تواجه مصر وضعًا بالغ التعقيد والصعوبة في تعاطيها مع الأزمة الليبية (الجزيرة) |
ملخص ورغم ما تملكه مصر من فرص للقيام بدور فاعل ومؤثر على الساحة الليبية فإن هذه الفرص يمكن أن تتحول إلى مخاطر وأعباء أمام صانع القرار المصري. وتستعرض الورقة الفرص المتاحة لمصر في الأزمة الليبية وكذلك العقبات والمخاطر التي تواجهها في هذا الصدد، كما تتناول الخيارات والبدائل المتاحة أمام مصر وسيناريوهات التحرك المحتملة في ليبيا على ضوء المواقف الإقليمية والدولية من الأزمة. وتخلص الورقة إلى أنه أيًّا تكن التحركات المصرية المحتملة تجاه الأزمة الليبية فإن المؤكد أن ما تشهده ليبيا حاليًا يشكِّل عبئًا إضافيًّا على الأمن المصري ويُثقل كاهل السلطة المصرية المحمَّل أصلًا بكثير من الأزمات والمشاكل ويضع مصر بين خطر تنظيم الدولة في سيناء شرقًا وخطره في ليبيا غربًا، وهو ما يشكِّل إنهاكًا للدولة المصرية المثقلة بالأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية. |
مقدمة
أظهرت المواقف الإقليمية والدولية إزاء الأزمة الليبية وتطوراتها أن مصر تواجه وضعًا بالغ التعقيد والصعوبة في تعاطيها مع هذه الأزمة؛ فقد كشفت هذه المواقف التي أعقبت عملية إعدام 21 قبطيًّا مصريًّا على يد عناصر تابعة للفرع الليبي لتنظيم الدولة الإسلامية، المسمَّاة: ولاية طرابلس، وما تلاه من غارة مصرية على مواقع للتنظيم في مدينة درنة الليبية، وجود تباين واضح بين رؤية مصر من ناحية والقوى الدولية وبعض القوى الإقليمية المعنية بتداعيات الأزمة من ناحية أخرى سواء فيما يخص آليات مواجهة خطر ظهور ولاية طرابلس في ليبيا أو فيما يتعلق بسبل تسوية الأزمة السياسية الليبية. ورغم تعاطفها الظاهر مع مصر وتفهمها لمخاوفها الأمنية، فإن هذه القوى بدت أقل تفهمًا وتأييدًا لما ذهبت إليه القاهرة من المطالبة بتدخل دولي عبر مجلس الأمن الدولي أو حتى القبول بتسليح القوات التابعة لحكومة طبرق المعترَف بها دوليًّا لتمكينها من مواجهة خطر الإرهاب. في مقابل ذلك، أكدت هذه القوى دعمها وتأييدها للحل السياسي باعتباره الحل الوحيد وذلك عبر تشجيع الحوار الوطني بين الفرقاء الليبيين والذي يجري تحت رعاية الأمم المتحدة.
على ضوء هذه المعطيات اضطرت القاهرة لخفض سقف مطالبها وتخلَّت عن الدعوة للتدخل الدولي في ليبيا لكنها بقيت متمسكة بضرورة دعم مؤسسات الدولة الليبية الشرعية، والمقصود بها هنا البرلمان الليبي في طبرق وحكومة عبد الله الثني المعترَف بهما دوليًّا، وكذلك تسليح القوات الموالية لها والتي يقودها اللواء خليفة حفتر. وقد تمت بلورة هذه المطالب في صورة مشروع قرار عربي جرى تقديمه لمجلس الأمن وهو المشروع الذي لا يُتوقع أن يتم تبنيه بصيغته لاسيما في ظل التحفظ الأميركي على رفع حظر السلاح المفروض على ليبيا حيث ترى واشنطن ومعها أطراف عديدة أن من شأن ذلك أن يزيد من تعقيد الأزمة الليبية.
ويقوم الموقف المصري الراهن من الأزمة الليبية على ثلاثة عناصر أساسية:
-
أولًا: أن ليبيا تشكِّل مصدر خطر وتهديد ليس للأمن القومي المصري فحسب بل للمنطقة كلها وللمجتمع الدولي بالنظر إلى أنها تواجه مخاطر سقوط الدولة ما قد يحولها إلى بؤرة للتطرف والإرهاب.
