يلوح بالأفق تشكل تيارين، مدني ليبرالي ووطني إسلامي، ويبقى السيناريو الأقوى تكوين غالبية برلمانية من التيار المدني، تصعب قدرة الإسلاميين على وقف مشاريع سياسية ضدهم (الأوروبية) |
ملخص وليست هناك تغييرات على مستوى توزيع المقاعد بين مناطق ليبيا الثلاث بمجلس النواب المنتخب، فحصة الشرق الليبي 60 مقعدًا، والجنوب 40 مقعدًا، والغرب الليبي الأكثر كثافة سكانية 100 مقعد، إلا أنه قبل إعلان النتائج الجزئية سارع قادة التيارات السياسية بالإعلان عن حصيلته من المقاعد وتفوقه على التيارات الأخرى، فمحمود شمام -رئيس مجلس إدارة قناة "ليبيا لكل الأحرار"- أعلن عن تقدم التيار المدني، في حين أعلن عبد الرازق العرادي القيادي بحزب العدالة والبناء عن تفوق التيار الوطني؛ وبالتالي أصبح يلوح في الأفق تياران؛ أحدهما مدني ليبرالي، والآخر وطني إسلامي. والسيناريو الأكثر احتمالاً هو تكوين كتلة برلمانية من التيار المدني تمثل غالبية أعضاء البرلمان، وبالتالي عدم قدرة التيار الإسلامي على وقف مشاريع سياسية تحت قبة البرلمان يراها إقصائية أولاً لوجوده وفاعليته. وثانيًا تمس ثوابت ثورة فبراير/شباط، وذلك مع إحكام سيطرته على الوظائف العليا بالدولة الليبية. |
مثلت انتخابات البرلمان في ليبيا يوم 25 من يونيو/حزيران الماضي خاتمة المرحلة الانتقالية الثالثة، بعد مرحلتين قاد أولاهما المجلس الوطني الانتقالي التوافقي، والمؤتمر الوطني العام المنتخب.
وخرجت المرحلة الانتقالية الثالثة من رحم صراع سياسي مرير بين حزبي "العدالة والبناء" الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين الليبية، وبين حزب "تحالف القوى الوطنية" بقيادة محمود جبريل المقيم بالإمارات العربية المتحدة منذ قرابة العام؛ وذلك على خلفية جدل دستوري يتعلق بانتهاء ولاية المؤتمر الوطني العام في السابع من فبراير/شباط الماضي من عدمه؛ وهو خلاف ذو صبغة سياسة أكثر منها قانونية ودستورية؛ فالمؤيِّدون لإنهاء عمل المؤتمر الوطني انحازوا إلى ظاهر نصِّ المادة 30 من الإعلان الدستوري؛ التي رسمت ملامح المرحلة الانتقالية، بينما رأى فقهاء في القانون الدستوري في ليبيا أن المدد الواردة بالإعلانات الدستورية تنظيمية، وتبتغي بالأساس إنجاز استحقاقات بغض النظر عن طول وقصر الفترة المحددة والمنصوص عليها.
وقد تبنت وسائل إعلام تابعة لحزب "تحالف القوى الوطنية" وجهة النظر القائلة بانتهاء ولاية المؤتمر الوطني، وضغطت بشكل كبير على كتل المؤتمر الوطني لتبني خارطة طريق نُصَّ فيها على مرحلة انتقالية ثالثة؛ خاصة أن ما يهم هذه الكتل "العدالة والبناء، والوفاء للشهداء، والمبادرة الوطنية، وكتلة ليبيا" هو تسليم السلطة لجسم منتخب وشرعي.
وشُكلت لجنة فبراير/شباط من أعضاء من داخل المؤتمر الوطني العام ومن خارجه، لوضع خارطة طريق للمرحلة الانتقالية الثالثة، في ظرف اضطراري بسبب مماحكات قام بها حزب "تحالف القوى الوطنية" والأعضاء المستقلين المتحالفين معه ساهمت في تأجيل انتخاب هيئة الستين لكتابة الدستور، وبالتالي توفُّر دستور يرسم الملامح السياسية النهائية لليبيا بعد السابع عشر من فبراير/شباط.
