يمثِّل النفط الركيزة الأساسية لاقتصاد السعودية، وحجر الزاوية في تنميتها الداخلية، والمصدر الأساسي لدخلها المالي. وفقًا لأحدث بيانات صندوق النقد الدولي، شكَّلت عائدات النفط نحو 75% من الصادرات ونحو 72% من الإيرادات المالية، بينما وصل نصيب قطاع النفط من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة إلى أكثر من 40%(1). وقد أدى تراجع أسعار النفط العالمية، في عام 2014، إلى تسليط الضوء على الاعتماد المفرِط على النفط؛ حيث تراجع دخل إيرادات الصادرات بشكل دراماتيكي، وتدهورت أحوال الاقتصاد السعودي على نحو متسارع، وباتت التوقعات المستقبلية تسودها الضبابية وأجواء عدم اليقين.
هذه التطورات دفعت الرياض إلى اتباع سياسات تقشفية، وصلت ذروتها في أبريل/نيسان عام 2016، عندما كشف ولي العهد (ولي ولي العهد آنذاك) في السعودية، الأمير محمد بن سلمان، عن وثيقة "رؤية 2030"، وهي برنامج لتحويل الاقتصاد السعودي بعيدًا عن النفط عبر ترشيد الإنفاق، وإيجاد إيرادات مالية غير نفطية، بتنويع الاقتصاد، والأهم رفع مساهمة القطاع الخاص في إجمالي الناتج المحلي إلى نحو الثلثين.
طبعًا التغييرات الأخيرة التي حدثت في قمة هرم السلطة في السعودية أزالت -على الأقل في الوقت الراهن- عدم الوضوح في قضية خلافة الحكم. ومع صعود نجم الأمير محمد بن سلمان يصبح من المنطقي الاستنتاج أن الرياض ستمضي قدمًا في تنفيذ الخطط الواردة في برنامج "رؤية 2030". ومع ذلك، فإن تجربة أكثر من عام في المملكة تشير إلى وجود تحديات كبيرة، لا يمكن الاستهانة بها، قد تعقِّد تحقيق أهداف الرؤية خلال السنوات القادمة.
المعالم الرئيسة لرؤية 2030
يمكن تصنيف الأهداف الاستراتيجية في برنامج "رؤية 2030" بشكل عام إلى ثلاثة مجالات رئيسية: تنويع الاقتصاد وتحسين بيئة الأعمال، والإصلاحات المالية، والإصلاحات الاجتماعية، مع وجود العديد من الأهداف التي تقع في أكثر من مجال. وعلى هذا الأساس يهدف البرنامج إلى زيادة مساهمة القطاع الخاص في إجمالي الناتج المحلي من 40% إلى نحو الثلثين، ومضاعفة الإيرادات الحكومية غير النفطية 6 مرات إلى تريليون ريال سعودي (267 مليار دولار) من خلال زيادة الضرائب، والغرامات، والرسوم الحكومية، فضلًا عن تدابير أخرى مثل ضريبة القيمة المضافة، وتنمية قطاعات غير نفطية مثل التعدين والسياحة(2).
كما تهدف الخطة إلى تنويع مصادر الثروة الوطنية وتنويع محفظة الاستثمارات في الخارج، ورفع قيمة أصول صندوق الاستثمارات العامة من 600 مليار ريال (156 مليار دولار) إلى ما يزيد على 7 تريليونات ريال (1.8 تريليون دولار)(3). ولعل العمود الفقري لرؤية 2030 يتمثَّل في تحويل صندوق الاستثمارات العامة إلى صندوق الثروة السيادية الذي قد تصل أصوله المالية إلى 2 تريليون دولار حسب توقعات الحكومة السعودية، تُموَّل عبر طرح 5% من شركة أرامكو للاكتتاب العام، وبيع أصول الدولة والأراضي.
من ناحية أخرى، تخطِّط الحكومة السعودية لاستثمار نحو 50% من أموال صندوق الثروة السيادية في استثمارات محلية وخارجية، وسط توقعات متفائلة بأن تؤدي إيرادات هذا الصندوق إلى إنهاء اعتماد المملكة على عائدات النفط بحلول عام 2020.
