البيئة الليبية واعدة بالنسبة إلى التنظيم سياسيًّا وعسكريًّا؛ لكنها ليست أرضًا مواتية لتشكيل حاضنة اجتماعيًّا. ويتوقَّف تمدده على نجاح أو فشل أطراف الأزمة في التوصل إلى حلٍّ سياسي (رويترز-أرشيف) |
ملخص تجاوز تنظيم الدولة منهج اشتغال القاعدة؛ لذلك تعمل آلته الإعلامية على إظهار الانتصارات اليومية والأهداف قريبة المدى والتحقق؛ حيث تغري بالانضمام إلى التنظيم الذي يركز على عنصر "النجاحات قريبة المدى"؛ التي يستطيع أن يشاهدها ويعيشها مقاتلوه؛ بينما سيطرت على تنظيم القاعدة فكرة محاربة الغرب، والتركيز على العمليات التي تستهدف المصالح الغربية، وهي أهداف تعتبر بعيدة المدى، وذلك مع حاجتها للنفس الطويل. لقد حاولت أطراف الأزمة الليبية توظيف معطى وجود تنظيم الدولة في ليبيا لصالحها بشكل مختلف، متناسية امتلاكه كذلك لخيارات التمدد، والاستفادة من واقع التناقض والاقتتال الداخلي بين أكبر مجموعتين عسكريتين وسياسيتين في ليبيا. |
ليبيا ثالث أكبر معاقل تنظيم الدولة الإسلامية بعد سوريا والعراق؛ حيث يُعتبر وجوده هنالك بغضِّ النظر عن حجمه الحقيقي خادمًا أساسيًّا لفكرة "الخلافة"؛ التي لا يمكن أن يقتصر وجودها وشرعيتها على المشرق، ويجد التنظيم المعادلة المناسبة لنشاطه وتمدده في الاضطرابات الأمنية وحالة غياب الدولة، وتصارع شرعيتين على السلطة سعيًا للسيطرة على مزيد من النفوذ، وإذا كانت ليبيا تمثِّل تحديًا وهدفًا صعبًا بالنسبة إلى فلسفة تمدد التنظيم بسبب تجانسها المذهبي؛ حيث يستفيد من الورقة المذهبية والخلافات الطائفية والانقسام الاجتماعي في باقي المناطق التي يتواجد فيها بقوة في العراق وسوريا؛ فإن مهمته تعتبر سهلة من جهة استمرار فشل الدولة، والفراغ السياسي والأمني الحاليين، وعدم تمكن أطراف النزاع من التوصل إلى حلٍّ سياسي ينهي الأزمة، بالأمس كانت البداية من مدينة درنة الواقعة على الشريط الساحلي، وهي المعقل المهم للفكر الجهادي والتكفيري في ليبيا، واليوم يتمدد التنظيم إلى سرت، ويتطلع إلى مناطق استراتيجية أخرى عبر معاركه المتواصلة.
من الظهور إلى التمدد
إحدى المحطات الأساسية لظهور تنظيم الدولة بشكل رسمي في ليبيا، جاءت عقب إعلان مجلس شورى الشباب الإسلامي، وهو مجموعة مسلحة كانت تسيطر على مدينة درنة، عن مبايعته لأبي بكر البغدادي أمير التنظيم في العراق والشام؛ وكذلك الإعلان عن مبايعة فرع تنظيم أنصار الشريعة في درنة تنظيم الدولة في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2014(1).
وقد أدى طول الأزمة السورية والفشل في إسقاط نظام بشار الأسد بشكل سريع إلى تحويل وجهة المقاتلين إلى هناك؛ وهم المنحدرون من المنطقة المغاربية صوب ليبيا كبوابة للتمدد نحو جوارها العربي والإفريقي بشكل عام، وإعادة صياغة أهداف استراتيجية معلنة للتنظيم في هذا الاتجاه، وبعد نقاش بضرورة تحويل تركيز عدد من المجموعات المقاتلة المغاربية تجاه مناطقهم، بدأ نشاط التنظيم في ليبيا في عامي 2013-2014 مع بداية حركة عودة عدد من المقاتلين الليبيين من سوريا؛ حيث سبق أن شكل هؤلاء المقاتلون كتائب خاصة بهم؛ مثل "كتائب البتار"؛ التي كانت إحدى أشرس المجموعات المقاتلة إلى جانب تنظيم الدولة في سوريا ضد فصائل المعارضة السورية، وهي الكتيبة التي عاد عدد من مقاتليها إلى ليبيا ليشكلوا: "مجلس شورى شباب الإسلام". وبعد وصول وفد من تنظيم الدولة، يضم اليمني أبا البراء الأزدي، والسعودي حبيب الجزراوي، واستقبالهما من طرف "مجلس شورى الشباب"، قام الوفد بأخذ البيعة للخليفة أبي بكر البغدادي من مجلس شورى الشباب في درنة، ثم أعلنوا شرق ليبيا ولاية تابعة للتنظيم، وسموها ولاية برقة(2).
