إن قيام "الشراكة عبر المحيط الهادئ" (TPP) بدون عضوية الصين يؤكِّد على عدم استقرار العلاقات الصينية الأميركية، وهو بهذا لا يشكل تحديًا كبيرًا لاقتصاد الصين وسياستها فحسب، بل يفتح الباب واسعًا أمام إصلاحات اجتماعية وسياسية لطالما دعت الحاجة إليها في الصين. إن هذا التطور هو بمثابة اختبار للصين، ويتطلب منها أن تستجمع كل حنكتها وشجاعتها لتقرِّر كيفية التعامل معه؛ لأن الموقف الصيني من هذه الشراكة سيعطي للعالم تصورًا عن نوايا بكين وعن المصير الذي تسعى إليه كقوة صاعدة، كما سيحدِّد مصير سياسات كان الغرب قد اعتمدها منذ عقود طويلة بهدف احتواء الصين.
الشراكة عبر المحيط الهادئ قادمة
اُختُتِمَت أعمال "الشراكة عبر المحيط الهادئ" متعددة الأطراف في 5 أكتوبر/تشرين الأول 2015 في مدينة أتلانتا الأميركية، بعد سنوات من مفاوضات صعبة كانت في أغلبها سرية. وإذا افترضنا موافقة الحكومات الأعضاء ومصادقتها على هذه الاتفاقية، فإنها ستمثِّل تجمعًا ضخمًا للاقتصاد العالمي، وهي كفيلة بإعادة تشكيل مشهد الاقتصاد السياسي الدولي وسياسات العالم لسنوات وعقود قادمة(1).
تُعَدُّ هذه الشراكة، بناءً على ما تم الإفصاح عنه، أكثر من مجرد منطقة للتجارة الحرة. فهي ليست على غرار الاتحاد الأوروبي بالضبط، لكنها تبشِّر بقواعد جديدة على صعيد تجويد الحوكمة والتكامل الاقتصادي والتنسيق بين شعوب الدول الأعضاء ومزامنة السياسات الاجتماعية فيها. وكخطوة رئيسية لإصلاح وتطوير الأنظمة الدولية لفترة ما بعد الحرب الباردة، ستعمل الشراكة عبر المحيط الهادئ على تقديم وإنشاء العديد من المعايير والآليات الجديدة؛ لتعزيز وتنظيم الأنشطة الاقتصادية العابرة للحدود بمقاييس أعلى وأشمل وأكثر حزمًا تجاه الالتزام بها، من تلك المعتمدة لدى منظمة التجارة العالمية(2).
ويضم هذا الصرح الطموح والمؤسسي بقيادة الولايات المتحدة 12 دولة من الدول المطلة على المحيط الهادئ، من بينها أكبر وأنشط الاقتصادات في العالم أمثال: أستراليا وبروناي وكندا وشيلي واليابان وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا وبيرو وسنغافورة والولايات المتحدة وفيتنام. وتغطي الشراكة ما يقارب 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و44% من إجمالي صادرات بضائع الولايات المتحدة(3). وبهذا فقد بُنيت الشراكة لتتوسع جغرافيًّا ومن حيث السياسات المعتمدة، ولتكون منبرًا أكثر شمولًا وتأثيرًا لاسيما على صعيد الحضور الدولي. ومع الأخذ بعين الاعتبار "الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار" (TTIP) التي يجري التفاوض حولها بين الولايات المتحدة وبين الاتحاد الأوروبي، بالتزامن تقريبًا وبتحفيز من شراكة المحيط الهادئ، فإن هذه الأخيرة تؤشِّر لقدوم نظام اقتصادي عالمي جديد. والشراكتان عمومًا تبشران بتجارة أكثر تحررًا وبنمو اقتصادي، فضلًا عن تعزيز التكامل والإصلاح السياسي المستمر بين الدول الأعضاء، وبالتالي إعادة صياغة وتعزيز القيادة الاقتصادية والمالية للغرب بزعامة الولايات المتحدة.
الصين خارج الشراكة
هناك العديد من بلدان المحيط الهادئ مثل روسيا وكوريا الشمالية ليست ضمن هذه الشراكة، بينما أصرَّت كوريا الجنوبية على أنها ضمن الشراكة عن طريق معاهدة التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، ثم طلبت في وقت لاحق الانضمام إليها رسميًّا(4). وأعربت دول قليلة أخرى في المنطقة أو من الجوار مثل بنغلاديش وكولومبيا والهند ولاوس والفلبين وتايوان وتايلاند، عن رغبتها أيضًا في الانضمام إلى "الشراكة عبر المحيط الهادئ".
