(الجزيرة) |
ملخص تناقش هذه الورقة تأثيرات الموقف العدائي من جانب نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تجاه جماعة الإخوان المسلمين على علاقات مصر الإقليمية ومساعي القاهرة لاستعادة الدور الإقليمي لمصر الذي تراجع بقسوة في السنوات الماضية. فرغم حرص النظام الجديد في مصر على القيام بدور أكثر فعالية واشتباكًا مع ملفات وقضايا المنطقة الساخنة، إلا أن هذا الحرص يصطدم بعقبة كبيرة وهي العداء للتيار الإسلامي ومحاولة هذا النظام توسيع دائرة العداء خارج حدود مصر لتشمل كل تنظيمات وحركات الإسلام السياسي في المنطقة. وقد تجلَّى ذلك في الموقف من الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة وكذلك في الدور المصري في الأزمة الليبية فضلاً عن علاقات حذرة مع السودان. ومن هنا، فإن بقاء السلطة في مصر أسيرة النظر الى قضايا وأزمات المنطقة من بوابة العداء للإخوان المسلمين والإسلام السياسي عمومًا سيبقى عقبة كبيرة أمام قدرة مصر على إقامة علاقات أكثر توازنًا وتأثيرًا مع كثير من الأطراف في محيطها الإقليمي. |
مقدمة
يدرك النظام الحالي في مصر برئاسة المشير عبد الفتاح السيسي أهمية السياسة الخارجية عند كثير من المصريين وكيف أن أحد أسباب الغضب والثورة على نظام مبارك في 25 يناير/كانون الثاني كان التراجع الفادح في مكانة ودور مصر الإقليمي والدولي. ومن هنا، فإن السيسي الذي سبق وصوله للسلطة صخب إعلامي وسياسي مبالغ فيه عن قدرة الرجل على استعادة هذه المكانة بل وقيادة المنطقة، يبدو حريصًا على تحقيق ذلك كجزء من تأكيد شرعيته. وقد سعى السيسي منذ تولى الحكم، ورغم ما تعيشه مصر من مشاكل وأزمات سياسية واقتصادية وأمنية، إلى القيام بدور إقليمي أكثر تأثيرًا واشتباكًا مع ملفات المنطقة لاسيما تلك التي تمس الأمن القومي المصري بشكل مباشر.
لكن نظام الرئيس السيسي يواجه تحديًا كبيرًا في سياسته الإقليمية والتي تبدو إلى حد كبير امتدادًا لمخاوفه الأمنية بشأن الإسلام السياسي والتطرف الديني. ويتمثل هذا التحدي في العداء الصارخ لجماعة الإخوان المسلمين واعتبارها جماعة إرهابية بل وتوسيع دائرة هذا العداء لتشمل فصائل الإسلام السياسي ليس في مصر وحدها وإنما في دول المنطقة. وهكذا، فإنه بقدر ما كان الهاجس الأمني والعداء لجماعة الإخوان أحد محفزات أو محددات السياسة الإقليمية لنظام الرئيس السيسي فإنه تحول في الوقت ذاته إلى عبء يُثقل كاهل السياسية الخارجية المصرية ويحد من قدرتها على إقامة علاقات إقليمية أكثر توازنًا وتأثيرًا في قضايا محيطها.