من الناحية الاستراتيجية لا ينشط التنظيم في ليبيا بغرض التمدد الداخلي فقط؛ حيث يبقى الخيار الاستراتيجي هو بناء قاعدة للتمدد في الشمال الإفريقي والتواصل مع باقي المجموعات؛ التي بإمكانه إلحاقها بصفوفه في منطقة الصحراء والساحل، ولا يعتبر اختيار التنظيم التمدد في المجال الليبي في المناطق الواقعة على البحر، بدءًا من درنة وصولاً إلى تمدده في مدينة سرت، والبدء في عمليات ضد مدينة مصراتة الواقعة على البحر أيضًا، عملاً عفويًّا؛ بل استراتيجية عامة في بحثه عن المناطق الجغرافية التي تنشط من خلالها شبكات الهجرة، بما يضمن إمداد صفوفه بالمقاتلين العابرين للجغرافيا، والقاصدين الالتحاق به؛ ونتيجة انجذاب التنظيم للسيطرة على مواقع النفط، فإنه يمكن توقع أن تتجه تحركاته في المستقبل ضمن الشريط الساحلي؛ بسبب عامل مهم وهو السيطرة على مواقع إنتاج النفط، الهدف الحيوي المفضل لتمويل أنشطة التنظيم؛ سواء في العراق وسوريا أو في ليبيا؛ حيث تعتبر سرت إحدى المواقع الليبية المهمَّة، وذلك في اتجاه الهلال النفطي.
على الرغم من بعض الانتصارات التي حققها التنظيم مؤخَّرًا؛ فإنه يصعب عليه التوسع في غرب ليبيا، وبالتالي تجاوز طرابلس التي سيؤدي الاقتراب منها إلى جلب التدخل الأوروبي المباشر، خاصة الإيطاليين، ومن دون شك سيتضاعف التهديد بالنسبة إلى تونس القريبة جدًّا من طرابلس، وهذا السيناريو يفترض القدرة على القضاء على قوات فجر ليبيا؛ ليبقى التنظيم بواقعه الحالي واقعًا بين قوات حفتر شرقًا، وقوات فجر ليبيا غربًا ووسطًا. بالإضافة إلى معاناة التنظيم حتى في مدينة درنة التي يخوض فيها قتالا ضد مقاتلي مجلس شورى مجاهدي درنة.
يدرك التنظيم أهمية السيطرة على السواحل، ولدى الأوروبيين إدراك مماثل لتوجه التنظيم في جعل ليبيا بوابة للتأثير في المصالح الأوروبية؛ خاصة من بوابة ملف الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وكان القيادي في التنظيم أبو أرحيم الليبي قد صرح بهذا الغرض؛ حيث إن "ليبيا تمتلك ساحلاً طويلاً مقابل جنوب أوروبا والدول الصليبية التي بالإمكان استهدافها بكل سهولة، حتى بقارب بدائي الصنع"(3).
إحدى التحولات المهمة في مسار التنظيم في ليبيا سيطرته على مدينة سرت الساحلية، وفي سيناريو شبيه بما يحدث في العراق عرفت نهاية شهر مايو/أيار انهزام الكتيبة 166؛ التي كلفها المؤتمر الوطني العام بمواجهة التنظيم في سرت، وتركها لمواقعها بالمدينة، وخسرت قاعدة ?القرضابية؛ التي يتواجد بها مطار المدينة الدولي؛ وهي القاعدة التي تبعد نحو 20كلم عن وسط مدينة سرت، وقد وجد التنظيم في سرت، التي عُرفت بارتفاع درجة الولاء لنظام القذافي في السابق، بيئة حاضنة. والأقرب في تفسير تمدد التنظيم في سرت هو قيام عدد من المجموعات المسلحة فقط بتغيير مظلة القتال أو علامته (BRAND) بتبنّي راية تنظيم الدولة، وكثير منهم كانوا موالين للقذافي. وفي كل الأحوال نحن إزاء تنظيم يمتلك درجة عالية من الحس البرغماتي الذي يمكّنه من استيعاب المقاتلين المختلفين وتوظيفهم.
