(الجزيرة) |
ملخص ظهر مصطلح الجمهورية التركية الثانية أكثر من مرة في التاريخ التركي الحديث، ولكنه اتخذ منذ عام 1991 زخمًا نظريًا مهمًا مع تنظير محمد ألتان له وتعريفه ببساطة بأنه "دمقرطة الجمهورية". لكن الدمقرطة الجدية بحاجة إلى إبعاد قوى ومؤسسات وإرث طويل، وإحداث إصلاحات وتحولات جذرية في النظام السياسي والقضائي والاقتصادي، فضلاً عن إعادة توزيع القوة بين أطراف المجتمع والدولة. ولا شك في أن مثل هذه العملية الضخمة تحتاج إلى إجراءات مؤسسية تدريجية متوالية، كان حزب العدالة والتنمية مَنْ أخذ على عاتقه إنجازها ضمن ما يُطلق عليه "الجمهورية الجديدة" أو ضمن استراتيجيته المعروفة لعام 2023. وبهذا الصدد، تعد الانتخابات الرئاسية المباشرة خطوة مهمة في مشروع إعادة البناء السياسي في تركيا، بوصفها تعيد الاعتبار لتأثير الرئيس والشعب في تحديد سياسة الدولة، لكنها تبقى خطوة رمزية إذا لم يجرِ إقرار الخطوة الأهم وهي الدستور الجديد الذي سيضع -بحسب أردوغان- حدًا لـ "تركيا القديمة". ومن المفترض أن يتوج الدستور الجديد الإصلاحات؛ بحيث يجعل منصب الرئاسة فعالاً ليس لارتباطه بأردوغان أو أحد مؤيديه، بل باعتماده على نظام مؤسسي دائم يمكن الشعب من التأثير مباشرة في تحديد سياسة الدولة. |
يبدو أن الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية سوف تحل مع تغييرات جذرية في طبيعتها، مثلما تمت إعادة تشكيل الدولة قبل 100 عام. فمنذ تأسيسه، وضع حزب العدالة والتنمية استراتيجية طويلة المدى يفترض أن تحقق أهدافها في عام 2023، عبر إنجازات اقتصادية ذات مستوى عالمي، وتحولات اجتماعية وسياسية ودستورية. ومع إنجاز الانتخاب الشعبي المباشر للرئيس للمرة الأولى في تاريخ تركيا، ومع وصول الشخصية الأساسية التي تقود هذه التحولات إلى سدة الرئاسة -رجب طيب أردوغان- أضحت مقولة دخول الجمهورية في عهدها الثاني ممكنة، وبخاصة في حال استُكملت المتطلبات الضرورية الأكثر أهمية لتحقيق ذلك. فما خلفية مفهوم الجمهورية الثانية؟ وما الذي يعنيه نظريًا في تركيا؟ وما الخطوات الواقعية التي أُنجزت لتحقيقها؟ وما أهمية التحول إلى انتخابات رئاسية "مباشرة" في هذا السياق؟ وما المتطلبات الجوهرية التي تبرر الدخول في نظام جديد أو جمهورية ثانية؟ وهل يعتمد تدشين هذا النظام واستمراره على شخصية أردوغان الكاريزمية، فيكون عهدًا مؤقتًا مرتبطًا به وينتهي بنهاية رئاسته، أم أن هذا العهد سيكون مؤسسيًا ودائمًا؟
الجمهورية الثانية نظريًا
قبل تتبع أصل هذه التسمية في تركيا وتطورها، يتعين –بإيجاز- فهم السياق التاريخي الذي أسس لمصطلح الجمهورية "الثانية" أو "الجديدة" في الواقع السياسي للدول؛ فـ"العدد" يُضاف أو يُنسب إلى اسم الجمهورية اصطلاحًا بعد نشوء تغير جوهري أو كامل في نظام الدولة، وذلك من أجل تمييز النظام الجديد عن النظام القديم. ويعد تغيير الدستور أو التعديل الجوهري لمواده الأساسية من أهم سمات الحكم الجديد. وعادة ما تلحق الصفة العددية باسم الدولة "رسميًا" أو "اصطلاحًا وعرفًا" بعد قيام أحداث كبرى تغير النظام الماضي أو تفرض تطويره. وتتنوع هذه الأحداث بين قيام ثورة شعبية أو انقلاب عسكري أو انتهاء حرب أو ظهور شخصية سياسية أو عسكرية كاريزمية جديدة آسرة؛ تستطيع تدشين نظام جديد بتأييد شعبي كاسح وشرعي.