-
ثانيًا: أن مواجهة هذا الخطر تتطلب دعم المؤسسات الليبية الشرعية ومساعدتها للوقوف في وجه تنامي الجماعات المرتبطة بالقاعدة وتنظيم الدولة ومنها ولاية طرابلس التي أصبحت واقعًا في ليبيا.
-
ثالثًا: أنه لا يوجد تعارض بين دعم الحل السياسي للأزمة الليبية ودعم وبناء قدرات المؤسسات الشرعية للدولة من خلال تسليح القوات التابعة لحكومة الثني لتكون أكثر قدرة على مواجهة خطر تنظيمات الدولة والقاعدة، لكن الانتظار فقط والمراهنة لحين تحقق الحل السياسي سيزيد الوضع الأمني خطورة لاسيما في ظل العقبات الكثيرة التي تعترض الحوار الوطني وما قد يستغرقه من وقت للوصول لحل.
ورغم أن هذا الموقف ينطلق من رؤية تبدو منطقية لاسيما فيما يتعلق بصعوبة المراهنة فقط على الحل السياسي دون اتخاذ خطوات عاجلة لمواجهة تنامي خطر ولاية طرابلس في ليبيا، فإنه يصطدم بمعارضة وتحفظ دوليين؛ فالقوى الدولية تتفق مع القاهرة في أن الوضع الراهن في ليببا يشكِّل خطرًا أمنيًّا متزايدًا لكنها ترى أن مواجهة ذلك يكون عبر الحل السياسي للأزمة وليس تسليح أي من طرفي الصراع، كما تطالب مصر، لأن ذلك لا يساعد على حل الأزمة بقدر ما يطيل من أمدها. هذا الوضع يفرض قيودًا وكوابح أمام الدور المصري في ليبيا، فمن ناحية لا تملك مصر، بغضِّ النظر عن شكل الحكم فيها، رفاهية الابتعاد عما يجري على الساحة الليبية أو اتخاذ موقف المتفرج من هذه التطورات، ومن ناحية أخرى لا تملك الكثير من الأوراق التي تجعلها قادرة على تحقيق أهدافها وحماية مصالحها الأمنية والاستراتيجية بدون توافق دولي وإقليمي لاسيما أن التحرك المنفرد يحمل مخاطر لا تقل أثرًا عن التهديدات المباشرة التي يشكِّلها الوضع الراهن. ومن هنا تبدو مصر أمام خيارات صعبة ما يطرح تساؤلات حول مدى استعداد القاهرة لمراجعة مواقفها وسقف مطالبها، وإلى أي حدٍّ يشكِّل الموقفان، الإقليمي والدولي، عقبة أمام الدور المصري في ليبيا؟ وما هي الخيارات المتاحة أمام القاهرة في تعاطيها مع هذا الملف أمنيًّا وسياسيًّا؟
الاختبار الأصعب
منذ سقوط نظام العقيد القذافي عقب ثورة 17 فبراير/شباط أصبحت ليبيا تحديًا أمنيًّا بالنسبة لمصر لاسيما مع تعثر العملية السياسية وانتشار السلاح بشكل هائل في البلاد وما حمله من مخاطر بالنظر إلى الحدود المشتركة بين البلدين التي تمتد على مسافة أكثر من ألف كيلو متر والتي تحولت إلى ممر لتهريب كميات كبيرة من السلاح إلى داخل الأراضي المصرية. وعلى مدى السنوات الأربع الماضية سعت السلطات المصرية لضبط حدودها الغربية وتشديد إجراءات المراقبة عليها، لكن الأمور تفاقمت بشدة منذ انهيار العملية السياسية في ليبيا وما تلاها من انقسام وصراع سياسي وانهيار أمني وصعود نفوذ الجماعات المسلحة في أكثر من منطقة في ليبيا، وفاقم من ذلك التوتر في العلاقات بين القاهرة وطرابلس عقب إطاحة الجيش بالرئيس السابق محمد مرسي وتولي المشير السيسي مقاليد السلطة في مصر وما تبع ذلك من تحول في التعاطي المصري مع الأزمة الليبية.