وفي السياق نفسه فإن تغيير " راية القتال" واستخدام مسمى "تنظيم الدولة" في سرت هو نفس ما قام به مقاتلو تنظيم أنصار الشريعة، وكان رئيس مجلس حكماء وشورى سرت، مفتاح مرزوق، قد صرّح أن " التنظيم الذي يحرص عناصره على تسميته بتنظيم الدولة الإسلامية في سرت، هم أنفسهم عناصر تنظيم أنصار الشريعة المتمركزين داخل المدينة، وجلّهم من شباب المدينة الذين نعرفهم ونعرف عائلاتهم بصورة شخصية".(4)
تقع سرت في قلب المنشآت النفطية الكبيرة، وهو ما قد يمنح التنظيم مصادر جديدة للتمويل ودفع رواتب المقاتلين من خلال تجارة النفط غير الشرعية في حال تمكنه من الاحتفاظ بالمدينة وتأمين تواجده بها، ويبقى هنالك كلام كثير حول مبررات تراجع الكتيبة 166 من قبيل "نقص الأموال، وعدم دفع الرواتب المستحقة للمقاتلين"(5). كما تمدد التنظيم في اتجاهٍ مكَّنه من السيطرة على بلدة هراوة، وهذه المرة بتفاهم مع القبائل الموجودة في تلك المنطقة؛ حيث أدى الاجتماع بين قادة من التنظيم ومشايخ وأعيان قبائل ليبية بمنطقة النوفلية (127كم شرق سرت) إلى الاتفاق على دخول مقاتلي التنظيم لبلدة هراوة (70 كم شرق سرت) دون قتال؛ أمَّا من حيث التمويل الذي يبحث عنه التنظيم فهناك "اجتماع منتظر آخر سيضم الطرفين في وقت لاحق للاتفاق على أمر دفع فدية من قبل أهالي بلدة هراوة إلى التنظيم، نظير قتلى الأخير خلال المواجهات المسلحة التي وقعت في المدينة في وقت سابق(6).
تجاوز منطق القاعدة: أهداف قريبة وجذابة للالتحاق بالتنظيم
يختلف تنظيم الدولة عن القاعدة من حيث تطوير الأجندة ونموذجه الواضح، وهو التركيز على القتال محليًّا، ويعقب ذلك بناء مؤسسات للحكم؛ وإن كانت محدودة الحجم "بخلاف نموذج القاعدة المشوش؛ الذي يحتاج إلى تنفيذ عمليات في الخارج لضمان تسويق امتياز (ماركة) نموذج القاعدة محليًّا"(7).
تجاوز تنظيم الدولة منهج اشتغال القاعدة؛ ولذلك تعمل آلته الإعلامية على إظهار الانتصارات اليومية والأهداف قريبة المدى والتحقق وإن كانت بسيطة؛ لكنها تغري بالانضمام إلى التنظيم؛ الذي يركز بشدة في رسالته على عنصر "النجاحات قريبة المدى"؛ التي يستطيع أن يشاهدها ويعيشها مقاتلوه؛ بينما سيطرت على تنظيم القاعدة فكرة محاربة الغرب، والتركيز على العمليات التي تستهدف المصالح الغربية؛ وهي أهداف تعتبر بعيدة المدى، مع حاجتها للنفس الطويل.
من عادة التنظيم في الدول التي يمتلك فيها تواجدًا عسكريًّا، تقسيمها إلى نظام الولايات؛ حيث أعلن عن ولاية برقة، وولاية طرابلس، وولاية فزان، والسياق السياسي والعسكري هنا لا يدل على وجود ولايات بالمعنى الحقيقي، بالقدر الذي يمثل هذا التقسيم قيمة دعائية للتنظيم تساعد على خلق واقع سياسي وعسكري من مدخل الجغرافيا والتاريخ معًا، وفي الفترة بين نهاية عام 2014 وبداية 2015 وضع التنظيم تصوره لتقسيم ليبيا وفق رؤية تاريخية تعتمد على التقسيم التاريخي الليبي القديم نفسه، حين كانت ليبيا تضم ثلاث ولايات؛ برقة التي تشمل شرق ليبيا، وطرابلس في الغرب والوسط، وولاية فزان التي تشمل جنوب ليبيا.
