفغانستان 1989 حين تقاتل رفاق السلاح ودخلوا في حرب دامية طويلة، لا يزال الأفغان يدفعون فاتورتها، هذا الهاجس يعود ثانية إلى أفغانستان لكن الاقتتال اليوم لن يكون بين طالبان والحكومة فحسب وإنما قد يتعداه إلى أطراف اللعبة الإقليمية، وسيظهر التدخل السافر للدول المجاورة سيما إيران التي ترى في أفغانستان تهديدًا مباشرًا لأمنها نظرًا لتاريخية العداء بين الطرفين، مثل هذا الواقع المخيف سيؤدي إلى فوضى جيوسياسية خطيرة بالمنطقة، تغذيها الطموحات الإقليمية ومرارة الذكريات التاريخية، وتفشي النزعات القومية والعرقية والطائفية بعد غياب أو تراجع سلطة وهيبة الدول.

حين الحديث عن اللعبة الإقليمية بديلاً عن اللعبة الدولية، فنحن نفترض أن الحلف الغربي بانسحابه من أفغانستان أواخر هذا العام سيطلق تحرك الأطراف الإقليمية وتحديدًا دول الجوار المباشر والأقرب إلى أفغانستان، وربما حين دعا رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير الصين وروسيا للتحالف مع الغرب في مكافحة الإسلام الراديكالي كانت أفغانستان ضمن مقصوده؛ إذ إن الانكفاء الغربي سيعني عودة طالبان إلى الساحة الأفغانية وهو ما يستلزم دمًا جديدًا لماكينة مقاومتها والتصدي لها والدم هنا مالي وعسكري وبشري، ومع استنزاف الدم الغربي في حروبهم الكثيرة خلال العقد الماضي كان لابد من تسويق الخطر لجهات أخرى من بينها روسيا والصين، وإن كانت الأخيرة معنية كون الحركة الإسلامية التركمانية في تركستان الشرقية التي تراها بكين أحد المهددين الأساسيين لها تتخذ من أفغانستان ومناطق القبائل منطلقًا لنشاطاتها.

ربما تبدو باكستان الوحيدة في مواجهة لعبة إقليمية يجمعها الخشية من عودة طالبانية أفغانية قوية؛ ولذا فقد يكون في صالحها بقاء القوات الغربية في أفغانستان، كونها تلعب دور العازل بينها وبين دول الجوار التي سيتسبب الانسحاب الغربي في انكشافها أمام خصوم ومنافسين كثر، ولا يزال التخلي أو التمسك بنظرية العمق الاستراتيجي في أفغانستان غير محسوم على الأرض، وهي النظرية التي طرحتها المؤسسة العسكرية منذ أيام ضياء الحق حتى أعلن مشرف التخلي عنها لفظيًا؛ ولذا فثمة معسكران باكستانيان أحدهما يدعو للتمسك بها، وآخر يرفع نظرية "عش ودع الآخرين يعيشون"(7).

حلف إقليمي لتأييد الراهن الأفغاني

ثمة كتلة إقليمية تتشكل من روسيا والصين وإيران والهند ودول وسط آسيا تؤيد وبقوة استمرارية الراهن الأفغاني متمثلاً بالحكومة الأفغانية الحالية والتي يُرجّح فوز عبدالله عبدالله في الدورة الثانية، بعد أن تقدم على منافسيه، وهو ما سيعزز النفوذ الإيراني والروسي والهندي ووسط الآسيوي؛ كون عبد الله ينتمي إلى الأقلية الطاجيكية ويحظى بدعم الأقليات الأفغانية، بالإضافة إلى استفراد هذه الكتلة طوال عقد ونصف العقد بأفغانستان تحت الوجود الغربي وبمظلته، وهو الأمر الذي سيهمّش البشتون ومعه باكستان، ومن شأنه إثارة حساسيات إقليمية وعرقية وطائفية، لاسيما أن طهران قد استفردت تمامًا بالمشهد الأفغاني خلال الأربعة عشر عامًا الماضية نظرًا للتنسيق أو لتقاطع مصالحها مع أميركا، بالإضافة إلى تحكّم حلفائها الفئويين والهزارة الشيعة بالمشهد الأفغاني بعيدًا عن النفوذ الباكستاني ومن خلفه السعودي والخليجي بشكل عام، بخلاف ما كان عليه  الأمر عقب انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان، فقد تعهدت طهران بدعم حكومة كارزاي بمليار دولار سنويًا، وبلغت المساهمة الإيرانية في إعادة إعمار أفغانستان من مجمل المساعدة الدولية 12%(8). وبالتوازي مع ذلك اتجهت طهران خلال هذه الفترة إلى بناء شبكة طرق تربط أفغانستان مع طاجيكستان ومع إيران وذلك للتخفيف من اعتمادها على باكستان، مع التركيز على الجانب الإعلامي بإدارة قنوات إعلامية أفغانية أو مؤسسات تعليمية وحتى شراء أراض في المناطق الحساسة والطرق السريعة. صاحب ذلك تطوير ميناء تشار بهار الإيراني ليكون منفذًا للبضائع الهندية التي ترفض باكستان السماح لها بعبور أراضيها إلى أفغانستان ووسط آسيا.

