تعاني السياسة الموريتانية من لعبة التوازن في العلاقات بين الجزائر والمغرب. لكن يصعب على المغرب أن يدفع موريتانيا التي تمثل خاصرته الجنوبية، بعيدًا عن حساباته وتوجهاته بالمنطقة [لجزيرة] |
ملخص
العلاقات الموريتانية-المغربية ذات أبعاد تاريخية وجغرافية، لكنها تحتاج سياسيًّا إلى تخلي المغرب عن حلم الأبوة السياسية على جارته الجنوبية موريتانيا. بالمقابل تحتاج موريتانيا إلى الحياد الإيجابي تجاه العلاقة بين الجزائر والمغرب، فمن المؤكد أن الجارين الكبيرين يمارسان لعبة المصالح الكبيرة، وتبقى موريتانيا هي الخاسر الأبرز إذا قررت الانحياز إلى أحد الطرفين. ولن يفرِّط المغرب في موريتانيا التي تمثل خاصرته الجنوبية، لكن سيكون صعبًا على موريتانيا التوازن في العلاقات بين جزائر يحكمها العسكر ومغرب قد أغضبته. |
العلاقات الموريتانية-المغربية عميقة زمنيًّا، حيث كانت هذه العلاقات بمفهومها السياسي سابقة على ميلاد الدولة، فعلى رمال موريتانيا نشأت المحاولات الأولى لدولة المرابطين التي استقرت شمالًا في المغرب، كما ظل المغرب خلال قرون يستقبل النُّخب الموريتانية، ويمثل إسنادًا مهمًّا للإمارات الناشئة في موريتانيا(1)، والزعامات الروحية فيها، وخُلِّدت تلك الرحلة في دواوين الشعر الموريتاني وصفحات التاريخ(2). لكن العلاقة سرعان ما أخذت بُعدًا جديدًا مع حصول موريتانيا على الاستقلال، ووقوف المغرب ضد هذا الاستقلال واعتبار موريتانيا جزءًا منه؛ حيث دعم المغرب وسلّح جيش التحرير الذي أنشأه السياسي الموريتاني أحمدو ولد حرمة، ونفّذ عدة عمليات عسكرية في موريتانيا(3).
وقبل أن تعود العلاقة من جديد إلى مستوى إيجابي بعد اعتراف المغرب بموريتانيا بداية السبعينات، ولاحقًا انحياز موريتانيا إلى الموقف المغربي ضد جبهة البوليساريو، الذي كان بداية النهاية لنظام الرئيس المختار ولد داداه(4). ومع وصول العسكر إلى السلطة من جديد، عاد التوتر بين موريتانيا والمغرب، ودخلت الجزائر على الخط من جديد داعمة للنظام العسكري في نواكشوط، فيما رعت المغرب المحاولة الانقلابية الفاشلة سنة 1981(5)، وظل المغرب يعبر عن عدائه الصريح للرئيس الموريتاني الأسبق محمد خونه ولد هيدالة، ويسعى للإطاحة بنظامه، حتى تمكن من ذلك بالتعاون مع النظام الفرنسي في 12 من ديسمبر/كانون الأول 1984.
وساءت العلاقة أيضًا بين النظام الموريتاني الجديد والمغرب منتصف التسعينات؛ بسبب درجة من التقارب بين موريتانيا والجزائر. وبموجبه استطاعت الجزائر أن تسهم في كشف محاولة انقلابية زنجية ضد نظام ولد الطايع(6). وظلت العلاقة بين النظامين تشهد مدًّا وجزرًا متبادلًا قبل الانقلاب العسكري عام 2005 الذي باركه المغرب، قبل أن يكون أهم داعمي الانقلاب العسكري اللاحق عام 2008.
