وتتناول الورقة الأسباب التي قد تشكِّل عوامل ضغط على السلطة لامتصاص غضب الشباب وتخفيف حدَّة الاحتقان معهم، كما تتناول في المقابل العوائق التي قد تحول دون قيام حوار جادٍّ وحقيقي يُنهي أزمة الثقة العميقة بين الدولة المصرية وشبابها.
وتخلص الورقة إلى أن هناك العديد من الإجراءات التي يتوجب على النظام اتخاذها لتخفيف الاحتقان وإيجاد حل للأزمة، وفي مقدمتها إطلاق سراح المعتقلين والسجناء من الشباب، وكبح يد الأجهزة الأمنية وإطلاق الحريات السياسية، وفتح المجال العام أمام الشباب للمشاركة الفعَّالة في بناء مستقبل بلده، وكلها إجراءات يبدو من الصعب على السلطة، حتى الآن على الأقل، أن تُقدِم عليها؛ الأمر الذي يجعل الأزمة مع الشباب قائمة ومرشحة للتصاعد، طالما بقيت الحلول غائبة أو مغيَّبة.
مقدمة
أعادت تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مؤخرًا عن ضرورة الحوار مع شباب الألتراس (مجموعات مشجعي كرة القدم)، واعترافه بإخفاق الدولة في استيعابهم وفتح قنوات للتواصل معهم، تسليط الضوء مجددًا على روابط الألتراس في مصر ودورها، الذي تنامى بشكل لافت في السنوات الأخيرة لاسيما عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وانتقاله من الرياضة إلى ميادين السياسة.
تصريحات السيسي الأخيرة جاءت عقب مظاهرة غاضبة نظَّمها الآلاف من مشجعي النادي الأهلي في قلب القاهرة، إحياء للذكرى الرابعة لأحداث بورسعيد الدامية، التي وقعت في فبراير/شباط 2012، وراح ضحيتها نحو 74 قتيلًا ومئات المصابين، خلال مباراة لكرة القدم بين الأهلي والمصري. وقد ردَّد الشباب خلال هذه المظاهرة هتافات غاضبة تتهم السلطة بالتواطؤ في التستر على الجناة الحقيقيين في هذه الأحداث، لكن الملمح الأبرز في هذه الهتافات، والذي ربما يفسِّر خروج السيسي بدعوته إلى الحوار، أنها كانت موجَّهة بشكل خاص ضد الجيش والشرطة، ومنها شعار "الشعب يريد إعدام المشير" في إشارة إلى المشير طنطاوي وزير الدفاع السابق ورئيس المجلس العسكري، الذي كان يدير شؤون البلاد وقت وقوع الأحداث. ولعل هذا ما دفع السيسي لطرح مبادرة بتشكيل وفد من شباب الألتراس للجلوس مع السلطة والاطِّلاع على سير التحقيقات التي جرت في هذه القضية "حتى يطمئنُّوا إلى أن الدولة لا تتستر على أحد ولا تتهاون في دماء الشباب الذين سقطوا خلال هذه الأحداث(1).
وقد أثارت هذه الدعوة حالة من الجدل، فبينما استقبلها شباب ألتراس أهلاوي (مشجعي النادي الأهلي) بترحيب حَذِر ومشروط عَكَسَ عُمق الأزمة بينهم وبين السلطة، تباينت ردود الفعل عليها حتى داخل معسكر السيسي نفسه، ما بين مرحِّب باعتبارها خطوة في الطريق الصحيح لفتح قنوات مع الشباب واستعادتهم لحضن الدولة، وبين رافض ومنتقد لها بوصفها دليلًا على ضعف النظام وخضوعه لابتزاز هؤلاء الشباب.
دعوة السيسي بقدر ما حملت من اعتراف صريح بفشل الدولة وأجهزتها في احتواء أزمتها المتصاعدة مع الشباب، فإنها عكست قلقًا متزايدًا لدى النظام من خطورة اتساع رقعة الغضب والإحباط في صفوفهم، لاسيما في ظل تزايد عزلة النظام شعبيًّا، ومع تفاقم الأوضاع المعيشية والاقتصادية، واحتمالات لجوء الحكومة لمزيد من الاجراءات المؤلمة مثل رفع الدعم عن مزيد من السلع والخدمات وما سيترتب على ذلك من أعباء معيشية إضافية على المواطنين.