إلى أي حدٍّ تشكِّل عقدة العداء لتيار الإسلام السياسي وهاجس الأمن عقبة في طريق استعادة مصر لدورها الإقليمي؟ وما هي تبعات وتأثيرات هذه العقدة على أسلوب التعاطي المصري مع ملفات المنطقة؟ وإلى أي حد يبدو صانع القرار المصري قادرًا على التحرر من هذه العقدة؟
العداء للتيار الإسلامي: محفِّز أم عَقَبة؟
ربما يمكن فهم العداء السافر من قبل السلطة الجديدة للإخوان المسلمين، الذين أطاح بهم الجيش من الحكم في الثالث من يوليو/تموز 2013، بالنظر إلى أن هذه السلطة سعت لتأسيس شرعيتها واستراتيجيتها لتأكيد أن ما جرى كان استجابة لإرادة شعبية، انطلاقًا من تقديم الإخوان وأنصارهم باعتبارهم جماعة إرهابية تريد ليس فقط تغيير هوية الدولة المصرية بل تسعى لتقسيم مصر والتفريط في وحدتها الترابية. وقد حمل الخطاب الإعلامي لمرحلة ما بعد 30 يونيو/حزيران الكثير من الاتهامات ضد الرئيس المعزول محمد مرسي، منها أنه كان خطرًا على وحدة وسلامة أراضي الدولة من خلال التخطيط لمنح جزء من سيناء للفلسطينيين. كما شملت الاتهامات السعي للتفريط في السيادة المصرية على مثلث حلايب وشلاتين للسودان وهي المنطقة التي يعتبرها الجانب المصري أرضًا مصرية خالصة بينما يصر الجانب السوداني على أنها أرض سودانية. بل إن الرغبة في محاصرة الإسلام السياسي داخليًّا وخارجيًّا، كانت أحد المحددات وربما المحفزات الأساسية لتحركات مصر الخارجية دوليًّا وإقليميًّا في مرحلة ما بعد 3 يوليو/تموز، لكن المفارقة أن المحفز نفسه تحول إلى عقبة أمام هذه التحركات بشكل خاص على الصعيد الإقليمي في ضوء اتساع نظرة العداء للإخوان المسلمين وتجاوزها لحدود مصر لتشمل باقي تنظيمات الإسلام السياسي في المنطقة؛ ونتيجة ذلك بدت علاقات مصر مع دول الجوار والإقليم أسيرة هذه النظرة العدائية للإسلاميين من ناحية والخوف من الإرهاب والتطرف من ناحية أخرى. ويزيد من عمق هذا المأزق أن كثيرًا من الأطراف الإقليمية والدولية لا يساير الرئيس السيسي في عدائه لجماعة الإخوان أو اعتبارها جماعة إرهابية حتى وإن شاركته هواجسه الأمنية أو بدت متفهمة لذلك على ضوء ما تشهده سيناء من مواجهات بين قوات الجيش والشرطة وبين بعض الجماعات المتطرفة هناك.
ولا شك أن تصاعد خطر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام -داعش- والحرب الأميركية على التنظيم، شكَّل فرصة أمام السلطة المصرية الجديدة في مصر لمحاولة الربط بين هذا التنظيم وباقي جماعات الإسلام السياسي؛ إذ اعتبر وزير الخارجية سامح شكري أن "تنظيم الدولة الإسلامية يقيم علاقات مع جماعات متطرفة أخرى بالمنطقة"، مضيفًا: "إننا نرصد التنظيمات الإرهابية... وفي النهاية هو من الناحية الأيديولوجية فكر مرتبط، وعلى مختلف الصور عابر لحدود الدولة ويعمل على دحر فكرة الكيان القومي للأوطان"(1). لكن هذه الرؤية لم تلق حتى اللحظة آذانًا مصغية من الولايات المتحدة والدول الغربية التي لا تزال ترى أن نهج وفكر الإخوان المسلمين يمثل الإسلام المعتدل وأنه من الخطأ وضع كل التنظيمات الإسلامية في سلة واحدة. ومع ذلك فقد نجح السيسي بشكل ملموس في استغلال الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في تحسين علاقاته المتوترة مع واشنطن والدول الغربية مستفيدًا من حاجة الولايات المتحدة للدور المصري في المعركة ضد التنظيم. وبينما لا يبدو واضحًا حجم أو طبيعة الدور المصري ضمن التحالف الدولي ضد التنظيم، فإن الواضح أن السلطة الجديدة في مصر حققت مكاسب مهمة من مشاركتها في هذا التحالف سواء لجهة تثبيت شرعيتها الدولية أو لجهة الاعتراف الأميركي بالدور المصري في النظام السياسي الإقليمي(2). وقد عكست الزيارة قبل الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي جون كيري للقاهرة عودة الدفء للعلاقات مع واشنطن بعد أكثر من عام من الفتور، وحصلت القاهرة خلال هذه الزيارة على تعهد بتسليم طائرات الأباتشي التي كانت واشنطن قد قررت تجميد تسليمها للجانب المصري عقب الإطاحة بمرسي. ولم تقف حدود مكاسب القاهرة من الحرب على داعش عند حدود العلاقات الثنائية بين البلدين بل إن مصر انتزعت اعترافًا أميركيًّا بأهمية الدور المصري في الحرب على الإرهاب؛ حيث اعتبر كيرى "أن مصر تقف على الخطوط الأمامية في القتال ضد الإرهاب خصوصًا الجماعات المتطرفة في سيناء"(3).
