شهدت العلاقات المغربية الموريتانية سخونة مؤخرًا تُخفِي تحت وهج نيرانها الكثير من المِلَفَّات العالقة بين البلدين، والتي إلى الآن لم تجد طريقًا سالكة إلى الحل النهائي الذي يغلق باب التوتر؛ فالنزاع حول ملكيَّة مدينة لكْوَيْرة التي آلت إلى موريتانيا ضمن إقليم وادي الذهب وذلك بحكم اتفاقية مدريد 1975 (مقابل سيادة المغرب على منطقة الساقية الحمراء)، ما زال يُلقِي بظلاله على العلاقات الثنائية بين الجمهورية والمملكة، وذلك منذ أن وقَّعت موريتانيا اتفاقية الجزائر للسلام في العام 1979 مع البوليساريو، لتدخل تلك البقعة رسميًّا في سجلِّ عوامل النزاع بين البلدين. ولعلَّ الموقف الموريتاني من مسألة الصحراء الغربية يعدُّ أحد أبرز دوائر العلاقات المعقدة بين المغرب وموريتانيا، الموقف الذي يعتبر شديد الحساسية السياسية بالنسبة للمغرب. هذا فضلًا عن تباين وجهات النظر حول استراتيجية مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل. ثم إن العلاقات الاستراتيجية بين المغرب والسنغال، جارة موريتانيا الجنوبية، كثيرًا ما ألقت بظلالها على تعقيدات العلاقات الموريتانية السنغالية. كل هذه العوامل جعلت من بِنْية العلاقات بين البلدين بنية معقدة غير مستقرة الطبيعة، تتجاذبها أمواج القطيعة تارةً، وأمواج الوئام تارة أخرى.
رغم أن التوتُّر الضمني ظل سيِّد الموقف في العلاقات المغربية/الموريتانية في الفترة الأخيرة، إلا أنَّ عوامل كثيرة تفرض على صانعي القرار في البلدين السير -ولو مُرغَمين- في مسار تعاوني جاد؛ إذ إن العلاقات التاريخية بين البلدين لا يمكن اختزالها في مراحل آنيَّة، فهي علاقات تفرض حتمية التواصل. وبالحسابات الاقتصادية البحتة لا يمكن أن يستغني أيٌّ من البلدين عن مصالحه الاقتصادية المرتبطة بالجانب الآخر بحكم إكراهات الجغرافيا؛ ونظرًا لحجم الخسارة في حالة تبنِّي خيار القطيعة.
وبالرجوع إلى تاريخ العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين، والتي شهدت مراحل مدٍّ وجزر، يمكننا أن نستشرف حتمية السير بمحاذاة طريق التعاون الثنائي، دون نفي إمكانية حصول توترات ظرفيَّة متعلقة بعوامل النزاع بين البلدين، وليس ملف الصحراء الغربية الذي كان عنوان التوتر الأخير الذي حصل بين الجمهورية والمملكة سوى نقطة حبر من سجل المسائل الخلافية التي وفَّرت لها الظروف السياسية الحالية الطريق للخروج إلى العلن.
المكونات الاجتماعية والتواصل التاريخي
تتمتع تلك المنطقة النائية في الحدود من العالم العربي بتنوع ثقافي وعرقي متعدد ومنتشر على امتداد الخيوط الواصلة بين أعالي الجبال في مضيق جبل طارق، وصولًا إلى الغابات والأحراش المنتشرة على ضفاف نهر السنغال؛ ما جعل منها خليطًا نادر الحصول في جغرافيا الدول والمناطق، الشيء الذي أكسبها أيضًا أهمية فريدة من نوعها على اعتبار أنها تعتبر نقطة تواصل ثقافي واقتصادي بين العالم العربي والمحيط الإفريقي.