عكس الهمّ الإيراني-الهندي المشترك وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في زيارته الأخيرة إلى الهند حين قال للهنود: "في حال ملأت طالبان فراغ أفغانستان ما بعد الانسحاب الغربي، فكلنا سنخسر"(9).

تتحرك طهران بدوافع مد نفوذها إلى أفغانستان عبر الدائرة الشيعية أولاً ودائرة الأقليات ثانيًا، وتتحرك أيضًا بدافع تحصين نفسها من نيل خصومها المتمردين البلوش الإيرانيين موطئ قدم لهم في أفغانستان طالبان وتحديدًا جيش العدل الذي قام بعمليات خطف لعناصر الحرس الثوري الإيراني أخيرًا، وهو ما سيشكّل تهديدًا مباشرًا لأمنها.

حسمت إيران وحلفها أمرهما منذ اليوم الأول في دعم تكتل الأقلية الأفغاني وعدم الالتفات إلى الأغلبية إلا فيما يخدم ذاك التحالف، وظهر ذلك بوضوح في دعم المرشح عبدالله عبدالله وتجاهل المرشحين الآخرين أشرف غني وزالماي رسول، بينما شاب السياسة الباكستانية التردد والخجل في الإعلان عن دعم الأغلبية البشتونية، بل وضحّت بها ووقفت ضدها خلال الهجوم الغربي على أفغانستان، وتدرك إسلام آباد أن خبرتها التاريخية مخيبة في التوصل لأرضية مشتركة مع إيران بما يتعلق بأفغانستان منذ الانسحاب السوفيتي، وتأكّد لصنّاع القرار الباكستاني خذلان الغرب لهم في الحرب على أفغانستان عام 2001 عبر تهميش الأغلبية البشتونية وفرض التحالف الشمالي الأفغاني بالحكم، بخلاف الوعود التي قدموها لإسلام آباد قبل تحالفها معهم.

تصب المصلحة الصينية اليوم في دعم الإدارة الأفغانية الحالية لسببين: الأول: ثقتها بأنها لن توفرًا ملاذًا لمناهضيها من المسلحين التركمانيين، وثانيًا: كون هذا النوع من الاستقرار يوفر ضمانًا لاستثماراتها التي بلغت مليارات الدولارات. ويعود الفضل في ذلك للوجود الغربي؛ إذ لم تكن هذه الاستثمارات ممكنة بلا مقاتلة طالبان التي منحت الحماية خلال فترة حكمها 1996-2001 لمسلحين إسلاميين تركمانيين مناهضين للحكومة الصينية؛ وهو الأمر الذي يمكن أن يتكرر لو عادت إلى السلطة، هذا الأمر لم يغب عن زيارة وزير الخارجية الصيني إلى كابول مطلع إبريل/نيسان حين حدد اهتمامات بلاده ".. الاستقرار الداخلي الأفغاني مهم للوضع الأمني في شينجيانغ"، وهو ما رد عليه نظيره الأفغاني بالقول: "إن أفغانستان لن تسمح لمسلحي الحركة الإسلامية في تركستان الشرقية بالوجود على الأراضي الأفغانية"(10).

