تصدير القمع: تحولات السياسة الخارجية المصرية (2013-2015)

يركز هذا التقرير على السياسة الخارجية للنظام الحاكم في مصر في فترة ما بعد انقلاب 3 يوليو 2013. ويبدأ التقرير بتحليل طبيعة النظام الحالي، ثم يأتي القسم الثاني من التقرير ليحلل أولويات السياسة الخارجية للنظام في عدة قضايا إقليمية. أما القسم الأخير فيتعلق بفعالية هذه السياسات وآثارها الحالية.
16 نوفمبر 2015
20151116121734519580_20.jpg
الدبلوماسية المصرية: تجميل نظام قمعي (أسوشييتد برس)
ملخص
يركِّز هذا التقرير على السياسة الخارجية للنظام الحاكم في مصر في فترة ما بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013. ويبدأ التقرير بتحليل طبيعة النظام الحالي، وكيف تنعكس تلك الطبيعة على سياسته الخارجية، ثم يأتي القسم الثاني من التقرير ليحلِّل أولويات السياسة الخارجية للنظام في عدَّة قضايا إقليمية، وكذلك علاقاته مع كلٍّ من السعودية وأميركا وبريطانيا. أمَّا القسم الأخير فيتعلق بفعالية هذه السياسات وآثارها الحالية.

مقدمة

"الرئيس يريد الشرعية الدولية". العبارة قالها أحد كبار الصحفيين في إحدى الصحف النظامية المصرية لآلان جريش -الصحفي الشهير بجريدة لوموند الفرنسية- أثناء زيارة عبد الفتاح السيسي لألمانيا (1). الكلمات تعكس أحد الأهداف الرئيسية لدبلوماسية النظام الحاكم في مصر، وهو ما سمَّاه جريش في إحدى مقالاته بـ"السعي اليائس لاستجداء الشرعية" (2).

لا شك أن السياسة الخارجية النظامية في مصر متغيرة منذ العهد الملكي، ومرورًا بالعهود الناصرية والساداتية والمباركية، ثم فترات ما بعد فبراير/شباط 2011. ولا شك أيضًا أن السمة الغالبة على هذه السياسات كانت الدفاع عن أنظمة حكم معظمها استبدادي، وبالتالي شرعنتها دوليًّا، دون وجود ثقافة الفصل بين مصلحة النظام السياسي المؤقتة والمصالح الوطنية طويلة المدى. كذلك غابت آليات مراجعة الأهداف والمصالح والرقابة على وسائل تحقيقها عبر الدبلوماسية، وذلك من قِبَل المؤسسات المنتخبة. ورغم ذلك، كانت هناك حالات قليلة لـ"دبلوماسيين ثوار" ووفود دبلوماسية شعبية عارضت بعض السياسات النظامية، لعل أبرزها معارضة اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية من داخل وزارة الخارجية المصرية، وكذلك تأييد بعض الدبلوماسيين الشباب والكبار للانتفاضة الشعبية في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2011. كما حدث نقاش مجتمعي بنَّاء حول السياسة الخارجية المصرية، وبعض المراجعات في فترة حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وفترة الرئيس المنتخب محمد مرسي القصيرة.

يركِّز هذا التقرير على السياسة الخارجية للنظام الحاكم في مصر في فترة ما بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013. ويبدأ التقرير بتحليل طبيعة النظام الحالي، وكيف تنعكس تلك الطبيعة على سياسته الخارجية، ثم يأتي القسم الثاني من التقرير ليحلِّل أولويات السياسة الخارجية للنظام في عدَّة قضايا إقليمية، وكذلك علاقاته مع كلٍّ من السعودية وأميركا وبريطانيا. أمَّا القسم الأخير فيتعلق بفعالية هذه السياسات وآثارها الحالية.  