تتشكَّل تلك المكوِّنات من سكان الجنوب الموريتاني، وهم المعروفون أساسًا بالمكون الإفريقي، والذين ينقسمون أساسًا إلى قسميْن: فهناك ذوو الأصول الإفريقية من عرقيات البولار والسوننكي والولوف، وهم عادة يعيشون على شكل مجموعات في المدن الموريتانية المحاذية لمنطقة النهر. وهنالك مكوِّن الحراطين، أو الأرِقَّاء السابقون، الذين يجمعون بين العنصرين الإفريقي أصلًا والعربي انتماء، فهم أفارقة من حيث الأصول حسب ما يذهب إليه علماء الاجتماع، ومن حيث الثقافة واللغة فانتماؤهم إلى المكوِّن العربي/الأمازيغي في موريتانيا. أمَّا المكون العربي/الأمازيغي فيشكل جانبًا من الهوية والترابط بين المغرب وموريتانيا خلال القرون الماضية، وشأنه في ذلك شأن المكون الإفريقي هو الآخر من ناحية التعدُّد والتنوع وحتى الإشكاليات السياسية والثقافية التي حدثت بين العشائر والقبائل العربية والأمازيغ والزوايا والمحاربين وغيرهم من المكونات التي اصطلح المؤرخون على أن العامل المشترك بينهم هو: الطبيعة الريفية والبدوية والقبلية والإسلام والعروبة.
قبل الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا، كان يُطلق اسم موريتانيا على منطقة "المور" و"الأمازيغ" (البربر)، أي المنطقة الممتدة من طنجة (تانجيس) في الشمال إلى السنغال ومالي في الجنوب، ومحدودة في الشرق بمملكة نوميديا (لمساغا) وفي الغرب بالمحيط الأطلسي. وكان تشكل هذه المنطقة في حيز جغرافي واحد بدون فواصل حدودية مدعاة لانتشار القبائل في تلك المنطقة الواسعة، متجاوزين ما بات يُعرف اليوم بالخط الحدودي الفاصل بين البلدين(1).
رغم التواصل التاريخي الذي فرضه القرب الجغرافي من علاقات اجتماعية ومصاهرات وخطوط السفر البرية للحجاج التي كانت تمر من موريتانيا عبر المغرب، وتاريخيًّا زَحْف المرابطين القادمين من موريتانيا إلى الأندلس مرورًا بمدينة مراكش، واحتفاء سلاطين المغرب بعلماء موريتانيا، والعلاقات المشتركة التي تجاوزت الحدود في مقاومة الاستعمار والتي شكَّلت مدينة السمارة المغربية حاضنة لها، لا تزال الإشكاليات الثقافية تظهر عند كل مشكلة داخلية أو توتر سياسي. ويعتبر هذا المكوِّن القبلي أحد أهم روابط الاتصال التي تفرض الترابط بين البلدين على مختلف الأصعدة السياسي منها والاقتصادي؛ نظرًا للروابط الاجتماعية والتاريخية التي تجمع تلك القبائل على جانبي الحدود(2).
اعتبارات الجغرافيا والتراوح بين الإجباري والاختياري
إن اعتبارات الجغرافيا المكتسبة كعامل إلزامي وإجباري يؤخذ بعين الاعتبار لدى صُنَّاع القرار في الجمهورية والمملكة والذي فرضه عامل المجاورة والقرب الجغرافي، جعلت من العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين مزيجًا بين ما هو إلزامي وإجباري مهما تباينت المواقف السياسية والمصالح الاقتصادية، وبين ما هو اختياري تَسَعُهُ سعة المناورة السياسية وتفاهمات العلاقة الاقتصادية القابلة للتفاوض والنقاش(3).
فمن الناحية الاقتصادية تتمتع العلاقات بين البلدين بوضعية لعلها هي الوحيدة التي ظلت ثابتة نوعًا ما منذ أن نشأت تلك العلاقة في شكلها الحديث بمفهوم الدولة في نهاية الستينات من القرن الماضي، الأمر الذي يُصنَّف ضمن إكراهات الجغرافيا؛ حيث ظلت التداعيات المنسحبة على تلك العلاقة والناجمة عن التوتر السياسي محدودة جدًّا ضمن إطار عدم الاقتراب من القطيعة الاقتصادية الشاملة. وتتشكَّل أهمية هذه العلاقة بالنسبة للجانب المغربي من جهة في كون موريتانيا امتدادًا إفريقيًّا لها وممرًّا بريًّا لا غنى عنه لخطوط النقل التجاري البري، إذ يمثِّل العامل الحيوي في الصادرات الاقتصادية المغربية إلى البلدان الإفريقية. وبالنسبة للجانب الموريتاني فأهمية هذه العلاقة تكمن في كونها شريان الحياة الرئيسي لتزويد السوق الموريتانية بالخضروات والفواكه؛ نظرًا لصعوبة الخيار البديل بالنسبة لموريتانيا، ذلك الخيار الذي قد يكلِّف موريتانيا آلاف الكيلومترات لخط نقل آخر، وتكلفة مالية أكبر على خزينة الدولة، إذا ما أخذنا في عين الاعتبار انخفاض أسعار الصادرات المغربية في هذا المجال.
