(الجزيرة) |
ملخص دولة سلوفينيا، من جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي التي حصلت على استقلالها دون أن تخوض حربًا أو تتعرض لعدوان كما شأن بعض شقيقاتها في البلقان، وهي من دول الاتحاد الأوروبي حيث التحقت به وبحلف الناتو عام 2004. لا تزال سلوفينيا حتى اليوم تحمل عبئًا تاريخيًّا ثقيلًا من الانقسامات الحادة داخل مجتمعها، على خلفية اصطفافات الماضي السياسية أثناء الحرب العالمية الثانية بين الشيوعيين والقوميين، وذلك رغم جهود المصالحة بين الكنيسة الكاثوليكية وجهاز الدولة. كما تركت الأزمة الاقتصادية العالمية أثرًا واضحًا على سلوفينيا، ومن أوجه متعددة -سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا- ما دفعها إلى محاولة الخروج من عزلتها وبناء علاقات تكامل مع دول الجوار، في حين يبقى المشهد السياسي الداخلي غير منضبط ومشوبًا بأداء حزبي سياسي ضعيف، ما أدَّى -بالإضافة إلى ما كُشف عنه من فضائح مالية وفساد طال كبار موظفي الدولة ووجوهًا سياسية قيادية- إلى انعدام ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة وتراجع مشاركتهم في العملية السياسية. لكن، حالة الاستقرار التي تتمتع بها سلوفينيا وعدم وجود نزاعات ذات بال مع دول الجوار تمثل فرصة سانحة لها للعب دور ريادي في التقريب بين دول البلقان. |
مرحلة الاستقلال
سلوفينيا من أولى جمهوريات يوغسلافيا السابقة التي طالبت بجدية، مع نهاية الثمانينات، بالاستقلال والخروج من يوغسلافيا الفيدرالية، إلا أن مطلبها وجد معارضة قوية من السلطات السياسية الصربية المتمسكة بصربيا الكبرى، وهو المشروع الذي عمل سلوبودان ميلوشيفيتش على تنفيذه. وكان للمشاعر السلوفينية الرافضة للقمع الذي تعرَّض له الكوسوفيون دورًا حاسمًا في تأكيدهم على أن "العيش المشترك" داخل يوغسلافيا بات غير ممكن. وفي الواقع، فإن رغبة السلوفينيين في الاستقلال كانت قائمة منذ مدة طويلة ولكن النخبة السياسية لم تُقدِّر أنه آن أوانه وإنما استدعته الضرورة بعد سقوط جدار برلين وانهيار التوجه السياسي الصربي التوليتاري.
عملت سلوفينيا على بناء مجتمع متعدد سياسيًّا وحزبيًّا واعتمدت معايير حقوق الإنسان داخل مؤسساتها، في حين كان المشروع الديمقراطي-القومي لا يزال يواجه نزاعات بين السلطات الحاكمة والمجتمع المدني، ثم تلته مرحلة تعاون فيها، إلى حدٍّ ما، جميع القوى المجتمعية الكبرى بشأنه: الشيوعيون الذين كانوا في السلطة، وقوى المعارضة بالإضافة إلى الكنيسة الكاثوليكية والمثقفين. وحظي هذا المشروع بتأييد واسع تمثَّل في الاستفتاء الشعبي الذي نُظِّم في 23 من ديسمبر/كانون الأول عام 1990؛ حيث صوَّت لصالحه 88.5% من المُستفتين، ثم تم على إثره التصديق على دستور جديد للدولة، اعتمد النظام البرلماني الديمقراطي المرتكِز على الأغلبية النسبية (وهو نظام يتطلب توافقًا سياسيًّا بين الأحزاب)، لتبلغ البلاد بهذا مرحلة متقدمة من التعددية سواء على المستوى السياسي أو على مستوى الحياة العامة.
وعلى الصعيد السياسي سيطرت لفترة قصيرة (1990-1992) أحزاب يمين الوسط حديثة النشأة على الحياة السياسية -وهي تحالف حزبي ثلاثي الأضلع مكون من يمين ويسار الوسط، بالإضافة إلى الليبراليين- ثم عادت لتتصدر المشهد السياسي أحزاب يسار الوسط حتى العام 2004، وعملت حكومات تلك الأحزاب جميعًا على إدخال تحولات تدريجية على الحياة العامة للمجتمع السلوفيني. ثم تقلَّد الحكم في الفترة ما بين 2004- 2008، يمين الوسط؛ ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم تتغير التوجهات السياسية للحكومات المُتتالية بشكل منتظم.