تبنَّى المؤتمر الوطني العام الجزء المتعلِّق بانتخاب مجلس للنواب كبديل عن المؤتمر الوطني العام، وأحال باقي نصوص الخارطة المتعلِّقة بانتخابات رئاسية مبكرة إلى مجلس النواب القادم، أو بالأحرى الدستور القادم في حال إنجازه في موعده؛ وذلك في سياق خلافات بين التيار الإسلامي والليبرالي حول الانتخابات الرئاسية؛ حيث يصرُّ الإسلاميون والوطنيون على أنه يصعب حاليًّا أن ينجح في ليبيا نظام رئاسي بصلاحيات واسعة للرئيس؛ بسبب عدم القدرة على الاتفاق سياسيًّا حول هذه المسألة، ولتشظِّي البلد مناطقيًّا وجهويًّا وقبليًّا.
أما الليبراليون فيرون أن الفرصة سانحة لإجراء انتخابات رئاسية لتقديم محمود جبريل مرشحهم ذي الشعبية الكبيرة داخل ليبيا؛ وذلك بعد إزاحة قانون العزل السياسي من طريقه؛ سواء أكان ذلك بحكم تصدره الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا بعدم دستورية قانون العزل المطعون فيه أمامها؛ أو أن تتشكَّل كتلة برلمانية كبيرة داخل مجلس النواب معارضة لقانون العزل؛ فتخفِّف من غلوائه وتفتح الطريق أمام جبريل، أو أن تنسفه من أساسه هيئة الستين لكتابة الدستور حال إنجازه.
وثمة قضية مهمة أخرى تتعلق بالوضع الأمني الذي يقف عائقًا أمام أي مشاريع سياسية أو تنموية بليبيا، خاصة بعد إطلاق اللواء المتقاعد خليفة حفتر ما يُسَمَّى حملة "الكرامة" بهدف ضرب ما يصفه بمعاقل الإرهاب والتطرف بمدينتي بنغازي ودرنة في 16 من مايو/أيار الماضي، التي أعلن فيها حفتر نيته عن اقتلاع جذور جماعة الإخوان المسلمين الليبية، التي لم يثبت عليها ممارسة أعمال ذات صلة بالإرهاب كالقتل والتفجير أو استهداف عسكريين وأمنيين، سيرًا على نهج سلفه المصري عبد الفتاح السيسي قائد انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013(1).
ومنذ انطلاق عملية الكرامة تشهد بنغازي اشتباكات متقطعة بين مجموعات مسلحة أغلبها مؤيد للعملية السياسية؛ عدا جماعة أنصار الشريعة ذات المواقف الراديكالية من الديمقراطية وكل ما يتعلق بها من أدبيات، وبين ميلشيات حفتر المكونة بالأساس من ضباط جيش أغلبهم معزول سياسيًّا، وميلشيات قبلية تنتمي في الأساس لمناطق على أطراف بنغازي ومدينة المرج الواقعة شرق بنغازي.
وقد حاولت ميلشيات حفتر دخول بنغازي من محورها الجنوبي الشرقي من منطقة سيدي فرج ثلاث مرَّات؛ إلا أنها فشلت في ذلك لتصدِّي قوات ثورية لها، وتكبدت قوات حفتر خسائر بشرية ومادية كبيرة؛ فلجأت إلى قصف مواقع تقول: إنها تابعة لمتطرِّفين إسلاميين. لكن أغلب هذه المواقع المقصوفة إما كانت منازل مدنيين، أو مؤسسات حكومية، أو أراضي خالية.
أمَّا غربًا فثمة توازن عسكري، خاصة بالعاصمة طرابلس؛ بسبب وجود قوات موالية للمؤتمر الوطني العام من مصراتة وغريان والزاوية وتاجوراء وسوق الجمعة، وهي مناهضة لميلشيات القعقاع والصواعق؛ أهم ذراعين مسلحين لحزب "تحالف القوى الوطنية"، وهو ما يمنع ولو مؤقَّتًا الاحتكاكات المسلحة؛ بسبب صعوبة نشوب معارك داخل العاصمة طرابلس المكتظة بالسكان.
وجنوبًا ثمة صراع مختلف عن الشرق والغرب الليبيين، ويتعلَّق بمحاولة السيطرة على منافذ التهريب بين ليبيا ودول جوارها؛ مثل: تشاد، والنيجر، والجزائر؛ حيث تشتعل في تلك المناطق صراعات على تجارة المخدرات والسلاح والهجرة غير الشرعية؛ وذلك خلافًا لِمَا حاول تصويره وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لو دريان في إبريل/نيسان الماضي أن جنوب ليبيا تحوَّل إلى "وكر أفاعٍ للمتشدَّدين الإسلاميين"، وأن "الطريقة الوحيدة للتعامل معه هي من خلال تحرُّك جماعي قويٍّ من الدول المجاورة"(2).