مسار ما بعد ولد الطايع
تعززت العلاقة بسرعة بين الرئيس محمد ولد عبد العزيز والمغرب لأسباب كثيرة اجتماعية وسياسية، إضافة إلى مصالح المغرب في إزاحة نظام سيدي ولد الشيخ عبد الله الذي كان "ديمقراطيًّا أكثر من اللازم". لقد أغضب ولد الشيخ عبد الله، المنفتح جدًّا، فرنسا بتقاربه مع الإسلاميين، وأغضب المغرب بتقاربه مع اليسار الذي يمثل الحاضن التاريخي لحركة البوليساريو، إضافة إلى سعيه لترسيخ موقف الحياد الصارم تجاه قضية الصحراء الغربية. وقد كان الدور المغربي -بجانب الدور الفرنسي- أهم أساس اعتمد عليه الانقلاب العسكري في فترته الأولى، ولم يكن من الصُّدَف حينها أن يكون رئيس الاستخبارات المغربية ياسين المنصوري أول مسؤول أجنبي يزور موريتانيا عقب نجاح الانقلاب العسكري والإطاحة بالرئيس الأسبق سيدي ولد الشيخ عبد الله.
وسرعان ما تعززت العلاقة من جديد، وبنحو أكثر وضوحًا من ذي قبل، وبدأ الإعلام المغربي يتحدث عن "الأصول المغربية" لقائد الانقلاب ويتتبع مسار حياته في المدن المغربية وبين دوائر التدريب العسكري في مدينة مكناس. لكن ما لم يكن في حسبان البلدين، هو قوة الموقف الإفريقي تجاه الانقلاب الجديد في موريتانيا، ودفع عجز المغرب البيِّن عن فتح نافذة أمل في الجدار الإفريقي العميق، إضافة إلى التعامل "الأبوي"(7) مع النظام الموريتاني، هذا الأخير إلى البحث عن سند جديد، ولم يطل البحث، فقد كانت الجزائر وليبيا تنتظران الإشارة الموريتانية.
أمن الجزائر وحضن ليبيا
رفضت موريتانيا عرضًا من المغرب بإقامة قنصلية في مدينة العيون جنوب المغرب، ورغم أن هذا الرفض متفهَّم جدًّا؛ بسبب حساسية المدينة، وباعتباره خروجًا قويًّا على ما تعتبره موريتانيا الحياد الإيجابي من النزاع حول الصحراء الغربية، إلا أنه قوبل بغضب شديد من المغرب. وبالمقابل وسَّعت موريتانيا دائرة علاقاتها مع الجزائر بشكل متزايد، وبشكل أعمق مع حركة البوليساريو. واستقبل الرئيس محمد ولد عبد العزيز مسؤولين صحراويين عدة مرات، كما تعزز التقارب الموريتاني-الصحراوي بتعيين الرئيس السابق لموريتانيا محمد خونه ولد هيدالة -ذي الأصول الصحراوية والعلاقات الجزائرية الوطيدة- مستشارًا في القصر الرئاسي.
وربطت موريتانيا علاقات بالغة القوة مع النظام الليبي السابق، وهو أمر غير محبّذ بالنسبة للمغرب الذي طالما رأى في القذافي داعمًا أساسيًّا لجبهة البوليساريو وحليفًا دائمًا للجزائر. وهكذا وجد المغرب نفسه خارج خريطة التأثير في موريتانيا، فالدعم الجزائري والليبي لموريتانيا على مستويات السياسة والاقتصاد مكّنا النظام العسكري الناشئ من تجاوز أزمته السياسية والاقتصادية، والتوجه نحو اكتشاف مستوى جديد من العلاقة تقوم على المصالح الاقتصادية والسياسية للنظام.
وهنالك مؤشرات عديدة للأزمة بين البلدين أبرزها:
الأزمة الدبلوماسية العميقة: حيث خفضت موريتانيا تمثليها الدبلوماسي منذ ثلاث سنوات إلى أقصى درجة، ويدير ملف السفارة المغربية هنالك مستشار دبلوماسي قادم من الجزائر، وذلك بعد نقل القائم بالأعمال في السفارة الموريتانية سفيرًا في دولة مالي، وهي خطوة لا يخفى مغزاها بالنسبة للبلدين. كما رفضت موريتانيا أيضًا اعتماد قنصل مغربي، وطلبت استبداله بآخر، وهو ما رفضه المغرب أيضًا.
