صومالي لاند بين الانفصال والعودة للوحدة

تتحدث بعض التحليلات مؤخرا عن أن الصومال بدأ يخرج تدريجيا من أزمته المزمنة معالجا بعض التحديات التي عصفت بالدولة منذ 1991، ومن أبرزها مسألة الوحدة الوطنية، وهو ما يوضحه المؤلف في هذا التقرير مركزا على حالة صومال لاند وهل من سبيل إلى حلها.
201531091400580_20.jpg
منظر لأحد شوارع هرجيسا عاصمة إقليم صومالي لاند [الجزيرة]

ملخص

يشرح هذا التقرير الظروف التي اكتنفت ظهور الدولة الصومالية غداة استقلال البلاد والتي كانت عبارة عن وحدة اندماجية طوعية بين "صومالات" متعددة وذلك في سياق نظام جمهوري ديمقراطي مشكلا ذلك نواة دولة الصومال الكبير التي ما زالت –رغم ذلك- حلما لم يتحقق. والواقع أن الهوية الصومالي –كما يوضح التقرير- واضحة المعالم اجتماعيا وتاريخيا ولغويا ودينيا. غير أن سقف التوقعات لدى الصوماليين وحلمهم بوحدة شاملة تكسر على جدار واقع سياسي صعب يطبعه الغبن، والتفاوت في الفرص، والاستحواذ على المنافع، والتجاذبات بين الجهات وخصوصا الجنوب "المستحوذ على السلطة" والشمال "الشاعر بالغبن"، وانعدام الخبرة لدى النخبة الحاكمة. وبدل أن توضع تلك العراقيل في سياقها الصحيح وهو تحديات بناء دولة عصرية فقد كانت الاتهامات والاتهامات المضادة بين النخب السياسية المختلفة شعار الجميع. وفي سياق هذه التجاذبات انهارت الدولة الصومالية سنة 1991 وأعلن إقليم الشمال الانفصال عن الجنوب تحت مسمى "صومالي لاند"، الذي لم تكن المكونات القبيلة فيه مجمعة في أغلبها على الانفصال. ورغم مضي عقد ونصف على إعلان هذا الانفصال إلا أنه لم يتم الاعتراف به خارجيا. ومنذ منتصف 2012 تجري مفاوضات بين الحكومة المركزية وبين صومالي لاند فد تفتح رغم بطئها وتعثرها على استعادة وحدة الصومال وقيام شراكة داخلية وتوزيع أكثر عدالة للمنافع.

يتميز الشعب الصومالي عن غيره من الشعوب الإفريقية بتجانسه في اللغة والدين والتاريخ المشترك والرقعة الجغرافية الواحدة والمتصلة التي يسكنها، وعاش تاريخيًّا قبائل ودويلات مستقلة دون سلطة مركزية تعوق حركته الطبيعية وراء الكلأ والمياه، حتى جاءت السلطات الاستعمارية فقسمته إلى خمس محميات: الصومال الإيطالي، والصومال البريطاني (صومالي لاند) والصومال الفرنسي (جيبوتي) وأوغادين، والمناطق الشمالية الشرقية في كينيا التي عُرفت بأنفدي ((N.F.D.، ومارست تلك السلطات حكمًا مركزيًّا، ووضعت حدودًا سياسية فصلت بين أبناء القبيلة الواحدة، وبين المراعي والآبار، وأوجدت وضعًا سياسيًّا واجتماعيًّا مختلفًا، ولكن الشعب الصومالي لم يخضع لذلك الواقع بل قاوم بمختلف الأشكال.

كانت الوحدة السياسية التي شهدتها بعض المناطق الصومالية تحت الحكم الإيطالي ثم البريطاني قبيل وبعد الحرب العالمية الثانية وما تبعها من مطالب التحرر والاستقلال التي سادت العالم قد هيَّأت لنشأة أول حزب سياسي وحدوي يطالب بوحدة الصومال الكبير (حزب وحدة الشباب الصومالي) عام 1943، كما أن وضع الصومال الإيطالي تحت الوصاية الايطالية عام 1950 ولمدة عشر سنوات ينال بعدها الاستقلال، مثَّل عاملًا آخر وراء تطلع الصوماليين نحو الاستقلال والوحدة.