وعلى الرغم من أن دستور سلوفينيا عرف تعديلات طفيفة، فإن القوى السياسية الكبرى على اختلاف توجهاتها، حافظت على الطابع الليبرالي-الديمقراطي البرلماني الذي يميزه، ما خلا استثناء وحيدًا تمثَّل في محاولة الحزب الاجتماعي الديمقراطي تغيير النظام من النسبي إلى النظام الأغلبي، لكنه لم يُفلح ولم يجد من يسانده في مسعاه هذا من الأحزاب الأخرى.
ويمكن اليوم الحديث عن هوية سياسية مكتملة لدولة سلوفينيا، في مبادئها وأسسها الكلية. أمَّا التغييرات الكبرى المنتظرة، على مستوى هندسة قوانين الدولة، فمن المتوقع أن تتجه نحو تعزيز دور الناخبين من ناحية، وإخضاع المُنتخَبين وصُنَّاع القرار والمسؤولين الرسميين للمساءلة والمحاسبة من ناحية أخرى. فيما عدا ذلك، فإن التحولات الأخرى ستتركز على استيعاب ومساعدة الفئات الاجتماعية المهمشة وتعزيز اقتصاد السوق، وهذا جميعًا يتطلب تنظيمًا مجتمعيًّا فعَّالًا (بعيدًا عن التعقيدات البيروقراطية) ونشر ثقافة التعددية السياسية وتقبل الآخر.
الأزمة الاقتصادية وتأثيراتها
شهدت سلوفينيا بعض السنوات الصعبة بعد الاستقلال، لكنها أطلقت إثر الاعتراف الدولي بها، عملية تحول سياسي واقتصادي أرست إلى جانب التعددية السياسية مبادئ اقتصاد السوق، وحققت اندماجًا جيدًا داخل السوق العالمية، ليستمر هذا النجاح، الذي بدا مثاليًّا إلى حدود العام 2008. والجدير بالذكر أن عدة جهات خارجية دعمت التحول السلوفيني وأيَّدت خيارات شعبها، ومن المؤكد أن الانطباع الإيجابي الذي ساد حينها داخليًّا وخارجيًّا، كان يجد مرتكزاته في المؤشرات المختلفة التي كانت تدلِّل على قوة وتصاعد معدلات التنمية في البلد(1).
غير أن الأزمة العالمية التي طالت القطاعين الاقتصادي والمالي في العام 2008، والتي أصابت سلوفينيا ببعض تأثيراتها ولا تزال متواصلة إلى يومنا هذا، أظهرت صورة أخرى غير جيدة، لنمط التحول السلوفيني. فقد أظهرت الأزمة المالية رغم النشوة العارمة التي طغت بسبب النجاحات السياسية والاقتصادية التي حققتها المشاريع الوطنية، أن الجمع بين نظرية التحول الاقتصادي التدريجي من نظام الملكية الجماعية إلى الملكية الفردية الخاصة (وهو نمط سلوفيني) في ظل غياب إصلاحات بنيوية -مثل إصلاح نظام العمل في السوق، والنظام الصحي، ونظام التقاعد وغير ذلك- قد صاحبتها مخاطر حقيقية وجدية، خاصة فيما يتعلق بعدم إدخال إصلاحات جوهرية على نظم السوق والعمل، فضلًا عن وضعها أجندة أهداف اقتصادية مبالغ فيها، بل وغير واقعية. وظهرت هشاشة هذا النمط، على سبيل المثال، في رفض مشروع قانون التقاعد الاجتماعي في استفتاء عام 2010.
وفي العام 2012، بدأت تظهر على الساحة ملامح استراتيجيتين سياسيتين للخروج من الأزمة: استراتيجية الليبراليين الجدد واستراتيجية الليبراليين الاجتماعيين، ودخل الفريقان في تنافس محموم بينهما منذ ذلك التاريخ، ويبدو أن صراعهما الأيديولوجي سيفرض نفسه على الساحة السياسية السلوفينية على المدى المنظور.