لكن السؤال هنا هو: إلى أي حدٍّ يمكن التعامل بجدية مع دعوة السيسي للحوار مع شباب الألتراس، لاسيما أنها تتناقض بشكل واضح مع موقف بعض الأجهزة داخل السلطة، خصوصًا الأمنية منها، التي لا تزال تنظر لشباب الألتراس باعتبارهم مثيري شغب وخارجين على القانون؟ والسؤال الأهم هو ما إذا كان ممكنًا التعامل مع قضية شباب الألتراس بمعزل عن أزمة السلطة مع الشباب عمومًا، لاسيما في ضوء السياق السياسي الحالي، ومع سعي السلطة لخنق المجال العام، والتراجع الفادح في سقف الحريات، وتقدم الحلول الأمنية بينما ينحسر الفعل السياسي إلى حدِّه الأدنى؟
ظهور الألتراس في مصر
كلمة ألتراس ((ultras كلمة لاتينية الأصل وتعني حسب تعريف الموسوعة الحرة -ويكبيديا- "الشيء الفائق أو الزائد عن الحد"، وتُطلق هذه الكلمة على مجموعات من مشجعي الأندية الرياضية معروفة بولائها وحبها الشديد الذي يصل لحدِّ التطرف في تشجيع فرقها، كما أنها تتميز بالتنظيم الشديد(2). وتختلف الروايات حول بداية ظهور هذه المجموعات، فالبعض يقول: إنها ظهرت في أميركا الجنوبية وتحديدًا في البرازيل عام 1940 قبل أن تنتقل إلى أوروبا، بينما يرى آخرون أن أول ظهور لها كان في إيطاليا. وقد شهدت هذه الظاهرة انتشارًا ملحوظًا في الدول العربية خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا دول شمال إفريقيا ومصر.
- أنها مجموعات منظمة للغاية ويصعب السيطرة عليها؛ إذ تبدو مستعدة للدفاع عن حريتها في الاستمتاع باللعبة وتشجيع فرقها لحد المواجهة، وهو ما يفسر صدامها المبكر مع أجهزة الأمن منذ ظهورها.
- الولاء المطلق وغير المشروط للفريق الذي تشجعه بغضِّ النظر عن نتائج أو أداء هذا الفريق.
- على عكس روابط المشجعين التقليدية تتميز مجموعات الألتراس بالاستقلال المالي؛ إذ إنها لا ترتبط ماليًا مع الأندية ولا تتلقى تمويلًا منها، بل تعتمد، كما يقول المدوِّن محمد جمال بشير، صاحب كتاب "الألتراس: حينما تتعدى الجماهير الطبيعة"، على تبرعات ومساهمات أعضائها، وهو ما يجعل من الصعب التأثير عليها أو احتواءها سواء من جانب إدارات الأندية أو من الأجهزة الأمنية(3).
- التكوين العمري لمجموعات الألتراس، فرغم تعدد أسماء هذه الروابط وانتماءاتها الرياضية إلا أنها جميعًا تتكون من شباب صغير السن ما بين 15 و25 عامًا، وذلك على عكس جمهور المشجعين التقليدي الذي يتسع ليضم فئات عمرية أكبر. وتتميز عن غيرها بعدم التوقف عن التشجيع طوال المباراة مهما كانت النتيجة، وحضور جميع المباريات الداخلية وحتى الخارجية لفرقهم(4).
السياق السياسي
لا يمكن فهم دوافع وأسباب بروز ظاهرة الألتراس في مصر من دون التوقف عند الظرف السياسي والاجتماعي الذي نشأت خلاله، فقد ظهرت هذه المجموعات أواخر عهد مبارك، وهي فترة شهدت تراجعًا وضعفًا فادحًا في الحياة السياسية، وحالة الجمود التي كرَّسها النظام من خلال سيطرته على المجال العام، وتعمُّد إضعاف وتهميش القوى والأطر السياسية التقليدية كالأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني التي كان يمكن أن تستوعب طاقات الشباب. وقد خلَّف هذا الفراغ السياسي الكبير قطاعات واسعة من الجماعات والشباب خارج الأطر السياسية؛ ما دفعهم للبحث في تكوين كياناتهم الخاصة، ومن هنا كان ظهور مجموعات الألتراس في مصر(5).
رغم أن نشاط الألتراس اقتصر في البداية على التشجيع الرياضي، فإن ظهور هذه المجموعات كان موضع توجس من الأجهزة الأمنية التي اعتبرتها تهديدًا أمنيًّا ومصدرًا للعنف، لاسيما في ظل قدرتها على التنظيم والحشد. وقد تصاعدت هذه الهواجس مع رفع شعارات سياسية تضامنًا مع قطاع غزة أثناء العدوان الإسرائيلي عام 2008-2009؛ ما أدَّى لتحول موضوع الألتراس من ملف أمني إلى ملف أمني-سياسي.