اللافت في الأمر والأكثر إثارة للاهتمام أن هذه الشراكة لا تشمل الصين، وهي عضو أصيل في شعوب المحيط الهادئ وأكبر دولة مصدرة في العالم. وخلافًا لما يُشاع، ليس ثمةَ ما يشير إلى أن الصين ستكون جزءًا من "الشراكة عبر المحيط الهادئ" في الوقت القريب.
وقد برزت الصين خلال العقود الثلاثة الماضية كمركز قوة لتجارة دولية، وذلك في إطار منظمة التجارة العالمية ومختلف النظم التجارية الثنائية والمتعددة الأطراف بما في ذلك معاهدات التجارة الحرة، وحققت فائضًا تجاريًّا غير مسبوق. والواقع أن الصادرات المربحة موَّلت إلى حد كبير النمو الاقتصادي الصيني المدهش، لتصبح الصين حاليًا ثاني أكبر اقتصاد في العالم، أو بالفعل أكبر اقتصاد في العالم حسب مقياس (تكافؤ القوة الشرائية)(5).
هناك أسباب متعددة لعدم إدراج الصين في الشراكة عبر المحيط الهادئ(6)، بعضها مردُّه إلى الاختلافات الجغرافية-السياسية والأيديولوجية طويلة الأمد بين بكين وواشنطن، حيث يُنظر إلى إخراج الصين من هذه الشراكة على أنها جهود أميركية جديدة للحد أو حتى احتواء القوة الصينية المتنامية، وهو هدف سياسي تتقاسمه بشكل علني أو ضمني العديد من الدول الأعضاء في الشراكة(7).
وبعضها الآخر يرجع إلى غضب الأميركيين ونفاذ صبرهم حيال خرق بكين المتكرر لنظم التجارة وفق "منظمة التجارة العالمية"، من خلال إغلاقها أحادي الجانب للسوق المحلية وخاصة القطاع المالي والفضاء الإلكتروني، إضافة إلى القرصنة الواسعة النطاق لحقوق الملكية الفكرية، فضلًا عن الممارسات التجارية مثل إغراق السوق بالبضائع بالاعتماد على انتهاك حقوق العمال، وعدم الاكتراث للمعايير البيئية(8).
ويبدو أن الصين راضية عن وضعها الحالي في التجارة الدولية، وبالتالي ليست متحمِّسة للانضمام إلى "شراكة المحيط الهادئ" تحت قيادة أميركا، بل لديها مخاوف جدية حيال الشراكة عبر المحيط الهادئ، وما تنطوي عليه من معايير عالية لحقوق الملكية الفكرية والبيئية، وهي معايير تعمل على مواءمة التجارة الحرة بسياسات وقيم اجتماعية-سياسية. ويعتبر الحزب الشيوعي الصيني القائم على نظام الحزب الواحد، أن هذا المسار يشكِّل تهديدًا جوهريًّا للبلاد، إذ تقتضي "شراكة المحيط الهادي" إحداث تغييرات كبيرة في النظام القانوني الداخلي في بكين وحتى في النظام السياسي العام؛ لذلك وضعت الصين مسافة بينها وبين تلك الشراكة(9).
التحديات التي تطرحها الشراكة
إن ظهور كل التأثيرات الناجمة عن بقاء الصين خارج الشراكة عبر المحيط الهادئ قد يستغرق بعض الوقت، غير أنه من الواضح أن الصين ستواجه تحديات كبيرة. فمن شأن هذه الشراكة تغيير قواعد لعبة التجارة الدولية "غير السياسية" التي اعتادت الصين على لعبها بشكل جيد ومربح لسنوات عديدة، كما ستسلِّط الضوء على الخلافات وأوجه القصور في الاقتصاد السياسي الصيني بما قد يشعل ويغذِّي "السخط الداخلي، والمقاومة، والاحتجاجات"؛ بسبب "افتقار الصين لحقوق الملكية الفكرية وسيادة القانون، وحماية البيئة، وحقوق العمال". يقول باحث صيني: إن "الصين عملاق اقتصادي يعاني من أمراض القلب"، ولابُدَّ للمعايير والقيم التي تقف وراءها "الشراكة عبر المحيط الهادئ" أن تؤدي إلى تفاقم مشكلات الصين (10).