تحققت أولى نتائج الكفاح للحصول على الاستقلال والوحدة للصومالات الخمسة في استقلال محمية الصومال البريطاني Somaliland ) ) في 26 يونيو /حزيران 1960 لتتحد مع الصومال الإيطالي الذي كان على موعد مع الاستقلال بعد انقضاء مدة الوصاية في الأول من يوليو /تموز التالي، لتظهر إلى الوجود الدولة الصومالية الحديثة في وحدة اندماجية على نظام جمهوري ديمقراطي، لتكون نواة دولة الصومال الكبير التي حملت على عاتقها مسؤولية تحرير الصومال الكبير وتوحيده بعد ذلك، وترجمت تلك المسؤولية واقعيًّا بكتابة دستور ينص على ذلك صراحة(1) وعَلَم تتوسطه نجمه خماسية بيضاء ترمز للصومالات الخمسة.

كانت الوحدة الصومالية التي أفرزت الجمهورية الحالية فريدة في القارة الإفريقية إذ كانت وحدة طوعية جاءت برغبة المواطنين، ولم تكن وحدة صنعتها السلطات الاستعمارية كما هي الحال في معظم الدول الإفريقية، أو الوحدة التي فرضها بعض الدول من طرف واحد عن طريق الضم (إثيوبيا وإريتريا).

و"على عكس الدول الإفريقية الجديدة، كان الصومال أُمَّة قبل أن يكون دولة... وفي أوائل الستينات (من القرن الماضي) حينما كان معظم الدول الإفريقية الجديدة يتبنى سياسة بناء الأمة وخلق هوية تتفق مع الحدود التي ورثها عن العهد الاستعماري كانت هوية الصومال واضحة وبناؤها متماسكًا"(2).

تطور فكرة الانفصال لدى الشمال (صومالي لاند)

لم يتحقق حلم الصوماليين بأن ينعموا بالرخاء تحت كنف الدولة الصومالية التي أنجزوا بناءها، فما أن انتهت نشوة الاستقلال والوحدة حتى وجدوا واقعا مريرًا ينتظرهم، وعملا شاقًا تتطلبه عملية بناء الدولة التي كانوا لا يعرفون عن طبيعتها وإدارة دفتها الكثير، فبدأ الاستياء من تلك الأوضاع. وتعود أسباب ذلك إلى عدة عوامل، أهمها: التباين بين سقف التوقعات لدى المواطنين قبل الاستقلال وحقائق الواقع بعده، والتصور المسبق غير الصحيح في أذهانهم عن طبيعة الدولة، وعدم الإدراك للصعوبات التي تصاحب عملية بناء الدولة، بالإضافة إلى بعض السلبيات المتعلقة بممارسة الديمقراطية الوليدة.

وإلى جانب الإحساس العام بالغبن لدى المواطنين من الشمال والجنوب بعد الوحدة؛ فقد كان هناك شعور خاص لدى الشماليين يعود إلى طبيعة الوحدة الاندماجية التي تمت بين الإقليمين والتي أدت إلى ذوبان السياسيين الشماليين في الحياة السياسية في الجنوب وعدم ظهورهم في الواجهة السياسية، وطبيعة النظام الإداري للدولة المتمثلة في المركزية الإدارية والسياسية في مقديشو وما أفرزته من انتقال الثقل السياسي من هرجيسا في الشمال، وضعف الانتقال بين مركز الدولة والأطراف نتيجة لبُعد المسافة بينهما مع غياب البنية التحتية والمواصلات، وطبيعة الخبرة السياسية المختلفة للإقليمين نتيجة لتباين نمط الاستعمار بين الإقليمين والتي أفرزت سياسة مختلفة لدى النخبتين.