 ما الذي تغيَّر؟

من الخطأ اعتبار النظام الحاكم الحالي في مصر مجرد امتداد لنظام حسني مبارك، وذلك بالرغم من أوجه التشابه؛ فالنظام الحالي ليس فقط أشد بطشًا وأكثر شراسةً تجاه معارضيه؛ فهو نظام سياسي-عسكري لا يقبل التأييد الفاتر، أو تغير المواقف، أو الحياد منه. وهذا الموقف ينعكس على سياسته الخارجية التي تُدار بعقلية "إمَّا معنا أو ضدنا". وفيما يتعلق بالسياسات، فهناك اعتقادٌ قويٌّ سائد بين صفوف رموز النظام وبعض قياداته بأنَّ مبارك والمشير محمد حسين طنطاوي كانا متساهليْن مع المعارضة. ولذلك، فإن الدرسَ المستفاد من عهدي مبارك وطنطاوي هو اتخاذُ اجراءاتٍ أكثرَ صرامة وأشد تنكيلًا بالمعارضين. وبالتالي، إذا استخدم النظام أو اضطُرَّ لاستخدام تكتيكات مشابهة لنظامي القذافي في ليبيا أو الأسد في سوريا، فينبغي أن تدار السياسة الخارجية بطريقة تمنع أية مساءلة دولية أو حتى انتقاد إقليمي. 

أمَّا عن الطبيعة البنيوية للنظام، فهي تختلف كذلك عن نظام مبارك، وهو ما ينعكس أيضًا على السياسة الخارجية؛ فنظام مبارك كان يعتمد على "شرعية" بقائه في السلطة لثلاث عشريَّات، وعلى جهاز للحشد السياسي ممثلًا في "الحزب الوطني"، وأجهزة متنافسة لقمع المعارضة أبرزها جهاز "مباحث أمن الدولة" وجهاز "المخابرات العامة". والأخير كان مُوكلًا إليه كذلك بعض القضايا الخارجية الحساسة. وكانت مؤسسة الرئاسة هي عمليًّا أقوى فاعل سياسي داخل النظام، وهو استمرار للنمط الذي أرساه عبد الناصر، وملخصه أن العسكري الذي يقبع في مؤسسة الرئاسة أقوى من العسكري الذي يقود الجيش؛ فمثلًا حين اصطدم جمال عبد الناصر مع عبد الحكيم عامر، نُحِرَ الأخير أو انتحر، وحين حدث ذلك الصدام بين أنور السادات والفريق محمد فوزي والقيادات العسكرية والأمنية الأخرى، انتهى الأمر بهم في السجن كـ"مراكز قوى فاسدة". وحتى عندما ظهرت شائعات حول الطموح السياسي المحتمل للمشير محمد عبد الحليم أبي غزالة، أقاله مبارك. أمَّا منذ فبراير/شباط 2011، فقد تغير هذا النمط؛ فقد أصبح العسكرى الذى يترأَّس القيادة العليا للجيش (المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو المجلس العسكري) أقوى من الذي يسيطر على مؤسسة الرئاسة. فعندما اصطدمت المصالح، خلعت قيادة الجيش حسني مبارك في فبراير/شباط 2011، ثم الرئيس محمد مرسي في يوليو/تموز 2013، ثم عيَّنت شخصًا ثالثًا باعتباره "رئيسًا مؤقتًا" بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب. وفي يناير/كانون الثاني 2014، رشَّح المجلس العسكري أحد أعضائه للرئاسة، مثلما تفعل الأحزاب السياسية. وأصبح هذا المرشح رئيسًا للجمهورية بنسبة فاقت 96? من الأصوات. ولكنْ خلافًا لصدَّام، والقذافي، والأسد، وبقية القادة الذين "يفوزون" بهذه النسب الكبيرة، لا يمكن للسيسي دستوريًّا أن يقيل وزير دفاعه، إلا بعد موافقة المجلس العسكري.

تؤثِّر هذ الاختلافات البنيوية على سلوكيات النظام داخليًّا وخارجيًّا؛ فالانتهاكات التي ارتكبها النظام الجديد خلال سنتين لم يرتكبها نظام مبارك خلال ثلاثين عامًا من الاستبداد القمعي؛ فأزمة مقتل أكثر من ألف معتصم في أقل من عشر ساعات أمام كاميرات العالم في أغسطس/آب 2013 لا تزال تطارد النظام دوليًّا، كما تطارده أزمة أكثر من أربعين ألف معتقل سياسي بعضهم مزدوج الجنسية.

