سيناء: سياسات أمنية تضاعف الأعداء (الجزيرة) |
ملخص الاعتقاد السائد بين الأجنحة المسيطرة على البيروقراطيات العسكرية والأمنية هو أنه كلما زاد القمع وتوسَّع (سواءً كان قمعًا وقائيًّا/هجوميًّا، أو قمعًا دفاعيًّا/ردة فعل) زادت احتمالات الإخضاع والسيطرة على التنظيمات المسلحة وعلى سكان شبه الجزيرة معهم؛ بيد أنَّ هذا الاعتقاد غير مدعوم لا نظريًّا/عقلانيًّا ولا عمليًّا/ميدانيًّا؛ فتجارب الأربعة عشر عامًا الأخيرة في سيناء تشير إلى عكس ذلك، وكذلك أية مراجعة مستقلة لحصاد السياسات الأمنية هناك. |
مقدمة
"إنت مش متصور وأنت ظابط جيش أنه [أستطيع] آجي على رفح والشيخ زويد واعمل حصار؟ … أعمل حصار، خرَّج السكان، المائة بيت دول يتنسفوا! حد ضرب نار، طلع أمام النار دي مائة نار! مات اثنين أو ثلاثة أبرياء! … إنت في النهاية بتشكل عدو ضدك وضد بلدك؛ لأنه أصبح هناك ثأر بينك وبينه".
هكذا حَذَّرَ الفريق عبد الفتاح السيسي بعض ضباطه من القوات النظامية من خطورة الإجراءات القمعية ونتائجها في شبه جزيرة سيناء قبل انقلاب 3 من يوليو/تموز 2013(1)؛ غير أن ما حدث في شبه الجزيرة بعد الانقلاب كان مخالفًا تمامًا لهذا التحذير.
فقد شهدت الموجة الأخيرة من حملة الجيش النظامي على سيناء -التي بدأت في 29 من أكتوبر/تشرين الأول 2014- تهجيرًا قسريًّا لأكثر من 1165 أسرة، وتدميرًا لأكثر من 800 منزل في المناطق المجاورة لقطاع غزة بشمال شرق شبه الجزيرة(2)، ولم تكن هذه هي أولى الحملات على سيناء، وإنما أشرسها على الإطلاق؛ فقد شملت الحملات السابقة -التي بدأت في أواخر عام 2000 أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية- تكتيكات مشابهة؛ منها طرد العائلات بالقوة بعد إمهالهم 48 ساعة فقط قُبيل تفجير منازلهم، وتدابير مختلفة من الترهيب، والقصف العشوائي بما في ذلك قصف المنازل والمدارس، وعمليات الاعتقال الجماعي، والتعذيب المنهجي للمشتبه فيهم، وإطلاق النار على جموع المتظاهرين؛ وعلى الرغم من ذلك فإن الحملات السابقة لم تشهد هذا التوسُّع الجغرافي في نطاق القمع؛ وذلك مع طول المدة الزمنية للحملة، إضافة إلى استهداف أعداد أكبر من المشتبه فيهم بشكل خاصٍّ وسكان الجزيرة بشكل عامٍّ.
حاليًّا، فإن حظر التجول مفروض على معظم مناطق شمال الشرق من الغسق حتى الفجر، ونادرًا ما تعمل شبكات الهواتف المحمولة والإنترنت، إضافة إلى ما تُعانيه محطات البترول من شحٍّ في الوقود والغاز؛ بينما تنتشر نقاط تفتيش الجيش بشكلٍ كثيف في الشوارع، وحينما حاول أحد الصحفيين تصوير الشوارع الخالية في بلدة الشيخ زويد التي تحوَّلت إلى بلدة أشباح، تلقَّى رصاصة قناص من بين عشرات القناصة المنتشرين على أسطح المباني القليلة في وسط البلدة(3)، وهذا الردُّ في حدِّ ذاته جريمة حرب مسجلة على الهواء، بحسب كلٍّ من القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والمادة 4أ من اتفاقية جنيف الثالثة، والمادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول للاتفاقية.