ورغم أن عملية ذبح الأقباط المصريين في ليبيا على يد ولاية طرابلس شكَّلت الاختبار الأهم والأصعب ربما للسلطة الحالية في مصر بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي فيما يخص سياستها الخارجية في المنطقة عمومًا وتجاه ليبيا بشكل خاص، فإنها لم تكن الأولى التي تستهدف العمال والمصالح المصرية في ليبيا فقد سبقها عمليات خطف وقتل طالت عددًا منهم فضلًا عن خطف عدد من الدبلوماسيين بالسفارة المصرية في طرابلس، كما سبقتها عملية الهجوم على نقطة لحرس الحدود المصري في منطقة الفرافرة في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي والتي قُتل خلالها أكثر من عشرين جنديًّا مصريًّا، وهي العملية التي تحدثت مصادر أمنية عن أن منفذيها جاؤوا من الأراضي الليبية(1).
لكن التطورات الأخيرة على الساحة الليبية باتت تشكِّل تهديدًا أمنيًّا لمصر على مستويات متعددة، أولها وأخطرها: الجماعات الجهادية المنتشرة في شرق ليبيا المتاخم للحدود المصرية وخصوصًا تنظيم الدولة الإسلامية، والثاني: السلاح المنتشر في ليبيا والذي يتم تهريب كميات كبيرة منه لداخل الأراضي المصرية، أما التهديد الثالث فيتمثل في المخاطر التي باتت تحيط بالعمالة المصرية والتي يفوق تعدادها المليون عامل ينتمون في معظمهم للطبقات الفقيرة وهؤلاء يتعرضون للتهديد بالانتقام والخطف على يد الجماعات الجهادية بالإضافة إلى احتمال تجنيد بعضهم من قبل هذه الجماعات للقيام بأعمال مسلحة داخل الساحة المصرية.
فرص وتحديات
لا يمكن تصور غياب مصر عن الساحة الليبية بالنظر إلى حقائق الجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة بين البلدين والشعبين، وكلها حقائق تفرض أن تظل القاهرة لاعبًا أساسيًّا في ليبيا دفاعًا عن مصالحها الحيوية وتأثيرًا فيما تراه عمقها الاستراتيجي الذي تؤثر فيه وتتأثر به. من هنا فإن الجدل لا ينصبُّ على أن يكون لمصر دور في الأزمة من عدمه، بل يتمحور حول طبيعة هذا الدور والمقاربة التي تعتمدها القيادة المصرية حاليًا في تعاطيها مع هذا الملف بكل تعقيداته السياسية ومخاطره الأمنية. وفي هذا السياق، فإن مصر بقدر ما لديها من أوراق وفرص للتأثير في الملف الليبي فإن هذه الفرص قد تتحول لمخاطر وأعباء إن أُسيء استغلالها، كما أن الرؤية المصرية للوضع الليبي تصطدم بعدد من التحديات.
وفيما يخص الفرص يمكن التوقف عند عدد من نقاط القوة التي يستند إليها الموقف المصري في ليبيا:
أولًا: عامل الجغرافيا الذي يجعل من مصر لاعبًا أساسيًّا في كل ما يجري على الساحة الليبية تأثيرًا وتأثرًا؛ فمصر بحكم عوامل الجغرافيا والجوار والعلاقات التاريخية بين الشعبين والمصالح المشتركة تملك أوراقًا كثيرة للتأثير في الساحة الليبية بقدر ما تجعلها عرضة للتأثر بما يجري فيها.
ثانيًا: يحظى الدور المصري بمباركة ومساندة وتأييد مؤسسات الدولة الليبية المعترف بها دوليًّا حتى الآن والمتمثلة في برلمان طبرق والحكومة الليبية المنبثقة عنه، وهو تأييد بالغ الأهمية ويسمح لمصر بالتحرك على الساحة الليبية بشكل أكبر وقد ظهر ذلك بوضوح في التنسيق العسكري بين الطرفين لاسيما خلال الغارة الجوية التي شنَّها الطيران المصري على ليبيا والتي تمت بتنسيق كامل مع قيادة القوات التابعة للحكومة الليبية والتي يقودها اللواء المتقاعد خليفة حفتر قائد عملية الكرامة. كما أن القاهرة تراهن على قدرة القوات التي يقودها حفتر على حسم الصراع عسكريًّا في مواجهة الجماعات المسلحة الأخرى وخصوصًا قوات فجر ليبيا التابعة للحكومة الموجودة في طرابلس.