في المناطق التي يتواجد فيها يحرص التنظيم على إعادة صياغة الحياة الاجتماعية وفق قوانينه وأيديولوجيته، والترويج لعدد من الممارسات؛ مثل: "الحِسبة، وحرق علب السجائر، وهدم التماثيل والأضرحة، وإقناع المسلمين في الأسواق العامة بالانضمام إلى عناصر التنظيم في الجامع، وكذلك أنشطة الدعوة وتقديم المساعدة العامة للمحتاجين والحلوى والهدايا للأطفال كما في بنغازي، بالإضافة إلى أنشطة "صلبة" في برقة؛ حيث شملت إعدام صحفيَين تونسيين"(8).
لدى التنظيم أهداف استراتيجية كبرى معلنة للتمدد:
-
إزالة الحدود التونسية والليبية والمصرية؛ مثل ما أوضحه القيادي أبو معاذ البرقاوي في منشور بعنوان: "انضموا إلى حظيرة الخلافة".
-
ليبيا بوابة استراتيجية للتنظيم، وهذا ما أشار إليه أبو أرحيم الليبي؛ الذي قال: "إن البعض لا يدركون أهمية ليبيا التي تطل على البحر والصحراء والجبال، بالإضافة إلى مصر والسودان وتشاد والنيجر والجزائر وتونس"(9).
داخليًّا تمثل مصراتة -التي يستهدف حدودها عسكريًّا، وقام بتفجير حاجز في إحدى نقاط التفتيش قربها أدى إلى مقتل ستة أشخاص نهاية شهر مايو/أيار 2015(10)- هدفًا أساسيًّا واستراتيجيًّا لتمدد التنظيم في المرحلة القادمة؛ وذلك لاستكمال خط تواجده الجغرافي المطل على البحر؛ بالإضافة إلى ما تداولته إعلاميًّا "حسابات مناصرة لتنظيم الدولة"، التي تقول: إن مقاتليه شنُّوا هجومًا على بوابة بوقرين شرقي مدينة مصراتة، أسفر عن ثلاثة قتلى من أبناء المنطقة، يوم 7 من يونيو/حزيران 2015"(11).
دور مصراتة محوري في مواجهة وهزيمة تنظيم الدولة ووقف تمدده؛ لذلك فإن أهداف التنظيم تصطدم بوجود قوات جيدة التسليح والتدريب هنالك؛ لكن ذلك لم يمنع التنظيم من تأسيس حملة إعلامية من خلال رسالة ذات منحيين أيديولوجي وآخر سياسي، وجهها أبو معاذ البرقاوي يدعو فيها شباب مصراتة للتضحية بأنفسهم في سبيل الله، وليس في سبيل الديمقراطية بدعم قوات فجر ليبيا، كما شرح موقفه من حكومتي طرابلس وطبرق، في رسالة بعنوان: "رسالة إلى أهل وشباب مصراتة"، جاء فيها: "وهذه النقطة موجهة إلى برلمان طرابلس وفجر ليبيا، فاعلموا أنه كما وصلت يد الدولة الإسلامية إلى البيضاء وطبرق بفضل الله، فإنها تستطيع الوصول إلى مصراتة وطرابلس، وقد رأيتم بعض أفعالها في طرابلس"(12).
وتشير عملية التفجير في فندق الكورنثيا في طرابلس في نهاية شهر يناير/كانون الثاني 2015 إلى وجود مجموعات وخلايا موزعة تمثل خطوطًا متقدمة للتنظيم وصلت حتى طرابلس، ومهامها تحقيق هدف تكتيكي واضح؛ وهو خلق حالة من الفوضى، بنفس طريقة اشتغاله في العراق من خلال التفجيرات التي تضرب مناطق مثل العاصمة بغداد، أو التفجيرات التي تسبق عادة أي هجوم عسكري للتنظيم، وأطلق على العملية اسم: "غزوة أبي أنس الليبي"، ردًّا على وفاة أبي أنس الليبي في سجنه في الولايات المتحدة الأميركية؛ ليتبنى بعد ذلك التنظيم العملية وينشر صورًا لمنفذيها.