قراءة تحليلية لنتائج الانتخابات الأخيرة
ليست ثمة خيارات كثيرة أمام الليبيين لإنجاح مسارهم الديمقراطي، فإمَّا الحرب والاقتتال الداخلي وتبديد ثروات البلاد، وبروز شبح التقسيم؛ الذي تدعمه أطرافٌ إقليمية كخيار لإجهاض مسار الثورة كما فعلت بمصر واليمن وسوريا والبحرين، وتحاول بتونس وليبيا، وإما خيار الانتقال السلمي على أسس ديمقراطية حقيقية.
ولا يُتَصَوَّر أن يُحقِّق البرلمان الليبي القادم تقدُّمًا على صعيدي التوافق السياسي والتهدئة الأمنية، لا بسبب الشخصيات التي منحها الليبيون ثقتهم بالبرلمان؛ بل يرجع ذلك بشكل رئيس إلى ضعف تجربة النواب القادمين في صوغ تصورات للأزمات الراهنة؛ والمتابع للدعاية الانتخابية لكل المترشحين تقريبًا يرى خلطًا بين دور المؤسسة التشريعية في سنِّ القوانين والرقابة على الحكومة، وبين دور مؤسسة التنفيذ في إحالة برامجها إلى واقع.
كما أن منع الأحزاب السياسية من المشاركة في مجلس النواب القادم يمثِّل ردَّة عن التجربة الديمقراطية الوليدة؛ وهي ردَّة نتجت عن الدعاية السوداء التي مارسها إعلام القذافي وإعلام الثورة المضادة في تصوير الأحزاب السياسية وكأنها جزء من المشكلة وليست الحل؛ حيث وجدت حالة البراءة من الانتماء السياسي مارسها المرشحون في دعايتهم الانتخابية تمشِّيًا مع حالة شيطنة العمل الحزبي؛ لذا سنكون إزاء برلمان يمثِل مائتي عقلية مختلفة ومتباينة، وسيحتاج أعضاء البرلمان الجديد إلى فترة لا تقلُّ عن ستة أشهر حتى يدخلوا في تحالفات جديدة تمثِّل ما يُشبه الأحزاب المؤقَّتة بفترة عمل البرلمان.
ليست هناك تغييرات على مستوى توزيع المقاعد بين مناطق ليبيا الثلاث بمجلس النواب المنتخب؛ فحصة الشرق الليبي 60 مقعدًا، والجنوب 40 مقعدًا، والغرب الليبي الأكثر كثافة سكانيًّا 100 مقعد، إلا أنه قبل إعلان النتائج الجزئية سارع قادة التيارات السياسية بالإعلان عن حصيلته من المقاعد وتفوُّقه على التيارات الأخرى؛ فمحمود شمام -رئيس مجلس إدارة قناة "ليبيا لكل الأحرار"- أعلن عن تقدُّم التيار المدني؛ وذلك في حين أعلن عبد الرازق العرادي القيادي بحزب "العدالة والبناء" عن تفوُّق التيار الوطني؛ وبالتالي أصبح يلوح في الأفق تياران؛ أحدهما مدني ليبرالي، والآخر وطني إسلامي.
التيار المدني
لم تعرف ليبيا قديمًا أو حديثًا أدبيات التيارات المدنية التي نشأت بالأساس للتصدِّي للإسلام السياسي؛ خاصة بعد نجاح هذا الأخير في الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع بعد ثورات عربية أطاحت بأنظمة ديكتاتورية.
وفشل حزب "تحالف القوى الوطنية" في تحقيق استحقاقات وطنية كبرى؛ على الرغم من الأغلبية التي تمتَّع بها بالمؤتمر الوطني العام على مستوى المقاعد "39 مقعدًا"، بالإضافة إلى المنضوين تحت جناحه بالمؤتمر من الأعضاء المستقلين ورجال الأعمال حوالي "80 مقعدًا". وعجزه عن تقديم حلول توافقية سياسية تُخرج ليبيا من أزمتها الراهنة؛ بل ورفضه -أخيرًا- لدعوة الممثِّل الخاصِّ للأمين العام للأمم المتحدة بليبيا طارق متري إلى إجراء حوارات معمَّقة حول مسودَّة عملٍ قدَّمها متري؛ وذلك من خلال الإحاطة التي قدَّمها متري لمجلس الأمن في التاسع من يونيو/حزيران الماضي(3)؛ التي كان من المفترض أن تتمَّ بين خمسين ممثلاً لكافَّة التيارات والأحزاب السياسية والقوى المجتمعية بليبيا.