أما المغرب فلا يزال يرفض تغيير سفيره في موريتانيا عبد الرحمن بن عمر الذي يشترك مع الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز في ذات الأصول القبلية، وتتهمه أطراف قوية في النظام الموريتاني بالانحياز إلى أطراف من المعارضة الموريتانية، أبرزها الرئيس السابق اعل ولد محمد فال، ورجل الأعمال المعارض محمد ولد بوعماتو، وهما من أبرز أقارب الرئيس الموريتاني وأشد خصومه. ولا يمكن فهم تشبث المغرب بسفيره المريض المتقاعد في نواكشوط إلا في ضوء الأزمة والتوتر بين البلدين، خصوصًا أن الخارجية المغربية في عهد الوزير السابق سعد الدين العثماني سعت بقوة إلى استبداله باسم آخر، دون أن توفّق في ذلك.
إيواء معارضين: يوجد في المغرب اثنان من أهم معارضي الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز، وهما رجلا الأعمال المصطفى ولد الشافعي ومحمد ولد بوعماتو، وقد نقل هذا الأخير جزءًا كبيرًا من استثماراته إلى المغرب، كما حصل على عقود تجارية مهمة مع مؤسسات مغربية. أما بالنسبة لولد الشافعي، فقد رفض المغرب التعامل مع مذكرة التوقيف القضائية الصادرة ضده من المؤسسة القضائية في نواكشوط، وبدل ذلك تعززت العلاقة بين ولد الشافعي والمؤسسات السياسية والأمنية في المغرب، حيث يتهم من قِبل النظامين الموريتاني والجزائري بأنه يدير العلاقة بين المغرب وبعض الحركات الانفصالية، وكذا الحركات السلفية المسلحة في منطقة أزواد ومنطقة الساحل عمومًا(8).
لا يمكن اعتبار الرجلين مجرد خصمين سياسيين، بل هما -بالتأكيد- من أهم خصوم الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز؛ وذلك لعلاقاتهما القوية داخل دوائر النفوذ في إفريقيا ودول الجوار الموريتاني، حيث كان ولد بوعماتو أهم مهندسي العلاقة بين الرئيس محمد ولد عبد العزيز ونظام الرئيس الفرنسي السابق نيكولاي ساركوزي، فيما يعتبر ولد الشافعي رجل الأمن في إفريقيا، حيث عمل مستشارًا لعدد من الرؤساء الأفارقة، ووسيطًا في عدد من قضايا الخطف في منطقة الساحل.
رفض الرئيس الموريتاني العلاج بالمغرب: تتحدث مصادر متعددة عن رفض الرئيس الموريتاني تلقي علاجاته الأولية في المغرب، أثناء إصابته برصاصات مجهولة المصدر في 13 من ديسمبر/كانون الأول 2012، وأصر الرئيس محمد ولد عبد العزيز -رغم العرض المغربي- على تلقي العلاج الأوّليّ في المستشفى العسكري في موريتانيا قبل أن يواصل مسار العلاج في فرنسا.
أزمة الزيارة المرتقبة: إلى جانب أزمة السفارات، فقد برزت أيضًا أزمة "زيارات القمة" بين البلدين، حيث سبق للمغرب أن طلب تعديل موعد زيارة كان سيقوم بها الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز إلى المغرب، وهو ما لم يَرُق للموريتانيين، وبادر الرئيس الموريتاني حينها بزيارة الجارة الجزائر. وفي المقابل لا تزال زيارة الملك محمد السادس إلى موريتانيا هي الأخرى الحدث المؤجل منذ وصول الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى السلطة، رغم أن زيارات ملك المغرب تكررت إلى جارتي موريتانيا السنغال ومالي ضمن جولة إفريقية ضمت عددًا من الدول الإفريقية.
الموقف من الإسلاميين في الحكومة: قابلت موريتانيا وصول الإسلاميين إلى إدارة الشأن العام في المغرب بتحفظ إن لم يكن بجفاء، ورغم سعي حكومة عبد الإله بن كيران إلى تمتين العلاقة مع موريتانيا إلا أن موقفها قوبل بتحفظ كبير من نواكشوط، التي رأت في رفاق ابن كيران سندًا أساسيًّا للإسلاميين في المعارضة الموريتانية(9)، كما قوبل ذلك السعي أيضًا بتحفز من المغرب؛ لمعاقبة موريتانيا على ما يرى فيه خروجًا على النمط التقليدي في العلاقة بين الدولتين. وبين ذلك التحفظ والتحفز واصلت العلاقة طريقها السريع نحو التوتر(10).