وأدَّت الأزمة الاقتصادية إلى تزعزع ثقة المواطن السلوفيني بالمؤسسات الديمقراطية، لأنه بعد خمسة عشر عامًا من النمو المتتالي للدخل الفردي، شهد تراجعًا حادًّا بدءًا من العام 2009؛ ما أثار سخط الناس من السياسات المتبعة، وتجلَّى ذلك في توالي إسقاط الحكومات التي تصدت للسلطة منذ العام 2008؛ حيث لم تنجح أية حكومة منذ ذاك التاريخ في إكمال مدتها المقررة -آخر حكومتين لم تصمدا أكثر من سنة وبضعة أشهر لا غير لكلٍّ منهما- لا، بل أدى الفشل الحكومي وانعدام الثقة بالمؤسسات إلى عزوف المواطنين عن المشاركة في الانتخابات، وبالكاد استطاعت انتخابات 2014 أن تُحافظ على مستوى مشاركة تعدَّى بقليل معدل 50%. وبالنظر إلى موقف الجمهور السلبي من السياسة، إضافة إلى تراجع ثقة الرأي العام في النظام القضائي ومؤسساته(2)، مع ظهور فضائح كبرى اجتاحت حتى أوساط الكنيسة الكاثوليكية، وهي أكبر المؤسسات الدينية في البلد على الإطلاق، فإنه يمكن رسم صورة مهتزة للديمقراطية الاجتماعية حديثة التكوين في سلوفينيا؛ حيث لم تهتز الثقة بالمؤسسات السياسة فحسب، إنما بلغت إلى حدٍّ ما، كل المؤسسات الأخلاقية للمجتمع.
كما أثَّرت التغيرات غير المتوقعة سلبًا على أوضاع فئات واسعة من الشعب السلوفيني وَحَدَّت من آمال عدد كبير منهم في العيش في ظروف أفضل، وتصاعد المطلب الشعبي بمحاسبة جدية لكل من تثبت مسؤوليته عن النتيجة المخيبة التي بلغتها سلوفينيا. وكان على القضاء ورجال السياسة التجاوب مع الشارع في محاسبة السياسيين والمسؤولين المتورطين في قضايا فساد مالي، ونجح الجهاز القضائي إلى حدٍّ ما في ملاحقة بعض السياسيين والإداريين المسؤولين وجلبهم إلى المحاكمة، والجدير بالذكر أن هذا الجهاز لم يخضع منذ الاستقلال إلى أية إصلاحات جدية ليطهر نفسه من رواسب الفساد والرشوة والمحسوبية التي ورثها عن النظام السابق، وكان عاجزًا عن النفاذ إلى بعض ملفات القضايا الكبرى المتعلقة بالفساد المُمنهج.
أمَّا على مستوى السياسة، فإن مطالب الشعب بالشفافية والاحترام في عمل السياسيين أدَّى إلى تغير واضح في سلوك الأحزاب السياسية، حيث فُتحت ملفات قضايا فساد كبرى كان المتهم الرئيسي فيها من رجال الشرطة والسياسيين، حتى إن رئيسي أكبر حزبين في تلك المرحلة: يانيز يانشا عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي (صدر في حقه حكم قضائي نافذ عام 2014)، وزوران يانكوفيتش عن الحزب الاجتماعي، سُحبت منهم ثقة أحزابهم إضافة إلى غيرهما من السياسيين. وشجَّع هذا التوجه الجديد الشعب السلوفيني على مراقبة سياسييه لا بل بات سلوكًا عامًّا في البلاد، ومن أمثلته تلك المظاهرات التي نظَّمتها الحركة الاحتجاجية "مستيقظون" في شتاء 2012-2013 وانتهت بسقوط حكومة يانيز يانشا الثانية، رغم أن المظاهرات لم تحشد أعدادًا كبيرة من المشاركين ولم تكن بالضخامة المنتظرة، إلا أن تأثيرها كان كبيرًا بسبب دعم الرأي العام لها.