وعلى الرغم من أن الأدبيات السياسية لا تسعف في الوصول إلى تعريف نظري لأصول هذه الأسماء "العددية" للجمهورية، فإن التتبع العام لتاريخ الدول التي شهدت مثل هذه الأسماء -كفرنسا وإسبانيا والنمسا مثلاً- يوصلنا إلى نتيجة واحدة وهي أن النظام السياسي أو الدستوري قد شهد تحولاً جذريًا برّر إضافة العدد لاسم الجمهورية تمييزًا للعهد الجديد. فقد شهد تاريخ فرنسا الحديث خمس جمهوريات؛ بدأت الأولى بعد إلغاء الملَكية عام 1792، ثم دُشنت الثانية إثر ثورة عام 1848 التي انتهت عام 1852 بعد انقلاب لويس-نابليون بونابرت الذي أسس بدوره "الإمبراطورية الثانية"، وعندما انهارت الأخيرة عام 1870، تأسست الجمهورية الثالثة التي استمرت حتى الاحتلال النازي لفرنسا عام 1940، وبعد التحرير بقليل تأسست الرابعة عام 1946 بنظام برلماني لتنتهي عام 1958 بتأسيس الجمهورية الخامسة على يد شارل ديغول عندما أحلّ النظام شبه الرئاسي محل النظام البرلماني. أما إسبانيا فقد تأسست "الجمهورية الثانية" فيها بعد فوز المرشحين المعادين للنظام الملكي في الانتخابات عام 1931 فنُفي الملك ألفونسو الثامن. واستمرت هذه الجمهورية حتى عام 1939 عندما انقلب عليها الجنرال فرانسيس فرانكو الذي بقي في الحكم حتى موته عام 1975. أما النمسا، فقد تأسست جمهوريتها الثانية التي لا تزال قائمة حتى اليوم بعد تحررها من الوحدة مع ألمانيا عام 1945 إثر هزيمة الأخيرة في الحرب العالمية الثانية.
الجمهورية التركية الثانية
مع أن هناك ثلاث أو أربع محطات تاريخية سابقة تمت الإشارة إليها بوصفها تمثل "الجمهورية التركية الثانية"، فإن أيًا منها لم تؤدِ إلى شيوع هذا المصطلح، ولا إلى إحداث تغيير جوهري في نظام الجمهورية بما يبرر استخدام المصطلح واعتماده. ولذلك ظل استخدامه محدود النطاق ومحصورًا في إشارات متقطعة وقليلة؛ فمثلاً، وضعت مجلة تايم الأميركية مقالاً بعنوان: "تركيا: الجمهورية الثانية" في عام 1961(1)؛ لتشير إلى الدستور الجديد الذي أعقب الانقلاب العسكري آنذاك. لكن كتاب غراهام فولر تضمن مصطلح "الجمهورية التركية الثانية"، للإشارة إلى أن فترة الحكم الديمقراطي (1950-1960) التي سبقت الانقلاب تمثل الجمهورية الثانية على الرغم من أنها لا تختلف إلا قليلاً عن نظام أتاتورك من حيث الانفتاح السياسي وبعض الإصلاحات(2). أما إريك زوكر فقد خصص فصلاً في كتابه حمل هذا العنوان، لكنه أشار إلى أن فترة ما بين الانقلابين (1960-1980) هي الجمهورية الثانية(3). وأخيرًا، فقد حاول بعض المقالات القليلة اعتبار انتخاب عبدالله غول عام 2007 رئيسًا للجمهورية بوصفه ميلادًا للجمهورية التركية الثانية(4). وبصفة عامة، لم ينتشر هذا المصطلح ولم يتحول إلى أمر واقع لا في الخطاب العام ولا في السلوك السياسي التركي.