ويمتد التبادل التجاري الإجباري بين البلدين إلى قطاع تصدير الأسماك أيضًا؛ حيث تعتبر موريتانيا أحد المزودين الرئيسيين للمغرب في هذا القطاع. ورغم كون قطاع آخر وهو الصناعات الميكانيكية والمعدنية والكهربائية لا يشكِّل أكثر من نسبة 13% من الصادرات المغربية، إلا أن 60% من الحاجيَّات الموريتانية في هذا المجال قادمة من المملكة. يُضاف إلى ذلك عمالة مغربية تعدُّ بالآلاف وتقيم في موريتانيا، وتفرضها اعتبارات الجغرافيا الإجبارية مع تزايد القيود المفروضة على الهجرة المغربية إلى أوروبا(4).
يشكِّل الحجم الاقتصادي والتقدم التقني المغربي في قطاع الاتصالات -أيضًا- حضورًا بارزًا في موريتانيا، ولعل أحد أبرز أوجه ذلك الحضور هو إحدى أوائل شركات الاتصالات في موريتانيا وهي شركة موريتل التي هي شركة ضمن شركات اتصالات المغرب، وقد بلغ عدد مستخدميها في موريتانيا المليون مستخدم سنة 2008.
وكذلك الحضور البارز أيضًا للقطاع البنكي المغربي الصاعد في موريتانيا أخيرًا مع الصعود اللافت لمصرف "التجاري وفا بنك" المغربي، كما حظيت زيادة الرقم المالي للاستثمار الموريتاني في المغرب بصعود لافت هي الأخرى في السنوات الماضية، وتتمثل أساسًا في رجال أعمال مستقلين عن الدولة يستثمرون في بعض القطاعات الاقتصادية الموريتانية.
لكن تذبذب حركة زيادة أو خفض الرسوم الجمركية بين البلدين كان دائمًا يخضع لماهية العلاقات السياسية الظرفية؛ الشيء الذي يمكننا أن نصنِّفه ضمن إطار ما هو اختياري في الاعتبارات الجغرافية. نفس الشيء أيضًا ينطبق على مشاريع المنطقة الحرة الاقتصادية المشتركة بين البلدين وغيرها من المشاريع الاقتصادية الحديثة، ولعلَّ رفض موريتانيا لمرور خط الغاز النيجيري عن طريق أراضيها إلى المغرب؛ بسبب الأزمة السياسية الماضية، وعدم تأثر خط النقل الاقتصادي البري بين البلدين أكبر دليل على أن اعتبارات الجغرافيا السياسية والاقتصادية بين البلدين تراوح ما بين الاختياري والإجباري.
يتضح لنا إذن بالنظر إلى مختلف تفاصيل العلاقة التي تفرضها اعتبارات الجغرافيا أن هذا العامل متعدد الاستخدام بالنسبة لكلا الطرفين، فمن الناحية الاقتصادية كما بيَّنَّا أعلاه، تحتاج المغرب لموريتانيا من أجل خطوط النقل التجاري البحرية والبرية، كما تحتاج موريتانيا إلى المغرب للتزود ببعض النواقص التجارية في السوق الموريتانية، ومن أجل ربط علاقات تقوِّي الضعف في الجوانب التقنية والعلمية. كما يشكل موقع موريتانيا من ناحية حدوده الجنوبية مع السنغال ورقة ضغط للمغرب بالنظر إلى العلاقات السياسية الممتازة مع السنغال، تلك العلاقات التي تستغلها المغرب في حالات التوتر مع موريتانيا.