وبعيدًا عن انتهاكات القانون الدولي والجرائم المرتكبة في شبه الجزيرة، فإن السياسة التي يعتمدها النظام الحاكم الحالي -ومن قبله نظام مبارك- في سيناء وطريقة تنفيذها من قِبل البيروقراطيات الأمنية والعسكرية، قد حوَّلت مشكلة أمنية محدودة في عام 2000 إلى حالة تمرُّد محلي مُسَلَّح ذي امتداد إقليمي في عام 2014، والمفارقة هي أن عبد الفتاح السيسي قد حذَّر قواته -حينما كان وزيرًا للدفاع- من اتباع مثل هذه السياسات والتكتيكات -لا لسببٍ أخلاقي أو قانوني- وإنما مخافة "خلق عدوٍّ داخلي"؛ وهو ما قد حدث بالفعل.
فما الهدف من هذه التكتيكات؟ ولماذا الاستمرار في استخدامها على الرغم من ثبوت فشلها في الأربعة عشر عامًا الأخيرة في القضاء على -أو حتى احتواء- التهديد الأمني والعسكري؟
العسكر في سيناء: التاريخ القريب
التدهور السريع للوضع في شبه جزيرة سيناء له أسبابه وأبعاده السياسية والاجتماعية/القبلية والأمنية والعسكرية والجهوية والإنسانية؛ ولكن التركيز هنا سيكون على البعدين الأمني والعسكري.
تعود جذور هذه الأزمة إلى أعقاب الانسحاب الإسرائيلي في عام 1982؛ فمنذ ذلك الحين أصبحت السياسات الأمنية -وأحيانًا السياسات الاجتماعية والإعلامية المساندة- تُصَنِّف سيناء بشكل رئيس على أنها تهديد مباشر أو محتمل، وتعتبر سكانها مخبرين أو إرهابيين أو جواسيس أو مهربين محتملين، لا مواطنين مصريين.
تمَّت صياغة تلك السياسات وتنفيذها من قِبَل الأجهزة الأمنية والعسكرية، وعلى رأسها جهاز "مباحث أمن الدولة" في حقبة مبارك، (الذي أصبح يُسَمَّى الآن جهاز الأمن الوطني)، وجهاز المخابرات العامة، وجهاز الاستخبارات العسكرية (إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع) دون أية مراجعة أو مراقبة من هيئات قضائية/دستورية أو مجالس منتخَبة (كلجنتي الأمن القومي في مجلسي الشعب والشورى) أو حتى خبراء مستقلين.
وباختصار، كان الركنان الأساسان لتلك السياسات هما: جمع المعلومات المحلية عبر شخصيات قبلية معروفة مُتَعاونة أو مُجَنَّدَة، واستخدام القمع الشديد للحصول على مزيد من المعلومات الاستخبارية، وكذلك لإرهاب السكان المحليين. وكانت النتيجة الرئيسة لهذه السياسات تحويل مشكلة أمنية محدودة بشأن الدعم اللوجستي العابر للحدود لعدد من الجماعات الفلسطينية في غزة، إلى حالة من التمرُّد المحلي المسلح على سلطة النظام، نمت بشكل مطَّرد في حجمها ونطاقها الجغرافي، وقوتها العسكرية، ومداها الزمني، ومواردها اللوجستية، وامتدادها الإقليمي، وقدراتها الدعائية، وشرعيتها الوجودية، وقد تعدَّدت الأُطُر التنظيمية المُمَثِّلة لهذه الحالة، وتغيَّرت درجة مركزية قيادتها، وكذلك الأهداف المطلوبة لها بشكلٍ كبير ما بين عامي 2000 و2014(4).