وتعرَّضت مبادرة متري لحملة إعلامية شعواء من قِبَل قنواتٍ تابعة لحزب "تحالف القوى الوطنية"، أو دائرة في فلكه "قناة العاصمة، وقناة ليبيا لكل الأحرار، وقناة الدولية، وقناة ليبيا أولاً"، إضافة إلى مئات الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، ما دعا متري إلى إعلان تأجيل الحوار حول مبادرته عبر بيان أرسله إلى وسائل الإعلام.
ومن المفارقات الليبية أن التيار المدني ظهر كبديل لتيار "تحالف القوى الوطنية"؛ بسبب الحملة الشرسة التي شنَّها حزب "تحالف القوى الوطنية" على الأحزاب السياسية، وكأن حزب التحالف أراد أن يُعاقب الإسلاميين ففجَّر نفسه عبر تصفير المعادلة السياسية بالكامل؛ وتلك مفارقة لم تحدث تقريبًا إلا بليبيا، وهي أن يشنَّ حزبٌ سياسي دعاية سوداء ضدَّ نفسه.
وليس معلومًا إلى الآن مدى التوافق والتنسيق بين التيار المدني والتيار الفيدرالي، الذي أحرز أربعة مقاعد بمجلس النواب القادم ببنغازي، وحزب "تحالف القوى الوطنية"، وميلشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر حول برنامج سياسي ورؤية واضحة للمرحلة الانتقالية الثالثة؛ إلا أنه يكاد يكون معلومًا اتفاقهم مبدئيًّا على إقصاء التيار الإسلامي الوطني المؤمن بأدبيات الانتقال الديمقراطي السلمي، فيما يشبه تحالف عدَّة أحزاب تحت عباءة جبهة الإنقاذ المصرية للإطاحة بحكم الإخوان ومحمد مرسي.
إلا أن بذور خلاف قد تظهر بين التيار المدني وحزب "تحالف القوى الوطنية"؛ حيث لا يُريد التيار المدني أن يلتصق بحزب جبريل المدعوم من ميلشيات عسكرية؛ ككتيبة القعقاع والصواعق، حتى لا يقدح ذلك في العنوان العريض لهذا التيار وهو المدنية. وهو الكأس نفسه الذي أذاقه محمود جبريل لمؤيِّديه من الليبراليين واليساريين تخوُّفًا من إلصاق تهمة العلمنة بحزبه؛ وذلك برفض جبريل تعيين شخصيات ساندته في انتخابات المؤتمر الوطني العام في مراكز حساسة مشهورة بخصومتها المعلنة للتيار الإسلامي.
التيار الوطني
يضم التيار الوطني حزب "العدالة والبناء" الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين الليبية، بالإضافة إلى إسلاميين ليس لديهم ارتباط تنظيمي بجماعة الإخوان المسلمين، أو عضوي بحزب "العدالة والبناء"، إلا أنهم يتَّفقون فكريًّا وسياسيًّا مع ما تطرحه الجماعة والحزب في الأصول العامة للعمل السياسي، وإن كانوا يختلفون فيما بينهم في بعض الجزئيات، فضلاً عن ليبراليين معتدلين؛ لعلَّ أشهرهم صلاح البكوش نائب رئيس حزب "الاتحاد من أجل الوطن"، وجمعة القماطي رئيس حزب "التغيير"، وشخصيات وطنية عامة تؤمن بالانتقال السلمي للسلطة وترفض منطق الانقلابات العسكرية؛ حيث إن مواجهة الإرهاب من مهامِّ الدولة فقط.
