اعتصامات باكستان: ثورة أم انقلاب عسكري ناعم؟

تؤشر الاعتصامات الأخيرة التي شهدتها باكستان، على مدى عمق أزمة النظام الباكستاني في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تناقش هذه الورقة خيارات الحكومة والمعارضة والجيش تجاه الأزمة الحالية. وسواء أدى ذلك إلى رحيل الحكومة أو ترحيلها، أو قام الجيش بانقلاب فإن البلد يواجه مخاطر حقيقية.
20149211252804734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
كشفت الاعتصامات الأخيرة التي شهدتها باكستان، مدى عمق أزمة النظام الباكستاني ليس في الحيز السياسي فحسب وإنما في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.

وتؤشر هذه الاعتصامات إلى التهميش والحرمان الذي تعيشه شرائح مهمة في المجتمع، الذي ينظر إلى العملية الديمقراطية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال على أنها مفرغة من مضمونها ومفصلة على مقاس قيادات وواجهات إقطاعية وبورجوازية بألوان سياسية وديمقراطية.

يبدو أن من الصعب جلب ثورة حقيقية، مع استعداد الضامن أو المالك وهو الجيش للانقلاب، بذريعة الضرورة أو استجابة للطموحات الوطنية كما درجت العادة. ومع هذا فإن الظروف الداخلية والإقليمية والدولية قد تجعل من عودة الجيش صعبة؛ فالقضاء الباكستاني ليس هو نفسه الذي شرعن كل الانقلابات العسكرية؛ فقد أصدرت المحكمة العليا قرارًا بإجماع قضاتها غير قابل للنسخ يقضي بعدم قانونية أي تدخل للجيش بالسياسة، يُضاف إليه اتساع نطاق الاشتباكات مع الهند بشكل يومي في سابقة لم تتكرر منذ عام 1971، وكذلك انشغال العسكر بطالبان باكستان وبمتمردي بلوشستان، فضلاً عن الوضع المضطرب بأفغانستان، كلها تحتم على الجيش أن يلعب من وراء ستار.

وبقطع النظر فيما إذا سترحل الحكومة أو ستُرحّل، أو سيأتي الجيش بانقلاب خشن أو ناعم فإن البلد مفتوح على احتمالات خطرة.

حتى مطلع عام 2013 كان لاعب الكريكيت الباكستاني الذي قاد فريق بلاده إلى الميدالية الذهبية عام 1992، رافضًا لكل أشكال الإصلاح السياسي والمشاركة في انتخابات تكرّس نظامًا يهمّش ويقصي أكثر مما يُشرك بحسب رأيه، فكانت أجندته من نقطة واحدة وهي الثورة على النظام، لكن فجأة غيّر عمران خان رأيه وانضم إليه سياسيون من أحزاب تقليدية عدة على رأسها حزب الرابطة الإسلامية وحزب الشعب الباكستاني، وقرر خوض العملية الانتخابية وتعهد بالفوز المؤزر.

حسابات حقل عمران لم تتفق مع بيدره، وعاين بنفسه عمق نظام سياسي مفصّل على مقاس أحزاب باكستانية قديمة، فلعبة الكراسي الموسيقية بين حزب الرابطة وحزب الشعب تتواصل منذ عقود، خرج حزب الشعب من السلطة ودخل إليها حزب الرابطة الإسلامية بزعامة نواز شريف، ليتبوأ عمران خان وحزبه "الإنصاف" المرتبة الثالثة، لكن طموح خان (61) عامًا، تحول إلى السياسة ناقلاً معه سياسة الكريكيت المتسمة بالأبيض والأسود إما انتصار أو هزيمة، وبرع بها لكنها تتناقض مع عالم السياسة المعقد والمليء بالألوان والأطياف.

تلك مقدمة لاستبطان حقيقة الاعتصامات التي دعا إليها عمران خان مطلقًا عليها "مسيرة الحرية الطويلة"، وهدفها المعلن إسقاط حكومة شريف واجتراح إصلاحات حقيقية في النظام السياسي والانتخابي الباكستاني، لكن مرة ثانية لم يتفق حساب الحقل مع حسابات البيدر، فعجز عن الوفاء بوعده بمسيرة مليونية لم يحشد لها سوى عشرين ألفًا من أنصاره، وهو ما أثار غضبه خلال فطور صباحي أُعدّ له في "كوجران واله" بطريق مسيرته إلى إسلام آباد حين خاطب مضيفيه: "لا أريد فطورًا.. أريد متظاهرين".