المسائل الخلافية
إن الكثير من المسائل الخلافية بين البلدين لا ترجع إلى حيثيات وتفاصيل كل ملف فقط، بل في جانب كبير منها غير ظاهر للعيان إلى طبيعة الاختلاف الجوهري بين نظامي الحكم في البلدين؛ فالملكيَّة في المغرب والجمهورية في موريتانيا، واختلاف الرؤى الاستراتيجية وأنماط اتخاذ القرار بين هذين المنهجين في الحكم يجعلان من هذا العامل أحد أهم العوامل المسببة للاختلاف بين الجمهورية والمملكة؛ حيث تتمركز جُلُّ المسائل الخلافية بين البلدين في الشق السياسي وخصوصًا حول مسألة الصحراء الغربية والموقف الموريتاني منها؛ ذلك أن هذا الموقف ظل يشكِّل رافدًا يلقي بظلاله ولمدة عقود طويلة على عاتق المسؤولين الموريتانيين، فمراوحة موقف الحياد من الموضوع ليس بالأمر السهل في منطقة تتداخل فيها كل الملفات بعضها مع بعض(5).
يعتبر هذا الموقف مهمًّا بالنسبة للمغرب، فأيُّ ميل لموريتانيا عن حيادها قد يشكِّل حالة سياسية في المنطقة تمسُّ بالأمن القومي للمملكة، وترجِّح كفة حركة التحرر الصحراوية البوليساريو وداعمها الأول المتمثل في الجزائر، الدولة التي لها ثقل كبير في المنطقة(6). وقد فهم صناع القرار السياسي في المخزن الملكي ذلك مبكرًا، بل وصرح به العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران بأن الموقف الموريتاني من الصحراء يمس مباشرة الأمن القومي للمملكة، كما كشف ميتران بعد ذلك في حديث تلفزيوني أجراه مع قناة فرانس رجيون ثلاثة (حاليًّا القناة الفرنسية الثالثة)، وذلك التصريح كان بتاريخ 12 يناير/كانون الثاني 1984(7).
وترجع جذور ملف الصراع في الصحراء الغربية إلى خمسينات القرن الماضي، أي قبل استقلال موريتانيا عام 1960، عندما بدأت تظهر في المغرب أطروحة الحق التاريخي التي عبَّر عنها العاهل الراحل محمد الخامس في محاميد الغزلان في 25 فبراير/شباط 1958، حيث جاء فيه: "وإنما يسعدنا أن يستقبلنا في قرية المحاميد التي هي باب الصحراء، أبناؤنا الذين استقبلوا جدنا في قرية أخرى من الركيبات وتكنة وأولاد الدليم، وسواها من القبائل الشنقيطية، وأن نستمع إليهم..."، إلى أن قال: "سنواصل العمل بكل ما في وسعنا لاسترجاع صحرائنا، وكل ما هو ثابت لمملكتنا بحكم التاريخ ورغبات السكان".
غير أن الانكفاء المغربي عن هذه المطالب والانقلاب العسكري في موريتانيا صباح 10 يوليو/تموز 1978 وضع حدًّا للتفاهم الذي كان بين المملكة والجمهورية، والذي كان يقضي باقتسام إقليم الصحراء الغربية مخلِّفًا وراءه أيضا جرحًا غائرًا متمثلًا في نزاع حدودي وشريط فاصل بين قوات البوليساريو والقوات الملكية المغربية تحت رقابة قوات الأمم المتحدة، ليصبح الوضع مثار مؤتمرات وبعثات دولية وأممية. ومن هنا يصبح الموقف الموريتاني مهمًّا بالنسبة للمغرب؛ إذ إن انحياز موريتانيا للجانب الآخر يعني إضعاف موقف المغرب دوليًّا وتشكيل حاضنة سياسية واجتماعية أخرى أكثر فعالية لغريم المغرب البوليساريو، وتطويق المغرب بالعداوات السياسية(8).