ونتيجة لذلك حمَّل الشماليون مسؤولية تلك الصعوبات، التي يعود معظمها إلى إشكاليات بناء الدولة ودمج الإقليمين وهضم الاختلافات بينهما، للوحدة التي تمت والتي كانوا هم أكثر المتحمسين لها، وبدأوا الحنين إلى الوضع القديم، واستغل بعض ضباط الجيش من الشمال الظرف، وقاموا بمحاولة انقلابية فاشلة عام 1962 في الشمال لفصله عن الجنوب، ولكن سرعان ما تم احتواؤها ومعالجتها سياسيًّا.

ورغم عدم الرضا الذي ظهر لدى المواطنين فإن الانقلاب لم ينجح ولم تنفجر الأوضاع بسبب مرونة تعامل الدولة مع القضايا السياسية في ظل التعددية والحوار، والأمل في التغيير عبر الانتخابات التي كانت تجري في المستويات المختلفة للدولة، ومشاركة القيادات الشعبية في صنع القرار.

تطورت الأمور وأخذت منحى جديدًا بعد الانقلاب العسكري في أكتوبر/تشرين الأول عام 1969، وذلك بإنهاء مرحلة التعددية وإلغاء الدستور، واعتقال القادة السياسين (بمن فيهم رئيس الوزراء محمد إبراهيم عقال أول رئيس وزراء من الشمال في حينها) وإغلاق الصحافة، ومثَّل ذلك إجهاضًا للتجربة الوليدة في بناء الدولة التي قامت على التفاوض والحلول الوسط.

ونتيجة للقمع الذي مارسه النظام العسكري (1969-1991) الذي يصطدم مع طبيعة الشعب الصومالي الميَّالة نحو الحرية، إضافة إلى الانعكاسات السلبية للحرب الصومالية-الإثيوبية على البلاد، نشأت جبهات مسلحة معارضة للنظام لأول مرة في تاريخ الدولة الصومالية الحديثة، وكان منها: الحركة الوطنية الصومالية (Somali National Movement) المدعومة من قبائل الإسحاق في الشمال التي دخلت عام 1988 مواجهات عسكرية مباشرة مع النظام في حرب المدن، استخدم فيها النظام كل أنواع الأسلحة مما أدى إلى تدميرها وتهجير السكان.

وكانت القسوة الشديدة التي تعامل بها النظام مع معارضة الشمال ومؤيديها، وعمَّق الجراح الذي أصاب المواطنين في الإقليم أكثر من غيرهم، قد أوصلت موضوع الانفصال إلى خط النهاية. وبانهيار الحكومة الصومالية في مقديشو مع مطلع عام 1991، ثم انشغال الجبهات في صراعات فيما بينها في مقديشو، حسم الإقليم موقفه النهائي بفكِّ الارتباط مع مقديشو وإعلان الانفصال من طرف واحد في 18 مايو/أيار 1991.

ولكي تنال الاعتراف اتخذت الإدارات المتعاقبة في الإقليم خطوات رأت أنها ضرورية للاعتراف بها نحو بناء الهياكل المختلفة للدولة وإجراء انتخابات عامة ورئاسية، وينعم الإقليم منذ ذلك الوقت بالاستقرار، ولكن دون الحصول على اعتراف دولي حتى الآن.