إن مصطلحي "الجمهورية الثانية" و"الجمهورية الجديدة" أخذا زخمًا مهمًا على الصعيدين النظري والعملي، وبدا أن ثمة خطوات جادة ومتسارعة نحو تحويلهما إلى واقع ملموس ومعترف به. أما الجانب النظري، فقد كان أهم المنظّرين له والمنافحين عنه هو محمد ألتان، أستاذ الاقتصاد في جامعة إسطنبول الذي يتبنى اتجاهًا يجمع بين "الماركسية والليبرالية". فقد نادى في عام 1991 بأهمية التحول إلى "الجمهورية الثانية" بما ينطوي على تغيير ديمقراطي جذري في النظام التركي ومؤسساته وليس تغييرًا أو تحسينًا شكليًا.
ويختصر محمد ألتان ما يقصده بالجمهورية الثانية بتعبير بسيط وهو "دمقرطة الجمهورية"(5)، لكن مغزى هذا التعبير ليس بسيطًا مطلقًا؛ فهو يعني إنهاء دور المؤسسة العسكرية المؤثر منذ عام 1923 وإبعادها عن الحياة السياسية تمامًا، مع ضرورة أن تعكف الحكومة على صنع دستور جديد(6). ولذلك أضحى حينها هدفًا للنقد والتهديدات بسبب أفكاره. وبحسب ألتان: يُعد مصطلح الجمهورية التركية الثانية مهمًا لتمييزه عن مفهوم الجمهورية الذي وجب على الأتراك تقبله إبان إلغاء السلطنة العثمانية، فالناس -بمن في ذلك الأكثر تعليمًا منهم- لم يكونوا يدركون الفرق بين مفهومي "الجمهورية" و"الديمقراطية"؛ فقد كانوا يأملون في أن تضم "الجمهورية" جميع المعاني والأشياء؛ فالجمهورية تمنع حكم السلالة بأن ينتقل الحكم من الأب إلى الابن. ولكن من أجل أن ينتقل الحكم إلى الناس فعليًا فـ"يجب أن تكون هناك ديمقراطية، وآراء مختلفة، ومنافسة، وتعددية، وحرية الفكر واحترام الآخرين"(7).
ويقول: "مع ذلك، ما الذي قامت به تركيا؟ قامت بنزع الحكم من السلالة العثمانية وأعطته لنظام الحزب الواحد. وهذه ليست الديمقراطية؛ هذه ليست سوى الجمهورية... لقد استمرت هذه الحال على الرغم من دخول تركيا نظام التعددية الحزبية منذ عام 1946". ويضيف أنه استخدم مصطلح "الجمهورية الثانية" للإشارة إلى "ديمقراطية تتوافق مع معايير الاتحاد الأوروبي التي ينبغي أن تحل محل أيديولوجية الحزب الواحد مثل الأيديولوجية الكمالية مثلاً"(8).
أما على الصعيد العملي في تحقيق مفهوم "الجمهورية الثانية"، فقد توافقت تلك الأفكار مع رؤية حزب العدالة والتنمية منذ عام 2002 ومع استراتيجيته لعام 2023 التي تَعِدُ الأتراك بـ "جمهورية جديدة" تحول آمالهم وتطلعاتهم في النمو الاقتصادي والممارسة السياسية والحرية والديمقراطية إلى واقع ملموس، عبر إجراء تغييرات جذرية في الدولة بما يواكب واقع تركيا الجديد ومكانتها.