أمَّا الاختلاف الآخر مقارنة بنظام مبارك وسياسته الخارجية، فهو حجم وثقل المعارضة في الخارج؛ فالتقديرات غير الرسمية تشير إلى نزوح ما بين عشرات إلى مئات الآلاف من المصريين بعد انقلاب يوليو/تموز 2013، ومن بينهم برلمانيون ووزراء سابقون وحتى نواب رؤساء مُعَيَّنون بعد الانقلاب، بالإضافة لنشطاء سياسيين وكُتَّاب وصحافيين من كافة الاتجاهات السياسية. وقد تراوحت أنشطة المعارضة في الخارج ما بين السياسي والإعلامي والحقوقي والقضائي الدولي، وهو ما لم يواجهه نظام مبارك في أسوأ مراحل قمعه. وكان على السياسة الخارجية النظامية التعامل مع هذه الأنشطة المعارضة بشراسة، إمَّا عبر التشويه أو الملاحقة أو حتى عبر توجيه خطاب تهديدي لبعض الحكومات (وهو مايأتي برد فعل سلبي في معظم الأحيان).  

ولكن البيئة الخارجية التي يعمل فيها النظام هي الأكثر راديكالية فيما يخص المتغيرات؛ فقد تعددت المحاور الإقليمية والدولية وسياساتها تجاه قضايا المنطقة؛ ففي منتصف 2011، كانت هناك ثلاثة محاور رئيسية قد تشكَّلت:

  • المحور الأول يمثِّل الدول التي أيَّدت الانتفاضات والثورات العربية ودعمت مسيرات التحولات الديمقراطية في المنطقة، وعلى رأس هذا الحلف قطر وتركيا (3).
  • المحور الثاني يتمثَّل في الدول التي عارضت "الربيع العربي" ورأت في استمرار الأنظمة القائمة قبل "الربيع" استقرارًا لمصالحها وأمنًا لحلفائها، ومثَّل هذا الاتجاه بالأساس دولة الإمارات العربية المتحدة.
  • والمحور الثالث رأى التعامل مع القضايا الجديدة ببراجماتية مطلقة؛ فإذا كانت الثورة أو الانتفاضة ضد حليف -كما هي الحال في سوريا- صارت إرهابًا، وإذا كانت ضد نظام غير حليف -كما هي الحال في البحرين- صارت ثورة. وتتصدر هذا المحور إيران. ولكنَّ تطور الأوضاع في اليمن وسوريا أجبر كافة المحاور على تغيير سياساتها، وصارت التحالفات العربية الآن تصاغ بناء على ثلاثة "تهديدات" تحمل عناوين "الإخوان المسلمين" و"تنظيم الدولة" و"إيران وحلفائها".

تحالفات وأولويات النظام في الخارج

تغيرت إذًا طبيعة النظام الحاكم وسياساته، وحجم وثقل المعارضة المصرية في الخارج، والبيئة الإقليمية والدولية التي تعمل فيها تلك الأطراف. وبسبب هذ المتغيرات اعتمد النظام -فيما يبدو من خطاباته وسلوكياته- أربعة أهداف مرحلية، وهي: الحصول على الشرعية السياسية ومعها الحصانة القضائية الدولية، وضمان استمرار المساعدات المالية والعسكرية والاستخبارية/الأمنية والسياسة من حلفائه، وتشويه وإضعاف المعارضة في الخارج وخاصة جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها، وإثارة بعض القلاقل والمشاكل للدول التي يراها معادية لتوجاهته. وكانت الدبلوماسية إحدى أدوات تحقيق مثل هذه الأهداف، وذلك عبر استخدام مجموعة من السرديات أهمها سردية وخطاب "مكافحة الإرهاب" الذي يلقى آذانًا صاغية في الغرب نظرًا للتهديدات الأمنية، وخطاب "تقاطع المصالح" والاستعداد "للخدمة والتعاون" التي عبَّر عنها رئيس النظام بالعبارة العامِّية المصرية "مسافة السكة"، وكذلك بخطاب توسيع عملية السلام مع إسرائيل، وبخطاب منع "شرِّ" اللاجئين عن أوروبا.