على الصعيد الدولي، يمكن القول إذن: إن القاهرة حققت نجاحًا ملحوظًا لاسيما ما يخص تجاوز البرودة في علاقاتها مع واشنطن، وهو ما تُوِّج باللقاء الذي جمع السيسي مع الرئيس الأميركي باراك أوباما على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، لكن في المقابل تبدو المهمة أكثر صعوبة وتعقيدًا فيما يخص علاقات مصر الإقليمية وملفات المنطقة الملتهبة التي تمس الأمن القومي المصري، وفي مقدمتها الوضع في قطاع غزة والأزمة الليبية والعلاقات مع السودان، فضلاً عن التوتر مع بعض دول المنطقة نتيجة تعامل القاهرة مع هذه الملفات وفق نظرتها الأمنية وعدائها لتيار الإسلام السياسي.
إشكالية العلاقة مع حماس: فصيل فلسطيني أم إخواني؟
رغم تراجع الدور الإقليمي لمصر في أواخر عهد مبارك، إلا أن مصر ظلت اللاعب الأهم في الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي من خلال القيام بدور الوساطة بين الطرفين. ورغم عداء نظام مبارك للإخوان المسلمين إلا أنه تعامل مع حركة حماس بقدر من الواقعية السياسية مكَّنته من لعب دور الوساطة بنجاح في كل جولات الصراع السابقة. لكن الموقف المصري خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة بدا مغايرًا حتى لما كان عليه الموقف في عهد مبارك، فلم تتحرك القاهرة على عكس السابق إلا بعد أسبوع من بدء العدوان الإسرائيلي، وظهر تعاطي الحكم الجديد في مصر مع الأزمة محكومًا بالنظرة لحماس من بوابة الإخوان والتعامل معها بوصفها جزءًا من الجماعة لا فصيلاً فلسطينيًّا مقاومًا. ربما يقول البعض: إن حركة حماس أو بعض قياداتها ارتكبوا أخطاء استراتيجية حين دخلوا على خط الأزمة السياسية الداخلية في مصر عقب 3 يوليو/تموز من خلال بعض المواقف والتصريحات التي استندت إليها القاهرة في تبرير موقفها العدائي من الحركة، لكن أيًّا تكن الدوافع فإن الموقف المناهض لحماس انعكس على شكل ومضمون التحرك المصري لإنهاء الحرب في غزة. وقد بدت القاهرة في تحركها عالقة ما بين رغبتها في التمسك بدورها كوسيط أساسي في النزاع وبين موقفها المعادي لحماس، وبين سعيها للتوصل لوقف إطلاق النار وعدم التواصل مع الحركة. ولعل هذا ما يفسر قيام القاهرة بطرح مبادرتها لوقف إطلاق النار دون التشاور مع أي من فصائل المقاومة الفلسطينية بما فيها حماس، فكان رد الفصائل هو رفض المبادرة لأنها لا تلبي شروط المقاومة. وكان لافتًا أن الرفض لم يأت فقط من حماس التي أغضبها التجاهل المصري بل جاء من فصائل معروفة بعلاقات جيدة مع القاهرة كحركة الجهاد الإسلامي. وفي مواجهة هذا الموقف الصامد والأداء الميداني النوعي الذي أبدته المقاومة الفلسطينية على الأرض إضافة لدخول أطراف إقليمية أخرى، مثل: قطر وتركيا على خط الأزمة، سعت القاهرة لتخفيف خطابها تجاه حماس وأعلنت عن قبولها مناقشة الورقة الفلسطينية الموحدة باسم كافة الفصائل والتي تتضمن مطالب المقاومة، وهو ما ساعد مع عوامل أخرى في نهاية المطاف على قبول حماس وباقي الفصائل بالمبادرة المصرية. يرى الخصوم السياسيون للسيسي أن العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة كان الاختبار الإقليمي الأول لنظامه، وأنه سقط فيه سقوطًا مدويًّا لأنه راهن على تدمير قوة حماس وبالتالي قبولها أية مبادرة لوقف إطلاق النار(4)، ويشيرون إلى أن الاعلام القريب من السلطة في مصر شنَّ هجومًا قاسيًا ضد حماس وصل لحد التحريض عليها لاسيما بعد رفضها للمبادرة المصرية، ووصل الأمر حد الخلط بين الحركة والشعب الفلسطيني