وفي حين قاطع المغرب الانتخابات الرئاسية والنيابية الأخيرة في موريتانيا، أرسلت الجزائر مراقبين إلى نواكشوط، ودفعت الاتحاد الإفريقي إلى إرسال وفود مراقبة مماثلة. كما أن احتفاء المغرب بنقيب المحامين الموريتانيين السابق أحمد سالم ولد بوحبيني المعروف بعدائه الراسخ للرئيس محمد ولد عبد العزيز مثّل عنوان أزمة كبيرة بين البلدين. أما منافسة موريتانيا القوية على مقعد إفريقيا بمجلس الأمن، فرغم أنها خسرت المقعد إلا أن المغرب رأى أن الجزائر كانت أبرز داعم لموريتانيا في هذا الصدد، وأضاف هذا عامل تعقيد جديد في العلاقات.
وبالنسبة لملف الاتحاد الإفريقي فقد حصلت موريتانيا بدعم قوي من الجزائر على رئاسة الاتحاد الإفريقي. ويعتبر الاتحاد الإفريقي مؤسسة غير صديقة للمغرب؛ بسبب مواقف عدد كبير من بلدانه من أزمة الصحراء الغربية، واعتراف عدد كبير منهم أيضًا بجبهة البوليساريو، وثانيًا لتحكم دولتي الجزائر وجنوب إفريقيا في المواقف السياسية والأمنية للاتحاد. ولم يطل الانتظار المغربي، حيث كان من أبرز المحطات الفاصلة في رئاسة موريتانيا للاتحاد الإفريقي تعيين منسق إفريقي خاص بملف الصحراء الغربية، وكان من نصيب جواكيم شيساني، الرئيس السابق لدولة الموزمبيق، المتهم من قِبل المغرب بمساندته للبوليساريو(11).
أما على المستوى الإعلامي فلا تُخفي وسائل الإعلام المغربية انتقاداتها لموريتانيا. ورغم أن حدة الانتقاد بدأت تخفّ خلال الأشهر الماضية القريبة، إلا أن استمرار تلك الحملة يظهر عمق الأزمة بين البلدين. وقد سبق لموريتانيا أن طردت مراسل وكالة الأنباء المغربية عام 2011، واتهمت الخارجية الموريتانية المراسل بممارسة أدوار خارجة عن مهام الإعلام. وكانت السلطات الموريتانية قد رصدت لقاءات نظمها هذا المراسل مع عدد من الإعلاميين الموريتانيين، وهو ما اعتبرته نواكشوط تهديدًا جديًّا، وأثار حفيظة المغرب.
وفي هذا السياق تعزز حضور جبهة البوليساريو في موريتانيا، حيث تعددت اللقاءات خلال المؤتمرات والمنتديات الدولية والإفريقية بين رئيسي موريتانيا والبوليساريو. ويأتي هذا التقارب بعد رفض موريتانيا فتح قنصلية لها في مدينة العيون جنوب المغرب، والتي تشهد بين الحين والآخر مواجهات بين الأمن المغربي ومتظاهرين صحراويين. بالمقابل يحظى السفير الصحراوي في موريتانيا بحضور إعلامي وسياسي معتبر، وينشر بين الحين والآخر مقالات قوية تنتقد المغرب.
وازدادت مؤشرات العلاقة المتوترة بين الطرفين بعامل آخر هو تجنيس عدد كبير من الصحراويين في منطقة الشمال الموريتاني، وهو ما يعني بالنسبة للمغرب تهديدًا جديًّا، حيث يمكن لهؤلاء الانفصاليين الدخول إلى المغرب بأوراق رسمية موريتانية، وقد ردت الرباط على هذا المعطى بافتعال أزمة التأشيرات، خصوصًا ضد سكان الشمال الموريتاني، وقد أضرت هذه الأزمة بمصالح عدد هائل من الموريتانيين الذين يرتبطون بالمغرب في حركتهم التجارية أو الاستشفاء. وضيّق المغرب على عدد من مقربي الرئيس محمد ولد عبد العزيز، خصوصًا الناشطين في مجال التجارة. إضافة إلى التضييق على سكان الشمال الموريتاني من خلال إجراءات صارمة ضد حركة تنقل الأفراد والبضائع والمواشي بين البلدين، ونشر وحدات عسكرية وأمنية بشكل دائم على الحدود الموريتانية المغربية. ورغم أن هذه الإجراءات تأتي -في الغالب- لسعي المغرب لضمان أمن حدوده أمام حركتي الهجرة السرية وتهريب البضائع والمخدرات، إلا أن سكان الشمال الموريتاني تضرروا منها بشكل لافت.