وهذه النقطة كانت مبدأ الأزمة السياسية الأخيرة كمثال لما سيتكرر حتمًا عند تكرر الموقف في المستقبل؛ فقد اعتبرت المغرب تقارب موريتانيا والجزائر وزيارة رئيس البوليساريو إلى منطقة الكركارات الحدودية، وتقديم سلطات نواكشوط التعزية بعد وفاة زعيم البوليساريو محمد ولد عبد العزيز استهدافًا لها وخروجًا عن سياق الحياد الإيجابي الذي هو في صالح المغرب؛ الأمر الذي تطور إلى هجمات إعلامية متبادلة وصولًا إلى تصريحات حميد شباط أمين عام حزب الاستقلال المماثلة لتصريحات سلفه علال الفاسي في الخمسينات من القرن الماضي، وانتهاء بزيارة رئيس الحكومة المغربي عبد الإله بنكيران لموريتانيا في محاولة مغربية لنزع فتيل التوتر؛ كي لا تصل الأمور إلى القطيعة السياسية والاقتصادية الشاملة، نزولًا عند إكراهات الاعتبارات الجغرافية التي تناولناها آنفًا.
لكن ملف الصحراء الذي تريد المغرب فرض موقف موريتاني ثابت منه، الشيء الذي أصبح أخيرًا يتعارض مع الدور المتنامي إقليميًّا وعربيًّا لموريتانيا، والذي تمثل في استضافتها للقمة العربية والتي عُرفت بقمة الأمل، ورئاستها للاتحاد الإفريقي؛ ليس هو الملف الوحيد الذي يثير الخلافات بين البلدين، ذلك أن السياسة الخارجية للبلدين وخاصة فيما يتعلق بكيفية محاربة المد الجهادي والإرهابي المتنامي في المنطقة بعد فوضى السلاح الوارد من ليبيا، شكَّلت هي الأخرى عامل اختلاف ألقى بظلاله على العلاقات؛ فالطرح المغربي يتباين مع الطرح الموريتاني الذي يلتقي في نقاط أكثر مع الرؤية الجزائرية، الأمر الذي عبَّر عنه مصدر استخباراتي فرنسي إبَّان العملية العسكرية الفرنسية في مالي 2013 المعروفة اختصارًا بعملية "سرفال" لصحيفة لوموند الفرنسية بتاريخ 21 مارس/آذار 2013 جاء فيه أن المشكلة الرئيسية التي تواجه فرنسا هو تباين الرؤية الاستراتيجية لحلفائها في الساحل وخاصة بين المغرب والجزائر وموريتانيا فيما يخص محاربة الإرهاب، وكلنا يعرف وقتها أن الموقف الجزائري الموريتاني كان شبه موحَّد؛ حيث رفضت الدولتان استخدام أراضيها وأجوائها من قِبل فرنسا، واكتفتا بالتعاون الأمني. وعلى هذا فالخلاف كان بين موريتانيا والمغرب بكل تأكيد حول هذا المسار.
الملف الآخر الذي يثير غضب نواكشوط هو الدور المتنامي منذ سنوات للمغرب في الساحة السياسية الموريتانية الداخلية، حيث أصبحت المغرب ملاذًا تقريبًا لكل الخصوم السياسيين للنظام الموريتاني، بدءًا برجل الأعمال محمد ولد بوعماتو والمصطفى ولد الإمام الشافعي، وصولًا إلى ما بات ظاهرًا اليوم من تحالف بين المعارضة في الداخل الموريتاني والمعارضة في الخارج المتمركزة أساسًا في المغرب وباريس؛ مما شكَّل جبهة واسعة تهدِّد بتعقيد المواجهة أمام النظام الموريتاني.
كما تعقيدات العلاقات الموريتانية مع الجارة الجنوبية السنغال هي الأخرى ألقت بظلالها على الوضع؛ حيث كانت موريتانيا تنظر إلى السنغال على أنها داعم لكل من يريد أن يصعِّد المواجهة مع المغرب في الداخل الموريتاني، وما فتئت الاتهامات تُوجَّه للمغرب بدعم الموقف السنغالي المعادي في بعض الأحيان لموريتانيا، خاصة أن لذلك شواهد تاريخية كموقف المملكة المائل أكثر إلى الجانب السنغالي إبَّان الصراع السنغالي الموريتاني في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، والذي ما زال حاضرًا في أذهان صانعي القرار بنواكشوط(9).