مبررات الانفصال لدى الشماليين

يبرر السياسيون انفصال صومالي لاند عن الوطن الأم بعدة مبررات، أولها: أن الوحدة الأولى التي تمت بين الإقليمين عام 1960 كانت قائمة على العواطف القومية الجيَّاشة، ولم توضع أسس واضحة لتقاسم السلطة بين الطرفين، ومن ثَّم استغل الجنوبيون تلك الحالة بتهميش الشماليين سياسيًّا وعدم منحهم حصتهم في مؤسسات الدولة، رغم تضحيتهم الباهظة باستقلال إقليمهم ومبادرتهم غير المشروطة للوحدة مع مقديشو، وثانيها: استهداف حكومة بري بالشمال وتدمير مدنه وتهجير السكان، وضرب المدنيين بمختلف أسلحة الجيش الصومالي الذي كان مفترضًا أن يحميهم.
يذهب البعض أبعد من ذلك ليضيف إلى مبررات الانفصال اختلافًا في الهوية بالقول بأن الشماليين أرقى حضاريًّا من الجنوبيين، وأن الجنوب لم يصل بعد إلى مستوى يمكِّنه من دخول شراكة وطنية معه، وقد وفَّرت حالة الفوضي في مقديشو وبعض المحافظات الجنوبية (وليس الجنوب كله) خلال العقدين الأخيرين، مقابل الاستقرار وبناء هياكل مؤسسات الدولة في صومالي لاند، نموذجًا لإثبات صحة تلك النظرية وترسيخها لدى الرأي العام في الإقليم، وعند تسويق قضية الانفصال لدى الجهات الخارجية. وعلى هذا الأساس يرى القادة السياسيون في الإقليم أن القضية ليست قضية انفصال وإنما هي قضية تراجع وانسحاب عن وحدة فاشلة(3).

ويعتقد آخرون أن موضوع الانفصال لدى قادة الإقليم لا يعدو كونه مجرد عتاب للجنوبيين والتمسك بسقف عال من المطالب لانتزاع حقوق سياسية أكثر للإقليم في المفاوضات، ومما يؤكد ذلك انتقال بعض السياسيين -المعروفين بمواقفهم المتشددة ضد الوحدة- إلى مقديشو في المواسم السياسية حين تحين فرص حصولهم على مناصب سياسية تاركين وراءهم مبدأ الانفصال الذي طالما صدَّعوا به رؤوس الجماهير.

ويرى أهل الجنوب أن تلك المبررات غير كافية، وأنها ليست في السياق الذي يستشهد به الشمال؛ فالوحدة الاندماجية التي تمت بين الإقليمين عند الاستقلال كانت خيار الجميع وجاءت بعد مناقشات بين المجتمعين حول شكل الوحدة الذي يرتضونه، وانتهت باختيار شكل الوحدة الاندماجية على الصيغ الأخرى لتحقيق الاندماج الوطني الكامل وإذابة الفوارق التي أفرزها التباين الاستعماري للمنطقتين، على أن يُترك التمثيل السياسي للمواطنين في الجمهورية لمن يفرزه صندوق الانتخاب(4).

ورغم أن السياسيين الشماليين لم يتقلدوا منصبي رئاسة الجمهورية والوزراء آنذاك إلا أن المسار الذي اتخذته العملية السياسية والتكتلات السياسية التي تشكَّلت أتاحت للزعيم الشمالي البارز محمد إبراهيم عقال -بحنكته السياسية- أن يتقلَّد منصب رئاسة الوزراء، وكانت إمكانية تقلده هو وغيره من السياسيين البارزين في صومالي لاند واردة بعد مقتل الرئيس شرماركي (1967-1969) لولا إجهاض قادة الجيش للتجربة الديمقراطية الوليدة بانقلابهم في أكتوبر/تشرين الأول 1967.

ويحق للمواطنين في إقليم صومالي لاند أن يشتكوا من مظالم النظام العسكري، والجرائم التي ارتكبها في حقهم مدانة، ولكنها في الحقيقة لم تقتصر على أبناء الشمال فقط، وإنما شملت جميع المناطق قبل تدمير الشمال وبعده. ويمكن القول: إن عمق الجراح الذي يشعر به المواطنون في الإقليم أكثر من غيرهم يعود لسببين أساسيين، الأول: أن الحركة الوطنية الصومالية واجهت النظام وهو في عنفوان قوته العسكرية فحاول إخمادها بكل السبل مما عرضها لخسائر أكبر. والثاني: أنها قامت بمواجهه مباشرة مع النظام في داخل المدن الآهلة بالسكان حيث كان المدنيون المتضرر الأكبر من العملية، على عكس جبهة الإنقاذ الوطني التي سبقتها في المعارضة ولكنها انتهجت حرب العصابات فلم تتعرض لخسائر كبيرة مثلما تعرض الشمال.

