يعرف المشهد الجزائري تحولات سياسية وعسكرية، إضافة إلى التأثير الدولي؛ مما يجبر السلطة على السعي التدريجي نحو إنجاز نوع من الانتقال السياسي المحسوب. وما يحفظ للسُّلطة قوتها في إدارة المرحلة الانتقالية التي تريدها عنصران أساسيان، يتمثلان في تماسك الجبهة الاجتماعية حتى اللحظة، وتماسك الجيش وقوته، مع التوقعات المنتظرة بعودة ارتفاع أسعار البترول ولو جزئيًّا واستقرارها، حسب ما صرَّح به شكيب خليل وزير الطاقة السابق العائد مؤخرًا إلى الجزائر.
وتراهن المعارضة على غليان اجتماعي يسرِّع الانتقال الديمقراطي ويمارس نوعًا من الضغط على السلطة من خلال التحركات والتجمعات التي تعقدها. لكن ضَعف المعارضة يبقى في عدم قدرتها على التجنيد الشعبي وترك المساحة المدنية للسُّلطة تشغلها كالتنظيمات النقابية والاتحادات الطلابية، وعدم امتلاكها لقوة إعلامية دعائية. وسوف تبادر السلطة بالانتقال السياسي التدريجي ما دامت تمتلك جبهات أمنية واجتماعية وسياسية متماسكة، وما دامت الإدارة هي الجهاز الأقوى التنفيذي في تطبيق سياسة الدولة.
هل يمكن القول: إن نتائج سياسية واجتماعية وثقافية أفرزها التغيير والثورات في العالم العربي ينتقل بعضها إلى بلدان لم تعش تلك التجربة الانفجارية أو سبق لها أن عانت من تجربة دموية سابقة تتفادى العودة إليها مثل الجزائر.
منذ عام 2011، دعا رئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة إلى تعديل الدستور، وأبدى رغبته في تغيير على مستوى الأجهزة الأمنية، وهو ما أحدث هزَّة في "السُّلطة العميقة" أزاحت ما سماه الإعلام "صانع الرؤساء"، الجنرال مدين توفيق، واعتبر ذلك مفاجأة في نظام ظلَّت الهيمنة الأمنية فيه هي الحاضرة في القرارات السياسية الفاصلة في تاريخ الدولة، وقد اعتبر ذلك بعض السياسيين الرسميين "انتقالًا ديمقراطيًّا" ردًّا على المعارضة التي تدعو أيضًا إلى "الانتقال" وذلك بتأسيس لجنة انتخابات مُستقلة والدعوة إلى استحقاقات رئاسية عاجلة بطريقة سلمية.
وكلما تقدمت السلطة نحو المعارضة في مساع تراها انتقالًا تدريجيًّا مثل التعديل الدستوري وسَنِّ بعض القوانين الجديدة، ترى المعارضة أن "الانتقال الديمقراطي" لا يتم بجرعات أو تغيير لا يمس جوهر السلطة. لكن التخوف -خاصة من جانب السلطة- هو أن يكون للتهديد الاجتماعي دور في التأثير على الاستقرار والانسجام الاجتماعي، ويكون الثمن أكثر كُلفة، وهو ما قد تدفع إليه بعض الحركات المعارضة الراديكالية في المستقبل، وليس بالضرورة ذات تنظيم سياسي قانوني.
"جِدارٌ" للحماية والدفاع عن مشروع الرئيس
ظهر التباين بصورة ثنائية مع نهاية شهر مارس/آذار الأخير بين المعارضة التي لم تستطع استقطاب شخصيات وطنية معارضة كانت تعوِّل عليها مثل أحمد طالب الإبراهيمي، وزير سابق، ومولود حمروش الذي حضر في "مزفران 1"(1). كما لم تستطع حركة "رشاد" المعارضة في الخارج الحضور كتنظيم واكتفت بالحضور أفرادًا. أمَّا أحزاب الموالاة فسَمَّت تجمعها بالقاعة البيضاوية بملعب 5 يوليو/تموز: "الجدار الوطني" في تجمع شعبي استنفر الجمعيات المدنية الأهلية، بحضور بعض الأحزاب الصغيرة التي تقوم بالترحال بين الصفتين، مرَّة مع المعارضة وأخرى مع الموالاة.
وقام بهندسة الجدار وبنائه حزب جبهة التحرير الوطني، وغاب عنه حليفه في السلطة حزب التجمع الوطني الديمقراطي، وحضر بعض مناضليه المناوئين لأمين عام الحزب بالنيابة أحمد أويحي، وهم من يُحضِّرون الآن للإطاحة به في المؤتمر الاستثنائي القادم في شهر مايو/أيار 2016.