ككل(5). لكن مناصري السيسي يردون على ذلك بأن التوصل لوقف إطلاق النار والإعلان عنه في القاهرة أظهر مجددًا أن اعتبارات الجغرافيا والجوار والدور كانت حاسمة في وضع نهاية للحرب على غزة برعاية مصرية، وعبر مفاوضات غير مباشرة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. وقد رأت القاهرة في هذا الاتفاق تتويجًا لجهودها وانتصارًا لرؤيتها لتسوية الصراع. كما جاء انعقاد المؤتمر الدولي لإعادة إعمار غزة برعاية مصرية-نرويجية فرصة إضافية للجانب المصري للتأكيد على محورية دور القاهرة في ملف غزة والقضية لفلسطينية عمومًا. لكن المؤكد أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي جرى التوصل إليه بحضور وفد حركة حماس في القاهرة وبوساطة رسمية مصرية لم يكن ليتم لولا أن الطرفين: النظام في مصر وحماس، نجحا في الانتصار للغة المصالح والتحرر ولو قليلاً من النظرة العقائدية؛ فالقاهرة في تلك اللحظة تعاملت مع حماس كجزء من المقاومة الفلسطينية بعيدًا عن كونها تنتمي لفكر الإخوان، وحماس من جانبها أدركت أن دور القاهرة أيًّا يكن الحاكم فيها دور محوري لا يمكن تجاهله أو تجاوزه(6). ربما يكون هذا هو الدرس الأهم في الحالة الذي يتوجب على السلطة الجديدة في مصر استيعابه للحفاظ على دورها وتأثيرها في الملف الفلسطيني وهو أن حماس أيًّا يكن الموقف منها ستبقى رقمًا مهمًّا في المشهد الفلسطيني رغم اتفاق المصالحة الفلسطينية، وأن مصر ستبقى هي المنفذ الوحيد لقطاع غزة نحو الخارج. هذه هي المعادلة التي يجب على الطرفين التعايش معها، كما أن نجاح مصر في القيام بدورها تجاه القضية الفلسطينية باعتبارها قضية أمن قومي مصري رهن بقدرتها على التعامل مع كل القوى الفلسطينية بدرجة عالية من البراغماتية السياسية بعيدًا عن حسابات الموقف الداخلي المصري.
مصر وليبيا: حدود الدور
لم تكن مصر تاريخيًّا بعيدة يومًا عمَّا يجري في ليبيا من تطورات وأحداث مهمة، بل كانت دائمًا لاعبًا أساسيًّا في مجريات الشأن الليبي سواء في عهد عبد الناصر أو السادات، وربما بدرجة أقل في عهد مبارك الذي تقلَّص فيه دور مصر الإقليمي. من هنا، لم يكن متصورًا أن تقف مصر في عهد السيسي موقف المتفرج إزاء ما تعيشه الساحة الليبية من صراع سياسي واقتتال عسكري وانهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة، وما يمثله ذلك من تداعيات خطيرة على الأمن القومي المصري. ولعل ذلك يفسر لماذا اختار السيسي، وعلى عكس كل التوقعات، أن تكون أول زيارة خارجية له عقب توليه السلطة إلى الجزائر في السادس والعشرين من يونيو/حزيران الماضي حيث كان الملف الليبي في صلب مباحثاته مع نظيره الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، لاسيما أن البلدين يتشاركان نفس الهواجس والمخاوف من تداعيات هذا الملف. وقد عكست هذه الزيارة الأولوية الكبرى التي تحتلها الأزمة الليبية لدى صانع القرار المصري والذي يرى أنها باتت تشكِّل تهديدًا مباشرًا لأمن لمصر، وبغض النظر عمن يحكم في مصر فإن الوضع الليبي الراهن يشكِّل تحديًا أمنيًّا كبيرًا للسلطة المصرية، فليبيا دولة مجاورة تتشارك مع مصر في حدود تمتد على طول أكثر من ألف كيلو متر مع ما يمثله ذلك من مخاطر وتهديدات أمنية. وفي مواجهة حالة الانقسام السياسي بين القوى الإسلامية والقوى المدنية وحالة الانفلات الأمني والتناحر القبلي تجد مصر نفسها أمام ثلاثة تهديدات كبيرة(7):
-
الأول: الجماعات الجهادية المنتشرة في شرق ليبيا المتاخم للحدود المصرية.