ومن دون شك فإن عملية استهداف الفندق كانت تنطوي على أهداف سياسية وعسكرية، بسبب تواجد عمر الحاسي رئيس حكومة الإنقاذ الليبي حينها بالفندق، وقد كان أبو أنس الليبي من قيادات تنظيم القاعدة المعروفة، وليس من قادة تنظيم الدولة. كما تبنى التنظيم التفجير؛ الذي استهدف السفارة الإيرانية في العاصمة الليبية طرابلس في فبراير/شباط 2015(13).
كما تظهر دلائل تمدد التنظيم في ما يطلق عليه "ولاية فزان"؛ حيث عرضت مؤسسة الفرقان التابعة للتنظيم فيديو يظهر مجموعة من الأشخاص الذين قتلهم؛ الذين أسماهم "رعايا الصليب من أتباع الكنيسة الإثيوبية المحاربة" في ولاية فزان، رميًا بالرصاص في شهر إبريل/نيسان 2015(14).
صراع أطراف الأزمة يساعد على تمدد التنظيم
حاولت أطراف الأزمة الليبية توظيف معطى وجود تنظيم الدولة في ليبيا لصالحها بشكل مختلف؛ متناسية امتلاكه كذلك لخيارات التمدد والاستفادة من واقع التناقض والاقتتال الداخلي بين أكبر مجموعتين عسكريتين وسياسيتين في ليبيا؛ في البداية كانت قوات فجر ليبيا ومعها المؤتمر الوطني يعتقدان أن طبيعة تنظيم الدولة وقتاله ضد قوات خليفة حفتر يصب في صالحيهما عسكريًّا؛ ولذلك لم يبادرا إلى الاحتكاك به عسكريًّا بشكل واضح ومباشر في الفترة الماضية؛ إلا أن الواقع الميداني والخسارة التي لحقت بالكتيبة 166؛ التي كلفها المؤتمر الوطني العام بمواجهة التنظيم في سرت، واتجاه التنظيم إلى تأمين المدينة بعد السيطرة عليها، وإقامة عرض عسكري كبير ظهر فيه مسلحون وسيارات وأسلحة متوسطة ومضادة للطائرات، وإعلان التنظيم عن أهدافه القادمة، ستدفع قوات فجر ليبيا إلى مراجعة حساباتها العسكرية مستقبلاً؛ بينما عملت عملية الكرامة منذ البداية على إلصاق تهمة الإرهاب بالتنظيم، والسعي للحصول على دعم دولي لقلب ميزان القوة في ليبيا لصالحها من مدخل مواجهة التنظيم؛ ومن دون شك فإن استهداف التنظيم لمصراتة ودخول مقاتليها في مواجهات ضده، سيؤدي إلى إضعاف معسكر فجر ليبيا لحساب عملية الكرامة.
وبالنسبة إلى عملية الكرامة فتراهن على أنه كلما أصبحت القوى الخارجية مقتنعة بأن وجود تنظيم الدولة في ليبيا يشكِّل تهديدًا لها، فإنه يزداد احتمال تدخلها؛ علمًا بأن تجارب التنظيم في العراق وسوريا تشير إلى أن التدخل الدولي جوًّا لمواجهة التنظيم ما زالت لم تؤتِ النتائج المتوقعة على الأرض، وما إن يتوقف القصف الجوي حتى يعود التنظيم إلى نشاطه في الميدان؛ بل كلما زادت حدة الفوضى وجد التنظيم مساحات زائدة للتمدد.