ولكن أولويات الحلفاء، وطبيعة التهديدات، والفرق بين خطاب النظام وسلوكه، وكذلك بين سردية النظام والواقع على الأرض تعرقل الوصول إلى الأهداف، وأحيانًا تؤثِّر سلبًا على ثبات تحالفاته، وخاصة حين تحدث كوارث أمنية من نوع قتل سيَّاح مكسيكيين على يد الجيش النظامي بمروحيات أميركية الصنع في سبتمبر/أيلول 2015، ثم تصريح المتحدث باسم الجيش، العميد محمد سمير، لصحيفة نيويورك تايمز بقوله: "هذا هو النظام في هذا البلد، وليس لديكم أي حق في مساءلته"(4). فبعض الإشكاليات ظهرت جليًّا في العلاقة مع السعودية، الحليف الإقليمي الأهم، ومع الولايات المتحدة، الحليف الدولي الأهم. وبعد حادثة سقوط الطائرة الروسية في سيناء، ظهرت أيضًا إشكاليات أخرى مع حلفاء آخرين كبريطانيا.

ففي الحالة السعودية تختلف الأولويات مع النظام في مصر، وأمَّا المصالح فقد تتقاطع أو تتفارق بحسب القضية. فبينما ترى السعودية أن مكافحة النفوذ الإيراني في المنطقة -وخاصة في سوريا والعراق واليمن- على رأس الأولويات، نظرًا لما يمثِّله ذلك من تهديد مباشر وقريب لأمنها، فإن النظام في القاهرة لا يتبنَّى نفس الأولوية. وبالتالي، فسياسات القاهرة تجاه كلٍّ من نظام الأسد في سوريا، ونظام الرئيس السابق على عبد الله صالح في اليمن، والحكومة العراقية قد تتعارض مع سياسات الرياض (وإن لم تصطدم حتى الآن). ورغم أن الرياض قد أدرجت تنظيم "الإخوان المسلمين" كجماعة "إرهابية" في مارس/آذار 2014، إلا أن السياسة الخارجية السعودية في كلٍّ من سوريا واليمن والعراق لم تتأثر كثيرًا بهذا الإدراج، بسبب أولوية مواجهة "التهديد الإيراني"، وإن اقتضى ذلك التعاون والتنسيق مع أحزاب وتنظيمات محسوبة على التيار الفكرى أو حتى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين. أمَّا النظام الحاكم في القاهرة فهو مُعَادٍ للثورات والانتفاضات العربية بشكل عام، ودور الإسلاميين فيها بشكل خاص. وبالتالي تتحدد خرائط تحالفاته في سوريا والعراق وفلسطين وليبيا واليمن على هذا الأساس. والأخيرة ربما هي الأوضح مثالًا؛ فقد طُلِبَ من النظام في القاهرة دعم عسكري أكبر بكثير مما أرسله. ولكن فيما يبدو أن الإرث التاريخي والأثر السياسي المحتمل فيما لو عادت جثث عسكريين مصريين من اليمن، وما قد يترتب على ذلك من تفاعلات داخل المؤسسة العسكرية وقادتها في المجلس العسكري، قد منع النظام من الاشتراك بكثافة في حملة التحالف العربي. هذا، بالإضافة إلى أن الدخول عسكريًّا في اليمن يعني تحالف نظام السيسي عمليًّا مع تيارات إسلامية سنِّية يمنية محسوبة على التيار الفكري للإخوان المسلمين.