أما عملية الاستقرار وبناء المؤسسات التي تمت في صومالي لاند مؤخرًا فإنها تستحق الإشادة والاقتداء، فأي تقدم يحققه جزء من الصومال الكبير إنما هو نصر للصوماليين جميعًا، ولكنه ليس من المنطق أن يكون ذلك مبررًا للانفصال عن الوطن والهوية والتاريخ، ومن جانب آخر فإن هناك مناطق أخرى في الجنوب تحظى بنفس القدر من الاستقرار كما هي الحال في بونت لاند. وهناك تعقيدات ديمغرافية وسياسية في الجنوب دون الشمال، أسهمت في إبقائه في صراع داخلي مع نفسه حينًا، ومع دول الجوار حينما تتقاطع مصالحها مع مصالح بعض الأطراف في الجنوب حينًا آخر.

وأخيرًا، فإن التجربة الديمقراطية التي يتفاخر بها قادة صومالي لاند (ويحق لهم ذلك) والتي يذكرونها غالبًا في سياق خلق تمايز حضاري في الإقليم عن غيرهم من أبناء جلدتهم –ما هي إلا نموذج مصغر من التجربة الديمقراطية لحكومة الاستقلال والوحدة في عقدها الأول، وشارك في صناعتها الطرفان، وكانت تجربة فريدة في القارة الإفريقية التي سادتها في تلك الفترة الانقلابات العسكرية، ووصف العالم الإفريقي علي المزروعي الصومالَ في تلك الفترة بأنها كانت "واحدة من أكثر الدول ديمقراطية، ليس في إفريقيا فحسب بل في أي مكان في العالم"(5).

الصعوبات الداخلية أمام الانفصال

لا يخلو مسار عملية الانفصال في صومالي لاند من صعوبات داخلية قبل الاعتراف الخارجي، وتتمثل تلك الصعوبات في: المكون العشائري المختلف حيال الانفصال؛ حيث يضم النسيج العشائري في الإقليم ثلاث مجموعات رئيسية، هي: عشائر الإسحاق ذات الأغلبية في الإقليم في الوسط، وبعض أفخاذ عشائر هرتي (ذات الأغلبية في بونت لاند) وعشائر سمروني في الغرب. وما عدا عشائر الإسحاق فإن المكونات الأخرى تعارض الانفصال، فبينما تصرِّح عشائر هرتي برغبتها في الانفصال عن الإقليم وقامت منذ فترة بتشكيل ولاية خاصة بها في إطار الوحدة الصومالية (ونتيجة لذلك تحدث مواجهات بين الجانبين في محافظتي سول وسناج) فإن عشائر سمروني لا تصرِّح بالرفض بنفس الدرجة لاعتبارات سياسية مرتبطة بالمرحلة، وليست درجة التحمس للانفصال بين عشائر الإسحاق نفسها واحدة، وإنما هي بدرجات متفاوتة.

وكان واضحًا أن غياب أحد طرفي الوحدة في الجمهورية، ممثلًا في الحكومة المركزية خلال العقدين الماضيين، وانشغال الجنوب بالصراعات، مثَّل عاملًا آخر أسهم في قبول بعض تلك العشائر الانفصال ظاهريًّا وتأجيل مطالبها نتيجة للواقع الذي فرضته الأغلبية في ظل أوضاع معينة مواتية لها، وتنتظر تلك المكونات تحسن الأوضاع في مقديشو، وهو ما يتأكد بمرور الزمن حيث تتجه الأوضاع في الجنوب نحو التحسن تدريجيًّا مما سيشجع تلك الأطراف على الإفصاح عن رغبتها المكبوته في الوحدة والارتباط بمقديشو.

المواقف الدولية والإقليمية من قضية الانفصال

وبنفس القدر الذي يواجهه الانفصال من صعوبات داخلية، يواجه أيضًا صعوبات أكبر خارجيًّا، فخلال أكثر من عقدين من الانفصال واقعيًّا لم تحصل صومالي لاند على اعتراف دولي من المنظمات الدولية والإقليمية التي ينتمي إليها الصومال ولا من أية دولة في العالم.