-
الثاني: السلاح المنتشر في ليبيا والذي يتم تهريب كميات كبيرة منه لداخل الأراضي المصرية.
-
الثالث: العمالة المصرية في ليبيا والتي تقدر أعدادها بما يفوق المليون شخص ينتمون في معظمهم للطبقات الفقيرة من العمال وغيرهم، وهؤلاء يتعرضون إما لعمليات انتقامية من قبل بعض الجماعات أو احتمال استقطاب بعضهم من الجماعات المتشددة ومن ثم إقناعهم بالعمل الجهادي داخل مصر.
وعلى ضوء هذه التهديدات كان لابد أن تسعى مصر لإيجاد حل للازمة، لكن السؤال هنا هو ما إذا كان هذا التحرك يأتي ضمن رؤية واضحة لمعالجة أزمة بالغة التعقيد يتداخل فيها ما هو أيديولوجي مع ما هو قبلي، ويتقاطع فيها ما هو داخلي مع ما هو إقليمي؟
يؤكد الموقف المصري المعلن على رفض مصر للتدخل الخارجي في شؤون ليبيا والتأكيد على أن مصر لا تتدخل عسكريًّا في ليبيا ورفض كل التقارير التي تتحدث عن هذا الأمر، كما تعلن القاهرة دائمًا أنها تسعى جاهدة لتسوية الأزمة عبر دعم مؤسسات الدولة الليبية الشرعية ممثلة في الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب المنعقد في طبرق وكذلك دعم الجيش الوطني الليبي. وقد طرحت مصر خلال اجتماع دول جوار ليبيا الذي عُقد في القاهرة في شهر أغسطس/آب الماضي 2014 مبادرة لإعادة الاستقرار في ليبيا، تقوم على نزع السلاح الثقيل من الميليشيات والقبائل مقابل إشراكها في الحياة السياسية، كما تقضي بإنشاء صندوق دولي لجمع الأسلحة. غير أن هذه المبادرة تبدو بلا قيمة حقيقية بالنظر لغياب المؤسسات الليبية التي يمكن الاعتماد عليها في نزع السلاح بالإضافة لضعف الدعم الدولي حتى الآن لهذه المبادرة(8).
لكن الدور المصري في الأزمة يصطدم بعقبات كبيرة، أولها: أنه يستبعد التعامل مع القوى الإسلامية التي ترفض الاعتراف بحكومة عبد الله الثني وتشكِّك في شرعية مجلس النواب وتسيطر على العاصمة الليبية ومعظم مناطق ليبيا. أما العقبة الأهم فهي أن التعاطي الأمني مع الأزمة الليبية انطلاقًا من العداء للإسلاميين أفقد القاهرة صفة الوسيط المحايد لدى القوى الإسلامية التي تنظر بعين الشك للدور المصري في الأزمة، وترى أن السيسي يريد استنساخ التجربة المصرية في ليبيا من خلال دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يقود ما يُسمى بعملية الكرامة ضد القوات التابعة للقوى الإسلامية. كما ترى هذه القوى أن حفتر المدعوم مصريًّا يريد أن يكون سيسي ليبيا الجديد، خصوصًا وأنه يقود مواجهات مسلحة ليس فقط مع الجماعات المتشددة مثل أنصار الشريعة في شرق البلاد بل مع القوات المحسوبة على الإخوان المسلمين؛ وهو ما دفع البعض داخل وخارج ليبيا إلى القول: إن حفتر يستلهم نموذج المشير السيسي(9). وينفي المسؤولون المصريون بشكل قاطع التدخل عسكريًّا في الشؤون الليبية، وقد اتهم السفير محمد بدر الدين زايد مساعد وزير الخارجية لشؤون دول الجوار ما وصفها بأطراف أخرى بالعمل على تشويه الدور المصري الذي لا يستهدف سوى إعادة الاستقرار إلى ليبيا، لكن ذلك لا يبدو مقنعًا حتى الآن للإسلاميين الليبيين الذين يعتبرون أن الدور المصري الراهن يعمل على إقصاء الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين خصوصًا(10).