أمَّا فيما يخص الولايات المتحدة وحلفاءها، فالأولويات هنا تتعلق بالأساس بمحاربة تنظيم الدولة وتنظيم القاعدة والفكر الجهادي المعادي للدول الغربية بشكل عام. أمَّا تنظيم الإخوان وحلفاؤه، وإيران وحلفاؤها فليسوا على رأس الأولويات. فالولايات المتحدة لا ترى تنظيم الإخوان في مصر "جماعة إرهابية" من الأساس، ويرى أغلب صنَّاع القرار فيها -باستثناء تيارات يمين وأقصى يمين الجمهوريين- إمكانية العمل معها لو وصلت للحكم. وأمَّا إيران فترى الإدارة الأميركية الحالية إمكانية إدارة الصراع معها عبر خليط من التفاوض والعقوبات "الذكية"، وكذلك ترى إمكانية التعاون والتنسيق في ملف مكافحة تنظيم الدولة.

وكذلك تختلف رؤى وأولويات إدرة أوباما والنظام في مصر عند طرق مكافحة الإرهاب وتعريفاته؛ ففيما يخص هذا الملف، ترى الولايات المتحدة أن أساليب وسياسات النظام في القاهرة -وخاصة في سيناء- ستؤدي لخلق المزيد من الجماعات المسلحة والبيئة المحلية الحاضنة لها، وربما إلى زيادة وتيرة تجنيد الشباب في صفوف التنظيمات الجهادية، وخاصة تنظيم الدولة -الأكثر نجاحًا سياسيًّا وعسكريًّا بين هذه التنظيمات. بعض هذه الانتقادات وُجِّه بشكل علني، لعل أبرزها انتقادات مسؤولة الملف المصري في وزارة الخارجية الأميركية -كانديس باتنام- أثناء المؤتمر السنوي حول مصر الذي عقده معهد الشرق الأوسط في واشنطن (5)، وكذلك سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة -سامنتا باورز (6).

ولكن العلاقة بين المؤسسة العسكرية -وهي أقوى لاعب سياسي واقتصادي في مصر- وواشنطن تختلف عن العلاقة مع الرياض؛ فالمؤسسة العسكرية المصرية هي أكبرُ جهةٍ متلقيةٍ للتمويل والتجهيز والتدريب الأميركي في مصر، بما يفوق جميعَ المؤسساتِ الأخرى والمنظمات غير الحكومية مجتمعة. ففي الفترةِ الممتدة بين العامين 1948 و2014، قدمت الولايات المتحدة للجيشِ المصري ما مجموعه 74,65 مليار دولار على شكل مساعدات. أكثر من نصف هذا المبلغ جرى تقديمه منذ عام 1979. وتدعم الولايات المتحدة المؤسسة العسكرية المصرية من خلالِ برامج التمويلِ العسكري الخارجي الـ(FMF)، وبرامج التعليم والتدريب العسكري الدولي الـ(IMET). ويدعم البرنامجُ الأول عمليات شراءِ الأسلحة والخدمات والمعدات الدفاعية الأميركية. أمَّا البرنامجُ الثاني فهو برنامجٌ لتدريب الضباط العسكريين الأجانب من خلال تلقي الدراسة والتدريب في الولايات المتحدة وفي المراكز الإقليمية التابعة لها (7).