وبين أجهزة أمنية تسعى لفرض هيبة الدولة عبر القبضة الأمنية، وجماعات شبابية ترى في فوضويتها مصدر قوتها وإلهامها، كان لابد أن يقع الصدام بين الطرفين مبكرًا. وقد لعب الإعلام الرياضي دورًا سلبيًّا بتعميق حالة التوتر والاحتقان المتبادل بين هؤلاء الشباب والسُّلطة؛ حيث اتخذت وسائل الإعلام الرياضية منذ البداية موقفًا معاديًا للألتراس وتعاملت معهم باعتبارهم مجموعة من الفوضويين ومثيري الشغب.
الألتراس وثورة يناير: من الرياضة إلى السياسة
رغم الصدام المستمر بين مجموعات الألتراس وقوات الأمن في عهد مبارك، إلا أن ذلك لم يأخذ أبعادًا سياسية ذات أهمية، وظلَّ الأمر منحصرًا في حيز الملاعب والساحة الرياضية، لكن ثورة 25 يناير/كانون الثاني كانت نقطة التحول الأساسية في انتقال شباب الألتراس من فاعل رياضي لفاعل سياسي أيضًا؛ فقد أتاحت الثورة الفرصة لبروزهم كقوة شبابية واحتجاجية مؤثِّرة في الشارع، وتزايَدَ دور هذه الروابط بحيث صار حاضرًا في المشكلات الاجتماعية والسياسية التي تعيشها البلاد، ولم يعد اهتمامه أو نشاطه مقتصرًا على تشجيع الفرق الرياضية فحسب(6).
لم تشارك مجموعات الألتراس في أحداث الثورة بصورة جماعية بل بشكل فردي، بعد أن تركت كل رابطة قرار المشاركة لأفرادها، لكن هؤلاء الشباب لعبوا دورًا مهمًّا في أحداث الثورة خصوصًا في يوم 28 يناير/كانون الثاني أو ما عُرِف بـ"جمعة الغضب" حين نزلت حشود ضخمة منهم للشوارع بعد أن وجدت في شعارات الحرية والكرامة ما يحقق مطالبها. إذ لا يمكن النظر لمشاركة هؤلاء الشباب في ثورة يناير/كانون الثاني بعيدًا عن علاقة الكراهية وربما الثأرية التي ترسخت بينهم وبين قوات الأمن بسبب الصدامات المستمرة. وقد استخدم شباب الألتراس خبراتهم السابقة في التعامل مع قوات الشرطة، للدفاع عن ميدان التحرير والتصدي لمحاولات مجموعات البلطجية اقتحام الميدان أثناء أحداث ما عُرِف بـ"موقعة الجمل". وفي المقابل، أسهمت الثورة في تقديمهم كشباب وطني متحمس يملك وعيًا سياسيًّا عاليًا، وهي صورة مغايرة لتلك التي اعتاد الإعلام أن يقدمهم بها في عهد مبارك.
هل يشكِّل شباب الألتراس قوة سياسية؟
- الأول: أنهم لم يشاركوا في ثورة يناير/كانون الثاني لأسباب سياسية أو أيديولوجية بقدر ما جاءت مشاركتهم بدافع الثأر والكراهية للشرطة وانتصارًا لحريتهم.
- والثاني: أن نزول بعض شباب الألتراس للساحة السياسية لم يمنع هذه الروابط من التأكيد المستمر على طابعها الرياضي، ورفض استغلالها سياسيًّا من قِبل أي حزب أو جماعة.
من هنا، يذهب كثيرون إلى القول بأن جماعات الألتراس بحكم تكوينها لا يمكن أن تتحول لقوة سياسية فاعلة تسهم في إعادة رسم العلاقة بين الدولة والشارع، لكنها كجماعات منظمة وقادرة على الحشد يمكن أن تكون مفيدة لقوى سياسية موجودة بالفعل أو قوى جديدة تستطيع استيعاب والتعبير عن المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشارع(7).