تكتيكات عمران خان الحدية والمتسمة بالمفاصلة مع الحكومة والنظام أوردته المهالك؛ فقد وصف نفسه بطارق بن زياد وحرقه السفن منذ البداية، لكن هذا الحرق كان فقط مع القوى الديمقراطية، وليس مع الجيش الذي استجاب لزيارة مقره من أول إشارة، مختطًا لنفسه سياسة بناء الجسور مع الجيش والحذر مع الحكومة.

وجاءت دعوته للباكستانيين إلى العصيان المدني وعدم دفع فواتير خدمات الكهرباء والمياه، وسحب أرصدتهم من البنوك الباكستانية مع مناشدة المغتربين تحويل أموالهم عبر نظام الحوالة وليس عبر البنوك، والتعهد بعدم دفع خدمة القروض الدولية للمؤسسات النقدية الدولية كلها جاءت لتثير مخاوف الداخل والخارج، فهذا العصيان المدني إن تحقق سيؤدي إلى إفلاس الدولة الباكستانية وعجزها عن دفع الرواتب ونفقات الدفاع والتعليم والصحة وانهيار البلد برمته.

بالمقابل قدمت الحكومة قوارب نجاة عدّة لعمران واعتصاماته بقبولها خمس نقاط مهمة من مبادرته ذات الست نقاط مستثنية ما يتعلق بتنحي نواز، كان من أهم نقاط المبادرة: تشكيل لجنة قضائية ذات صلاحيات مطلقة للتحقيق في عمليات تزوير شابت العملية الانتخابية في مايو/أيار 2013، بالإضافة إلى إجراء إصلاحات في النظام الانتخابي، ولكن يبدو أن السيف سبق العذْل وكعادة معظم السياسيين يستجيبون للضغوط بعد فوات الأوان، رفض خان وأصرّ على الاستقالة.

الاستقالة التي عزّ على ممثلي حزبه الاستجابة لها حين طالبهم عمران بإخلاء مقاعدهم في البرلمان الفيدرالي، فلا تزال حكومة بختون خواه التي يديرها حزبه تعمل بكل طاقتها وهو ما عكَس الفجوة بين القول والفعل "وربما هذا ما دفعه لعدم طلب الاستقالة من حكومة بيشاور خشية تمردهم عليه أيضًا"(1).

استغرق وصول حزب الإنصاف بزعامة عمران خان للوصول إلى القمة 18 سنة ولكن يبدو أنه ببضعة قرارات خاطئة سيدفع ليس الحزب فقط نحو مأزق حقيقي، بل النظام الديمقراطي برمته، وهو الذي كان يعد الباكستانيين بأنه القوة الثالثة.

ويُظهر الإصرار على تنحي شريف وحل البرلمانات أن المطلوب هو رأس النظام الديمقراطي في باكستان إذ من الصعب أن تقبل الأحزاب السياسية التقليدية بذلك؛ فقبوله يعني أن أي بضعة آلاف في المستقبل يستطيعون الإطاحة بخيار الشعب وبحكومته، وهو ما قد يمنح شرعية لمطالب طالبان باكستان؛ ولذا جاء الرد بقرار جماعي من البرلمان الفيدرالي بدعم شريف والتنديد بالاعتصامات طريقًا لإسقاط حكومة منتخبة، وتبعته برلمانات محلية أخرى.

بموازاة هذه المسيرة الطويلة كان رجل الدين الباكستاني طاهر القادري ذو الجنسية الكندية يتحرك بمسيرة أخرى حرص الطرفان: القادري وخان على نفي وجود التنسيق بينهما، ولكن الوقائع على الأرض تشير إلى خلاف النفي.

كانت مسيرة القادري التي أُطلق عليها "مسيرة الثورة" أكبر عددًا، وإن كانت لم تتعد الثلاثين ألف محتج بيْد أنها أكثر تنظيمًا وحماسًا للرابط الديني بين عناصرها، ويدعو القادري إلى ثورة تطيح بشريف وتحاكمه مع شقيقه باتهامه بإصدار الأوامر للشرطة بإطلاق النار على معتصمين تابعين له في لاهور وقتل 14 منهم وجرح 80 آخرين.