توظِّف عملية الكرامة ورقة الإرهاب ومواجهة التنظيم، وهو ما يُدركه المؤتمر الوطني العام وفجر ليبيا؛ ولذلك عملا على سحبها منها؛ لذلك حين تبنى تنظيم الدولة عملية اقتحام فندق كورنثيا بطرابلس، اتجه رئيس الوزراء حينها في طرابلس عمر الحاسي إلى نفي أي علاقة للتنظيم بالهجوم الذي وقع في يناير/كانون الثاني الماضي على الفندق، و"وضعت حكومة الإنقاذ الوطني عملية الاقتحام في سياق اغتيال رئيسها عمر الحاسي، موجِّهة الاتهام لمؤيدين للواء المتقاعد خليفة حفتر، ومن يقف وراءه من أطراف خارجية، في حين سارع مجلس النواب الليبي المنحل في طبرق إلى المطالبة بضم ليبيا إلى الجهود الدولية الرامية لمكافحة الإرهاب، مؤكدًا أن تنظيم الدولة الإسلامية هو من يقف وراء الحادثة"(15).
استقطاب المقاتلين المحليين
بالإضافة إلى تلقي تنظيم الدولة في ليبيا كميات متوسطة من الأموال القادمة من سوريا؛ فقد تلقى أيضًا عددًا من المدربين العسكريين حسب مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية(16)، وقبل ممارسة أسلوبه المفضل؛ وهو تسهيل وصول المقاتلين الأجانب إلى داخل ليبيا وإدماجهم في العمل العسكري، يعمل على استقطاب مقاتلين من الفصائل المقاتلة الأخرى؛ حيث تشير تقارير إلى إرسال أبي بكر البغدادي لمبعوثين إلى ليبيا لاستكشاف إمكانات عقد التحالفات والتعاون مع مجموعات محلية(17).
ومع مرور الوقت فقد تمكن تنظيم الدولة من ابتلاع تنظيم أنصار الشريعة؛ حيث "بايع أبو عبد الله الليبي، المسؤول الشرعي وقاضي ما يسمى "المحكمة الإسلامية" لتنظيم أنصار الشريعة، أبا بكر البغدادي على الخلافة، وتداولت صفحات على موقع التواصل الاجتماعي تويتر الخبر، فيما قالت قناة ليبيا: إن أبا عبد الله الليبي أعلن في تسجيل صوتي له نُشر عبر المواقع الجهادية بيعة الجماعة لـتنظيم داعش"(18).
وهذا الاتجاه ملاحظ كذلك في رسالة أبي معاذ البرقاوي الشهيرة إلى أهالي مصراتة؛ التي يظهر من خلالها سعيه لاستمالة شباب مصراتة للالتحاق بالتنظيم، بعد توضيح مواقفه الشرعية والسياسية تجاه أطراف الأزمة الليبية، وقد استخدم عبارات من قبيل:
-
مخاطبة أهل مصراتة: أحب أن أبيِّن بعض المسائل لأهل ليبيا عامة، ولأهل مصراتة خاصة.
-
إلى شباب مصراتة: إن كنتم تريدون التضحية من أجل ليبيا، فلتكن تضحيتكم في سبيل الله، لا في سبيل المؤتمر الوطني الحاكم بالديمقراطية.
-
أفكلما تمددت الدولة الإسلامية لبلد من بلدان المسلمين صار مجاهدوها عملاء لنظام طاغوت سبق. حيث إن الدولة الإسلامية تعتقد بكفر ورِدَّة الطاغوت القذافي وجنوده وأنصاره ومَنْ لفَّ لفَّهم، كما أنها تعتقد كفر المرتد المدعو قذاف الدم، وكل من ناصره واصطفَّ بصفِّه.
-
إن الدولة الإسلامية تعتقد بكفر ورِدَّة برلمان طبرق وأعضائه والأجهزة الأمنية والعسكرية المنضوية تحته، كما أنها ترى ردة الطاغوت حفتر وجيشه وأنصاره وصحواته، وكل من شاركه في قتاله ضد المجاهدين والمسلمين، ومن قاتل في سبيل الديمقراطية أو العلمانية أو الليبرالية.
-
إن الدولة الإسلامية تعتقد بكفر وردَّة المؤتمر الوطني بطرابلس، وكل الأجهزة الأمنية والعسكرية المنضوية تحته وجميع عساكرها.
-
هذه النقطة موجهة لبرلمان طرابلس وفجر ليبيا، فاعلموا أنه كما وصلت يد الدولة الإسلامية إلى "البيضاء وطبرق" بفضل الله، فإنها تستطيع الوصول إلى "مصراتة وطرابلس"، وقد رأيتم بعض أفعالها في طرابلس(19). وقد كتب البرقاوي في نهاية يناير/كانون الثاني 2015 مقالاً بعنوان: "لا تنظيم (في إشارة إلى تنظيم القاعدة على الأرجح) في ظل الدولة الإسلامية"؛ حيث طرح السؤال التالي: "فما بالكم يا جنود أنصار الشريعة تتأخرون عن هذا الواجب الحتمي، عليكم ببيعة الخليفة إبراهيم؟"(20).