فالجامعة العربية ودولها لا تقبل تجزئة الصومال وتفتيته، وخاصة عندما يبدو أن التقسيم يجري فقط في الدول العربية والإسلامية دون غيرها، وتجربة تقسيم السودان شاهدة على صحة تلك النظرية. ولا يسمح ميثاق الاتحاد الإفريقي وقراراته بتقسيم الصومال؛ حيث ينص على مبدأ إبقاء الحدود الموروثة من الاستعمار على ما هي عليه(6)، وهو نفس المبدأ الذي وقف حائلًا دون منح منطقتي أوغادين في إثيوبيا، وأنفدي في كينيا حقَّ تقرير المصير في الماضي.

وكانت أميركا تتعامل مع الملف الصومالي من منطلق أمني، وازداد نشاطها في هذا الصدد بعد تفجير سفارتيها في نيروبي ودار السلام عام 1998، ثم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر /أيلول 2001، فعقدت مع جميع الأطراف الصومالية اتفاقيات أمنية منفردة دون أن تهتم بالقضايا السياسية بما فيها انفصال أرض الصومال، وكانت ترى أنه لم يعد في الصومال سلطة قادرة على تنفيذ التزاماتها الدولية حتى اعترفت بالحكومة الفيدرالية في يناير /كانون الثاني 2013 وعيَّنت سفيرًا لها في مقديشو.

وكانت بريطانيا -المستعمِرة السابقة للإقليم- أكثر الدول الأوروبية التي تعوِّل عليها سلطات الإقليم لتكون بوابة الاعتراف الدولي لها، وقد نجحت إدارة صومالي لاند في الحصول على تعاطف بعض الشخصيات السياسية من بينها أعضاء في مجلس العموم البريطاني، إلا أن لندن لم تعترف باستقلال صومالي لاند، بل بدلًا من ذلك وفجأة تحركت بكل ثقلها لتخطف ملف الصومال من أيدي دول الإيجاد المسؤولة عنه، وأعلنت تنظيم مؤتمر دولي للصومال في لندن 23 فبراير/شباط 2012(7)، وهو ما بدا أنه خطوة للفوز بصومال موحَّد بدلًا من اقتطاع محميتها السابقة منه، وأعلنت أنها لن تكون أول من يعترف بالإقليم.

وتعد إثيوبيا الدولة الإقليمية الأهم لصومالي لاند، وتنم معاملتها الفعلية عن اعتراف ضمني باستقلالها، وأقامت معها علاقات أمنية وتجارية، ولديها مكتب تمثيل سياسي في هرجيسا منذ فترة. ومن المؤكد أن انفصال الإقليم سوف يحقق بالضرورة لإثيوبيا مصالح استراتيجية؛ حيث تختل التوازنات السياسية في المنطقة لصالحها، وكذلك فرص الاستفادة من الموانئ الصومالية التي سوف تقع تحت سيطرة كيانات مختلفة تتنافس فيما بينهما للفوز بالتجارة الإثيوبية، ولكنه ومن ناحية أخرى ليس من السهولة بمكان حاليًا أن تعترف إثيوبيا باستقلال صومالي لاند وتخرق مبادئ الاتحاد الإفريقي الذي يتخذ من عاصمتها مقرًّا له؛ ذلك المبدأ الذي كان لها الدور الأكبر في اعتماده، كما أنها تعاني هي نفسها من نزعات انفصالية، أبرزها الإقليم الصومالي الأكثر مطالبة تاريخيًّا بحق تقرير المصير والارتباط بالصومال.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن انفصال صومالي لاند وإن كان يضعف الصومال إلا أن ذلك يعني من جانب آخر مقعدًا جديدًا للصوماليين في منظمة الإيغاد يضاف إلى مقعدي الصومال وجيبوتي حاليًا، بالإضافة إلى التمثيل السياسي للصوماليين في كل من كينيا وإثيوبيا(8)، وهو ما لا تقبله دول الإيجاد.