ثالثًا: تملك مصر ورقة مهمة على الساحة الليبية وهي ورقة العمالة التي يمكن أن تستخدمها مبررًا مشروعًا للتدخل في ليبيا دفاعًا عن مصالح وأرواح مواطنيها هناك والذين يزيد عددهم عن المليون عامل في مواجهة التهديدات والمخاطر، وهي مخاطر حقيقية بالنظر لتكرار حوادث الاعتداء التي يتعرض لها هؤلاء العُمَّال نتيجة الأوضاع الأمنية الخطيرة في ليبيا.
رابعًا: ورقة الحرب على تنظيم الدولة في ليبيا وما يشكِّله من خطر داهم على المنطقة والمصالح الغربية والأوروبية بشكل خاص. وستتضاعف أهمية هذه الورقة إذا ما تصاعدت عمليات التنظيم في الأراضي الليبية أو استهدفت مصالح دول غربية أخرى إذ إن ذلك سيصب في صالح تدعيم الموقف المصري.
خامسًا: تملك مصر أحد أكبر الجيوش في المنطقة وبإمكانيات قتالية ضخمة ما يتيح له فرصة التدخل على الساحة الليبية إذا ما تفاقمت الأوضاع بشكل خطير.
سادسًا: رأي عام محلي مؤيد يمكن أن يشكِّل غطاء شعبيًّا تستخدمه السلطة في حربها على تنظيم الدولة في ليبيا؛ حيث أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز بصيرة أن 85 في المائة من المصريين يؤيدون الضربة الجوية التي وجَّهتها مصر لمواقع تنظيم الدولة، وأن 76 في المائة يؤيدون مواصلة الضربات للقضاء على خطر هذا التنظيم(2).
لكن كل هذه الفرص تحمل في طياتها مخاطر بذات القدر لاسيما وأن المقاربة المصرية تجاه الأزمة بالإضافة إلى عوامل خارجية أخرى قد تحوِّل هذه الفرص لمخاطر؛ فاعتبارات الجغرافيا وإن كانت تصب في مصلحة الدور المصري في ليبيا فإنها تصبح عبئًا لاسيما إذا استمر التدهور الأمني والسياسي وما يشكِّله ذلك من تحدٍّ أمني لمصر بالنظر للحدود المشتركة والممتدة بين البلدين والتي قد تتحول مصدر تهديد مباشر ليس فقط كممر لتهريب السلاح الليبي إلى داخل الأراضي المصرية، بل قد تشهد موجات نزوح لليبيين نحو مصر في حال استعرت نار المواجهة والاقتتال بين الأطراف الليبية خصوصًا في المناطق الشرقية وما يعنيه ذلك من أعباء إضافية على الجانب المصري. أما تأييد ودعم الحكومة الليبية الشرعية للدور المصري فإنه بقدر ما يمنح القاهرة نقطة قوة فإنه يخصم منها نقاطًا أخرى إذ يجعلها، في نظر الطرف الآخر من طرفي الأزمة، خصمًا ويُفقدها القدرة على أن تكون وسيطًا مقبولًا وقادرًا على فتح قنوات اتصال مع الجميع.