أسهمت ثلاث شرارات رئيسة في حدوث هذه التحولات؛ فكانت الشرارة الأولى هي رد فعل أجهزة نظام مبارك الأمنية على التفجيرات المتزامنة في طابا ونويبع في أكتوبر/تشرين الأول 2004؛ فقد كانت معلومات جهاز مباحث "أمن الدولة" عن "الإرهابيين" محدودة، وبالتالي استخدمت أجهزة النظام الإجراء الروتيني المعهود في تلك الحالات: حملة قمع مُوَسَّعة في شمال شرق سيناء، اعتقلت على أثرها حوالي 3000 شخص، وأخذت نساء المشتبه بهم وأطفالهم وبعض أقربائهم رهائن حتى يستسلموا(5)، ولم تَحُلْ مثل هذه التكتيكات دون حدوث المزيد من الهجمات في عامي 2005 و2006 وكذلك لاحقًا؛ بيد أنها أدَّت إلى تعميق المظالم الاجتماعية والسياسية بين المجتمعات القبلية على نطاق أوسع؛ مظالم كانت موجودة أصلاً منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي.
أما الشرارة الثانية، فكانت مجزرة رابعة العدوية في 14 من أغسطس/آب 2013، وتُعَدُّ هذه المجزرة -التي سقط ضحيَّتها 932 شخصًا موثَّقون، و337 آخرين غير موثَّقين(6)- الأسوأ في تاريخ مصر الحديث؛ وأدَّت رابعة والمجازر الأخرى إلى تغيير في خطاب وأدبيات جماعة "أنصار بيت المقدس"، التنظيم المسلَّح الأكثر فاعلية حينها في شبه الجزيرة؛ فقد كان موقف "الأنصار" من الديمقراطية والمشاركة في الانتخابات هو الرفض والإدانة، فقد انتقد التنظيم بشدَّة جماعة "الإخوان المسلمين" وحزب "الحرية والعدالة"، والرئيس محمد مرسي على المشاركة في الانتخابات، وبعد حدوث مجزرة رابعة، قام "الأنصار" بتنفيذ عمليات على المستوى الوطني وتوثيقها في سلسلة فيديوهات بعنوان: "غزوة الثأر لمسلمي مصر"(7). كانت رسالتهم واضحة: العمليات ليست دفاعًا عن ديمقراطية لا يؤمنون بها ولا بنتائجها الأولية المؤقتة (فوز حزب الحرية والعدالة)؛ وإنما ثأرًا لمن أريقت دماؤهم من المسلمين في الاعتصامات. ومما لا شكَّ فيه أنَّ البيئة القمعية والتغيير في الخطاب والأدبيات قد أسهمت في تعزيز جهود "الأنصار" على التجنيد، وكذلك تعزيز شرعية الأعمال المسلحة، إضافة إلى تعزيز موارد التنظيم ككل.
أما الشرارة الثالثة والأخيرة فكانت في سبتمبر/أيلول 2013، عندما صعَّد الجيش النظامي من عملياته ووسَّع حملة القمع إلى مستوى غير مسبوق، حتى بالمقارنة مع حملات القمع في ظلِّ نظام مبارك (الذي استهدف شبه الجزيرة بين عامي 2000 و2011)، ومن بعده المجلس الأعلى للقوات المسلحة (خلال العملية "نسر 1" في أغسطس/آب 2011)، ورئاسة مرسي (خلال العملية "نسر 2" التي بدأت بعدها بسنة)، وفي ظلِّ الدعم الخارجي والإقليمي للنظام، واشتداد الحملة المحلية عليهم في سيناء، أعلن "الأنصار" بيعتهم لتنظيم "الدولة الإسلامية"، وولاءهم لزعيمه أبي بكر البغدادي (إبراهيم عواد البدري)، ليُضفوا المزيد من التداخلات الإقليمية على المشهد المصري المحلي.