المفاوضات الجارية بين الحكومة في مقديشو، ونظام أرض الصومال

يُعتبر لقاء شريف شيخ أحمد الرئيس الصومالي السابق، وأحمد سيلانيو رئيس صومالي لاند في دبي في يونيو /حزيران 2012 أول لقاء يجمع الجانبين منذ إعلان صومالي لاند انفصالها في مايو /أيار 1991. وكانت أرض الصومال ترفض مجرد اللقاء مع أي طرف صومالي قبل الاعتراف باستقلالها كشرط مسبق؛ لذا يعد مجرد قبول الجلوس والتفاوض مع الحكومة الفيدرالية بحد ذاته موقفًا متقدمًا.

انطلقت المفاوضات الجارية حاليًا بُعَيد مؤتمر لندن للصومال في فبراير /شباط 2012، وكان قادة الدول المشاركة للمؤتمر قد شجعوا الطرفين على بدء مفاوضات بينهما(9)؛ مما يعني رسالة واضحة بأن مصير الإقليم لن يمر إلا عبر بوابة مقديشو، وهو ما يبدو أن سلطات الإقليم أدركته جيدًا إذ يمثل لها البوابة الأخيرة التي تطرقها والأمل الوحيد المتبقي لها.

ورغم إجراء أكثر من أربع جولات في تركيا وبوساطة الحكومة التركية من المفاوضات في الفترة ما بين يونيو/حزيران 2012 وديسمبر /كانون الأول 2014 إلا أن حصيلتها ما زالت ضئيلة وبعيدة عن القضية الجوهرية المتمثلة بتحديد مصير الإقليم، وكل ما تم التوصل إليه فقط يدور حول التعاون الأمني والاقتصادي بين الجانبين، ومحاربة الإرهاب، وحصول صومالي لاند على حصتها من المساعدات الدولية المقدمة لمقديشو، ومواصلة المفاوضات بين الطرفين(10)، والواضح أن بعض البنود ليس من مطالب الطرفين وإنما هي مطالب المجتمع الدولي منهما.

ومن المتوقع أن تستمر المفاوضات بين الطرفين لفترة طويلة قد تصل لسنوات ولكن من المؤمَّل أن تنتهي باستعادة الوحدة وبناء شراكة وطنية قائمة على أسس عادلة وواضحة ليس بين الشمال والجنوب فقط بل في هذه المرة بين الصوماليين جميعًا. ولكي يصل الطرفان إلى تلك اللحظة فإن هناك خطوات من المطلوب تنفيذها من الطرفين كاستحقاقات للوصول إلى تسوية حقيقية، فالمطلوب من قادة الحكومة الصومالية الفيدرالية العمل على استكمال إعادة بناء الدولة وإعادة الاستقرار للإسراع بعد ذلك بوتيرة التنمية مما يجعل المواطنين في إقليم صومالي لاند يختارون الوحدة طواعية كما اختاروها لحظة الاستقلال. والمطلوب أيضًا من قادة صومالي لاند -بعد أن تأكدوا بأنفسهم من وصول خيار الانفصال إلى طريق مسدود- أن يواجهوا المواطنين بتلك الحقائق، وأن يعيدوهم من المواقف المتطرفة التي أوصلوها إليهم خلال العقدين الماضيين.

مستقبل الوحدة الصومالية

لقد بدا واضحًا أن الشعب الصومالي يتعافى من محنة التناحر والانقسام التي عاشها في العقدين الماضيين، وكانت من أصعب المراحل في تاريخه الحديث؛ لذا ينبغي أن يدرك الصوماليون -ونحن في أعتاب مرحلة جديدة في بناء الدولة- أن وحدة الجمهورية هي طوق النجاة الوحيد للصوماليين في داخل الجمهورية وفي خارجها، لأن الانفصال يحمل في طياته مخاطر جسيمة على الوجود الصومالي في المنطقة، فانفصال صومالي لاند (إذا تَمَّ) سوف يفتح الباب للتفكير به في مناطق أخرى، وسوف تنتقل الخلافات الحدودية بين الصومال ودول الجوار في الماضي إلى داخل الكيانات الجديدة، وسوف يخدم ذلك القوى الإقليمية التي سوف تستغل التنافس بين الكيانات الجديدة التي يفرزها التنافس.