وتبقى خطورة التنظيم وتمدده تتمثل في مدى تمكُّنه من استمالة المقاتلين من باقي الفصائل، مع خطورة تبدل أمزجة واتجاهات المجموعات المقاتلة نحو اعتناق فكرة التنظيم؛ خصوصًا إذا تمكن التنظيم من تأمين مصادر أكبر للتمويل.
خاتمة
البيئة الليبية واعدة بالنسبة إلى التنظيم سياسيًّا وعسكريًّا؛ لكنها ليست أرضًا مواتية لتشكيل حاضنة اجتماعيًّا. ويتوقَّف تمدد التنظيم على مدى نجاح أو فشل أطراف الأزمة الليبية في التوصل إلى حلٍّ سياسي، وإعادة صياغة خارطة الجماعات المسلحة، والنظر في كيفية إدماجها في أجهزة الدولة؛ ومن الواضح أن التنظيم سيجد صعوبات كبيرة على رأسها إشكالية الحاضنة الاجتماعية التي تستوعب تمدُّده، مع المتطلبات المتنامية لتقديم وتأمين الخدمات الاجتماعية اللازمة للمناطق التي يتم السيطرة عليها، وفي حال فشل الحل السياسي والحوار الليبي، قد تتحول ليبيا إلى مركز متقدم لعمليات لتنظيم الدولة في منطقة شمال إفريقيا.
وعلى الرغم من أن قوة التنظيم في ليبيا ليست واضحة في ظل تواجد عدد كبير من الجماعات المسلحة، فإن التهديد الذي يمثله التنظيم لا يمكن تجاهله أو التقليل من شأنه.
___________________________
كمال القصير - باحث في مركز الجزيرة للدراسات- مسؤول منطقة المغرب العربي.
المصادر
(1) LE FIGARO: Libye: Ansar al-Charia sur liste noire de l'ONU- 19 NOVEMBRE 2014
http://www.lefigaro.fr/flash-actu/2014/11/19/97001-20141119FILWWW00448-libye-ansar-al-charia-sur-liste-noire-de-l-onu.php
(2) CARNEGIE: Rising Out of Chaos: The Islamic State in Libya: Frederic Wehrey - Ala’ Alrababa’h
5 MARCH 2015
http://carnegieendowment.org/syriaincrisis/?fa=59268
(3) THE TELEGRAPH: Islamic State 'planning to use Libya as gateway to Europe -17 FEBRUARY 2015
http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/islamic-state/11418966/Islamic-State-planning-to-use-Libya-as-gateway-to-Europe.html
(4) مرزوق: عناصر «داعش» في سرت هم أعضاء «أنصار الشريعة» ونعرفهم شخصيًا، بوابة الوسط- بتاريخ: 24 مارس/آذار 2015
http://www.alwasat.ly/ar/news/libya/67257/
(5) THE NEW YORK TIMES: Western Officials Alarmed as ISIS Expands Territory in Libya- 31 MAY 2015
http://www.nytimes.com/2015/06/01/world/africa/western-officials-alarmed-as-islamic-state-expands-territory-in-libya.html?_r=0
(6) ليبيا: اتفاق لدخول "تنظيم الدولة" هراوة دون قتال مقابل إطلاق سراح الأسرى، موقع صحيفة القدس العربي بتاريخ: 5 يونيو/حزيران 2015.
http://www.alquds.co.uk/?p=352471
(7) THE WASHINGTON POST: The Islamic State’s model -Aaron Y. Zelin- 28 JANUARY 2015
http://www.washingtonpost.com/blogs/monkey-cage/wp/2015/01/28/the-islamic-states-model/
(8) توسُّع تنظيم "الدولة الإسلامية" في ليبيا، أندرو إينجل، معهد واشنطن، بتاريخ: 11 فبراير/شباط 2015.
http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/the-islamic-states-expansion-in-libya
(9) أوروبا: تكلفة الفرصة الضائعة، إميل أمين، صحيفة الشرق الأوسط- بتاريخ: 21 فبراير/شباط 2015.