إن دخول الصين في السوق العالمية بشكل عام وإلى السوق الأميركية على وجه الخصوص قد يتراجع بشكل كبير، ليحل محلها الدول المحظوظة الأعضاء في "الشراكة عبر الهادئ". ومن المرجح أن تتحول تدفقات رأس المال العالمي وسلاسل التصنيع إلى مكان آخر على حساب الصين، فضلًا عن تأثير ذلك السلبي على المكانة الدولية للصين وقوتها. وقد بدا الرئيس الأميركي باراك أوباما شامتًا في بيانه عن برنامج الشراكة عبر المحيط الهادئ، عند قوله: إن الصينيين ليسوا جزءًا من "الشراكة"؛ ليضعوا قواعد التجارة الدولية(11). وفي الحقيقة أن كاتب هذا المقال قد علم من مصدر على صلة مباشرة بالموضوع، أن هذه التوقعات السياسية للنتائج التي ستنجم عن الشراكة قد ساعدت في التغلب على المقاومة الداخلية لها في أماكن مثل الكونغرس الأميركي والمجتمع الياباني. فمن المتوقع أن تضعف موقف الصين التجاري، وأن تجعل اقتصادها الذي تظهر عليه علامات الضعف أبطأ، وأن تقوِّض قوتها الدبلوماسية، ما سيؤثِّر في نهاية المطاف على نظام حكم الحزب الواحد، حكم الحزب الشيوعي الصيني والاستقرار الاجتماعي لجمهورية الصين الشعبية. ولذلك، ربما ليس من المبالغة أن يبدو بعض المحللين الصينيين مذعورين من القواعد التجارية الجديدة، أيْ "حلف الناتو الاقتصادي"، التي وضعها المعارضون الأيديولوجيون لبكين(12).
الفرص مع الشراكة
تعتبر الشراكة عبر المحيط الهادئ حسب تصميمها رافدًا خارجيًّا للإصلاحات السياسية الداخلية المهمة للدول الأعضاء، وقد تشكِّل فرصة عظيمة للصين إن التحقت بعضويتها، لتباشر بعض الإصلاحات الداخلية الصعبة التي يصعب إطلاقها في غير هذه الوضعية، ومنها الابتعاد عن نموذجها للنمو الاقتصادي المحتكر من الدولة، والذي يحركه الاستثمار المدعوم بشكل مفرط والموجه للتصدير، كما يمكن أن تساعد الصين على إصلاح نظامها القانوني لاسيما تحسين قدرتها على حماية حقوق الملكية الفكرية، وحماية حقوق العمال والبيئة. كما ستدفع عضوية "الشراكة عبر المحيط الهادئ" ببكين نحو التحديث المنشود لاقتصادها ليصبح أكثر تركيزًا، وابتكارًا، وإنصافًا. أمَّا أهم التحديات المترتبة على ذلك فهي تحقيق الإصلاحات والاستمرار فيها، على الرغم من أنها ستكون مؤلمة ولكن ضرورية؛ لأن من شأنها تعزيز مكانة الصين ومستقبلها الاقتصادي على المدى الطويل، لاسيما في حال الالتزام التام بهذه الشراكة.
ولكن يبدو بشكل واضح حتى الآن، أن الحزب الشيوعي الصيني الحاكم يضع مصالحه السياسية فوق الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية للصين، ويرفض إصلاح نظامه السياسي، كما أقدمت بكين بالفعل، تحسبًا لبرنامج الشراكة عبر المحيط الهادي، على خطوات من أجل التكيف ومواجهة الشراكة، من ذلك أنها سعت إلى توقيع العديد من اتفاقيات التجارة الحرة -يقال إنها لا تزال بمستوى متواضع- مع العديد من الدول بما في ذلك دول جنوب شرق آسيا، وكوريا الجنوبية وتشيلي وأستراليا، وتسعى للدخول في شراكة مع روسيا وغيرها من الجمهوريات السوفيتية السابقة. وتنفق الصين أو تلتزم بإنفاق أموال ضخمة لمنظمات اقتصادية ومالية دولية منافسة بديلة ومكملة، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، وبنك مجموعة بريكس (BRICKS)، والمشروع الطموح الواسع والضبابي، المعروف باسم "حزام واحد طريق واحد" الذي يهدف إلى تصدير الطاقة الإنتاجية الصينية إلى المناطق المجاورة. مع العلم أنه على إثر الهزة التي أحدثتها الشراكة عبر المحيط الهادئ، روَّج البعض في بكين لكتلة تجارية بقيادة الصين لمنافسة النظام الاقتصادي الجديد الذى تقوده الولايات المتحدة، والذي يشمل الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار والشراكة عبر المحيط الهادئ (13).