وأتاح ضعف ثقة الجمهور الواسع بالسياسيين فرصًا لظهور أحزاب وشخصيات سياسية جديدة على الساحة السلوفينية، أعلنت عن رغبتها في المساهمة في إنقاذ البلاد من الأوضاع التي تردت فيها، حتى إنه تمكن حزبان ناشئان لم يمض على تشكيلهما أكثر من شهرين قبيل موعد الانتخابات، من الفوز باستحقاقين انتخابيين، هما: الحزب الاجتماعي عام 2011، وحزب الوسط المعاصر في عام 2014. في حين تمكَّنت أحزاب أخرى ناشئة من دخول البرلمان بعد تحقيق نتائج مفاجئة. فازدهار الأحزاب الجديدة و"الوجوه السياسية الجديدة" جاء على حساب تراجع واضمحلال الأحزاب القديمة، حيث أصبح الحزب الليبرالي الديمقراطي السلوفيني بلا تمثيل برلماني مؤثر، وهو الذي سيطر على الساحة السياسية في سلوفينيا ما بين عامي 1994 و2004، كما لم ينجح الحزب الاشتراكي من دخول البرلمان في الانتخابات الأخيرة وهو الذي فاز في انتخابات عام 2011. ومن المفارقات أن نتائج الانتخابات الأخيرة التي أجريت عام 2014 أظهرت أن قوائم المرشحين من المواطنين المستقلين حصدت عددا من الأصوات فاق ما حصلت عليه قوائم الأحزاب، وهو الاتجاه الذي بات يزعزع استقرار النظام الحزبي في البلاد.
شياطين الماضي
لن يكتمل استعراض مشهد الحياة السياسية الحزبية في سلوفينيا إذا لم يتم التطرق للأثر العميق الذي خلَّفه الماضي القومي لسلوفينيا إبَّان الحرب العالمية الثانية على الحياة السياسية والاجتماعية هناك والذي لا يزال يفرِّق بينهم حتى اليوم.
ارتكبت السلطات الشيوعية المنتصرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية "جرائم قتل جماعي" بلغ عدد ضحاياها عدة عشرات من الآلاف اتُّهموا حينها بعمالتهم لقوات المستعمر وذلك دون أية محاكمة. ورغم العثور على بقايا من رفات أولئك الضحايا في مقابر جماعية منتشرة داخل غابات سلوفينيا، إلا أن مواضعها لم يُعلَن عنها حتى اللحظة وظلَّت مجهولة بالنسبة للشعب السلوفيني، ولم يمثُل أحد أمام القضاء بسبب تلك الجرائم إلى حدِّ الآن(3).
وعلى الرغم من عدم وجود شهود من بين الأحياء على تلك الفترة وما جَدَّ فيها، فإن جزءًا مُعتبرًا من الحياة السياسية (بما في ذلك الحملات الانتخابية) في دولة سلوفينيا المستقلة، لا يزال قائمًا على تلك الحدود الفاصلة التي رُسمت خلال الحرب العالمية الثانية، بين الشيوعيين المحليين أي المحررين "الملطخة أياديهم بالدماء"، وبين المعادين لهم أي "عملاء المستعمر". فعلى سبيل المثال، فإن الدعم لذي لقيه مشروع استقلال سلوفينيا في استفتاء عام 1990، لم يكن ليلقى ما لقيه من نجاح ومشاركة شعبية واسعة لو لم يُشارك كل من رئيس سلوفينيا ومطران العاصمة ليوبليانا في مظاهرة كبرى أُطلق عليها اسم "المصالحة الشعبية"، ونُظِّمت بالقرب من بعض تلك المقابر الجماعية. هذه الحدود الفاصلة التي تطبع الفضاء السياسي في سلوفينيا تحول دون العمل المشترك بين الفريقين السياسيين المختلفة مواقفهما تجاه كل القضايا.
وتلعب الكنيسة الكاثوليكية دورًا مهمًّا في عملية "المُصالحة السياسية" وكانت تقوم ولمدة طويلة، بدور التحكيم فيما يتعلق بالمطالب التي تقدم بها أهالي الضحايا إلى الحكومة لكشف حقيقة ما جرى ولتعويضهم عن "جرائم" الشيوعيين (مع أن الكنيسة الكاثوليكية كانت بدورها، طرفًا في ما جرى خلال الحرب العالمية الثانية). إلا أن ما تورطت فيه الكنيسة من فضائح مالية، وما كُشف عنه في الفترة الأخيرة من جرائم جنسية تتعلق باستغلال أطفال جنسيًّا من قِبل بعض القساوسة، قلَّص بشكل كبير من السلطات التي كانت تتمتع بها الكنيسة داخل الحياة العامة للشعب السلوفيني.