وقد تراجع التنسيق الأمني بين موريتانيا والمغرب خلال السنوات الثلاث الماضية، وظلت الرباط ترفض تسليم المعتقل سيدي محمد ولد هيدالة إلى موريتانيا، قبل أن تجد نفسها مضطرة إلى ذلك؛ بسبب سعيها إلى تسلُّم معتقل تونسي في موريتانيا متهم بتزوير العملة المغربية.
لن يفرط المغرب في موريتانيا التي تمثل خاصرته الجنوبية، وسيكون صعبًا على موريتانيا التوازن في العلاقات بين جزائر يحكمها العسكر ومغرب قد أغضبته. كما أن دور موريتانيا ومكانتها ومستوى القوة السياسية والعسكرية التي تمثلها اليوم، سيجعل البلدين مرغمين على استمرار التنافس والتفكير بجدية في مَن يكسب نواكشوط. إن موريتانيا لا تملك ورقة ضغط كبيرة تجاه المغرب باستثناء ورقة الموقف من الصحراء الغربية، وهي ورقة ليست بالغة القوة، ويبقى الانحياز الموريتاني للبوليساريو -إن تمّ وتواصل- مؤشرًا خطيرًا قد يدفع إلى توتر حاد مع المغرب.
أما المغرب فيملك في علاقته مع موريتانيا أوراق ضغط كبيرة، أبرزها العلاقات الاجتماعية الوطيدة مع عدد كبير من مراكز الثقل والنفوذ الاجتماعي، وكذلك التاريخ الطويل من نسج العلاقات الأمنية والسياسية مع النخبة العامة في موريتانيا، سواء تعلق الأمر بالمؤسسة العسكرية أو قطاعات التأثير المدني الأخرى، حيث كان المغرب الحاضر الأبرز في كل الانقلابات العسكرية الناجحة أو المخفقة في موريتانيا. إضافة إلى الثقل الروحي الذي يمثله المغرب باعتباره مركزًا للتيجانية، وهو يدير ملف التيجانية باعتباره إحدى الشُّعب الدبلوماسية المهمة، خصوصًا في مجال العلاقات الشعبية. ورغم أن المغرب دعم انقلاب 2008 الذي نظر إليه كثيرون باعتباره انقلابًا ضد السلطة السياسية والاجتماعية للطريقة التيجانية في موريتانيا، إلا أن العلاقة سرعان ما توترت بين المملكة وحكام نواكشوط الجدد، وتعززت الدبلوماسية الشعبية بين موريتانيا والمغرب على يد رموز ومشايخ من الطريقة التيجانية استطاعوا حلحلة عدد من الملفات العالقة(12).
أما من ناحية التأثير في دول الطوق الإفريقي، فيملك المغرب ملفَّ ضغطٍ قويًّا على موريتانيا من خلال مواقف السنغال ومالي المجاورتين لها، وهما دولتان ضبطتا منذ سنوات طويلة كثيرًا من مواقفها على إيقاع المؤشر المغربي. وإلى جانب تمكنه العميق من زمام المواقف السياسية والروحية في السنغال، فإنّ المغرب عزّز حضوره في مالي عبر دعم الحكومة الجديدة بقيادة إبراهيم كيتا. وفي ذات السياق عزز علاقات جديدة مع قادة المتمردين الطوارق، وهو ما قلّص الحضور السياسي لموريتانيا في ملف أزمة شمال مالي، تمهيدًا لتقاسمه بين المغرب والجزائر.
ويحدد علاقة المغرب بموريتانيا أوراق أخرى قوية، منها ملف المنح الطلابية والدراسة في الجامعات المغربية، حيث يستقبل المغرب منذ عقود آلاف الطلاب الموريتانيين، الذين يجدون في الجامعات المغربية فرصة للدراسة، وينضاف إلى ذلك تكوين الأطر المدنيين والعسكريين هنالك؛ مما يصنع مستوى مهمًّا من التقارب مع صانعي القرار في موريتانيا. وسيمثل هذا البُعد نقطة ضغط قوية ضد الحكومة الموريتانية، إذا ما قرر المغرب إغلاق جامعاته أمام طلاب موريتانيا.