وما يعيب هذا التيار هو العمل بصورة منفردة فيما يشبه اللوحات السياسية المقطعة؛ ولعلَّ تجربة المؤتمر الوطني تدلُّ على عدم قدرة التيار الوطني على التنسيق فيما بين مكوِّناته؛ فمثلاً لم يُعرف عن هذا التيار الاتفاق على مرشَّح واحد لمنصب رئيس الوزراء ودعمه بشكل جماعي، مع الاتفاق العام بين كتله ومرجعياته أن ثمة ثورة مضادَّة تستهدف إسقاط السابع عشر من فبراير/شباط، وإعادة ترتيب العملية السياسية بليبيا بشكل إقصائي لهذا التيار الوطني.
وتبدو في الأفق مؤشِّرات فشل هذا التيار في حال استمرار انقسامه في مجلس النواب القادم، وثمة بين مكوِّناته حساسيات بسبب عدم القدرة على التسليم بتفوق حزب "العدالة والبناء" من ناحية التنظيم والقدرة على التفكير وعقلنة المسائل السياسية الحساسة، وتنتاب هذه الحالة مكونات ثورية مسلحة ترى أن البندقية وحدها ستكون الفيصل في ترجيح القضايا السياسية، وثمة متلازمة تعاني منها بعض فصائل التيار الوطني الليبي بسبب حسابات انتخابية وتصويتية؛ حيث ترى أنه كلما ابتعدت عن تيار الإسلام السياسي كان أنجع على مستوى التأييد وجمع الأصوات.
الاتجاهات الممكنة للخريطة السياسية الجديدة
بحسب إحصاء مبدئي لتنسيقية قوى العمل الوطني فإن ممثلي التيار الوطني في الشرق الليبي في أحسن الأحوال لن يتجاوزوا عشرة أعضاء، وما مجموعه خمسين عضوًا عن المنطقة الغربية والجنوبية، وهو ما يعني استمرار خارطة التكتلات السياسية على حالها بمجلس النواب كما كانت بالمؤتمر الوطني، ونشوب صراع حادٍّ بين التيارين المدني والوطني؛ أولاً في استقطاب النواب المستقلين ما بين الإسلاميين وخصومهم الليبراليين، ثم سينشأ صراع آخر على المراكز الحساسة بالدولة؛ حيث تحتاج إلى أغلبية خاصَّة من البرلمان؛ كوظيفة النائب العام ومدير جهاز المخابرات العامة الليبية، ورئيس ديوان المحاسبة ومحافظ مصرف ليبيا المركزي؛ التي كانت محلَّ صراع بين حزبي "تحالف القوى الوطنية" و"العدالة والبناء"، ومَنْ يدور في فلكيهما في المؤتمر الوطني العام.
وثانيًا سيظلُّ منصب رئيس الحكومة القادمة وأعضاؤها محطَّ صراع كبير قد يؤدِّي باكرًا إلى تشرذم البرلمان القادم وضعفه وانقسامه، وستأتي كل هذه الصراعات في ظلِّ خفوت مشاريع تتعلَّق بالمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، ووجود أكثر من مليون ليبيٍّ لاجئ بين دولتي مصر وتونس؛ الذين سيكونون محطَّ رهان تيار الثورة المضادَّة في الفترة القادمة.
وكل ذلك مع استمرار العمليات العسكرية التي يقوم بها حاليًّا خليفة حفتر ببنغازي، وإمكان إحكام السيطرة على مجلس النواب؛ الذي سيكون مقرُّه ببنغازي بعيدًا عن مقرِّ الحكومة بحوالي 1000 كم بالعاصمة طرابلس، وفي الوقت نفسه بعيدًا عن تأثيرات قوى ثورية بمناطق الغرب الليبي الأكثر فاعلية وقوة وقدرة على الحركة وردِّ الفعل من مثيلاتها بالشرق الليبي.
والسيناريو الأكثر احتمالاً هو تكوين كتلة برلمانية من التيار المدني تمثِّل غالبية أعضاء البرلمان؛ وبالتالي عدم قدرة التيار الإسلامي على وقف مشاريع سياسية تحت قبة البرلمان يراها إقصائية أولاً لوجوده وفاعليته، وثانيًا تمس ثوابت ثورة فبراير/شباط؛ وذلك مع إحكام سيطرته على الوظائف العليا بالدولة الليبية، ولعلَّ رفض "الصديق الصور" قرار تكليفه من المؤتمر الوطني بمنصب النائب العام يصبُّ في هذا الإطار؛ حتى لا يُحسب على قوى تيار الإسلام السياسي؛ خاصة أن القرار جاء في أخريات أيام المؤتمر الوطني، وكذلك ترحيب ما يُعرف بالمكتب السياسي لإقليم برقة بانتخابات مجلس النواب، وموافقته على فتح مرافئ نفطية للتصدير بعد إغلاقها قرابة العام -وهو الذي أعلن تأييده لعملية كرامة حفتر- يرجح هذا التحليل.