استراتيجية النظام في سيناء
اتبعت الأنظمة والحكومات المتعاقبة في مصر منذ عام 1982 استراتيجيتين في سيناء؛ ولم تعلن أي منهما الأهداف الأمنية والعسكرية بشكل واضح، ولا ما هي استراتيجية "الأمن القومي" في هذه المنطقة الحساسة؛ ولكن يمكن رسم بعض ملامح الاستراتيجيتين بناء على التكتيكات والإجراءات المُتَّبَعَة ميدانيًّا.
الاستراتيجية الأولى -تمت الإشارة إليها سابقًا- هي استراتيجية "الاستئصال" أو "القبضة الحديدية"، وقد اتبعها نظاما مبارك والسيسي، غير أن نظام الأخير كان أكثر توسُّعًا وأشدَّ قمعًا من نظام الأول في تكتيكاته وإجراءاته التنفيذية. والاستراتيجية الثانية كانت استراتيجية "احتواء وتسوية"، واتبعها كلٌّ من المجلس العسكري برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي، والرئيس السابق محمد مرسي.
كانت أهداف الاستراتيجية الأولى هي القضاء على أية تحدٍّ مسلَّح لسلطة النظام، وكذلك استئصال المتعاطفين مع المسلحين، وكذلك المعارضين لسياسة النظام بشكل عامٍّ؛ سواءً كانت معارضة للسياسية الداخلية (بسبب قمع المعارضين أو بسبب انتشار الفساد)، أو معارضة للسياسة الخارجية (فيما يخصُّ القضية الفلسطينية أو التطبيع/التعاون مع إسرائيل)، وكان أحد أهداف الاستراتيجية هو إخضاع السكان المحليين عبر القبضة الأمنية/العسكرية والمعلومات المتوافرة من المخبرين المحليين، وحين فشلت قوى الأمن والجيش في تحقيق الهدف الأخير، طَوَّرَتِ الهدف جزئيًّا في عامي 2013 و2014 من "إخضاع" السكان المحليين إلى "تهجيرهم" وإخلاء مناطق بعينها(8).
أما على المستوى العملياتي فإن نظامي مبارك والسيسي استخدما مجموعة من التكتيكات لاستهداف المشتبه بهم وإخضاع السكان المحليين؛ فإضافة إلى تكتيكات مكافحة الإرهاب التقليدية، استخدم هذان النظامان تكتيكات إضافية، ومن بينها:
-
التشريد القسري غير المباشر للسكان محليين من خلال تدمير المراكز الاجتماعية والمزارع والبنية التحتية، والإذلال المتعمد لإبراز صعوبة الحياة في تلك المنطقة.
-
أخذ الرهائن لإجبار المطلوبين على تسليم أنفسهم، أو الضغط على معتقلين سياسيين بعينهم.
-
التعذيب الممنهج أحيانًا للحصول على معلومات؛ ولكن في الأغلب إما كإجراء روتيني إمعانًا في الإذلال والترهيب لإخضاع السكان وتخويفهم من التفكير في مخالفة ضابط الأمن أو معارضة النظام أو الثورة عليه، وإما انتقامًا عشوائيًّا من أهالي منطقة بعينها، أو من تيار سياسي، أو ديني بعينه.
-
القصف العشوائي الذي يبلغ أحيانًا بيوتًا وأكواخًا لسكان محليين، وأحيانًا أخرى دور عبادة، أو مزارع.