تاريخ من الصدام والدم
اتسمت العلاقة ببين السلطة وروابط الألتراس منذ نشأتها بالتوتر والصدام الدائميْن، كما أشرنا؛ ففي عهد مبارك وقع العديد من المصادمات، لكن حدَّة الصدام والعنف تصاعدت بشكل لافت عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني، ولاسيما خلال فترة حكم المجلس العسكري التي شهدت أكثر محطات الصدام عنفًا بين الجانبين، وبشكل خاص عقب الأحداث الدامية التي وقعت في استاد بورسعيد؛ فقد أشعلت هذه الأحداث حدَّة العنف بين الأمن وشباب ألتراس أهلاوي الذين نظَّموا على مدى عام كامل العديد من الوقفات والمظاهرات للمطالبة بالقصاص ممن تسبَّبوا في هذه المذبحة. وشهدت هذه المظاهرات صدامات وأعمال عنف سقط فيها العشرات من المصابين والجرحى، وجرى خلالها محاصرة بعض مديريات الأمن وحتى منزل وزير الداخلية نفسه. كما قاموا بإحراق نادي الشرطة ومقر اتحاد الكرة بالقاهرة وذلك احتجاجًا على الأحكام التي صدرت بحق المتهمين في قضية أحداث بورسعيد. وقد استمرت الصدامات بعد الإطاحة بحكم الرئيس السابق محمد مرسي، في 3 يوليو/تموز 2013، حيث وقعت اشتباكات عنيفة بين ألتراس أهلاوي ورجال الأمن، في فبراير/شباط 2014، عقب مباراة الأهلي والصفاقسي التونسي بإستاد القاهرة.
لم يختلف الموقف كثيرًا مع رابطة مشجعي الزمالك (white knights)، التي تم القبض على عدد من أعضائها وصدرت بحقهم أحكام بالسجن بعد اتهامهم بأعمال شغب في استاد القاهرة، في مارس/آذار عام 2014. وازداد الوضع تأزمًا عقب سقوط أكثر من عشرين قتيلًا والعديد من المصابين من مشجعي الزمالك فيما عُرِف بأحداث استاد الدفاع الجوي، نتيجة اعتداء الشرطة عليهم أثناء دخولهم الاستاد لتشجيع فريقهم خلال مباراته مع فريق إنبي.
وإزاء تصاعد هذه الصدامات أقام عدد من المحامين المحسوبين على السُّلطة دعاوى قضائية تطالب بحظر روابط الألتراس، لتُصدر محكمة الأمور المستعجلة حكمًا، في 16 مايو/أيار 2015، بحظر أنشطة هذه الروابط على مستوى الجمهورية واعتبارها جماعات إرهابية(8).
محاولات الاحتواء من مبارك إلى السيسي
- الأول: استغلال هذا الحماس لكرة القدم واستخدام هذه الرياضة الشعبية والمعارك المرتبطة بها لاستهلاك طاقة الشباب وإبعادهم عن المجال العام. وقد نجح النظام لحدٍّ بعيد في صناعة أجندة إعلامية تتمحور حول المعارك الرياضية سواء بين الفرق المتنافسة في الداخل أو بين المنتخب المصري والفرق الأخرى، ولعل أزمة مباراة مصر والجزائر في تصفيات كأس العالم بالخرطوم، عام 2009، مثال واضح على ذلك.
- الثاني: محاولة استغلال قدرات روابط الألتراس على الحشد والتنظيم، سواء بضمِّ هؤلاء الشباب لصفوف الحزب الوطني، أو إقناعهم بدعم مرشحي الحزب في الانتخابات، وهو ما لم ينجح فيه النظام بسبب رفضهم للانخراط في النشاط السياسي، خصوصًا أن علاقتهم مع السلطة كانت متوترة بسبب ممارسات القمع الأمني ضدهم، التي وصلت لذروتها في عهد وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي.
بعد ثورة يناير/كانون الثاني، سعى بعض السياسيين لاستغلال روابط الألتراس لصالحهم خلال الانتخابات الرئاسية التي أعقبت الثورة، لكن أيًّا من هذه الروابط لم يدعم مرشحًا بعينه، وترك القرار لكل عضو من أعضائها لانتخاب من يريد. ومع وصول جماعة الإخوان المسلمين للسلطة وفوز الرئيس محمد مرسي في الانتخابات حاول حزب الحرية والعدالة، الجناح السياسي للجماعة، استثمار هذه الظاهرة من خلال إنشاء أول ألتراس سياسي من شباب الإخوان لدعم الرئيس مرسي، واستعان بخبرة بعض أعضاء ألتراس كرة القدم لتدريب هؤلاء الشباب على حركات وفعاليات الألتراس. وبعد إطاحة الجيش بالرئيس مرسي عقب مظاهرات 30 يونيو/حزيران المناهضة له، ظهرت مجموعات شبابية مناهضة للانقلاب ومؤيدة لمرسي، فيما عُرف بـ"ألتراس ربعاوي" (نسبة لاعتصام أنصار الإخوان المسلمين في رابعة العدوية) و"ألتراس نهضاوي" (نسبة لاعتصام النهضة). لكن تأثير هذه المجموعات ظلَّ محدودًا ولم تستطع جذب العديد من شباب الألتراس الذين فضَّلوا البقاء بعيدًا عن المشهد السياسي.