فقد تعهد أردوغان بأن حزبه لن يتراجع عن مسار الحداثة الذي أسسه أتاتورك، وبأنه بحلول عام 2023 ستكون هناك "تركيا الجديدة"(9). ومن أجل ذلك عمل الحزب على توسيع وتسريع عملية الإصلاحات الداخلية التي بدأت منذ عام 1999 في مجالات الاقتصاد والسياسة والحريات وحقوق الأقليات وحقوق الإنسان، وزيادة التمثيل المدني في مجلس الأمن القومي؛ إذ أصبح هناك مثلاً توازن بين الأعضاء المدنيين والعسكريين فيه، ولم يعد قادة أفرع القوات المسلحة أعضاء في المجلس الذي أصبح يرأسه مدني، كما تم إلغاء التمثيل العسكري في مجلس التعليم العالي والمجلس الأعلى للإذاعة والتليفزيون، ووُضعت القوات المسلحة تحت الرقابة الكاملة من قبل ديوان المحاسبة. لقد أسهمت هذه التغييرات في إضعاف دور الجيش في الشؤون السياسية، وتقليص الطابع الأمني للسياسة على المستويين الداخلي والخارجي، كما شكّلت عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي قاعدة مشتركة أجمعت عليها النخب المدنية والعسكرية؛ فقد مكّنت الإصلاحات التي جاءت بسبب تلك العملية منظمات المجتمع المدني من دخول السياسة وتوسيع مجال الحياة السياسية وتضييق المجالات التي يهيمن عليها الأمن والجيش.
ولكي يستطيع المضي قدمًا في الإصلاحات، فقد كان حزب العدالة والتنمية بحاجة إلى تحقيق نجاحات اقتصادية داخلية ملموسة تضفي مصداقية على خطاب التنمية الاقتصادية والازدهار اللذين يسعى لتحقيقهما. فعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية الحادة التي شهدتها البلاد في عام 2001، عملت حكوماته منذ عام 2002 على تحقيق معدلات نمو متصاعدة. وبهذا الصدد، غالبًا ما يعقد الحزب مقارنات بين الوضع الاقتصادي لتركيا عند تسلمه السلطة، والوضع الذي وصلت إليه تركيا بعد نحو عقد واحد فقط وهي في ظل حكمه. فبين عامي 2002 و2011 مثلاً تحقق صعود اقتصادي كبير بحسب المؤشرات التالية: كان الناتج المحلي الإجمالي 230 مليار دولار أميركي وأصبح 774 مليارًا، وارتفع دخل الفرد من 3500 دولار إلى 10000 دولار، وارتفع إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي في البنك المركزي من 28 مليار دولار إلى 110 مليارات، وكانت نسبة استثمارات رؤوس الأموال الثابتة في القطاع الخاص 28 مليار دولار فقفزت إلى 140 مليارًا. ولا يتوقف الأمر عن هذا الحد، فقد حدد برنامجًا لتركيا حتى عام 2023 يهدف من خلاله إلى أن تصبح ضمن الدول العشر الأوائل عالميًا على الصعيد الاقتصادي، وأن يصل حجم اقتصادها إلى تريليوني دولار، وحجم صادراتها إلى 500 مليار دولار، ودخل الفرد فيها إلى 25 ألف دولار(10).
هكذا، أضحت مقولات محمد ألتان "المثالية" النظرية المتعلقة بالجمهورية الثانية تجد أرضية "واقعية" لها عبر الخطوات الكبرى التي أنجزها حزب العدالة والتنمية في هذه الطريق، والذي يَعِدُ الأتراك بأن تحل عليهم ذكرى تأسيس الجمهورية عام 2023 بـ"جمهورية جديدة". فما الإجراءات والتحولات الجوهرية المتبقية التي تكرس تلك الجمهورية في عهدها الثاني؟
متطلبات الوصول إلى الجمهورية التركية الثانية
مع الأهمية الرمزية لمئوية تأسيس الجمهورية، ومع أهمية التحولات التي شهدها المجتمع والدولة التركية حتى الآن، فإن ذلك لم يغير في طبيعة النظام السياسي والدستوري على نحو جوهري بما يبرر الادعاء بأن ثمة جمهورية جديدة قد انطلقت لتحل محل النظام القديم. ولذلك، يسعى حزب العدالة والتنمية لاستكمال مسيرة التحولات عبر خطوات أساسية حاسمة. ويُعد أهم هذه الخطوات التحول إلى النظام الرئاسي الذي يمكن أن يعيد للرئيس دوره التنفيذي والسيادي بدلاً من الدور الرمزي والشرفي، كما يعيد الصلة المباشرة بين الشعب والرئيس بما يفعّل دورهما في تحديد سياسة الدولة والتأثير فيها. ولإدراك التغيير الجوهري المطلوب لابد من فهم واقع الرئاسة في تركيا وتطوراتها، ثم المتطلبات القانونية والإجرائية والسياسية التي تحققت في سبيل هذا التحول، وكذلك المتطلبات المتبقية التي من شأنها تحقيق الهدف النهائي المفضي إلى إعلان "جمهورية جديدة" ربما تسمى "ثانية".