هذا الصراع الذي كان في الماضي يُحدِّد من سيفوز بالانتخابات، لم يكن حاضرًا بكثافة أثناء المناسبتين الانتخابيتين الأخيريتين (2011 و2014)، ولم يكن مُحددًا لنتائجها كما كان من قبل، فالقضايا التاريخية لم تعد بعد سنوات الأزمة الأولى(4) ذات أولوية؛ إذ تحول الاهتمام البراغماتي أكثر نحو قضايا الحاضر ومستقبل الأمة السلوفينية.
التعامل مع الأقليات الثقافية
باستثناء الفروق البسيطة في الرواتب وعدم الجاهزية لتقبل التوجهات العالمية نحو زيادتها، فإن سلوفينيا تُعتبر دولة متجانسة جدًّا إثنيًّا، ويحمي دستورُها الفئتين الصغيرتين قليلتي العدد من المجريين والإيطاليين الذين يعيشون في المناطق المجاورة للحدود، ويُسمح لكل فئة منهما بأن يكون لها من يمثلها في البرلمان.
أمَّا الفئات المنتمية إلى يوغسلافيا السابقة، والذين قدموا للعيش في سلوفينيا في ستينات القرن الماضي، فإنهم، إلى حدِّ الآن، لا يتمتعون بمثل وضع المجريين والإيطاليين وهم يناضلون على مستويات مختلفة من أجل الحصول على الاعتراف بحقوقهم الثقافية باعتبارهم أقلية ثقافية، من هؤلاء الغجر الروما الذين سُمح لهم بانتخاب ممثل عنهم داخل المجلس البلدي لتلك المنطقة.
وهناك أيضًا المسلمون الذين أحدثت مطالبتهم ببناء مسجد -جامع في العاصمة ليوبليانا- أزمة داخل سلوفينيا، وكانت الجمعية الإسلامية السلوفينية تقدمت بطلب إلى السلطات لتسمح لها بتشييد مسجد، وقوبل طلبها بالرفض على امتداد سنوات طويلة أو بالتجاهل التام من قِبل الحكومات السلوفينية المتعاقبة إلى أن وافقت عليه في العام 2008، وتم وضع حجر الأساس لبنائه عام 2013. ويُذكر أن عدد المسلمين الذين يعيشون في سلوفينيا يبلغ 50 ألف نسمة (إحصاءات الجمعية الإسلامية السلوفينية تتحدث عن وجود أكثر من 80 ألف مسلم في سلوفينيا)، قَدِم أغلبهم من البوسنة والهرسك ومن باقي مناطق يوغسلافيا السابقة، ويشكِّل المسلمون بأعدادهم هذه ثاني أكبر الجماعات الدينية في سلوفينيا(5).
دور سلوفينيا في الساحة الدولية
صوَّت السلوفينيون بنسبة 89.6% لصالح انضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي، في حين صوَّت 66% فقط لصالح عضوية سلوفينيا في حلف شمال الأطلسي وذلك في الاستفتاء الذي نُظِّم لهذه الغاية عام 2003. وشهدت الساحة السياسية والاجتماعية السلوفينية جدلًا واسعًا قبل تنظيم الاستفتائين، أسفر عن وجود فريقين داخل المجتمع السلوفيني، أحدهما يريد لسلوفينيا ألا تنضم لا إلى الاتحاد الأوروبي ولا إلى حلف الناتو، بل أن تكون دولة معتمِدة على نفسها وغير مُستقطبة، أي أن تكون "سويسرا أخرى"، أمَّا الثاني منهما فرأى أن تكون سلوفينيا دولة أوروبية غير منحازة. هذان الخياران المعبِّران عن الموقف تجاه الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو فقدا قوة حضورهما بعد انضمام البلاد إليهما عام 2004، لكنهما لم يختفيا تمامًا من على المشهد السياسي والاجتماعي.