وفضلًا عن أن الرهان على قدرة قوات حفتر على حسم الموقف عسكريًّا يتغافل حقيقة أن ميزان القوى بين حفتر وخصومه من قوات فجر ليبيا يكاد يكون متعادلًا، فإن هذا الموقف قد تكون له تأثيراته السلبية على مصالح مصر في ليبيا على المدى البعيد، لاسيما إذا استمرت موازين القوى على حالها أو إذا ما تغيرت موازين القوى لصالح الطرف الذي تناصبه مصر العداء. وحتى ورقة العمالة بقدر ما تسوِّغ لمصر الحق في التدخل دفاعًا عن أبنائها، فإن الاندفاع والتدخل غير المحسوب قد يفاقم التهديدات التي يتعرض لها هؤلاء العمال والذين قد يصبحون هدفًا لعمليات انتقامية متزايدة من جانب الأطراف الساخطة أو الرافضة للتدخل المصري في ليبيا. أما ورقة الحرب على تنظيم الدولة، على أهميتها وخطورتها بالفعل، فإنها لم تفلح حتى الآن على الأقل، في إقناع المجتمع الدولي بالاستجابة لمطالبة مصر بالتدخل لمواجهة خطر التنظيم على الساحة الليبية، أو حتى الموافقة على رفع حظر السلاح المفروض على القوات التابعة لحكومة طبرق. وإذا كانت الحرب على تنظيم الدولة قد تتيح للقاهرة فرصة للتحرك على الساحة الليبية فإن تصاعد خطر هذا التنظيم واحتمالات انتشاره وجذبه لمزيد من العناصر الخارجية سيشكِّل تحديًا أمنيًّا كبيرًا لمصر ومصالحها. أما القدرات العسكرية فإنها لا تبدو حاسمة في هذا الملف لأن الوضع في ليبيا ومع تنامي خطر الجماعات الجهادية لا تفيد معه كثيرًا الحروب النظامية ولا القدرات العسكرية التقليدية بقدر ما يتطلب خبرات في العمليات القتالية غير النظامية في المدن والشوارع. أما الرأي العام المحلي المؤيد فإنه قد يتغير بل وربما ينقلب في حال تصاعدت عمليات تنظيم الدولة ضد العمال والمصالح المصرية في ليبيا ولم تستطع السلطة في مصر اتخاذ مزيد من الإجراءات والخطوات لمنع هذا الخطر.
غير أن الصعوبات التي تواجه الدور المصري في ليبيا لا تقف عند الفرص والمخاطر التي تشكِّلها الساحة الليبية بالنسبة لمصر، بل ثمة تحديات أخرى تزيد الموقف تعقيدًا، ومنها:
-
الموقف الجزائري: يقوم على رفض الحل العسكري والانحياز إلى طرف ليبي على أنه حائز الشرعية والمشروعية بشكل كامل، وأن الآخر يفتقدها(4). كما يرتكز هذا الموقف على دعم جهود الحوار الوطني التي تقودها الأمم المتحدة كآلية وحيدة لتسوية الأزمة ورفض الانحياز لأي حلول أخرى؛ فقد أكَّد وزير الشؤون الخارجية الجزائري رمضان لعمامرة أن بلاده ترفض التدخل العسكري في ليبيا أو تزويد أطراف النزاع هناك بالسلاح "الجزائر لا تؤمن بالحل العسكري ولا نعتقد أن تصعيد الوضع من خلال التزويد بالسلاح أو إجراءات من هذا القبيل قد يشجع على تحقيق التهدئة للتوصل إلى الحل التوافقي الذي ما فتئنا ننشده"(5).
-
الموقف التونسي: لا يختلف عن الموقف الجزائري؛ فهو يدعو لتشجيع استئناف الحوار بين الفرقاء الليبيين وعدم الانحياز لأي من الطرفين المتنازعين ومعارضة أي تدخل عسكري في ليبيا(6).
-
فيما يخص السودان، والذي لم يعلن عن موقف واضح من الأزمة ربما تجنبًا لإغضاب القاهرة، فإن تصريحات المسؤولين السودانيين توضح أن موقف الخرطوم لا يختلف كثيرًا عن الموقفين الجزائري والتونسي في ضرورة حلِّ الأزمة سياسيًّا عبر الحوار ورفض الانحياز لأي من الطرفين المتصارعين(7).