موريتانيا: خاصرة المغرب
تملك موريتانيا نقاط ضغط مهمة في علاقتها بالمغرب، ومن أهمها الموقف من الصحراء الغربية؛ حيث ظلت موريتانيا منذ العام 1975 إلى 2010 تحافظ على مستوى عالٍ من الحياد الإيجابي -إن لم يكن التعاطي الإيجابي مع المواقف المغربية- تجاه ملف الصحراء، غير أن مؤشر الحياد بدأ يترنح تبعًا للتوتر الملاحظ في العلاقات بين الدولتين. ويمثل موقف موريتانيا من الصحراء الغربية نقطة قوة في مسار العلاقات بين نواكشوط والرباط، وهو ما يعيه المغرب، حيث بادر بدعوة موريتانيا إلى فتح قنصلية لها في مدينة الداخلة، وهو ما رفضته نواكشوط، واعتُبر نقطة بارزة في مسار التوتر بين البلدين.
إن الموقف الموريتاني من الصحراء الغربية لا يمثل فقط تحديًا سياسيًّا بالنسبة للمغرب، لكنه يمثل أيضًا تحديًا أمنيًّا، حيث لا يمكن التفريق بين الموريتاني والصحراوي، خصوصًا إذا حمل هذا الأخير جواز السفر الموريتاني الذي يمكنه من التنقل في العالم، وفي مدن المغرب. وعلى المستوى الاقتصادي تمثل إفريقيا الغربية سوقًا مهمًّا للمنتوجات الزراعية المغربية؛ ولذلك تبقى موريتانيا هي الشريان الوحيد لتدفق هذه المنتوجات المهمة لسوق الفلاحة المغربية. وإلى جانب ذلك، فإن السوق الموريتانية تعتبر هي الأخرى فرصة أساسية للاقتصاد المغربي، حيث تملك شركة الاتصالات المغربية 61% من أهم شركة اتصالات موريتانية، وهي شركة موريتل.
وتعتمد أجزاء واسعة من موريتانيا على التبادل التجاري مع المغرب، حيث تنشط حركة تجارة السيارات والبضائع المختلفة، كما أن المنطقة الاقتصادية الحرة لموريتانيا قد تتأثر سلبيًّا إذا ساءت العلاقات مع الجار المغربي، لكن موريتانيا في المقابل تجد في الحضن الجزائري بديلًا مهمًّا ومستعدًّا للتقارب والتفاهم، ويمثل طريق تندوف- ازويرات معبرًا مهمًّا للتبادل الموريتاني الجزائري؛ حيث سيربط مدن الشمال الموريتاني بالسوق الجزائرية بشكل مباشر، لكنه أيضًا سيوفر للجزائر معبرًا إلى المحيط الأطلسي، ويسهّل التبادل التجاري بينها وبين عدد كبير من دول العالم، وهو ما يعني في المقابل إضعاف محور طريق الداخلة- نواذيبو الذي يربط موريتانيا بالمغرب. وفي ملف الصيد البحري ظل المغرب لسنوات عديدة يطالب موريتانيا بتعزيز مستوى التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، والرفع من مستوى الشروط والصرامة قبل توقيع الاتفاقيات؛ حيث كان الأوروبيون يجدون في موريتانيا بديلًا عن التشدد المغربي في قضايا اتفاقيات الصيد وتسويق الأسماك.
مؤشرات الانفراج
يمكن رصد عدة مؤشرات على إمكانية عودة العلاقة بين البلدين إلى مستوى معين من طبيعتها، ومن أبرز تلك المؤشرات تكثيف الزيارات المتبادلة. حيث زار خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وزراء موريتانيون المغرب من بينهم وزير الخارجية الذي نقل رسالة خطية إلى الملك محمد السادس، إضافة إلى وزراء العدل والنقل. وفي زيارة وزير الخارجية المغربي إلى موريتانيا تحدث عن آفاق جديدة لتعزيز العلاقة بين الدولتين، وتزامنت هذه الزيارة مع عودة الحديث عن زيارة مرتقبة للملك محمد السادس إلى موريتانيا(13)، إضافة إلى زيارة وفد كبير من رجال الأعمال المغاربة إلى موريتانيا خلال الأسابيع الماضية القليلة، ضمن مساعٍ لتعزيز العلاقات التجارية وفرص الاستثمار.