وإن كان من الصعب وجود أي من الأحزاب السياسية المُمثَّلة داخل البرلمان -بعد العام 2004- التي يمكننا وصفها بأنها مشكِّكة باستمرار في جدوى عضوية سلوفينيا في الاتحاد الأوروبي، فإنه من الصعب أيضًا القول بوجود إيمان راسخ بالتوجه الأوروبي. هذا الموقف المتأرجح، الذي اتخذته الأحزاب السياسية السلوفينية تجاه الاتحاد الأوروبي، كان له أثر مباشر في عزل السلوفينيين عمَّا يجري داخل أعلى هرم مؤسسات الاتحاد الأوروبي. وتُبيِّن نسب مشاركة السلوفينيين المتدنية جدًّا في الانتخابات الأوروبية بشكل واضح انعزالهم عن المشهد السياسي الأوروبي العام(6).
إلا أن مؤسسة الاتحاد الأوروبي حصلت، خلال الأزمة الاقتصادية التي مرَّت بها، على رضا أكبر في أوساط الشعب السلوفيني مما كان عليه موقفهم قبل ذلك، بسبب الدور الذي لعبه الاتحاد الأوروبي أثناء المرحلة الصعبة التي كان فيها على السلوفينيين التعامل مع الصعاب التي كانت تواجههم، وقدَّم حينها الاتحاد الأوروبي حزمة من المساعدات المالية والقروض الميسرة لسلوفينيا، ساهمت في وضعها على طريق تخطي الأزمة بنجاح.
أمَّا بروكسل، التي كانت بالنسبة للكثيرين في سلوفينيا مدينة غريبة عنهم، تمامًا مثل "بلغراد الجديدة"، أي مدينة لا يحتاجون إليها ولا يقبلون بالتبعية لها؛ فقد باتت الآن جزءًا من الحل، وأصبح يُنظر إلى مجموعة "الترويكا" (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) التي شكَّلها الاتحاد الأوروبي، باعتبارها مؤسسة مهمة في عملية الإصلاح والمساعدة في توجيه سلوفينيا نحو تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المرجوة. ويرى اليوم الكثير من السلوفينيين في ذلك التوجيه، رغم ما تضمَّنه من إجراءات ترشيد للميزانية واعتماد سياسات إنقاذ وإجراءات تقشف، ضرورة لابد منها. لكن، ومع ذلك، فإنه لا يزال ثمة بعض التحفظ تجاه عملية الخصخصة وبيع المؤسسات الحكومية العمومية (مؤسسة الاتصالات، شركة البترول، شركة غورينيا، بالإضافة إلى البنوك وممتلكات الدولة) إلى رأس مال أجنبي. وقد أثارت صفقة بيع سلسلة المتاجر السلوفينية الأكبر في المنطقة "ميركاتور" إلى الشركة الكرواتية "أغروكور" خلال هذا العام، موجة من التشكيك وحتى الرفض من قبل العديدين في سلوفينيا.
إن الموقف العام من الاتحاد الأوروبي حاليًا في سلوفينيا يُشبه ما كان عليه الوضع خلال مرحلة الاستعدادات التي سبقت انضمام سلوفينيا إليه. ومن المثير للدهشة أن الشعور الإيجابي تجاه مؤسسات الاتحاد الأوروبي لم يتأثر، حتى بعد صدور قرارين ضد سلوفينيا عن السلطات القضائية التابعة للاتحاد. فقد صدرت أحكام نهائية في قضيتين مستقلتين بإدانة سلوفينيا بتهمة الاعتداء على حقوق الإنسان في كلتيهما، وأنها ألحقت أضرارًا باعتداءاتها تلك، على معظم الأشخاص القادمين من فضاء يوغسلافيا السابقة، وتفصيل ذلك أن السلطات السلوفينية أصدرت قرارين خلال السنوات الأولى التي تلت استقلالها يتعارضان بالكامل مع القانون الدولي الذي يمنع سلطات الدول من اتباع إجراءات تمييزية في نظمها القضائية.