كل تلك الإجراءات والمقترحات الصينية، بقدر ما هي مؤثرة وطموحة في بعضها، لا تزال غير قادرة على مواجهة التحدي الرئيسي الذي تطرحه الشراكة عبر المحيط الأطلسي على الصين، ألا وهو احتمال الحد من وصول بكين إلى السوق الأميركية، وانتقال سلاسل الإنتاج العالمي إلى مواضع أخرى بعيدًا عنها.
إن توزيع الأموال هنا وهناك بشكل مكلف ربما يخلق أو لا يخلق سوقًا جديدة كافية بالنسبة للصين، لكنه سيخلق فقاعات مالية ومشاكل لجمهورية الصين الشعبية بما يؤدي إلى تفاقم محنتها من "الشراكة عبر المحيط الهادئ". ما صدر عن الصين من ردود تنافسية وعنيفة(14) قد يعزِّز في الواقع من تصاعد الشكوك حول نوايا القوة الصينية الصاعدة ووجهتها الحقيقية، ما يغذِّي الجهود التي تسير ببطء في عدد من أنحاء العالم نحو اتخاذ المزيد من الإجراءات حذرًا من بكين، أو بالأحرى العمل على احتوائها.
خاتمة
إن ثمة نقاشًا محتدمًا وجدلًا مفتوحًا يجري حاليًا على غير العادة داخل الصين حول السبب الكامن وراء عدم مشاركة الصين في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وما إذا كانت هذه الشراكة فرصة للصين أكثر من كونها تحديًا لحكومة الحزب الشيوعي، ثم ما الذي يمكن فعله بعد إنشاء الشراكة (15). أشار بعضهم علنًا إلى أن العلاقة بين الصين وبين الشراكة عبر المحيط الهادئ هي علاقة تنافس تاريخي، أي "لعبة استراتيجية عالمية جديدة بين الصين والولايات المتحدة"(16). ويبدو أن القادة الصينيين فوجئوا -إلى حد ما- بالتقدم الذي أحرزته الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهم مترددون بين اعتماد ما يرونه منطقيًّا أو الاستجابة لمطالب الآخرين، ولم يعلنوا بعدُ عن رد فعل صينيًّا شامل تجاه هذه الشراكة ما سوى التقليل من أهميتها(17).
مجمل القول: إن ما قد تقرره بكين إزاء الشراكة عبر المحيط الهادئ -سواء بالسعي للانضمام إليها، أو بإعلان الحرب عليها، كما فعلت بشكل فعال للغاية مع منظمة التجارة العالمية- سيكون اختبارًا حقيقيًّا لطبيعة ونوايا ومستقبل الصين، كدولة واثقة ونشطة. ويقول بعض العلماء الصينيين: إن العمل مع "الشراكة" وحتى الانضمام إلى برنامجها المتعلق بالإصلاحات الاجتماعية والسياسية الداخلية، مثل فتح الفضاء الإلكتروني الصيني، ستكون مفيدة لبكين، بينما التحركات المناهضة للشراكة من شأنها إلحاق الضرر الجسيم بالصين، على الرغم من أن قادة الحزب الشيوعي قد يشعرون بعكس ذلك(18).
إن الجهود الأميركية والغربية الممتدة لعقود طويلة بُغية "دمج الصين" قد أحدثت تغييرًا كبيرًا في الصين والعالم(19)، وإن مآل العلاقة بين الصين والشراكة عبر المحيط الهادئ تشكِّل تطورًا مصيريًّا، فهي ستكشف عما إذا كانت بكين ستنأى بنفسها عن الشراكة وترفض الانضمام إلى العالم، أو ما إذا كان الغرب هو الذي سينبذ سياسة إدماج الصين، أو ربما سيكون كليهما. هذا، ويبدو جليًّا أن صعود الصين وتحقيق السلام والازدهار في منطقة المحيط الهادئ والعالم، كل ذلك يترنح على كفتي الميزان.
________________________________________