في الواقع، شهدت تركيا نوعين من الرئاسة(11): استمر الأول منذ تأسيس الجمهورية عام 1923 حتى الانقلاب العسكري عام 1960، وكان الحزب الأكثر شعبية يستطيع أن يعيّن زعيمه رئيسًا، وكان دور الرئيس فعالاً حيث تدار البلاد من القصر الرئاسي. أما النوع الثاني من الرئاسة، فهو وليد ذلك الانقلاب، فعندما تمت الإطاحة بالرئيس جلال بايار، وُضع دستور جديد عام 1961 (وكرّسه انقلاب عام 1980) قلّص صلاحيات الرئيس وقيّد التأثير الشعبي في سياسة الدولة عبر إنشاء سلسلة من المؤسسات التي تسيطر بالأمر الواقع على الشؤون الحكومية. وبهذا، قطع المجلس العسكري علاقات القصر الرئاسي المباشرة مع الشعب، ولم يعد الرئيس يعتمد على الدعم الشعبي للبقاء في منصبه، كما أُبعد منصبه عن الأحزاب السياسية. وعلى الرغم من أن الاستفتاء على التعديلات الدستورية لعام 2007 أقرّ "الانتخاب المباشر للرئيس"، فإن صلاحيات الرئيس لا تزال محدودة ولم يجر تعديل بشأنها.
ولكن مع فوز رجب طيب أردوغان بمنصب الرئيس في أغسطس/آب 2014، فإن أولويته ستتركز على إنجاز خطوة جوهرية قادمة تتضمن اعتماد دستور جديد يوازن بين سلطات الحكومة والرئيس، عبر استحداث نظام رئاسي أو شبه رئاسي على غرار فرنسا. فأثناء حملته الانتخابية، حدد الآلية التي تحقق أولويته والنتيجة المترتبة عليها؛ فقال: "سوف نضع دستورًا جديدًا. تركيا القديمة أصبحت من الماضي"(12).
ولكن في ظل السلطات المحدودة الحالية للرئيس، ما الذي يمكن لأردوغان أن يفعله في تحديد مستقبل تركيا؟ يذهب البعض إلى أن فوز أردوغان، بوصفه أول رئيس منتخب بشكل مباشر في تاريخ تركيا، سوف يسمح له بالسيطرة على مجلس الأمن القومي، واتخاذ قرار بشأن استخدام القوة العسكرية، مع الحفاظ على قبضته على الحكومة التي يديرها حزبه. كما سيكون قادرًا على تسمية أعضاء المحكمة العليا في تركيا. ويقول علي نهاد أوزكان، المحلل في مؤسسة أبحاث السياسة الاقتصادية في أنقرة: "إن أردوغان سيعزز سلطته كرئيس بمساعدة حكومة موالية، وهذا من شأنه أن يعطيه القدرة على السيطرة تمامًا على أداء الدولة"(13). فيما يذهب آخرون إلى أن أردوغان بوصفه رئيسًا، سوف يستطيع تشكيل وصوغ تركيا بحسب التوجه الذي يؤمن به، تمامًا كما استطاع أتاتورك أن يصوغ تركيا علمانيًا وغربيًا(14).