ويتعلق الأمر هنا، بقضيتين: عُرفت إحداهما باسم قضية "الممسوحين من السجلات"(7)، وتعلقت الثانية بالمدخرات الكرواتية والبوسنية في بنك ليوبليانا(8)، وقوبل الحكمان الصادران عن السلطات القضائية الأوروبية في هاتين القضيتين بعدد قليل من الاحتجاجات في سلوفينيا؛ ما يعني أن الشعب السلوفيني تقبلهما نفسيًّا على أنهما حُكمان عادلان.
من ناحية أخرى، لا تزال لسلوفينيا قضية معروضة أمام المحكمة الدولية في لاهاي بشأن النزاع بينها وبين كرواتيا حول الحدود البحرية المسماة: خليج بيران، الواقع على ساحل البحر الأدرياتيكي. وتكمن أهمية هذه القضية بالنسبة لسلوفينيا في أن الحكم فيها سيحدِّد ما إذا كانت ستحصل على منفذ بحري يُخرجها من عزلتها ويربطها بالمياه الدولية.
أمَّا فيما يتعلق بالدعم الذي تقدمه سلوفينيا لحلف الناتو، سواء أكان من خلال مساهمة الحكومة في مدِّ الحلف بالجنود للمشاركة في عملياته الخارجية، أم في التأثير الفاعل في خططه وبرامجه، فيبقى ضعيفًا ولا يُقارَن بالدعم الذي تقدمه سلوفينيا للاتحاد الأوروبي، ومع ذلك فإن قضية الانسحاب من الحلف لم تُطرح أبدًا للنقاش على المستوى السياسي في الدولة ولم تكن مطلقًا أولوية تتصدر أجندات الأحزاب السياسية السلوفينية.
وبالنسبة للعلاقة مع روسيا فهي جيدة تقليديًّا، وشهدت التبادلات الاقتصادية نموًّا ملحوظًا، ولا يوجد بين البلدين أي نزاع مفتوح. ولكن نشاط سلوفينيا على مسرح العلاقات الدولية محدود، إذا ما استثنيا منه علاقاتها مع القوى الكبرى، ويظهر ذلك من خلال تواضع شبكة المُمثليات الدبلوماسية السلوفينية خارج أوروبا.
ختامًا
أسهمت الأزمة الاقتصادية والتجاوزات المالية وقضايا الفساد التي تورط فيها موظفون وسياسيون كبار، في تراجع ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة إلى مستوى أثَّر على استمرار عملها. وقد تكون تلك المرحلة ضرورية، ولو جزئيًّا، وتأتي في سياق تطور المجتمع الذي لا يزال في مختلف مظاهره، يعيش في مرحلة ما قبل الحداثة ويطمح إلى أن يحقق استقراره الذاتي ويبلغ مستويات عالية من الإنتاجية والإجماع على توجهاته العامة. ويبدو أن المجتمع قد توصل إلى نوع من التوافق حول ضرورة أن تكون مؤسسات الدولة أكثر فاعلية ومرونة حتى تتمكن من أداء واجباتها.
وكان على سلوفينيا أن تواجه أعباء ماضيها المثقل بالدم، لذلك لم يكن لها اهتمام كبير بما كان يجري خارج محيطها الجغرافي الضيق، وهذا ما جعلها غير قادرة على استباق مواجهة الأزمة الاقتصادية، كما أنها لم تستفد من الفرص العديدة التي أُتيحت أمام الجمهوريات المستقلة عن يوغسلافيا السابقة.
وكانت سلوفينيا، قبل التحاقها بعضوية الاتحاد الأوروبي، تنأى بنفسها عن محيطها الإقليمي ولا تقيم علاقات مكثفة مع دول الجوار البلقاني، لكن يبدو اليوم، أن اتجاهًا جديدًا بدأ ويهدف نحو تقريب سلوفينيا إلى جوارها البلقاني ودفعها إلى تحسين علاقاتها الاقتصادية وتبادلها الثقافي مع تلك البلدان، خاصة وقد تأكد سعي الجمهوريات المستقلة عن يوغسلافيا إلى الحصول على عضويتها داخل الاتحاد الأوروبي.
ولأن سلوفينيا دولة عضو في الاتحاد الأوروبي تتمتع بمقومات الدولة المستقرة لاسيما منذ أكثر من عشر سنوات وليس لها نزاعات كبرى مع دول الجوار، فإن بإمكانها لعب دور مهم في عملية التكامل بين دول المنطقة. وبالفعل أسَّست سلوفينيا مع كرواتيا عددًا من المنتديات غير الرسمية لبحث فرص التكامل الإقليمي لدول البلقان، كما تدعم بقوة توسع الاتحاد الأوروبي ليشمل باقي بلدان البلقان.