وفي سياق قريب، ظهر إلى الواجهة أيضًا تباين بين موريتانيا والجزائر بشأن التدخل العسكري في ليبيا، فقد قابلت الجزائر دعوة الرئيس الموريتاني إلى التدخل في ليبيا بالرفض، كما سعت إلى تفكيك الحلف الإفريقي المطالب بالتدخل في ليبيا، حيث تراجعت تشاد عن ذلك المطلب(14).
وقد نفّذ الجيش الموريتاني خلال الأسابيع الأخيرة من العام 2014 عدة حملات عسكرية ضد من اعتبرهم مهربي البضائع والمخدرات، وفي المقابل رأت الصحافة الصحراوية في هذا التصرف عملًا موجهًا بالأساس ضد المواطنين الصحراويين الذين ينتجعون بشكل دائم على الحدود الموريتانية مع الصحراء الغربية.
وإلى جانب هذه المؤشرات هنالك معطيات أخرى تفرض التعاون والتنسيق، ومن أبرزها التعاون الإقليمي؛ حيث يفرض تداخل المصالح الجيوسياسية مستوى من التقارب والتنسيق من أجل انسياب حركة الأطر الإقليمية والمنتديات الدولية التي تجمع البلدين، ويمكن في هذا المجال رصد مؤشرات مثل اللجنة العليا المشتركة بين البلدين والتي انعقدت في إبريل/نيسان 2013، وأدت إلى توقيع 17 اتفاقية في مجالات الغاز والإسكان والتعليم والنقل والموارد البحرية، وانتهت بدعوة رئيس الحكومة المغربي إلى إلغاء التأشيرات بين البلدين. لكن تلك الاتفاقيات ولدت ميتة، ولم تتجاوز لحظة التوقيع. إضافة إلى مبادرة (5+5) المنعقدة في نواكشوط منتصف إبريل/نيسان 2013 بحضور وزير الخارجية المغربي، وكان من نتائجها التأكيد على تعزيز التعاون بين بلدان المنطقة المتوسطية(15). وكذلك الدورة الرابعة لمجلس وزراء النقل المغاربة في نواكشوط المنعقد بتاريخ 17 من مارس/آذار 2013، وشهد دعوة وزير النقل الموريتاني إلى تسريع وتيرة التبادل والانفتاح بين مختلف دول المغرب العربي(16).
خلاصات
تسير موريتانيا في علاقاتها بين المغرب والجزائر في حقل من الألغام السياسية والدبلوماسية والأمنية التي فرضتها حالة العداء بين جاريها الشماليين. وقد خرجت موريتانيا من عباءة الدعم المغربي لانقلاب الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز إلى عباءة جزائرية رأت فيها مساحات كبيرة لتعزيز المشترك الظرفي، ومن أبرزه ملف الأمن والإرهاب؛ حيث اكتوى البلدان أكثر من غيرهما بنار الإرهاب، واشتركا أيضًا في حدودهما مع دولة مالي التي تعتبر المحضن الأساسي الآن للجماعات المسلحة. وهكذا وجد النظام الموريتاني نفسه مضطرًّا للتعاون مع الجزائر في مجالات الأمن والاستخبارات لحماية حدوده.
أما أزمة الربيع العربي فتشترك الجزائر وموريتانيا في الموقف السلبي تجاهه، وقد رأى نظام موريتانيا في الانحناء المغربي لعاصفة الربيع العربي، خطرًا حقيقيًّا على استقراره، وذلك مع تكثيف المعارضة الموريتانية لحراكها السياسي الداعي لرحيل النظام في نواكشوط. حيث استطاع المغرب إدارة ملف العلاقات مع الإسلاميين بحنكة ومرونة فائقة. بالمقابل فإن الجارين الموريتاني والجزائري امتلكا نفس الرؤية الصدامية أو الإقصائية في أحسن الأحوال تجاه إسلاميي الربيع العربي.