أما المشاكل الأخرى العالقة بين البلدين؛ كمحاربة الجريمة وتهريب المخدرات وتنسيق الجهود المشتركة للقضاء على الهجرة السرية والدعم المغربي المفقود لموريتانيا حاليًّا لدى دوائر الدعم الاقتصادي في البنك الدولي، فهي كلها مشاكل ثانوية لا يتطلب حلها أكثر من حالة الوئام السياسي، ولا تكلف أكثر من إجراءات إدارية متوقفة حاليًّا.
آفاق العلاقات المستقبلية
إنَّ عملية استشراف ما يمكن أن يحصل اعتمادًا على كل العوامل التي ذكرناها في هذه المقالة، تجعل من المرجح بشكل كبير عودة العلاقات بين البلدين إلى مجاريها، أو تطويق الخلافات في حدود تجعل من الممكن السيطرة عليها.
على ذلك تصبح حدود الحركة والمناورة بالنسبة للمغرب مرسومة الملامح وواضحة الحدود، بحيث تجعل من الضغط الاقتصادي ورقة خطرة لا يمكن استخدامها بشكل شامل وكامل إلا في حدودها الدنيا حتى لا تبدأ الآثار الرجعية في الارتداد عليها وتوصل الأمور إلى القطيعة الشاملة، كمثل أن توقف المغرب تموين السوق الموريتانية بالخضروات والفواكه لفترة محدودة ومدروسة تراعي موعد بدء ظهور ذلك النقص جليًّا في السوق الموريتانية. سياسيًّا قد تذهب المغرب إلى استخدام ورقة السنغال كورقة استراتيجية، لكن دون أن تدفع الأمور أيضًا إلى حافة الحرب لما يمكن أن يسببه ذلك من نتائج كارثية، واصطدام مع قوى دولية تعتبر استقرار غرب إفريقيا ضمانًا لمصالحها ولنجاح الحرب ضد الإرهاب.
أما بالنسبة لموريتانيا فحدود حركتها في حالات التوتر في الجانب الاقتصادي ضيقة جدًّا؛ لكون الفائدة الاقتصادية القادمة من المغرب في شتى المجالات كبيرة جدًّا، والخسارة الاقتصادية المترتبة على استعمال هذه الورقة كبيرة جدًّا أيضًا، لكنها في الجانب السياسي تتمتع بهامش مناورة كبير يتراوح ما بين تشكيل حلف إقليمي مع الجزائر من أجل تضييق الخناق على المغرب مرورًا بدعم البوليساريو على الأرض وفي المحافل الدولية.
__________________________________
الحسين حمود - كاتب وإعلامي موريتاني مقيم في فرنسا.
1- Sahara Occidental, un conflicto des grandes repercusiones para espana, domingo delpino.com- (leviatan magazine) 13/8/1985.
2- انظر: سعيد زربيع، المغرب وموريتانيا: أزمة صامتة، (تم التصفح في 25 يناير/كانون الثاني 2017):
http://www.hespress.com/writers/316615.html
3- انظر: إدريس ولد القابلة، العلاقات الاقتصادية المغربية-الموريتانية (تم التصفح 23 يناير/كانون الثاني 2017):
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=246908
4- انظر: محمد سالم: موريتانيا والمغرب: محفزات التوتر وفرص ترميم العلاقة (تم التصفح في 15 يناير/كانون الثاني 2017): إضغط هنا.
https://sahara-5- داهش (د. محمد علي)، الصحراء الغربية (دراسات تاريخية وسياسية)، إصدار جامعة الموصل، 2011.
6- ولد داداه (المختار)، موريتانيا على درب التحديات (مذكرات). منشورات كارتالا، باريس، 2004.
7- البار (أمين)، وبسكري (منير): مكانة المغرب العربي في السياسة الخارجية الفرنسية، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، القاهرة، 2014.
8- انظر: المغرب وموريتانيا: من أطروحة الحق التأريخي إلى الاعتراف بالاستقلال، (تم التصفح 18 يناير/كانون الثاني 2017):
9- Mauritania’s compaign of terror, state sponsord repression of black Africans, human rights- watch, Africa 1994.