نظام السيسي والشباب
لا يمكن التعامل مع أزمة الألتراس بمعزل عن أزمة السلطة الحالية مع الشباب عمومًا، وهي أزمة أعمق وأكثر تعقيدًا من أن تُحل بتصريح للرئيس أو بدعوة لحوار مع بعض الشباب. فهذه الأزمة المرشحة للتصاعد، في ظل غياب أي حلول حقيقية لها، ترتبط بشكل أساسي بطريقة ورؤية النظام ومعالجاته للأزمة، وتوجهاته المنحازة للحلول الأمنية مع مختلف الملفات، كما أنها تتصل بشكل وثيق بالتوجه السلطوي لهذا النظام، الذي يسعى لتأميم الحياة السياسية وإسكات أي صوت معارض، والعمل على تفكيك وحظر أي تنظيم أو تجمع شبابي تراه السلطة خطرًا عليها؛ فقد أدركت سلطة ما بعد 3 يوليو/تموز خطورة عودة القوى الثورية الشبابية للشارع مجددًا، ومن ثَمَّ اتخذت نهجًا أمنيًّا منذ البداية لإجهاض أي فعاليات أو مظاهرات شبابية، فأصدرت قانون التظاهر الذي يشدِّد العقوبات على المتظاهرين والمحتجين الذين يتظاهرون دون موافقة الأمن، كما شنَّت حملة اعتقالات واسعة في صفوف الشباب والنشطاء. وبالتزامن مع ذلك قامت الأجهزة الأمنية بتسريب تسجيلات لعدد من النشطاء من رموز 25 يناير/كانون الثاني من أجل التشهير بهم ومعظمهم من القيادات التي رفضت الخضوع للدولة البوليسية(9).
ورغم أن أزمة السلطة مع الشباب سابقة على تولِّي السيسي؛ فقد تعمَّقت هذه الأزمة بعد تولِّيه، فلم يعد التضييق الأمني يقتصر على الخصوم السياسيين وخصوصًا الإخوان المسلمين وأنصارهم بل طال مختلف الجماعات والقوى الاحتجاجية، مثل حركة 6 إبريل/نيسان التي صدر قرار بحظرها وتم الزج بعدد من قياداتها في السجون. وفي هذه السياق كان شباب الألتراس موضع استهداف من قِبل الأجهزة الأمنية التي تراهم وقودًا لأي حراك سياسي مناوئ لها في الشارع، وقد عزَّز من هذا التوجه اعتماد السلطة رواية أمنية تتحدث عن اختراق الإخوان المسلمين وأنصارهم لصفوف هذه الروابط.
هل ينجح النظام في تجاوز أزمته مع الشباب؟
تمثِّل تصريحات السيسي الأخيرة بشأن الألتراس، كما أشرنا سالفًا، الاعتراف الأكثر وضوحًا من جانب رأس السلطة بوجود أزمة مع الشباب، كما أنها تشكِّل تراجعًا عن مواقف سابقة نفى فيها وجود أي مشكلة مع الشباب، واتهم من يروِّج لذلك بأنه ينظر لقطاع بسيط من الشباب هم الأعلى تعليمًا والمنخرطون في السياسة، بينما هو (السيسي) يهتم بالشباب بمعناه الأوسع والذي يضم الأغلبية الصامتة غير المتعلمة والمهمشة(10). إلا أن حديثه عن الشباب لم يكن جديدًا، فقد سبق وأن خرج بتصريحات مشابهة عقب الحكم ببراءة مبارك في قضية قتل المتظاهرين في ثورة يناير/كانون الثاني، ليدعو للجلوس مع الشباب لمناقشة دورهم في المستقبل، في محاولة منه لامتصاص حالة الغضب والإحباط التي خلَّفها هذا الحكم. وفي بداية العام الحالي أعلن السيسي أن 2016 هو عام الشباب المصري، إلا أنه بينما كان يعلن ذلك، كانت قوات الأمن تعتقل المئات من الشباب، وتداهم وتغلق عددًا من المقاهي الثقافية التي تشكِّل ساحة لتجمعاتهم وسط القاهرة، وذلك قُبيل ذكرى ثورة يناير/كانون الثاني. وقد عمَّقت هذه الممارسات الشكوك القائمة في أوساط الشباب، بمن فيهم الذين شاركوا في مظاهرات 30 يونيو/حزيران، في وجود إرادة حقيقية لدى السلطة لحل الأزمة، ورسَّخت لديهم قناعة بأن النظام غير جاد في فتح المجال أمامهم، وأن الهدف فقط هو امتصاص الغضب وتخفيف الضغوط عن كاهل النظام في لحظات ضعفه(11).