أما الهند فتعيش هواجس انتفاضة كشميرية عشية الانسحاب الغربي من أفغانستان كما شاهدتها بأم العين عشية الانسحاب السوفيتي 1989؛ فالقوى الإسلامية المسلحة التي تقاتل في أفغانستان ستبحث لها عن أرضية جديدة لممارسة جهادها ولن تجد أقرب من كشمير(11)؛ نظرًا للتشاطر الديني والعرقي واللغوي والجغرافي مع الكشميريين؛ ولذا فقد استبقت الهند ذلك  خلال السنوات الماضية بتعزيز حضورها الأمني والعسكري عبر اتفاقيات عسكرية وأمنية وشرطية مع الحكومة الأفغانية، ومشاريع إنمائية كبناء طرق ومبانٍ حكومية، بالإضافة إلى أعمال إغاثية لا يُستبعد أن تكون غطاءً لحضور أمني واستخباراتي وهو ما يقلق باكستان، التي ستغدو مطوقة من جبهتيها: الغربية والشرقية لحدودها من عدوتها التقليدية الهند، يزيد على ذلك تعزيز الهند لعلاقاتها مع إيران نظرًا للتفاهم المشترك على الصعيدين الدولي والإقليمي.

على الصعيد الروسي ودول آسيا الوسطى لا تزال فوبيا الخيار الشيشاني تحوم فوق الرأس الروسي، وتدرك روسيا أن توجه الأفغان إلى الشمال حيث مجال نفوذها الحيوي في آسيا الوسطى ومن بعدها الشيشان لا يقل احتمالاً عن التوجه لكشمير، ولا تزال روسيا تستذكر استقبال حكومة طالبان الشيشان والاعتراف بهم وتسليمهم سفارة لهم في كابول حين كانت في السلطة؛ ولذا فاستضافة طالبان للمسلحين الإسلاميين من دول آسيا الوسطى أو من الشيشان هو ما يدفع روسيا للاصطفاف خلف الموقف الإيراني والهندي.

في مواجهة هذا التحالف الإقليمي تقف باكستان وحيدة كونها تعتقد أن الإدارة الأفغانية معادية لها في السر والحقيقة، والحلف الخليجي الذي كان يدعمها فيما بعد الانسحاب السوفيتي من أفغانستان ليس هو نفسه، وهي ترى معاداة معظم دول الخليج للتيار الإسلامي وخشيتها منه؛ وبالتالي فهي تفضل معاداة هذا التيار على المصالح بعيدة المدى التي تعني تحجيم النفوذ الإيراني والهندي في أفغانستان، والذي سيهدد الأمن القومي الباكستاني بشكل مريع.

غير أن بعض المراقبين ولجوء بعض الدول الخليجية إلى فتح ملحقيات عسكرية لأول مرة في إسلام آباد بالإضافة إلى زيارة ملك البحرين لأول مرة إلى إسلام آباد والزيارات المتكررة العسكرية والسياسية بين الرياض وإسلام آباد قد تؤشر إلى أن الأخيرة ليست وحدها في الساحة.

سيناريوهات محتملة

1- مشهد التقسيم
مع الانسحاب الغربي من أفغانستان ستتآكل هيبة الدولة عسكريًا وربما سياسيًا سيما في ظل المتوقع من وصول المرشح عبدالله إلى السلطة، ولن يُنظر إليه على أنه ممثل لأغلبية بشتونية، ستستغل طالبان ذلك كوقود في مقاومتها، خصوصًا وأن طالبان أفغانستان تسعى اليوم إلى إقناع نظيرتها الباكستانية بالتصالح مع الحكومة للتفرغ للجائزة الأفغانية، واستمرار القتال يعني دخول القوى النافذة المجاورة لأفغانستان لدعم الإدارة الأفغانية الحالية مما سيعني تقسيم البلد وتحوله إلى "كانتونات"، بحيث ستسعى كل دولة إلى فرض "كانتونها" الخاص بها لحماية أرضها أو لحماية نفوذها وأقلياتها. والخبرة التاريخية على صعيد طالبان وخصومها تؤكد استحالة التوصل لاتفاق فيما بينهم، وتنسحب هذه الخبرة التاريخية حتى على الدول الإقليمية التي كانت على الدوام متصارعة على أفغانستان.

2- مشهد الحرب الطويلة
ترفض العقلية الأفغانية فكرة التقسيم، ولكن القيادات الطائفية والعرقية لا تزال متحكمة في المشهد الأفغاني إن كان على مستوى الطاجيك أو الهزارة أو الأوزبك، يعززها دعم دول مجاورة لهذه الأقليات التي لها امتدادات في الدول المجاورة، وهناك الأغلبية البشتونية التي تحظى بدعم باكستان، التي تعي أن تهميشها لن يعني أن عمقها الجيوستراتيجي قد ضُرب بقدر ما سيؤثر على بشتون باكستان الذين سيثأرون لإخوانهم الأفغان كما وقفوا معهم خلال العقود الماضية، فالجيوعرقية ستتغلب على الجيوستراتيجية.