إن أردوغان يواجه الخيار نفسه الذي واجهه رؤساء وزراء أقوياء سابقون، مثل: تورغوت أوزال وسليمان ديميريل اللذين كان عليهما الاختيار بين منصب الرئاسة الشرفي والاستمرار في رئاسة الوزراء التي تعطيهما سلطة حقيقية، فاختار الاثنان الرئاسة. ومع ذلك، يبدو وضع أردوغان مختلفًا لأنه أتى عبر انتخابات مباشرة(15)عززت من شرعيته عبر الدعم المباشر من المواطنين، كما أن حزبه يسيطر على الحكومة والبرلمان؛ ما يجعل تأثيره خلال السنوات القادمة كبيرًا عبر الاستناد إليهما في تعزيز قراراته وسلطته.
لذلك يعد عام 2015 حاسمًا في مستقبل تركيا، فلكي يتحول النظام السياسي إلى رئاسي، فإن حزب العدالة والتنمية يتعين عليه ضمان الحصول على أغلبية كافية في الانتخابات البرلمانية المقبلة تمكنه من إنجاز الخطوة المركزية المهمة وهي إقرار الدستور الجديد أو تقديمه للاستفتاء الشعبي. فهناك طريقتان لتعديل الدستور أو إقرار دستور جديد، الأولى: عبر التصويت بأغلبية الثلثين 367 من أصل 550، أو التصويت بأغلبية 330 صوتًا ثم إحالة التعديل إلى الاستفتاء. وحيث إن حزب العدالة والتنمية لديه 320 مقعدًا في البرلمان الحالي، فقد فشل في إقناع أحزاب المعارضة بالتصويت على دستور جديد(16)؛ لذلك من المرجح ألا يخوض في تعديل الصلاحيات إلا بعد انتخابات عام 2015.
ولكن حتى السنة القادمة، لا يُتوقع من أردوغان انتظار إقرار تعديل دستوري أو دستور جديد من أجل التحرك نحو ما يؤمن به ونحو "الجمهورية الجديدة"، فهو يدرك أن الصلاحيات المحدودة الحالية ليست قليلة أيضًا في حال أراد الرئيس استخدام صلاحياته كافة وبفاعلية. فبحسب الدستور الحالي يستطيع الرئيس ممارسة سلطات كثيرة، على الرغم من أن البعض يعتبرها شرفية إذا قورنت بالنظام الرئاسي، ومنها(17):
-
الصلاحيات التنفيذية: تعيين رئيس الوزراء وقبول استقالته، وتعيين وعزل الوزراء بناء على اقتراح رئيس مجلس الوزراء، ويُعدّ الرئيس القائد العام للقوات المسلحة نيابة عن البرلمان، ويتخذ قرار الحرب أو استخدام القوات المسلحة، ويعيّن رئيس الأركان العامة، ويرأس مجلس الأمن القومي، ويعيّن أعضاء مجلس التعليم العالي، ويعين عمداء الجامعات.
-
الصلاحيات التشريعية: إعادة القوانين إلى البرلمان، وتقديم التعديلات على الدستور إلى الاستفتاء الشعبي إذا رأى ذلك ضروريًا، والطعن على أحكام المحكمة الدستورية لإلغاء أحكام معينة متعلقة بالبرلمان على أساس أنها غير دستورية.
-
الصلاحيات القضائية: يعين أعضاء المحكمة الدستورية وربع أعضاء مجلس الدولة، ورئيس الادعاء العام ونائب رئيس الادعاء العام في محكمة الاستئناف العليا، وأعضاء المحكمة العسكرية، وأعضاء المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين.
خاتمة
تُمكّن الصلاحيات الحالية للرئيس الذي يرغب في استخدام سلطته كلها -وبخاصة أردوغان المدعوم بشرعية شعبية مباشرة وبشخصية كاريزمية اكتسبها من منجزاته- من تحقيق رؤيته واستراتيجيته عبر تعيين وعزل الشخصيات التي يراها مناسبة للمناصب السيادية الفعلية في الدولة، وبخاصة في المؤسستين العسكرية والقضائية اللتين أدّتا دور الحارس على الإرث العلماني الكمالي بطابع أمني، واللتين أعاقتا المسار الديمقراطي أحيانًا ومسيرة الحركة الإسلامية التي تعود جذور أردوغان وحزبه إليها. ولكن هذا الوضع سيرتبط مؤقتًا بوجوده الشخصي أو من يؤيده في المنصب. ولذلك، فهو يدرك أن التحول الاستراتيجي الحقيقي للدولة التركية الذي يطمح إلى إنجازه يتجاوز مسألة وجوده في الرئاسة من عدمه، بل يعتمد على دستور جديد يؤسس لدور فعال للشعب في تحديد سياسات الدولة، كما يعتمد على تكريس واقع اقتصادي متقدم يُلزم من يتسلم المسؤولية بالحفاظ على المكانة التي وصلتها تركيا. إذا كان نظام "الجمهورية القديمة" سيصبح من الماضي، كما يريد أردوغان، فيتعين إقرار "جمهورية جديدة" تراعي أفضل المعايير والممارسات الدولية في الحريات والديمقراطية والمؤسسية والشفافية والسلم الداخلي.