http://aawsat.com/home/article/294656/%D8%A5%D9%85%D9%8A%D9%84-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D9%86/%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7-%D8%AA%D9%83%D9%84%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%B5%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B6%D8%A7%D8%A6%D8%B9%D8%A9
(10) The Independent: Isis in Libya: Suicide bomber who killed six at Misrata checkpoint was Tunisian, says Tripoli-31 MAY 2015
http://www.independent.co.uk/news/world/africa/isis-in-libya-suicide-bomber-who-killed-six-at-misrata-checkpoint-was-tunisian-says-tripoli-10287796.html
(11) تنظيم الدولة يتبنى تفجير السفارة الإيرانية في ليبيا، الجزيرة نت- بتاريخ: 22 فبراير/شباط 2015.
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2015/2/22/%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%8A%D8%AA%D8%A8%D9%86%D9%89-%D8%AA%D9%81%D8%AC%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7
(12) جهاديو ليبيا يقيمون فروعًا لـ "دولة الخلافة" على أنقاض "جماهيرية العقيد"، كميل الطويل، صحيفة الحياة اللندنية، بتاريخ: 15 إبريل/نيسان 2015.
http://alhayat.com/Articles/7808221/%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D9%88-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D9%8A%D9%82%D9%8A%D9%85%D9%88%D9%86-%D9%81%D8%B1%D9%88%D8%B9%D8%A7%D9%8B-%D9%84%D9%80--%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%A9--%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%B6--%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%87%D9%8A%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%8A%D8%AF-
(13) تنظيم الدولة يتبنى تفجير السفارة الإيرانية في ليبيا، الجزيرة نت، بتاريخ: 22 فبراير/شباط 2015.
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2015/2/22/%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%8A%D8%AA%D8%A8%D9%86%D9%89-%D8%AA%D9%81%D8%AC%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7
(14) فيديو يُظهر قتل تنظيم الدولة إثيوبيين بليبيا، الجزيرة نت، بتاريخ: 19 إبريل/نيسان 2015.
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2015/4/19/%D9%81%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D9%88-%D9%8A%D8%B8%D9%87%D8%B1-%D9%82%D8%AA%D9%84-%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A5%D8%AB%D9%8A%D9%88%D8%A8%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A8%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7
(15) حادثة اقتحام فندق كورنثيا، ومحاولة عزل "فجر ليبيا" هشام الشلوي، موقع العربي الجديد، بتاريخ: 28 يناير/كانون الثاني 2015.
http://www.alaraby.co.uk/politics/2015/1/28/حادثة-اقتحام-فندق-كورنثيا-ومحاولة-عزل-فجر-ليبيا
(16) THE WALL STREET JOURNAL: Islamic State Solidifies Foothold in Libya to Expand Reach- 18 MAY 2015
http://www.wsj.com/articles/islamic-state-solidifies-foothold-in-libya-to-expand-reach-1431989697
(17) THE WALL STREET JOURNAL: Islamic State Gained Strength in Libya by Co-Opting Local Jihadists-17 FEBRUARY 2015
http://www.wsj.com/articles/islamic-state-gained-strength-in-libya-by-co-opting-local-jihadists-1424217492
(18) زعيم "أنصار الشريعة" الليبي يبايع "بغداديي داعش"، موقع بوابة الأوسط، بتاريخ: 29 مارس/آذار 2015.
http://www.alwasat.ly/ar/news/libya/67909/
(19) انظر المصدرين:
- موقع أخبار المسلمين: رسالة إلى أهالي وشباب مصراتة، أبو معاذ البرقاوي.
http://akhbar.sa.tn/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A3%D9%87%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D9%88-%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D9%85%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D8%A9-%D8%A3%D8%A8%D9%88-%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B0/
- توسُّع تنظيم «الدولة الإسلامية» في ليبيا، أندرو إينجل، معهد واشنطن، بتاريخ: 11 فبراير/شباط 2015.
http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/the-islamic-states-expansion-in-libya
(20) توسُّع تنظيم "الدولة الإسلامية" في ليبيا، أندرو إينجل، معهد واشنطن، بتاريخ: 11 فبراير/شباط 2015.
http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/the-islamic-states-expansion-in-libya