والبرنامجان اللذان تقدمهما الولايات المتحدة هما أكثر مصادر المساعدة المالية التي يتلقاها الجيش المصري ثباتًا وحجمًا؛ فبعد قرضٍ عسكري أوَّلي بمبلغ 1.5 مليار دولار في العام 1979، وآخر جرى تخفيضه إلى 550 مليون دولار في العام 1981، استقرت المساعداتُ العسكرية الأميركية السنوية لمصر منذ العام 1987 عند مبلغ 1.3 مليار دولار من المنحِ المقدمة من برنامجِ التمويل العسكري الخارجي. أمَّا التمويلُ المقدم من برنامجِ التعليم والتدريب العسكري الدولي، فقد تقلَّب بين 200 ألف دولار و2 مليون دولار سنويًّا، بمتوسط حوالي 1.3 مليون دولار سنويًّا. وهنا توجد المشكلة؛ فجزء من هذه المساعدات ربطه الكونغرس الأميركي في عام 2014 باتخاذِ "خطواتٍ لدعمِ التحوُّل الديمقراطي". وفي سياق انتهاكات حقوقِ الإنسان التي لم يسبقْ لها مثيل -بما في ذلك وجود عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين في السجون، وتقارير عن ممارسة التعذيب على نطاقٍ واسع والاعتداء الجنسي أثناء الاحتجاز، وإقصاء المعارضين -تقع ردود أفعال سلبية على استمرار المساعدات. من ذلك ما ذكره السيناتور باتريك ليهي في 29 إبريل/نيسان 2014 حين قال: "أنا منزعجٌ للغاية لخرقِ الحكومة المصرية حقوقَ الإنسان والاعتداء المروِّع على مؤسسة القضاء، التي تُعتبر أساسية لأية ديمقراطية. وأنا لست على استعدادٍ للتوقيعِ على إيصالِ مساعداتٍ إضافيةٍ للجيشِ المصري حتى يتوفر لدينا فهمٌ أفضل لكيفيةِ استخدامِ المساعدات، ونرى أدلةً مقنعةً على أنَّ الحكومةَ ملتزمةٌ بسيادةِ القانون" (8).

وهنا يأتي دور الدبلوماسية الموالية للنظام؛ ففي واشنطن قام النظام وحلفاؤه بتوكيل عدد من شركات الدعاية والعلاقات العامة، وكذلك التعاون مع عدد من اللوبيات للضغط على كل من مجلسي النواب والشيوخ، وتسويق مجموعة من السرديات عناوينها الرئيسية هي "مكافحة الإرهاب والتطرف الإسلامي"، و"ضمان أمن إسرائيل"، و"ضمان استقرار المنطقة".

ولكن حوادث مثل تحطم طائرة المتروجت الروسية في وسط سيناء في 31 أكتوبر/تشرين الأول، وحادثة مثل حادثة السياح المكسيكيين المشار إليها آنفًا، وتعامل الدبلوماسية النظامية مع مثل هذه الحوادث، يثير شكوكًا حقيقية حول مصداقية خطاب النظام وقدراته على تنفيذ خدماته، بما فيها الأمن والاستقرار. ففي بداية أزمة الطائرة الروسية، انتقد وزير خارجية النظام المصري تصريح رئيس الوزراء البريطاني (الذي رجَّح أن الحادث عمل إرهابي) بقوله: إن التصريح "تسرع في الاستنتاجات"، وبأنه مندهش منه. ثم بعد شبه التأكد من أن الحادِثة هي عمل "إرهابي"، انتقد الوزير المملكة المتحدة "لعدم تبادل معلومات الاستخباراتية".

إسقاط الطائرة الروسية في سيناء وضع المسائل الأمنية في صدارة العلاقات البريطانية-المصرية؛ فقد عانت بريطانيا من تهديدات أمنية في وقت سابق في سيناء؛ فقد ذكرت صحيفة الديلي ميل أن صاروخ أرض-جو كاد أن يُسقط طائرة بريطانية سياحية وقت اقترابها من مطار شرم الشيخ في شهر أغسطس/آب الماضي. وكانت الفرضية الأولى هي أن تنظيم "ولاية سيناء" أطلق الصاروخ، إلا أن المتحدث باسم وزارة الخارجية المصري أطلق تصريحات عبر تويتر أزعجت كافة الأطراف بدلًا من أن تُهدئها؛ فقد ادَّعى المتحدث أن الصاروخ أُطلق من قبل الجيش النظامي خلال تدريبات روتينية، وأنه تم إبلاغ شركات الطيران حول هذا الموضوع. "هذه فضيحة، تغطي على فضيحة أخرى، وتأتي بعد فضيحة ثالثة، وتُعلن وقت فضيحة رابعة" يعلِّق ضابط سابق برتبة كبيرة في سلاح الدفاع الجوي. الفضيحة الأولى التي يشير إليها هي أن "ولاية سيناء" لم تنهزم أو تضعف بعد عامين من حملة مكافحة تمرد وحشية، وغير فعَّالة في الوقت ذاته. فمنذ سبتمبر/أيلول 2013، والنظام يصعِّد عملياته ضد التنظيم مستخدمًا تكتيكات كالتعذيب المنهجي للمشتبه بهم، والقتل خارج نطاق القانون، وهدم وحرق المنازل، وعمليات الإخلاء القسري، وتدمير الممتلكات والمزارع، واستخدام المدفعية الثقيلة والقصف الجوي في المناطق السكنية. أمَّا الفضيحة الثانية المشار إليها فهي أن الجيش يمكن أن يكون قد استهدف سيَّاحًا خطأً مرَّة ثانية؛ ففي سبتمبر/أيلول 2015، قتل الجيش ثمانية سياح مكسيكيين بمروحيات أميركية الصنع في الصحراء الغربية وأصاب ستة آخرين، وهي الفضيحة الثالثة. أمَّا الفضيحة الرابعة فهي قدرة "ولاية سيناء" على زرع عبوة ناسفة أو قنبلة يدوية في الطائرة، وهو السيناريو الأكثر احتمالًا حتى الآن.