سبق للقاردي أن حشد مثل هذا الحشد قبل عامين ضد حكومة زرداري ولكن انفض الحشد دون أن يحصل على مطالبه وعاد إلى كندا وفُسرت حينها على أنها تكتيكات ضغط يلجأ إليها الجيش الباكستاني من خلاله لانتزاع تنازلات من الحكومة إن هي خرجت عن نصه.

لابد من العودة إلى خلفية القادري والمدرسة الدينية التي يحملها بين جوانحه لفهم أعمق لما يجري، فالقادري هو النجم الصاعد في سماء المدرسة البريلوية الصوفية والتي كانت على مدى التاريخ الباكستاني جزءًا من السياق السياسي الأكبر ونُقل عن مؤسس مدرستها السياسية شاه أحمد نوراني أنه لبقائها حية سياسيًا لابد أن تكون جزءًا من السياق السياسي الباكستاني الأكبر. لكن القادري الذي يدير سلسلة مدارس دينية ضخمة في باكستان تُعرف بـ"منهاج القرآن" وحزبًا سياسيًا "تحريك عوام" برز عام 2012 باعتصاماته ضد حكومة زرداري، فهو أقرب ما يكون إلى أنموذج فتح الله غولن التركي، ويحظى بشبكة مدارس دينية ضخمة، محمية خارجيًا بعدم إزعاجها كباقي المؤسسات الإسلامية التي يهددها سيف الإرهاب خارجيًا، وداخليًا من قبل العسكر.

يسعى القاردي إلى طرح البريلوية كجهة سياسية منظمة متمردة على النظام السياسي، ولا تستبعد بعض المصادر الأمنية أن يكون له علاقات مع إيران لسببين، الأول: أن البريلوية فكريًا لها تشابهاتها مع الشيعة، وثانيًا: لفقدانها الامتداد العربي والإسلامي بخلاف المدرسة الديوبندية الحنفية أو السلفية أو الجماعة الإسلامية مما يجعلها أكثر عُرضة للاستغلال الإيراني.

الحكومة: ثمن التجاهل

بعد مرور 15 شهرًا على حكم شريف لا تزال البلاد بلا وزير خارجية ولا وزير دفاع ولا وزير مياه، وظل عمران خان خلال هذه الفترة يدعو إلى إعادة فرز الأصوات في أربع دوائر انتخابية فقط لإيمانه بتزوير الانتخابات. لم يستجب شريف لذلك، بل ضغط على الشرطة لرفض تسجيل ضبط بمقتل 14 من ناشطي حزب العوام برئاسة رجل الدين طاهر القادري وجرح أكثر من 80 آخرين في إطلاق نار للشرطة على معتصمي القادري بلاهور، ومع استمرار التجاهل سعى شريف إلى إرسال إشارات بالتضحية بشقيقه شهباز لإرضاء المعتصمين الذين يتهمونه بإصدار أمر إطلاق النار.

فشلت الحكومة على مدى فترتها القصيرة في معالجة الفساد عبر سنّ تشريعات تضع حدًا لظاهرة خطيرة تفتك بالجسم الباكستاني أو باجتراح إصلاحات انتخابية يدعو الجميع إليها.

لكن بالمقابل نجحت الحكومة في تثبيت سعر الروبية بعد تراجع كبير لها، والحفاظ على النقد الاحتياطي في البنك المركزي، مع تراجع التضخم إلى 8%.

استغل المحتجون عصبية القرابة لدى عائلة شريف، هو وشقيقه رئيس وزراء إقليم البنجاب: شهباز، بالإضافة إلى دور ابنته مريم التي تدير مشروعًا بقيمة مليار دولار، ووزير المالية إسحاق دار المتزوج من ابنته.

لقد أخطأت الحكومة الباكستانية مرتين، مرة برفضها إعادة فرز أصوات أربع دوائر فقط، وثانيًا: تسويفها في قبول تسجيل ضبط المعتصمين بقتل رفاقهم والمتهم فيه شهباز شقيق نواز.

وظل نواز شريف يراهن على التفويض الشعبي، لكنه تفويض لم يعصمه من الإطاحة به مرتين 1993 و1999، ومع هذا يواصل جداله لكل من يدعوه إلى التواضع السياسي بأنه ليس زرداري حتى يقبل ضغوط العسكر.