-
التعاون الأمني والاستخباري والعسكري مع الحكومة الإسرائيلية، ولعلَّ أبرز تطورات مرحلة ما بعد انقلاب 3 من يوليو/تموز هو التنسيق العسكري ما بين نظام السيسي وحكومة نتنياهو؛ إذ إن التعاون كان يقتصر على المجالين الأمني والاستخباري في عهد مبارك، ولم يصل إلى حدِّ التعاون العسكري على أراضٍ مصرية؛ ومن أبزر أمثلة هذا التعاون ما أشار إليه تقرير صحيفة "يديعوت أحرونوت"؛ وهو أن كلاًّ من جهاز المخابرات الداخلية (الشاباك) وشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) يتولَّيان مهمَّة جمع المعلومات الاستخباراتية عن تحرُّكات الجهاديين في سيناء، ويتم نقلها للجانب المصري. وشدَّد التقرير كذلك على أن "تقاسم العمل" بين الجيشين المصري والإسرائيلي يتمُّ وفق قواعد ثابتة، وعلى أن الجيش الإسرائيلي لا يتردَّد في "العمل بنفسه داخل سيناء، خصوصًا عندما يتعلَّق الأمر بإحباط عمليات تخطط لها الجماعات الجهادية، أو عندما يتمُّ الردُّ على عمليات إطلاق النار"(9). ولعل أبرز أمثلة هذه عمليات كانت عملية قصف جوي لأربعة مقاتلين من عناصر "أنصار بيت المقدس" أثناء إعدادهم لإطلاق صواريخ على الجانب الإسرائيلي قرب قرية "المهدية" بشمال شرق سيناء في أغسطس/آب 2013(10).
-
التوسع في دائرتي القمع والاشتباه، اللذين يؤديان إلى إيذاء واعتقال الكثير من الأبرياء من خارج نطاق الصراع المسلح؛ وهو ما أشار إليه أحد المحللين العسكريين الإسرائيليين -رون بن إيشاي- إذ أكَّد أن "الجيش الإسرائيلي وخلال حوالي أربعة عقود من احتلاله المباشر لقطاع غزة لم يجرؤ على اتخاذ خطوات مماثلة ضد الفلسطينيين، كما يقوم به الجيش النظامي حاليًّا ضد المواطنين المصريين في شمال سيناء"(11).
تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه التكتيكات تُثير أمرًا أخلاقيًّا مهمًّا؛ إذ إن ما يفعله النظام يقترب من حملات التطهير العِرقي، ويبتعد عن تكتيكات مكافحة تمرُّد مسلح على نظام سياسي استبدادي، وبالطبع يترتَّب على ذلك عواقب قانونية وسياسية ودولية.
"ولاية سيناء": النتائج والمآلات
كانت لماو تسي تونغ نصيحة ثورية شهيرة يَعْلَمُهَا كلُّ من له علاقة بدراسات حروب العصابات أو دراسات مكافحة التمرُّد المسلَّح: "المغاوير (مقاتلو الحروب الثورية أو حروب الأنصار والعصابات) يجب أن يسبحوا بين الناس كما يسبح السمك في البحر". وقد أسهمت سياسات القمع المكثَّفة من قبل جيش النظام في خلق مثل هذا "البحر" في سيناء، ثم أسهمت في المحافظة عليه وتوسعته.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الاعتقاد السائد بين الأجنحة المسيطرة على البيروقراطيات العسكرية والأمنية هو أنه كلما زاد القمع وتوسَّع (سواءً كان قمعًا وقائيًّا/هجوميًّا، أو قمعًا دفاعيًّا/ردة فعل) زادت احتمالات الإخضاع والسيطرة على التنظيمات المسلحة وعلى سكان شبه الجزيرة معهم؛ بيد أنَّ هذا الاعتقاد غير مدعوم لا نظريًّا/عقلانيًّا ولا عمليًّا/ميدانيًّا؛ فتجارب الأربعة عشر عامًا الأخيرة في سيناء تشير إلى عكس ذلك، وكذلك أية مراجعة مستقلة لحصاد السياسات الأمنية هناك.