تصدير القمع: الآفاق والفاعلية

ملخص ما يصدِّره النظام للخارج عبر سياسته وخطاباته الخارجية هي فعالية وشرعية "القمع" الذي سيأتي -بحسب النظام- بالاستقرار في المنطقة، والأمن للحلفاء، وإبادة "الإرهاب". وهو بذلك لا يصدِّر فكرًا أو حلولًا دبلوماسية لأزمات سياسية معقدة، وإنما يحث الأطراف الخارجية الحليفة على قمع واستئصال المخالف، وهو تصدير يعكس سياسته الداخلية. غير أن النظام لا يملك لا القوة ولا الموارد لتنفيذ هذه السياسة خارجيًّا، وأحيانًا تتأرجح وجاهة خطابه في الخارج؛ ففي داخل المؤسسات الرسمية الغربية من يرى أن النظام متعاون وقادر على تقديم خدمات مهمة بأثمان منخفضة. ولكن هناك أيضًا من يرى عدم كفاءته في تقديم الخدمات، وأن سياسات القمع ستنتج في النهاية تهديدات أمنية وعدم استقرار وموجات لاجئين. ويعلم النظام بهذه الخلافات؛ ولذلك فهو يهدف لاحتكار الحديث عبر دبلوماسيِّيه عن الوضع الأمني في مصر والمنطقة، وبالتالي الترويج لرواية واحدة تخدم أهدافه.
__________________________________
د. عمر عاشور - د. عمر عاشور - أستاذ محاضر في الدراسات الأمنية والعلوم السياسية بجامعة إكستر البريطانية.

هوامش
1- Gresh, Alain. “Egypt is Struggling to Assert Itself.” al-araby al-jadid, 28 June 2015
 http://www.alaraby.co.uk/english/comment/2015/6/28/egypt-struggling-to-assert-itself-in-the-middle-east
المصدر السابق.
3 باستثناء في بدايات الثورة الليبية نظرًا لحجم المصالح الاقتصادية التركية في ليبيا في حقبة نظام معمر القذافي.
4راجع التصريح على موقع الجريدة:
http://www.nytimes.com/2015/09/15/world/middleeast/egypt-mexican-tourists.html?smid=tw-share&_r=0
5 راجع الكلمة على الرابط التالي:
https://www.youtube.com/watch?v=iiE6kgKpZ9o
6 راجع التغريدات على الرابط التالي:
https://twitter.com/ambassadorpower/status/586988786640388096
7 إرنستو لوندونو، "U.S. to partially resume military aid to Egypt"، ذي واشنطن بوست، 22 إبريل/نيسان 2014، http://www.washingtonpost.com/world/national-security/us-to-partially-resume-military-aid-to-egypt/2014/04/22/b25f68c6-ca91-11e3-93eb-6c0037dde2ad_story.html
8جيرمي شارب، "Egypt: Background and U.S. Relations"، خدمة أبحاث الكونغرس، 5 يونيو/حزيران 2014، http://fas.org/sgp/crs/mideast/RL33003.pdf

نبذة عن الكاتب