 ربما يُسجّل لشريف عدم الدفع بناخبيه ومؤيديه إلى الشارع تجنبًا للصدام مع المحتجين الذي قد يمهد الطريق تمامًا لانقلاب عسكري خشن بدل الناعم الحاصل، وإن كان قد دفع ببعضه ربما لجسّ نبض أو قد يكون استعدادًا لرفع وتيرة حشد أتباعه.

الجيش: رابح على حساب الديمقراطية

خرجت القطة من الكيس، كما يقول المثل الإنجليزي، وتبين مدى دور العسكر في الاعتصامات حين قصد قادة المعتصمين مقره والتقوا مع ما نعتوه بـ"الضامن والحَكم"، وظهرت معه هشاشة النظام السياسي، فلا الأحزاب السياسية ولا البرلمان ولا المحكمة تمكنوا من تسوية أزمة شلّت البلد برمته وبلغت خسائرها اليومية مليون ونصف المليون دولار، وكانت وجهة المعارضة والموالاة إلى من وُصف بالمالك الحقيقي للبلد "العسكر".

جاء الرد الأعنف على تدخل الجيش من بعض قادة تيار عمران نفسه، حين صرّح جاويد هاشمي، والمعروف بتصريحاته النارية ضد الجيش: "بعد هذا لن يكون باستطاعتنا رفع رؤوسنا عاليًا، إنه يوم مخزٍ لكل السياسيين فعلى الرغم من الوقت الكافي إلا أنهم لم يقدروا على حل الأزمة بأنفسهم"(2)؛ فكان أن طرده خان من الحزب.

يرى البعض أن ما يجري استنساخ للتجربة المصرية والتايلاندية؛ فقادة المعتصمين تحولوا إلى راولبندي العاصمة العسكرية بعد أن عجزوا بمفردهم عن الحسم أولاً، وثانيًا: لممانعة النظام السياسي برمّته أحزابًا وبرلمانًا وقضاءً ومؤسسات مجتمع مدني لإزاحة حكومة منتخبة بالقوة، فالدعوات الخافتة الداعية للنموذج المصري كانت خجولة ولا وزن لها في الشارع، واقتصرت على ما يُعرف بحزب الملك أو الجيش وهو حزب الرابطة الإسلامية "جناح قائدي أعظم" الذي أُسس بدعم الرئيس الأسبق برفيز مشرف، وظل على ولائه للعسكر. لم يجد الأخير غضاضة في تكرار النموذج المصري والتايلاندي بعودة العسكر والإطاحة بحكومتين منتخبتين، لكن باكستان ليست مصر وتايلاند فقد وضعت المحكمة العليا حدًا لتدخل العسكر حين صوّت 15 قاضيًا من قضاتها برفض أي حكم عسكري وهو قرار لا يمكن نسخه.

ظهر الجيش -كما في كل أوقات الأزمات- وصيًا على الدولة، لكن ذلك كشف بالمقابل صعوبة الثقة بقادة الاعتصام في إبعاد الجيش عن السياسة مستقبلاً. وتأكد أيضًا أن البرلمان لم يعد صاحب السيادة الأعلى في البلد، إنه الجيش وإلا فلم لم تقبل المعارضة بقرارات برلمان يضم كل القوى السياسية ورفضت قرارات محكمة وقرارات مؤسسات مجتمع مدني، مصرّة على جرّ العسكر إلى وحل السياسة.

الجيش الذي وُصف بأن تدخله لنزع فتيل الأزمة فجّر أزمات وألقى حجرًا كبيرة في مياه سياسية باكستانية راكدة ستكون حديث البلد، وربما مادة مهمة للمؤرخين عن فشل السياسيين وحرفهم البلد عن سكة الديمقراطية التي بشّروا بها لعقود، بينما فضّلوا مصالحهم الحزبية والشخصية وكبرياءهم على مصالح البلاد والديمقراطية.