يأتي هذا الاستعراض السياسي بين المُوالين والمُعارضين في مناخ أمني يهدد الحدود الشرقية للجزائر بالخصوص في جهة الحدود مع ليبيا التي تعرف نشاطًا لتنظيم الدولة الإسلامية وغيابَ دولةٍ مركزية وانتشار الجماعات العنفية وتجارة السلاح. وهو عامل استنفاري تعبوي للمواطنين قد تستفيد منه تكتيكيًّا جبهة التحرير ومن والاها من الأحزاب والجمعيات والشخصيات الوطنية. كما تَقرَّر رسميًّا توحيد خطبة جمعة 25 مارس/آذار حول "حماية الوطن ووحدته" من طرف وزارة الشؤون الدينية والأوقاف ردًّا على التهديدات الأمنية الحدودية، ومحاولات ضرب المنشآت البترولية، واستتبع ذلك محاولة إعادة تنشيط ولاء الزوايا الصوفية للدولة عبر زيارات رسمية يقوم بها مسؤولون، أو الإشراف على ملتقيات ومؤتمرات تتخذ من موضوعات المرجعية الدينية والتسامح وقيم الحوار مواضع لها، وهو تنشيط أمني-ثقافي من أجل مواجهة التطرف والتشيع والتعصب المذهبي، وقد ظلَّت هذه المؤسسة الدينية المدنية الأهلية مجالًا حيويًّا سياسيًّا منذ مقاومة الأمير عبد القادر الصوفي وشيخ الزاوية للاحتلال الفرنسي في القرن التاسع عشر(2).
وفي مزاوجة بين ذِكْر محَاسن الجيش الوطني والتعبئة الوطنية من أجل تقوية عزيمته ودعم ثباته، يتناول الإعلام مثالب المخابرات بعد زوال الحاجز النفسي، ومن المفارقات الحاصلة أن الذي أثار تجاوزات المخابرات أمام الرأي العام هو زعيم جبهة التحرير الوطني، عمار سعيداني، منذ سنتين، حين اعتبر أن تلك الممارسات قد أفضت إلى ظُلم ذوي القُربى من الفاعلين الرسميين في الإدارة والسياسة. وقد كانت الورقة الأمنية في شقيها: المْدْحِي لمواجهة الإرهاب أو الذَّمِّي للممارسات الباطنية المُشينة في نظر بعض الفاعلين السياسيين، إضافةً في رأسمال السلطة والموالاة في غياب فعالية المعارضة وافتقادها للقدرة على التغلغل الشعبي وهشاشة بعض المُنتمين لها؛ إذ سرعان ما تخلَّى بعضهم عن "خطاب مزفران" وولَّى وجهته نحو الموالاة، أو بقي مترددًا بين هذا وذاك.
التعديلات الدستورية وخلافات الموالاة والمعارضة
سوف ينشط الخلاف أكثر بين مجموعة الموالاة ومشروعها "الجدار الوطني" ومجموعة المعارضة المجتمعة في منطقة "مزفران" في الأشهر القادمة في مناقشة القوانين العضوية والمُنظمة التي ستُقدَّم للبرلمان بغرفتيه، والتي تعتبر نتاج مواد الدستور المعدَّل مؤخرًا، ومنها بالخصوص قانون الجمعيات وحرية المعتقد والشعائر، وقضايا الهوية كالأمازيغية والعربية، ولجنة مراقبة الانتخابات، وإن كان معروفًا بشكل مبكر نتيجة التصويت، لكون الذين صوتوا على الدستور سيُصوِّتون على القوانين العضوية، كما أن الدستور يسمح بصدورها في شكل أمريات رئاسية دون المرور عبر البرلمان، إلا أن ذلك سينعش التجاذبات والنقاش السياسي.
هل يمكن القول: إن نتائج التصويت وصدور الدستور الجديد خطوة في صالح الطرفين، رغم المعارضة الشرسة لجماعة "الانتقال الديمقراطي"؟
صدر رسميًّا التعديل الدستوري، في 7 مارس/آذار 2016(3)، بالجريدة الرسمية بعد مروره على البرلمان بغرفتيه والموافقة عليه في مجلس الوزراء، وكان نتيجة مشاورات عديدة قاطعها بعض الفاعلين السياسيين.