يتضح من ذلك أنه رغم المخاوف المشروعة للقاهرة تجاه ما تشهده ليبيا باعتبارها عمقًا استراتيجيًّا لمصر وأن ما يحدث فيها وثيق الصلة بالأمن المصري، فإن الهواجس الأمنية الحاكمة لسلوك النظام في مصر إزاء الأزمة، والعداء الواضح لتيار الإسلام السياسي يمثلان عائقًا كبيرًا أمام لعب القاهرة دورًا مؤثرًا في إيجاد تسوية مقبولة من الفرقاء الليبيين. بل إن هناك من يرى أن هذا النهج رغم أنه يستهدف حماية الأمن القومي المصري، فإنه بدلاً من أن يحد من التهديدات ضد مصر أدى إلى تزايدها(11). كما يزيد ذلك حالة الاستقطاب في ليبيا المنقسمة أصلاً بصورة خطيرة في ظل وجود برلمانين وحكومتين وجيشين؛ ما قد يُدخل البلاد في حلقة مفرغة من العنف، وهو ما ينعكس سلبًا بالتأكيد على أمن مصر القومي. كما أن العمالة المصرية في ليبيا تدفع ثمنًا مزدوجًا للأزمة؛ فهي من ناحية ضحية الصراع بين الجماعات الليبية المسلحة، ومن ناحية أخرى ضحية ما يراه البعض تدخلاً مصريًّا لصالح طرف ضد طرف آخر في الأزمة. وهناك العديد من الأمثلة التي تعرض فيها العمال المصريون للخطف أو القتل على أيدي الجماعات الليبية المتصارعة. كما أدى الصراع إلى نزوح عشرات آلاف المصريين العاملين في ليبيا وهو ما سيؤدي إلى زيادة الأعباء على كاهل الاقتصاد المصري المتأزم أصلاً، ويساهم في ارتفاع معدلات البطالة في مصر.
على ضوء ذلك تبدو السياسة المصرية الحالية تجاه الأزمة الليبية غير قادرة على تحقيق الأهداف التي تسعى إليها حتى الآن. ولعل هذا ما يستدعي مراجعة هذه السياسة من خلال تحييد الموقف من الإخوان المسلمين في مصر عن الأزمة الليبية والانفتاح على كل القوى السياسية الليبية بما يسمح بالقيام بدور أكثر فاعلية في إنهاء الأزمة. لكن هذا الأمر يبدو مستبعدًا على الأقل في الوقت الراهن بالنظر إلى أن الاستراتيجية التي تنتهجها الحكومة المصرية لا تزال محكومة بالعداء للإسلاميين والحرب على الإرهاب.
العلاقة مع السودان: تعاون حذر
كان السودان من أوائل الدول التي زارها الرئيس السيسي في 27 يونيو/حزيران الماضي حيث أجرى مباحثات مع نظيره السوداني عمر البشير أكد خلالها على استراتيجية العلاقة بين البلدين وأهمية التنسيق بينهما في القضايا المهمة، وفي مقدمتها قضية سد النهضة. وأعقب هذه الزيارة افتتاح الطريق البري بين البلدين في 27 أغسطس/آب الماضي عند منفذ قسطل-أشكيت، على الرغم من تأجيل افتتاحه لأكثر من ثلاث سنوات. وعكست هاتان الخطوتان رغبة السلطة المصرية الجديدة في التقارب مع الخرطوم والتنسيق بين البلدين في مواجهة تحديات كبيرة تخص الأمن القومي للبلدين ولاسيما أزمة سد النهضة. وقد ساعد على هذا التقارب الموقف الذي اتخذه نظام الرئيس البشير والذي يشكِّل الإسلاميون جزءًا أصيلاً من نخبته الحاكمة، تجاه ما جرى في مصر بعد الثالث من يوليو/تموز؛ حيث اعتبرت الخرطوم ذلك شأنًا داخليًّا وسعت للنأي بنفسها عن تجاذبات المشهد الداخلي المصري. ورغم أن البعض يرى أن التحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها البلدان والنظامان تقف وراء هذا التقارب والرغبة في