ولعل ذلك ما يعزِّز وجهة النظر التي ذهبت إلى أن تصريحات السيسي الأخيرة عن الألتراس، عكست انزعاجًا أكثر مما أظهرت رغبة المصالحة مع الشباب، فهذه المظاهرة التي شارك فيها الآلاف، جاءت رغم الإجراءات الأمنية والقمع غير المسبوق الذي مارسته السلطة قبل ذكرى 25 يناير/كانون الثاني، بهدف التأكيد على أن الشارع بات مغلقًا، ومن ثَمَّ بدت هذه المظاهرة كإنذار قوي للنظام بأن مساعيه لإسكات أي صوت احتجاجي عبر القبضة الأمنية لن تفلح.
في مقابل هذه الرؤية فإن ثمة أسبابًا موضوعية ضاغطة قد تدفع السلطة للتهدئة مع الشباب، إذ إن لديها ما يكفي من المتاعب والأزمات الاقتصادية والأمنية والسياسية، كما أن النظام بطبيعته الأمنية يبدو قلقًا من أي تجمعات أو تحركات جماعية كبيرة، وخصوصًا إن كانت من الشباب، وفي هذا الإطار فإنه يتعامل مع الألتراس كقوة منظمة، باعتبارهم تحديًا أمنيًّا وسياسيًّا للسُّلطة، وهو ما قد يدفعها لاتخاذ بعض الإجراءات لتخفيف الاحتقان معهم. ويدعم هذا الاحتمال أن بعض الدوائر داخل النظام أو القريبة منه لم تعد تُخفي قلقها من خطورة تصاعد الغضب والإحباط في أوساط الشباب نتيجة التضييق الأمني وفي ظل أوضاع معيشية بالغة الصعوبة، وارتفاع كبير في نسبة البطالة بين الشباب الذي يشكِّل أكثر من نصف السكان؛ إذ تقدِّر مصادر غير رسمية نسبة البطالة في صفوف الشباب بنحو 25 في المئة بينما تقول المصادر الرسمية: إن النسبة في حدود 13 في المئة(12).
- النظرة الأبوية الوصائية التي تعكسها اللغة المستخدمة في الخطاب السياسي للنظام من قبيل مفردة "الاحتواء"، كما أن لدى السيسي مفهومًا محددًا للشباب الوطني ينصرف فقط لهؤلاء الذين لا ينشغلون بالسياسة ويؤيدون السلطة ويروِّجون لها ولا يتبنون موقفًا معارضًا. وبهذا التعريف تختصر السلطة الشباب في مؤيدي النظام بينما القطاع الأكبر منهم في حالة صدام مع السلطة أو في حالة رفض لممارساتها.
- لا يبدو النظام حتى الآن مؤمنًا بأهمية العمل السياسي وإنعاش الحياة السياسية، بل إن الممارسات والحلول الأمنية تظهر رغبة في تهميش السياسة لصالح الأمن، ولعل هذا ما يفسر التناقض الواضح بين دعوة السيسي للحوار مع الشباب وموقف أجهزة الأمن منهم.
- أزمة ثقة عميقة بين الشباب والسلطة تراكمت على مدى سنوات طويلة، وهي أزمة تستوجب لجسرها جملة من الإجراءات، على رأسها إطلاق سراح المعتقلين، وغَلُّ يد الأجهزة الأمنية عن التدخل في الحياة العامة، وإطلاق الحريات السياسية، وكلها إجراءات يبدو من الصعب على النظام أن يُقدِم عليها حاليًا(13).
- ثمة مزاج عام في الشارع المصري حاليًا معادٍ لأي حديث عن الاحتجاجات وعازف عن السياسة، وهو ما قد يستغله النظام لتأجيل أي إجراءات لتخفيف الاحتقان السياسي بين السلطة والشباب.