ولتجنب تلك المخاطر وتحقيق الوحدة، على الجميع العمل على توعية الشباب وتفهم آلام الآخر الصومالي، وتجنب خطاب التطرف القبلي والديني والسياسي، وسرعة الاتفاق على طريقة الحكم وشكل الدولة، وعمل ميثاق وطني وشعبي يوضح فيه الثوابت الوطنية، وضرورة الحصول على مساندة ودعم الأشقاء العرب.

وأخيرًا، ليس أمام الصوماليين إلا الاستفادة من تجربتهم المريرة باهظة التكلفة التي عاشوها، لأن الشعوب لا تستفيد إلا من تجربتها فقط، كما استفادت رواندا وبوروندي وجنوب إفريقيا من تجاربها الماضية في الحروب الأهلية والفصل العنصري للانتقال إلى الديمقراطية والحفاظ على تنوعها في إطار الوحدة، حتى إثيوبيا الجارة رغم تنوع القوميات فيها، ورغم الاستبداد والقهر الذي مارسته الأنظمة المتعاقبة فيها فإنها لا تزال تحافظ على وحدتها مهما كان الثمن، فهل الشعب الصومالي -الأكثر تجانسًا ووحدة، والأقل من حيث عدد السكان، والأقل تعرضًا للظلم بين أبنائه مقارنة بتلك الدول، والمستهدف في هويته ووجوده، والمعرض لنهب ثرواته وخيراته- أقل حاجة إلى الوحدة من تلك الدول والشعوب؟!
______________________________________________________________
* محمد إبراهيم عبدي: استاذ في الجامعة الوطنية الصومالية.

الهوامش
(1) المادة السادسة، الفقرة الرابعة في الدستور الصُّومالى، الصادر عام 1961.
(2) هذه المقولة لـ(ديفيد لاتين) نقلًا عن محمد عبد الغني سعودي: مشكلة الأراضي المقتطعة من الحدود الصُّومالية، المسح الشامل لجمهورية الصومال، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بغداد 1982، ص584.
(3) ورد ذلك في حوار قناة الجزيرة مع محمد إبراهيم عقال الرئيس الأسبق لصومالي لاند في برنامج لقاء اليوم عام 1999.
(4)استنادًا إلى شهادة عبدالرزاق حاج حسين رئيس الوزراء الأسبق، ومن أبرز السياسيين الذين شهدوا المفاوضات بين الإقليمين متحدثًا لإذاعة بي بي سي الصومالية في ذكرى الأربعين للوحدة الصومالية وذلك في الحصاد السنوي لبي بي سي عام 2000.
(5) د. علي مزروعي: قضايا فكرية، إفريقيا والإسلام والغرب، ترجمة د. صبحي قنصوة وآخرون، مركز دراسات المستقبل الإفريقي، 1998، ص97.
(6) قرار القمة الإفريقية في القاهرة رقم AHG / RES/ 16 (I) ، 17-21 يوليو/تموز 1964.
(7) للمزيد في هذا المؤتمر، راجع: د. محمد الأمين محمد الهادي، حصاد مؤتمر لندن الدولي حول الصومال، مركز الجزيرة للدراسات، 29 فبراير /شباط 2012.
(8) في مؤتمر وزراء خارجية الإيجاد الأخير في مقديشو في يناير/كانون الثاني 2015 كان ثلاثة وزراء خارجية من بين ثمانية يتحدثون بالصومالية، وهم وزراء خارجية كل من الصومال وجيبوتي ووزيرة خارجية كينيا بالإضافة إلى مندوب إيجاد للصومال (والأخيران من المنطقة الصومالية في كينيا).
(9) تقرير بي بي سي (الصومالية) عن استعدادات الجولة الأولى من المفاوضات بين الجانبين: http://www.bbc.co.uk/somali/war/2012/06/120612_somaliaiyosomaliland
(10) نفس المصدر، 22 يونيو/حزيران 2012.