وبالتالي ستكون الحرب على "روح أفغانستان" إما دولة علمانية ينشدها التحالف الحالي أو دولة إسلامية طالبانية تريدها طالبان أفغانستان، وهو ما ستقاومه الدول المناوئة لطالبان بكل ما أوتيت من قوة حتى لو أدى ذلك إلى حربٍ مدمرة، أخذًا بمبدأ الحروب الاستباقية التي يشنها البعض في مناطق أخرى بذريعة عدم نقل عدواها إلى أرضه.

3- مشهد البجعة السوداء
خيار البجعة السوداء بحسب تعبير تسنيم نيكولاس طالب في كتابه المشهور "البجعة السوداء" وهو الخيار غير المتوقع، وهو أن تتمكن طالبان اليوم كما نجحت في عام 1996 في الإطاحة بفصائل المجاهدين والسيطرة على كابول، خصوصًا وأنها تتمتع بقيادة مركزية بقيادة الملا محمد عمر، وبدعم فصائل إسلامية مسلحة بالمنطقة إن كان في كشمير أو باكستان أو أوزبكستان والصين وغيرها، يضاف إلى ذلك حالة الفساد والترهل والاختلاف والتنافر وسط الطبقتين السياسية والعسكرية الأفغانية كما تحدثنا عنها، وتوقع أن تغسل القوى الغربية وأميركا تحديدًا يديها من أفغانستان حال الانسحاب لانشغالها بقضايا ربما أكثر أهمية وحساسية لها، وهو ما سيصب في صالح طالبان.
____________________________________________
د. أحمد موفق زيدان - مدير مكتب الجزيرة في باكستان وباحث متخصص بالشأن الباكستاني
 
الهوامش والمصادر
1- تقرير لوكالة رويترز نشرته صحيفة الدون الباكستانية 23 إبريل/نيسان 2014
 http://www.dawn.com/news/1101658/fewer-than-10000-us-troops-to-remain-in-afghanistan-after-14
2- محمد صالح ظافر: رئيس الوزراء الباكستاني: باكستان لن تسمح باستخدام أراضيها ضد أفغانستان، موقع صحيفة ذي نيوز الباكستانية 3 إبريل/نيسان 2014
3-  http://www.thenews.com.pk/Todays-News-13-29477-Pakistan-not-to-allow-use-of-its-soil-against-Afghanistan-PM 
3- Brahma Chellaney،Lingering too long in Afghanistan, Washington Times,
 ,14/4/2014,
  http://www.washingtontimes.com/news/2014/apr/14/chellaney-lingering-too-long-in-afghanistan/?page=all
4- انظر التقرير الأميركي الذي أعده المفتش الخاص للقوات الأميركية في أفغانستان ونشرت أجزاء منه صحيفة ذي نيشن الباكستانية بتاريخ 7 إبريل/نيسان 2014
http://www.nation.com.pk/columns/07-Apr-2014/challenges-for-afghanistan
5- -راجع مقال لـنجم الدين شيخ، وكيل الخارجية الباكستانية الأسبق، نشرته صحيفة إكسبريس تريبيون الباكستانية بتاريخ 20 إبريل/نيسان 2014   
http://tribune.com.pk/story/698164/prospects-for-afghan-reconciliation-post-2014/
6- لقاء مع أحد قادة طالبان أفغانستان مفضلاً عدم ذكر هويته بتاريخ 5 إبريل/نيسان 2014.
7 -Malik Achakzai A new chapter for Afghanistan, dailytimes, 30/4/2014:
http://www.dailytimes.com.pk/opinion/30-Apr-2014/a-new-chapter-for-afghanistan
8-Yasir Masood Khan  The post-US withdrawal conundrum, dailytimes, 11/4/2014
www.dailytimes.com.pk/opinion/11-Apr-2014/the-post-us-withdrawal-conundrum
9-  Jason Burke   Alliances realign as latest superpower pulls out of Afghanistan, The guardian, 1/4/2014:
   http://www.theguardian.com/world/2014/apr/01/afghanistan-election-karzai-us-pullout
10-Ankit Panda:  Room for India-China Cooperation in Afghanistan?, The Diplomat, 15/4/2014
http://thediplomat.com/2014/04/room-for-india-china-cooperation-in-afghanistan/
11- Praveen Swami, Lessons from a lost war, the hindu, 4/3/2014:
http://www.thehindu.com/opinion/lead/lessons-from-a-lost-war/article5747040.ece?homepage=true

نبذة عن الكاتب