__________________________________
إيغور بريباتس، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة سلوفينيا
ملاحظة: النص بالأصل أُعِدَّ لمركز الجزيرة للدراسات باللغة الكرواتية، وترجمه إلى العربية الباحث المتخصص في شؤون البلقان كريم الماجري.
المراجع والهوامش
1- في الفترة ما بين 1995-2008، سجَّل الناتج الإجمالي المحلي في سلوفينيا نموًّا تراوح بين 1.6% و 2.8%، وقفز من 16.690 مليار يورو إلى 26.323 مليار يورو، وسجَّل الناتج المحلي للفرد ارتفاعًا من 8280 يورو إلى 18769. كل هذه المعطيات منشورة على صفحة المعهد القومي السلوفيني للإحصاء: http://www.stat.si/StatWeb
( آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 19 ديسمبر/كانون الأول 2015).
2- عرفت المؤسسات القضائية أدنى مستويات الثقة فيها في الفترة ما بين 1996-2007. انظر المقياس السياسي 3/2007. ص 16،
http://www.cjm.si/sites/cjm.si/files/file/raziskava_pb/pb3_07.pdf
(آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 19 ديسمبر/كانون الأول 2015).
Cf. pr. Mitja Ferenc (1995): Prikrito in o?em zakrito, Zgodovinski muzej Celje, Celje, str. 24 i sl.
3- Cf. pr. Mitja Ferenc (1995): Prikrito in o?em zakrito, Zgodovinski muzej Celje, Celje, str. 24 i sl.
4- جدَّت الأزمة السياسية الأولى مباشرة بعد الاستقلال؛ حيث كان للقوميين الكلمة العليا في تحديد السياسة الداخلية للبلاد، والتي انقسم خلالها المجتمع السلوفيني إلى شقين أحدهما يريد لسلوفينيا أن تركز على بناء دولة قومية، في حين كان شِقٌّ آخر من الشعب يريد أن تكون الدولة الجديدة ديمقراطية ليبرالية وأن تقطع مع إرثها القومي.
5- Milivoja Šircelj: Verska, jezikovna in narodna sestava prebivalstva Slovenije. Popisi 1921-2002, Statisti?ni urad Slovenije, str. 68 i sl.
6- بلغت نسب المشاركة الشعبية في الانتخابات المنظَّمة في الفترة ما بين 2004-2009 حوالي 28%، وتراجعت في انتخابات 2014 إلى 24.55%، انظر:
http://www.dvk-rs.si/index.php/si/volitve/evropski-parlament
( آخر زيارة للموقع كانت بتاريخ 19 ديسمبر/كانون الأول 2015).
7- قضية "كوريتش وآخرين ضد دولة سلوفينيا" نظرتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وأصدرت فيها حُكمًا نهائيًّا بتاريخ 26 يونيو/حزيران 2012، تحت رقم 06 /26828. ألغت السلطات السلوفينية جنسيات الآلاف من الذين حصلوا على جنسيتها قبل اندلاع الحرب، ومعظمهم من الغجر أو من السلوفينيين المنحدرين من زيجات مختلطة أو من أولئك الذين حاربوا في صفوف الجيش الصربي ضدها عام 1991 واتهمتهم بالخيانة والتعاون مع العدو. لكن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكمت لصالح إبطال قرار الحكومة السلوفينية وإعادة الجنسية إليهم.
8- القضية تتعلق بجملة مدخرات وودائع مالية لمؤسسات وشركات حكومية بوسنية وكرواتية كانت مودعة في حسابات بنك ليوبليانا قبل اندلاع الحرب عام 1991 ولم يستردها أصحابها، وادَّعت حكومات سلوفينيا المتعاقِبة ضياعها خلال فترة الحرب لاسيما أن البنك تعرَّض للنهب والسلب، غير أن هذا الملف تمت تسويته لاحقًا بقرار قضائي صادر عن محكمة النزاعات الأوروبية ضد سلوفينيا.