بدأت قصة الجيش منذ أن أصدر بيانه بدعوة الأطراف إلى الحوار مع استجابته لدعوة رئيس الوزراء بنشر 700 من قواته في المنطقة الحمراء التي غمرها طوفان المعتصمين، وحذر الجيش بالمقابل المعتصمين من التعرض للمنشآت الحكومية بوصفها رموزًا وطنية، بيان كان يسير على خيط مشدود جدًا دفع الإيكونوميست البريطانية إلى الخلوص بالقول: "إن الجيش يدير كل شيء من وراء ستار"(3)، وإلا فماذا يعني اقتحام مبنى البرلمان لاحقًا الذي كُلّف الجيش بحمايته وكسر بوابته الرئيسية دون أي رد فعل تجاه العملية، وهو ما قد يعزز من يرى أن العسكر لم يهضموا فوز نواز شريف بالانتخابات منذ البداية، ولعل بيان قادة الفيالق في اجتماعهم الاستثنائي وعبارته الملغومة قد تُفهم على تدخل بانقلاب خشن وليس ناعم "إن القوات المسلحة ستحمي كل مؤسسات الدولة ولن تقصّر في الاستجابة للطموحات الوطنية".

بيد أن هذا التدخل هو تقليد درج عليه العسكر؛ ففي عام 1993 تدخل قائد الجيش حينها عبد الواحد كاكر ليرغم الرئيس غلام إسحاق خان ورئيس الوزراء نواز شريف على الاستقالة بعد أن تعذر عليهما العمل سويًا، وعام 2009 تدخل قائد الجيش السابق إشفاق كياني بطلب من الرئيس حينها آصف زرداري الذي كان يهدده شريف بمسيرة طويلة لإعادة قضاة المحكمة العليا، وقضى الضامن أو الحكَم بعودة القضاة، وانفضاض الاعتصام، لكن الجديد اليوم هو أن من يطالب بالثورة على النظام الباكستاني بكل أشكاله هو من يستدعي الجيش للتدخل.

لم يعد نواز شريف، رئيس وزراء منتخب مسلحًا بإرادة شعبية قوية، بعد أن أُشيع نزع العسكر لأسنانه، فصحيفة الوول ستريت جورنال، وفي تحليل مطول شددت على أن الجيش انتزع من نواز شريف ملفات الأمن والسياسة الاستراتيجية للخارجية، وتنقل عن المحللة الباكستانية عائشة صديقة أنه في حال نجا شريف من هذه الاعتصامات فسيظهر كرئيس وزراء اسمي فقط ولن يُعامله العالم بجدية"(4). لكن الخسارة ليست لشريف وإنما أعمق بتعريض النظام الديمقراطي الباكستاني الهش للخطر(5).

ويخلص تقرير مطول لوكالة رويترز إلى القول: إن الأزمة السياسية الباكستانية بوأت الجيش مقعد القيادة في القطار الباكستاني، وتنقل عن المحلل عامر متين "الجيش ليس بحاجة إلى فرض انقلاب عسكري الآن ما دام عمران خان أضعف الطبقة السياسية برمتها، والحكومة راكعة الآن. الجيش يستطيع تطبيق أجندته بلا عمل شيء من جانبه"(6).

بالمقابل، ثمة مخاوف محلية ودولية من وراء تدخل العسكر من أن يؤثر ذلك على أدائه في العمليات العسكرية لمحاربة مقاتلي طالبان شمال وزيرستان بالإضافة إلى توتر العلاقة مع الهند؛ فالتحليلات تقول: إن حجم تبادل إطلاق النار على حدود البلدين لم يسبق له مثيل منذ 1971، بالإضافة إلى تبرم الجيش من رغبة شريف في عدم التدخل بأفغانستان ما بعد الانسحاب الأميركي.

مخاوف الأداء على مهنية الجيش عكسها قائد الجيش السابق الجنرال أسلم بيغ بطريقته "إن ديمقراطية الغوغاء ستُضعف من قدرة وعزيمة الجيش في مواجهة تحديات كثيرة يواجهها الآن، فنشر الجيش في المنطقة الحمراء منذ البداية كان خاطئًا، وإنما كان عليه تطهير إسلام آباد من المحتجين وإرسال كلاً من القادري وعمران إلى بيوتهما"(7).

ثمة مخاوف من أن يكون هناك محاولات لتماهي الوضع الباكستاني مع مشهد إقليمي يتم الدفع إليه من بعض القوى الإقليمية والدولية كالمشهد المصري وعودة العسكر والمشهد الليبي ودفع حفتر للحكم، فمقال رئيس الجواسيس الهندي السابق فيكرام سود ربما يصب في طاحونه عودة العسكر في باكستان حين يقول: إن كل العلاقات الحسنة بيننا وبين السياسيين الباكستانيين لن يسمح بها الجيش فنواز شريف كان وراء دعم طالبان أفغانستان. إن المبادرات والحوارات مع الحكومات المدنية الباكستانية إنما تُضعف العسكر وتقوي السياسيين والعسكر لن يقبلوا بذلك"(8).