الخيارات المحدودة
ما بين عدم تأييد المجتمع الدولي لمطالبها فيما يخص الأزمة الليبية وعدم قدرتها على أن تقف مكتوفة الأيدي في مواجهة تنامي خطر تنظيم الدولة الإسلامية واحتمالات تكرار عملياته ضد العمال المصريين هناك، وبالنظر للصعوبات التي تواجه الحل السياسي في ليبيا حاليًا والذي قد يستغرق وقتًا طويلًا، لا تملك مصر الكثير من الخيارات. ويمكن في هذا الصدد رصد مجموعة من السيناريوهات المحتملة للتحرك المصري في مواجهة التحدي الأمني والسياسي الذي تشكِّله الأزمة الليبية:
أولًا: العمل على إعادة صياغة مقاربة جديدة للتعاطي مع الأزمة الليبية تتفادى الأخطاء السابقة والسعي لفتح قنوات تواصل مع مختلف الأطراف الليبية بما يدعم جهود الحل السياسي للأزمة، وهذا سيناريو يبدو مستبعدًا في ظل اعتماد السلطة الحالية رؤية تقوم على العداء لفصائل الإسلام السياسي، كما أن هذا السيناريو رهن بتطورات الأوضاع الداخلية في مصر ومستقبل العلاقة بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين ومصير الصراع الحالي بينهما وهو أمر لا يبدو واضحًا حتى الآن.
ثانيًا: التدخل الجوي عبر شنِّ مزيد من الضربات الجوية ضد معسكرات ومواقع تنظيم الدولة المفترضة في ليبيا، خصوصًا على ضوء نتائج الغارة السابقة على مدينة درنة, وقد يرافق هذه الغارات عمليات برية جراحية محدودة ومحددة المهمة والهدف لاستهداف العناصر الجهادية. لكن هذا السيناريو يبدو مكلفًا ماديًّا وسياسيًّا ولا تستطيع القاهرة أن تقوم به وحدها، فالتدخل المصري بشكل منفرد، حتى وإن كان محدودًا، وبدون غطاء ودعم دولي أو إقليمي من شأنه أن يضع السلطة في مصر في مواجهة المجتمع الدولي في ظل رفض التدخل الأجنبي في ليبيا. ومع ذلك لا يمكن استبعاد هذا السيناريو خصوصًا إذا ما تكررت عمليات تنظيم الدولة ضد المصالح المصرية. ومما يعزز ذلك الزيارة التي قام بها الرئيس السيسي للقوات المصرية في المنطقة الحدودية مع ليبيا غداة صدور بيان الدول الغربية ومطالبته لها بالاستعداد والجاهزية لتنفيذ أية عمليات طارئة لحماية أمن مصر من مخاطر الجماعات الجهادية. كما بدأت مصر فعليًّا في اتخاذ إجراءات عسكرية توحي بأن عملياتها في ليبيا قد تستمر فترة طويلة مثل إعلان حالة الطوارئ على الحدود الغربية والدفع بأسراب من المقاتلات من طراز إف 16 ومروحيات الأباتشي والشينوك، فضلًا عن طائرات المراقبة والاستطلاع للقيام بأعمال الدورية القتالية على طول الحدود مع ليبيا، بينما بدأت القوات البحرية المصرية في إجراءات لرصد واستطلاع السواحل الليبية مع التجهز لاحتمالات فرض حصار بحري محدود أو كامل عليها تبعًا للموقف العملياتي(9).
ثالثًا: التدخل العسكري الواسع بما فيه التدخل البري وهو سيناريو مستبعد في الوقت الراهن نظرًا لعدم توفر العوامل اللازمة له، وفضلًا عن أنه يتطلب غطاء دوليًّا غير متوفر وتنسيقًا إقليميًّا يبدو غائبًا، فإن هذا الخيار قد يؤدي لتوريط الجيش المصري في المستنقع الليبي وما قد يشكِّله من استنزاف لموارد وجهود البلد المحدودة خصوصًا أن الجيش يخوض مواجهة لا تقل خطورة مع الجماعات المسلحة في سيناء وفي ظل أزمة اقتصادية متفاقمة.