___________________________________
عماد قدورة - باحث في الدراسات الاستراتيجية.
الهوامش والمصادر
1- “Turkey: The Second Republic,” Time, November 3, 1961, at:
http://content.time.com/time/magazine/article/0,9171,897881,00.html
2- Graham E. Fuller, The New Turkish Republic: Turkey as a Pivotal State in the Muslim World (Washington, DC: United States Institute of Peace Press, 2008).
3- Erik J. Zürcher, “The Second Turkish Republic, 1960-1980,” in Erik J. Zürcher, Turkey: A Modern History (London: I.B. Tauris, 1993), pp. 253-291.
4- انظر مثلاً: فهمي هويدي، "إرهاصات ميلاد الجمهورية التركية الثانية"، جريدة أخبار الخليج، 3 أيلول/ سبتمبر 2007؛ وكذلك:
Kerem Öktem, “Harbingers of Turkey’s Second Republic,” MERIP, August 1, 2007, at: http://www.merip.org/mero/mero080107
5- Yasemin Sim Esmen, op. cit.
6- “Intellectual Mehmet Altan says EU derailment will harm Turkish public,” Today’s Zaman, January 10, 2011, at: http://www.mehmetaltan.com/index.asp?sayfa=dis-basinda-mehmet-altan&icerik=1809
7- Yasemin Sim Esmen, op. cit.
8- Ibid.
9- Fulya Ozerkan, “Erdogan seeking place in history alongside Ataturk,” AFP, August 3, 2014, at: http://news.yahoo.com/erdogan-seeking-place-history-alongside-ataturk-033255751.html
10- "الرؤية السياسية لحزب العدالة والتنمية"، انظر:
http://www.akparti.org.tr/upload/documents/akparti2023siyasivizyonuarapca.pdf
11- Hatem Ete, “Toward A New Type Of Presidency,” Daily Sabah, April 28, 2014, at: http://www.dailysabah.com/columns/hatem-ete/2014/04/28/toward-a-new-type-of-presidency
12- "الانتخابات الرئاسية التركية"، تقرير قناة سكاي نيوز عربية، 9 آب/ أغسطس 2014، الساعة 23:20.
13- Selcan Hacaoglu, “Erdogan seeks to emulate Ataturk in election to cement power,” The Sunday Morning Herald, August 7, 2014, at: http://www.smh.com.au/world/erdogan-seeks-to-emulate-ataturk-in-election-to-cement-power-20140807-101dod.html
14- Soner Cagaptay and James F. Jeffrey, “Turkey’s 2014 Political Transition from Erdogan to Erdogan? The Washington Institute for Near East Policy, Policy Notes, no. 17 (January 2014), p. 5. at:
http://www.washingtoninstitute.org/uploads/Documents/pubs/PolicyNote17_CagaptayJeffrey_2.pdf
15- ?lter Turan, Turkey’s Elections and the Politics of Uncertainty, The German Marshall fund of the US, April 15, 2014, p. 2, at: http://www.gmfus.org/wp-content/blogs.dir/1/files_mf/1397580714Turan_PoliticsofUncertainty_Apr14.pdf
16- Soner Cagaptay and James F. Jeffrey, op. cit., p. 5.
17- Presidency of the Republic of Turkey, “Duties and Powers,” at: http://www.tccb.gov.tr/pages/presidency/power/