وأعطى الدستور الجديد أهمية للديباجة التي اعتبرها جزءًا من الدستور وروحه في استنباط المواد المعدلة، حيث يبدأ بعبارة "الشعب الجزائري حُرٌّ، ومصمِّم على البقاء حرًّا"، وهو يشمل 218 مادة، منها 74 مادة معدَّلة، كما تمت أحكام الدستور بمواد مكررة(4).
وتمثِّل ديباجة الدستور مدخلًا يتعلق بالهُوية الجزائرية من حيث الانتماء اللغوي والحضاري "الأمازيغي العربي والإسلامي"، لكن النقطة الفاصلة في تاريخه هي ثورة نوفمبر/تشرين الثاني 1954 التحريرية التي قادتها جبهة وجيش التحرير، ولا تغفل الديباجة المأساة الوطنية في التسعينات من القرن الماضي وتعتبر قانون "السلم والمصالحة الوطنية" ثمرة سياسية وطنية وينبغي الحفاظ عليها، والدعوة إلى "جعل الجزائر في منأى عن الفتنة والعنف والتطرف"، كما تم التنصيص في الديباجة على اللغة العربية وترقيتها مع الأمازيغية وأهمية الشباب في التنمية، واعتبار الجيش قوة حماية ودفاع وضرورة عصرنته.
إن "دَسترة الهُوية" تُشكِّل من جهة استجابة لفصيل ديمقراطي معارض ظل يطرح "اللغة الأمازيغية" كمطلب وطني واستراتيجي وبفضله حافظت على الوعاء الانتخابي في منطقة القبائل "زواوة" بالخصوص، وانفتاح حول تنوع "الخصوصية الجزائرية" تاريخيًّا ولغويًّا وعرقيًّا، كاستراتيجية أمنية لتفادي الانزلاقات العنفية التي تقوم على "الهُوية المسلحة" مثل ما حدث لبعض بلدان "الربيع العربي"، ونلحظ الاهتمام الدستوري في ديباجة الدساتير العربية بالهوية ملمحًا عامًّا في السنوات الأخيرة مثل تونس والمغرب ومصر.
ومن بين المواد التي أثارت جدلًا واسعًا المتعلقة بشرط الجنسية الأصلية في الوظائف العليا، وأيضًا التناصف بين المرأة والرجل، ومسألة الأمازيغية. ورغم تثمين البعض للاعتراف بها واعتبارها لغة وطنية رسمية، إلا أن ذلك يبقى معلَّقًا إلى حين من الزمن، مع تأسيس مجلس أعلى لها يكون أعضاؤه من الخبراء. وهذه المادة وبعض مواد الدستور رآها بعض الحقوقيين موادَّ مُقفلة تحتاج إلى الفتح دستوريًّا، لا بقوانين عضوية شارحة مفصلة تنظيمية لاحقة. كما أن مادة "تحديد مدة ولاية الرئيس بعهدتين فقط" تصحيح لما شابها من فتح مطلق سابقًا، ولكن اعتبارها من المواد التي لا يجوز المس بها في أي تعديل مستقبلًا كان محل انتقاد بعض الحقوقيين والسياسيين باعتبارهًا وصاية مُسبقة على الأجيال.
- حمْل إيجابيات للطبقة السياسية ومَنْح صلاحيات للمعارضة.
- تكريس المساواة بين المواطنين والحقوق الفردية والجماعية وحرية التعبير واستقلال العدالة.
- قوة نوعية واستكمال للإصلاحات التي وعد بها رئيس الجمهورية منذ توليه الحكم سنة 1999.
- اعتبر بعضهم أن ذلك معناه الدخول في مرحلة الجمهورية الثانية والتكيف مع متطلبات العصر، والتحولات الجارية في مختلف المجالات وتجسيد الإصلاحات التي تهدف إلى إرساء دولة القانون وتعزيز العدالة والمساواة بين مختلف فئات المجتمع.
خاتمة
1- أولها البرلمان في مناقشة القوانين العُضوية المُنظِّمة لمواد الدستور، خصوصًا ما تعلق منها بالقضايا التالية: لجنة مراقبة الانتخابات، وقضايا الهوية "العربية والأمازيغية"، كما أن قانون الجمعيات الدينية يَطرح مشكل الحريات العقدية في ظل تمسك الدولة بالمرجعية الدينية والمذهبية "المالكية-الأشعرية-الصوفية"، ومواد التناصف بين المرأة والرجل.
2- في مجال الإعلام والتنافس على مشهد التأثير على الجماهير من خلال القنوات التليفزيونية التي هي بحكم القانون ما زالت أجنبية، رغم أن مقراتها بالجزائر، وهم ينتظرون صدور القانون السمعي-البصري للتكيف معه.