وعلى الرغم من أن الأيديولوجيا التي تتبناها "ولاية سيناء" قد تكون مُنَفِّرَة للأغلبية الساحقة من سكان شمال شبه الجزيرة، فإن خطاب التنظيم يتبنَّى مظالم حقيقية للسكان داخل وخارج شبه الجزيرة، كما أن ما يفعله النظام يخلق البيئة المناسبة للتفاعل مع مثل هذا الخطاب ويُضفي شرعية عليه، هذا إضافة إلى وجود موارد كافية لدى التنظيم -على ما يبدو حتى الآن- في الاستمرار في استراتيجية الاستنزاف، وتكتيكات الضرب والاختفاء؛ فالتقديرات تشير إلى أن أعداد المسلحين تتراوح ما بين العشرات على أقل تقدير أو ألفين على أقصى تقدير، أما منظومة التسليح والتدريب، فهي ليست متطورة؛ ولكنها كافية لإحداث "نكاية" مستمرة لا "تمكين" مستقر؛ فالتسليح خفيف في الأغلب، كما هو واضح من الفيديوهات الدعائية للتنظيم؛ حيث يتراوح ما بين بنادق الكلاشينكوف الآلية، ورشاشات البي كيه المتوسطة، ومدافع هاون خفيفة (60 مم)، وعبوات وألغام مرتجلة، وعدد محدود من الصواريخ المصنعة التي تستهدف في الأغلب إسرائيل، ومضادات دروع "آر بي جي" من عدة أجيال وطرازات، ويبدو أن التنظيم يمتلك مضادات للطائرات محمولة على الكتف من طراز 16 SA- أو SA-18الروسية؛ إذ إنه أسقط مروحية عسكرية تابعة للجيش الثاني الميداني بصاروخ موجَّه (لا يبدو من الفيديو الدعائي الجيل الذي ينتمي إليه المضاد، وبالتالي ليس معروفًا إن كان موجَّهًا بالحرارة أو بموجات الراديو أو بالليزر، والأخير هو الأكثر تطورًا وأشد دقة وخطورة). كما يبدو أن السلاح الثقيل (نسبيًّا) الوحيد الذي ظهر في الدعائيات المرئية للتنظيم هو مدفع هاون ثقيل (120مم)، استولى عليه التنظيم من قوات النظام عقب الهجوم علي حاجز كرم القواديس في نوفمبر/تشرين الثاني 2014(12). وعلى الرغم من تنوُّع التسليح وعدم حصول أية قوة غير نظامية في مصر عليه من قبل -حتى في مواجهات الخمسينات(13) والتسعينات- فإنه محدود بالمقارنة بقوات غير نظامية أخرى؛ كما هي الحال في سوريا وليبيا والعراق واليمن، وفي حالات التاريخ القريب؛ مثل: بيرو، وكوبا، وإسبانيا، وفيتنام، والصين، والفليبين. وبسبب هذا سيضطر التنظيم إلى الاعتماد على هجين من تكتيكات المغاوير وإرهاب المدن، وتجنب أية مواجهة مباشرة مع الجيش النظامي.
مكاسب مؤقتة
"نحن باقون هنا. يقصفون المنزل، نبني كوخًا -يحرقون الكوخ، نبني كوخًا آخر- يقتلون، ننجب الأولاد... أدعو الجيش لكي يعاملوننا كما عاملناهم في عام 1967 حين أعطيناهم ملابسنا لإخفائهم من الإسرائيليين، وقدَّمنا لهم كافة الخدمات واحترمناهم وساعدناهم على الفرار، هل هكذا يردُّون الجميل؟!" يلخص "أبو مُسَلّم" المأساة الإنسانية في سيناء. وأبو مسلِّم هو واحدٌ من بين آلاف تشرَّدوا وأصبحوا من دون مأوى نتيجةً لحملات الجيش النظامي، وسياسات الإجلاء القسري المتبعة في العديد من القرى الحدودية، وكذلك في بلدة رفح وضواحيها.