محاكمة النظام السياسي

إن العقد الاجتماعي الذي نَظَم المجتمع الباكستاني منذ الاستقلال 1947 مهدد اليوم؛ فالظاهر أن المستهدف هو شريف ولكن جوهر الاستهداف هو النظام السياسي الذي قد يكون خارج السياق لضعفه في إشراك شرائح مجتمعية جديدة بعد أن صار واقعًا تحت هيمنة عقلية إقطاعية سياسية.
يتعالى الخوف من أن تتجه "البلاد إلى مساقات واتجاهات خطيرة، فمن يُحاكَم اليوم هو النظام الديمقراطي برمته(9)، وفي حال انهياره مع غياب البديل، سيتعذر على الجميع ملء فراغه.

وهو ما تفطنت إليه مؤسسات مدنية كرابطة المحامين التي دعت إلى إضراب عام تأييدًا للشرعية، وتنديدًا بالاعتصامات واصفة إياها بغير الدستورية.

ودعت المحكمة العليا المحتجين للانفضاض من ساحة البرلمان وخصصت لهم المجمع الرياضي مكانًا للاعتصام لكنهم رفضوا القرار، فما كان منها إلا أن سجّلت تحذيرها من أن تتحول الاعتصامات إلى تقليد يتطور إلى حرب أهلية(10). مخاوف شاطرها حزب الشعب بلون آخر حين رأى ما يجري تهديدًا للفيدرالية الباكستانية(11).
_________________________________________________________
د. أحمد موفق زيدان - مدير مكتب الجزيرة في باكستان وباحث متخصص في الشأن الباكستاني

الهوامش والمصادر
1-  زاهد حسين the theatre of the  absurd  ـ صحيفة الدون الباكستانية، 27 أغسطس/آب 2014: http://www.dawn.com/opinion
2- صحيفة الدون الباكستانية، تقرير إخباري، Khawwar Ghunmman:political dercy army’s role in politics  ، 29 أغسطس/آب 2014:     http://www.dawn.com/news/1128517/politicians-decry-armys-role-in-politics
3- الإيكونوميست البريطانية،Two steps back ، 20 أغسطس/آب 2014:  http://www.economist.com/blogs/banyan/2014/08/pakistans-political-path
4- وول ستريت جورنال Saeed shah :Nawaz nears pact with military، 27 أغسطس/آب 2014: http://online.wsj.com/articles/pakistani-leader-sharif-nears-pact-with-military-1409186231
5- انظر صحيفة النيويورك تايمز، بقلم ديكن ولش:  popular’s brash tactics stir fears of  crisis in Pakistan ، 24 أغسطس/آب 2014: : http://www.nytimes.com/2014/08/24/world/asia/populists-brash-tactics-stir-fears-of-crisis-in-pakistan.html?_r=2
6- تقرير رويترز على موقع صحيفة الديلي تايمز الباكستانية، 21 أغسطس/آب 2014، http://www.dailytimes.com.pk/national/21-Aug-2014/political-crisis-puts-army-back-in-the-driving-seat
7- أسلم بيغ: 25 أغسطس/آب 2014، http://www.nation.com.pk/columns/25-Aug-2014/solving-the-stalemate
8- فيكرام سود، the India Pakistan merry –go-round موقع MID DAY ، 21 أغسطس/آب 2014،  http://www.mid-day.com/articles/the-india-pakistan-merry-go-round/15545177
9- افتتاحية صحيفة الدون الباكستانية، 27 أغسطس/آب 2014،  Dangerous trends http://www.dawn.com/news/1127962/dangerous-trends
10- صحيفة الدون الباكستانية SC fears civil war if revolt becomes norm ، 28 أغسطس/آب 2014:
 http://www.dawn.com/news/1128235
11- بيان الحزب في صحيفة الدون الباكستانية الصادرة، 26 أغسطس/آب 2014،  http://epaper.dawn.com/DetailNews.php?StoryText=26_08_2014_001_002

نبذة عن الكاتب