رابعًا: العمل على تشكيل جبهة عربية مصغرة تضم مصر وعددًا من الدول العربية الداعمة لموقفها في المسألة الليبية، وربما بدعم غير معلن من دول مثل إيطاليا وفرنسا وروسيا بما يمنح مصر غطاء دوليًّا وعربيًّا مهمًّا للعمليات العسكرية المصرية المتوقعة. لكن هذا السيناريو تعوقه عقبات كثيرة؛ فالسعودية في ظل قيادتها الجديدة تبدو مشغولة في الملف اليمني، ولا يُتوقع أن تكون الجزائر جزءًا من هذا التحالف، كما لا يُنتظر أن تتحرك إيطاليا وفرنسا في الأزمة دون موافقة أميركية. وقد تحدثت تقارير صحفية عن أن مصر تسعى للحصول على دعم عربي لاقتراح تشكيل قوة عسكرية عربية مشتركة لمواجهة التنظيمات الجهادية، لكن هذا المقترح يوجه صعوبات عديدة تحول دون تبنِّيه من قبل الجامعة العربية بالنظر للخلافات العربية حول هذا الأمر، وغياب تعريف موحد للإرهاب بين هذه الدول؛ الأمر الذي قد يضطر القاهرة لتشكيل هذه القوة بمن حضر(10). وحتى لو حدث ذلك فإنه من غير المتوقع أن تتدخل هذه القوات في ليبيا بالنظر للمعارضة الدولية والإقليمية لذلك(11).
خامسًا: العمل على تسليح وتدريب القوات التي يقودها اللواء خليفة حفتر وخصوصًا بعد أن قام البرلمان في طبرق بتعيينه قائدًا عامًّا للقوات الليبية وترقيته لدرجة الفريق؛ إذ أصبح بمقدور القاهرة الاستناد لهذا القرار لدعم قدرات هذه القوات باعتبارها الجيش الشرعي لليبيا، بما يمكِّنها من القيام بشنِّ مزيد من العمليات العسكرية ضد عناصر التنظيمات الجهادية. يبدو هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا لأنه يحقق الأهداف التي تسعى مصر لإنجازها وفي نفس الوقت يجنِّبها التورط في التدخل العسكري المباشر بحيث تتولى هذه القوات مهمة مواجهة خطر تنظيم الدولة من ناحية وتغيير المعادلة السياسية الداخلية في ليبيا من ناحية أخرى. ومما يدعم هذا السيناريو أن مصر تقدم الدعم العسكري والتدريبي لقوات حفتر منذ فترة لكن وتيرة هذا الدعم قد تتسارع في الفترة القادمة، مع إمكانية أن تغضَّ الأطراف الدولية الطرف عن ذلك، لاسيما مع بروز خطر تنظيم الدولة. وفي هذا الإطار قد تسعى القاهرة لإقناع أطراف دولية أخرى مثل روسيا بتسليح الجيش الليبي؛ حيث ذكر بعض التقارير أن الملف الليبي كان حاضرًا في مباحثات السيسي مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين خلال زيارته الأخيرة للقاهرة يوم 9 فبراير/شباط، وقد أعلن الناطق باسم رئاسة الأركان الليبية العقيد أحمد المسماري أن تسليح الجيش الليبي كان على طاولة الحوار بين الرئيس المصري ونظيره الروسي في مباحثاتهما الأخيرة(12). لكن هذا السيناريو وإن كان مرجحًا، يصطدم بعدة عقبات على رأسها قرار مجلس الأمن رقم 1973 الذي يحظر إمداد ليبيا بالسلاح، كما أنه يتعارض مع الموقف الدولي والإقليمي الذي يرى أن تسليح أحد أطراف الصراع سيزيد الموقف تعقيدًا وخطورة. كما أن نجاح هذا السيناريو يبقى رهنًا بقدرة قوات حفتر على حسم المعركة على الأرض لصالحها وهو أمر لا يبدو مؤكدًا حتى الآن بالنظر إلى تعادل ميزان القوة مع الطرف الآخر. وفضلًا عن ذلك فإن نجاح هذا السيناريو يتوقف أيضًا على بقاء الموقف الدولي كما هو فيما يخص الاعتراف بحكومة الثني وهو أمر ليس مضمونًا؛ إذ إن هذا الموقف قد يتغير في حال أدى تصاعد المواجهات العسكرية لمزيد من التعقيد في المشهد الأمني والسياسي الليبي لدرجة قد تقود لسحب الاعتراف الدولي بهذه الحكومة وبالتالي رفع الغطاء عن قوات حفتر ومن يدعمها.
الخلاصة