فتح مجالات للتعاون بين الجانبين إلا أن ذلك لا يعني تحرر هذه العلاقة من الاعتبارات الأمنية التي حكمتها لسنوات، بل إن الموقف المعادي للإخوان في مصر وحالة التوتر الأمني والسياسي التي تعيشها مصر حاليًا ربما يشكِّلان عاملاً إضافيًّا لبقاء هذه العلاقة رهنًا بهذه الاعتبارات. وبينما تحتاج القاهرة لدعم الخرطوم في مواجهة إثيوبيا فيما يخص أزمة سد النهضة وملف مياه النيل الذي يُعتبر مسألة أمن قومي مصري فإن ذلك لا يبدو حتى الآن كافيًا لتجاوز الحذر في هذه العلاقات؛ فالجانب المصري لا يخفي توجسه من توجهات الإسلاميين المشاركين في السلطة بسبب تعاطفهم مع الإخوان، ولاسيما أن بعض قيادات حزب المؤتمر الوطني شاركوا في مظاهرات بالخرطوم ضد ما حدث في مصر ووصفوه بالانقلاب العسكري. كما لا تبدو القاهرة مرتاحة للجوء بعض قيادات وأعضاء جماعة الإخوان وغيرهم من الإسلاميين إلى الخرطوم بعد 3 يوليو/تموز. ولا تقتصر الحسابات الأمنية المصرية على العلاقات الثنائية مع الخرطوم وإنما تمتد أيضًا للأزمة الليبية حيث تتهم بعض الأوساط المصرية السلطات السودانية بتقديم السلاح للميليشيات الإسلامية المتطرفة في ليبيا والتي تراها مصر خطرًا عليها. ورغم نفي الخرطوم القاطع لهذه الاتهامات فإن هذا النفي لم يبدد الشكوك المصرية، ولعل من مظاهر هذه الشكوك أن مصر حتى الآن لا تزال تتحفظ على تنفيذ اتفاقية الحريات الأربع الموقَّعة مع السودان والتي تقضي بحرية الحركة والتنقل للأفراد بين البلدين؛ إذ إن تنقل الأفراد لا يزال يخضع لتأشيرات العبور رغم افتتاح الطريق البري بينهما(12).
وتُعتبر قضية حلايب وشلاتين هي المؤشر الأهم على درجة تحسن أو توتر العلاقات بين القاهرة والخرطوم، ولاسيما منذ تولى الإسلاميون السلطة في السودان عام 1989. وقد تجدد الجدل بشأن حلايب مؤخرًا عقب إعلان مفوضية الانتخابات السودانية اعتبار منطقة حلايب دائرة انتخابية استعدادًا للانتخابات البرلمانية والرئاسية التي ستُجرى في السودان في شهر إبريل/نيسان من العام القادم؛ وهو الأمر الذي رفضه الجانب المصري مؤكدًا على أن حلايب أرض مصرية ولا مساومة عليها. ولا شك أن عودة الجدل بشأن حلايب يخفي وراءه توترًا وحذرًا متبادلاً بين الطرفين، ويرى محللون وسياسيون مصريون أن إثارة قضية حلايب من قبل السودان تؤكد الهواجس المصرية تجاه نظام الخرطوم الإسلامي، خصوصًا وأن هذه القضية لم تُثَر خلال فترة حكم الرئيس مرسي. في المقابل، يرى الجانب السوداني أن ملف العلاقة مع السودان ظل لفترة طويلة بالنسبة للقاهرة ملفًّا أمنيًّا في يد المخابرات المصرية أكثر من كونه ملفًّا سياسيًّا؛ الأمر الذي عطَّل انطلاق العلاقة بين البلدين لتصبح علاقات استراتيجية(13). وعلى ضوء ذلك يُتوقع أن يظل الهاجس الأمني والذي تعاظم بعد الإطاحة بالإخوان المسلمين من السلطة في مصر، حاكمًا لهذه العلاقة في عهد الرئيس السيسي وربما بدرجة أكبر. ومن شأن ذلك أن يحُول دون استعادة العلاقات بين البلدين لعافيتها بشكل يُحدث نقلة كبيرة في هذه العلاقات التي عادة ما توصف من كلا الجانبين بالتاريخية والأزلية.