ويبقى المشترك العسكري أهم رابط بين حكام نواكشوط والجزائر، حيث تمسك المؤسسة العسكرية بزمام الأمر في البلدين. وقد أثمرت تلك المشتركات تقاربًا اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا متزايدًا، من أبرز ملامحه انتظام دورات اللجنة العليا المشتركة بين البلدين، ودعم الجزائر لبرنامج أمل الاقتصادي الخاص بدعم الشرائح الفقيرة في موريتانيا. ويعتبر من أهم البرامج الاقتصادية والدعائية لنظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز.
يمكن الجزم أن العلاقات الموريتانية المغربية غير قابلة للقطيعة؛ بسبب الأبعاد التاريخية والجغرافية، لكنها تحتاج سياسيًّا إلى تخلي المغرب عن حلم الأبوة السياسية على جارته الجنوبية موريتانيا. بالمقابل تحتاج موريتانيا إلى الحياد الإيجابي تجاه العلاقة بين الجزائر والمغرب، فمن المؤكد أن الجارين الضخمين يمارسان لعبة المصالح الكبيرة، وتبقى موريتانيا هي الخاسر الأبرز إذا قررت الانحياز إلى أحد الطرفين. وإلى أن تترسخ هذه السياسات تبقى العلاقات بين البلدين جزءًا أساسيًّا من أزمة التكامل المغاربي، ومظهرًا جليًّا للصراع بين المغرب والجزائر.
____________________________________________
*محمد سالم، باحث ومحلل سياسي موريتاني.
مصادر وهوامش:
1- ساند جيش السلطان المغربي الأمير الموريتاني اعل شنظورة، في استعادة ملكه وتوطيد أركانه في الجنوب الموريتاني.
2- تُظهر مدائح الشعراء الموريتانيين للسلاطين المغاربة جانبًا من تلك العلاقة، إضافة إلى المراسلات الدائمة بين النخبة العلمية والسياسية في موريتانيا ما قبل الاستقلال مع ملوك المغرب.
3- من بينها حادثة النعمة أقصى الشرق الموريتانية سنة 1961، وكذا عملية اغتيال العمدة السابق لمدينة أطار في ذات السنة (مذكرات الرئيس السابق المختار ولد داداه).
4- يمكن الرجوع إلى مذكرات الرئيسين الموريتانيين السابقين المختار ولد داداه، ومحمد خونه ولد هيدالة.
5- سيدي أعمر ولد شيخنا: "موريتانيا المعاصرة: شهادات ووثائق" ص371.
6- يتهم بعض وزراء ولد الطايع المغرب بالضلوع في أحداث 1989 الدموية بين موريتانيا والمغرب من خلال الانحياز للسنغال.
7- تعامل الديوان الملكي المغربي مع طلب الرئيس محمد ولد عبد العزيز زيارة المملكة المغربية بأسلوب غير لائق، حيث تم تعديل الموعد الذي اقترحته الحكومة الموريتانية بموعد آخر، وهو ما رأت فيه موريتانيا إهانة مقصودة.
8- النهار الجزائرية: ولد الشافعي عميل المخابرات المغربية.
9- تتميز العلاقة بين إسلاميي المغرب وموريتانيا بدرجة عالية من العمق، ويحظى رموز الحركة الإسلامية في موريتانيا بتقدير كبير من نظرائهم المغاربة.
10- شرح الوزير عبد الله باها في مقابلة مع الأخبار الموريتانية سعي حكومة بن كيران لتعزيز العلاقة مع موريتانيا، معتبرًا أن وضع العلاقة الحالي لا يرقى للمطلوب.
http://www.alakhbar.info/intrep/interv/7112-2014-12 -08-15-47-06.html
11- صحيفة الحدث: صديق البوليساريو ممثلًا للاتحاد الإفريقي.
http://www.ahdath.info/?p=1959
12- من أبرز ملامح تلك الدبلوماسية ملف تسجيل الطلاب الموريتانيين في الجامعات المغربية، حيث يفوق عدد المسجلين عبر المشايخ والعلاقات الاجتماعية عدد المسجلين عبر وزارة التعليم الموريتانية.
13- الرأي المغربية http://alraiy.com/2014/10/23/316/
14- مساع جزائرية لإجهاض دعوة موريتانيا للتدخل في ليبيا http://essirage.net/node/278
15 - التقرير الاستراتيجي لسنة 2013 الصادر عن مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية في موريتانيا.
16- المصدر السابق.