ومع هذا السيناريو الأخير قد تتوقَّف عمليات حفتر العسكرية بالشرق الليبي، إلا أن حربًا جديدة قد تنشب؛ خاصة من ثوار جبهات لم يعتادوا على حيل وألاعيب السياسة ولا صبر لهم عليها، الأمر الذي قد يدفع ليبيا نحو حروب مختلفة حسب القوى السياسية المسيطرة على البرلمان القادم والحكومة الجديدة.
فرص الاستقرار السياسي التي تمثلها المحطة الانتخابية
تكمن إحدى أهم فرص الاستقرار السياسي والأمني في ليبيا في ابتعادها عن دائرة التأثير الإقليمي والدولي؛ حيث يحتاج الفاعلون السياسيون والعسكريون إلى حوار داخلي؛ فحقيقة الأزمة الليبية ذات بعدين خارجي وداخلي، وتكمن عملية نجاح أو فشل الانتخابات في تحقيق تحسُّن في عدَّة ملفات؛ أهمها: الملف الأمني، ووقف النزيف في إهدار المال العام بسبب الفساد المالي والإداري.
ولعلَّ ضعف المشاركة في انتخابات مجلس النواب تعطي مؤشرًا على حالة الإحباط التي يعاني منها الليبيون، وعدم تفاؤلهم بإحداث تغيرات كبرى عن طريق استبدال جسم تشريعي بآخر، فقرابة النصف مليون ليبي هم مَنْ أدلوا بأصواتهم؛ بينما تقاعس ما يُقارب ثلاثة ملايين عن ممارسة حقهم الانتخابي، وقد أشار الكاتب سين غوبتا في مقال نشر على موقع صحيفة "ذي إندبندنت" إلى أن نصف عدد الناخبين يشتكون من أن المرشحين يقدمون أنفسهم على أنهم أفراد مستقلون دون الكشف عن انتماءاتهم الحزبية؛ على الرغم من النداءات المتكررة لتغيير هذا الوضع(4).
ومن المفيد الإشارة إلى أن الوضع الأمني أو الاقتصادي ليس هو الذي يفرض تحديًا حقيقيًّا أمام الانتقال السلمي والديمقراطي في ليبيا وحده؛ بل تبقى مشاركة جميع التيارات السياسية في صناعة القرار وصوغ عقد سياسي جديد لليبيا المستقبل هو الفيصل في مدى نجاعة ونجاح الانتخابات؛ فالاستحقاق الوطني الثاني في تاريخ ليبيا تلفع بروح الإقصاء المقيتة للتيار الإسلامي الوسطي، ومحاولة الزجِّ به في أتون حرب لا نهاية واضحة لأفقها، والخلط بينه وبين باقي التيارات الراديكالية غير المؤمنة بنجاعة الديمقراطية في ليبيا؛ وذلك مع الاعتراف باحتمال أن يواجه النواب الجدد أزمة شرعية داخلية؛ بسبب نسب الإقبال الضعيفة على الانتخابات.
___________________________
هشام الشلوي - باحث ومحلل سياسي ليبي
المصادر
(1) Mattia Toaldo / Libya: the dangers of inconclusive elections .. إضغط هنا.
(2) وزير الدفاع الفرنسي: جنوب ليبيا تحول إلى "وكر أفاع" للمتشددين الإسلاميين:
http://www.france24.com/ar/20140407-%D9%88%D8%B2%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%81%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A-%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D9%83%D8%B1-%D8%A3%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D9%85%D8%AA%D8%B4%D8%AF%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%8A%D9%86 /
(3) إحاطة من الممثل الخاص للأمين العام في ليبيا، السيد طارق متري - اجتماع مجلس الأمن في التاسع من يونيو/حزيران 2014:
http://unsmil.unmissions.org/Default.aspx?tabid=5338&language=ar-JO
(4) KIM SENGUPTA , Libya elections: Tension as the country heads for the polls in an attempt to end anarchy and conflict
http://www.independent.co.uk/news/world/africa/libya-elections-tension-as-the-country-heads-for-the-polls-in-an-attempt-to-end-anarchy-and-conflict-9560767.html