توترات وارتباكات أخرى
ولا تقتصر تأثيرات العداء للإسلاميين من قبل النظام المصري الجديد على علاقات مصر مع دول الجوار المباشر كقطاع غزة وليبيا والسودان بل تمتد لعلاقاتها مع دول أخرى وعلى الرؤية المصرية لملفات لا تقل سخونة وأهمية في المنطقة. فالأمر ينسحب أيضًا على العلاقات مع تونس التي يُعتبر حزب حركة النهضة، العنوان السياسي للإخوان المسلمين في تونس، الشريك الأهم في السلطة حاليًا. وفي هذا الصدد ربما لا يمكن تحميل القاهرة مسؤولية الفتور والتوتر في العلاقة بين البلدين، لاسيما أن تصريحات ومواقف حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي المنددة بالانقلاب على مرسي وجماعة الإخوان المسلمين أدت لتأزم العلاقات، لكن القاهرة ظلت أسيرة هذا الموقف، وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى تجاوز هذه العقدة سواء على صعيد العلاقات الثنائية أو فيما يخص التنسيق الأمني والسياسي بينهما ضمن مجموعة دول جوار ليبيا.
وفيما يخص الأزمة السورية، فإن الخوف من انتصار الإسلاميين في سوريا في حال إسقاط بشار الأسد جعل مصر تنأى بنفسها عن الأزمة السورية والاكتفاء بالتأكيد على ضرورة إيجاد حل سياسي للأزمة وعدم الانحياز لطرف ضد آخر والحرص على وحدة سوريا وحمايتها من التقسيم. وعلى عكس حليفتها الأقرب، وهي السعودية، لا تبدو مصر مؤيدة أو داعمة لإسقاط نظام بشار الأسد.
أما في العراق فإن مصر السيسي تنتهج أيضًا سياسة لا تبدو متطابقة مع سياسة السعودية والإمارات لاسيما فيما يخص الموقف من حكومة المالكي السابقة، ولا تبدو مصر مشغولة بالصراع المذهبي بقدر ما تبدو حريصة على محاربة التيارات المتطرفة والتأكيد على وحدة وسلامة العراق، ولعل تصاعد خطر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق قد ساعد على تقارب المواقف بين الدول الثلاث. ولابد في هذا الإطار من الإشارة إلى العلاقة المتوترة والتي وصلت لحد القطيعة بين مصر وتركيا وكذلك العلاقة المتأزمة مع قطر بسبب الموقف من جماعة الإخوان المسلمين؛ حيث تتهم القاهرة الدولتين بدعم الإخوان والتدخل في شؤون مصر الداخلية.
استنتاجات
نستخلص مما سبق النتائج التالية:
-
أن عداء السلطة الحالية في مصر للإخوان المسلمين ومحاولتها توسيع دائرة هذا العداء ليشمل كل جماعات الإسلام السياسي في المنطقة يقف حجر عثرة كبيرًا أمام سعي القاهرة لاستعادة مكانتها وتأثيرها الإقليميين، ويمنعها من إقامة علاقات أكثر توازنًا واستقرارًا مع كثير من الأطراف. ويتضح ذلك من حقيقة أن الإسلام السياسي أصبح جزءًا أساسيًّا من المشهد السياسي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي وهو أمر يبدو من الصعب تجاوزه أو القفز عليه.
-
هذا الموقف يحول دون قدرة مصر على أن تكون لاعبًا فاعلاً ومؤثرًا في كثير من ملفات المنطقة بما فيها تلك التي تتعلق بالأمن القومي المصري بشكل مباشر كالأزمة الليبية، فضلاً عن أنه يؤدي إلى درجة من الارتباك وعدم وضوح الرؤية إزاء بعض القضايا ولاسيما القضية السورية.
-
أن نجاح مصر في استعادة دورها ومكانتها على الساحة الإقليمية رهن بقدرة النظام الحالي على الانحياز للغة المصالح واعتبارات الأمن القومي، والتحرر من عقدة العداء للإسلاميين وعدم البقاء أسير الهواجس الأمنية أو الاعتبارات الأيديولوجية؛ ولعل ما حدث في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة دليل على صحة ذلك.