وربما أبرز ما تستخلصه دراسات "مكافحة التمرد" بِنَاءً على مئات التجارب في القرون الثلاثة الماضية على الأقل، هو أن قدرة القوات غير النظامية على الحركة السريعة والتخفي مع الحفاظ على شرعيتها الشعبية-الجهوية ومصادر مواردها، يعني أن احتمالات انتصار القوات النظامية عليها ليست كبيرة على الرغم من موازين القوى المختلة(14)؛ وهذا يعني أنه دون تحسين العلاقة مع سكان سيناء، ودون الاستماع إلى مأساة أبي مسلم وغيره من سكان شمال شرق سيناء، ودون وجود تمثيل محلي شرعي لسكان شبه الجزيرة (ومصطلح "شرعي" هنا لا ينطبق على شخصيات يختارها أمن النظام ثم يُزوِّر لها الانتخابات)، ودون وجود آلية مؤسسية لمعالجة الهموم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية لأهالي سيناء كمواطنين مصريين، فإن "ولاية سيناء" ستبقى وقد تمتد.
___________________________________
د. عمر عاشور: أستاذ محاضر في الدراسات الأمنية والاستراتيجية بجامعة إكستر البريطانية، وباحث غير مقيم بمركز بروكينجز بالدوحة.
الهوامش والمصادر
(1) https://www.youtube.com/watch?v=WOkKqU8WA5E
(2) http://www.amnesty.org/en/news/egypt-end-wave-home-demolitions-forced-evictions-sinai-amid-media-blackout-2014-11-27
(3) https://www.youtube.com/watch?v=BCaDoxC6VAQ&spfreload=1
(4) Ashour, Omar. “Jihadists and Post-Jihadists in Sinai.” Foreign Policy, September 2012. http://mideast.foreignpolicy.com/posts/2012/09/05/jihadists_and_post_jihadists_in_the_sinai
(5) Human Right Watch. “Mass Arrests and Torture in Sinai.” 1 February 2005:
http://www.hrw.org/sites/default/files/reports/egypt0205.pdf
(6) http://wikithawra.wordpress.com/2013/09/03/rabiadisperal14aug
(7) https://www.youtube.com/watch?v=QOIlij_7Fqs
(8) Kirkpatrick, David. “Egyptian Clerics Defend Forced Evacuation of Families from Sinai.” New York Times, 3 November 2014:
http://www.nytimes.com/2014/11/04/world/middleeast/egyptian-cleric-defends-forced-evacuation-in-sinai.html?_r=0
(9) صالح النعامي، "يدعوت أحرنوت: إسرائيل تساعد السيسي استخباريًّا". العربي الجديد، الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2014.
http://www.alaraby.co.uk/politics/a0a4d958-5e2b-4f6e-a2bb-edefdd639d35#sthash.jy8yYHFn.dpuf
وانظر كذلك:
Ben-Yishai, Ron. “Easing Gaza Restrictions in the New Two-State Solution.” Yedioth Ahronoth, 10 November 2014:
http://www.ynetnews.com/articles/0,7340,L-4579502,00.html
Ben-Yishai, Ron. “Laying Low on Relations with Egypt’s Sisi.” Yedioth Ahronoth, 6 September 2014:
http://www.ynetnews.com/articles/0,7340,L-4528174,00.html
(10) وقد صور التنظيم جنازة كبيرة لعناصره وبثها على موقع اليوتيوب:
https://www.youtube.com/watch?v=-YgIsmhJfl4.
(11) النعامي، المصدر السابق.
(12) https://www.youtube.com/watch?v=SMtc4J48KTA
(13) باستثناء الصراع الذي حدث بين قوات المدفعية والفرسان (المدرعات) وغيرها والقوات الموالية لجمال عبد الناصر والمجلس الذي عَينَّ أغلبيته (مجلس قيادة الثورة) بين يوليو/تموز 1952 ومارس/آذار 1954؛ إذ كانت تلك حالة صراع بين قوات نظامية مسلحة مؤيدة لعودة البرلمان والحكم الديمقراطي، وبين أخرى -نظامية أيضًا- مؤيدة لحكم العسكر.
(14) Arreguin-Toft, Ivan. How the Weak Win Wars? Cambridge: Cambridge University Press, 2005.