تدابير اقتصادية أولية
تشير الميزانية السعودية لعام 2017 إلى خطط لتحرير أسعار الوقود بشكل كامل في غضون 4 سنوات، على أن يتم فرض ضرائب القيمة المضافة في عام 2018، وفرض بعض الرسوم على العمال الوافدين. وتتضمن ميزانية عام 2017 أيضًا خططًا للتحويلات النقدية الموجهة إلى الأسر المنخفضة والمتوسطة الدخل لمساعدتها على مواجهة الانخفاض في الدعم الحكومي(4). وفي هذا السياق، يمكن رصد ثلاثة اتجاهات مالية في المديين القصير والمتوسط(5):
- بقاء الإيرادات الحكومية في مستويات منخفضة مقارنة مع مستوياتها قبل تراجع أسعار النفط العالمية في عام 2014.
- تقليص الإنفاق الحكومي، بالإضافة إلى تخفيض مجموع القوى العاملة في الخدمة المدنية بنسبة 20%. كما تهدف الحكومة السعودية إلى خفض الدعم المقدم للمياه والكهرباء من أجل توفير مبالغ إضافية بقيمة 200 مليار ريال (53 مليار دولار) بحلول عام 2020.
- تزايد لجوء الحكومة السعودية لتغطية العجز المالي من خلال السحب من الاحتياطيات وإصدار سندات الدَّيْن المحلي والخارجي(6).
رغم أن العديد من المؤسسات الدولية، بما في ذلك صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومؤسسات التصنيف الائتماني، قد رحَّبت بالإصلاحات الاقتصادية في السعودية، إلا أنه مع ذلك يتفق الجميع على أنه طريق طويل، صعب، ويتخلَّله الكثير من التحديات، وربما يتعثر أو يتعطل نتيجة تعقيدات داخلية أو تطورات مفاجئة. لا، بل إن البعض يذهب أبعد من ذلك عبر رسم سيناريوهات تشاؤمية تشير إلى أن برنامج "رؤية 2030" لن يُكتَب له النجاح في نهاية المطاف.
العمود الفقري لرؤية 2030
تتوجه الأنظار حاليًّا نحو عملية الاكتتاب العام لأسهم شركة أرامكو السعودية، والذي من المتوقع أن يتم في العام القادم (2018). هذه العملية تعتبر بمثابة العمود الفقري لبرنامج "رؤية 2030"؛ حيث تتوقع الرياض أن يتم تقييم القيمة المالية لأرامكو بنحو 2 تريليون دولار، بشكل يجلب معه 100 مليار دولار عبر بيع 5% من أسهم الشركة بعد تسجيلها في إحدى البورصات العالمية. ولتحقيق هذه الغاية، عمدت الحكومة السعودية إلى تخفيض الالتزام الضريبي لأرامكو، في مارس/آذار 2017، من 85% إلى 50%، أملًا في زيادة جاذبية الشركة للمستثمرين الأجانب(7)، كما أنها تخطِّط للإعلان عن المزيد من الإجراءات التي تهدف إلى تحقيق ذلك الهدف المنشود.
في هذا السياق، أكَّد الأمير محمد بن سلمان أخيرًا أن اكتتاب أسهم أرامكو سيتم في 2018 وأن الحصة التي ستُباع لن تكون بعيدة كثيرًا عن 5%، مشدِّدًا على أن حصيلة بيع حصة في أرامكو ستساعد في تطوير صناعات أخرى داخل السعودية وسيجري استثمارها بواسطة صندوق الاستثمارات العامة، الذي سينفق أكثر من 500 مليار ? (133.3 مليار دولار) على مدى ثلاث سنوات بعد طرح اكتتاب أرامكو(8). هذا، ومن المتوقع إعلان أرامكو خلال الفترة القادمة عن البورصة أو البورصات العالمية التي سيتم من خلالها تداول أسهم الشركة. وهنا، أشار موقع ستراتفور الأميركي إلى أن الأمير محمد بن سلمان يحبِّذ إدراج الاكتتاب العام في بورصة نيويورك، ليس من أجل تمويل رؤية 2030 فحسب، بل من أجل المزيد من التقارب في العلاقات السياسية مع الولايات المتحدة(9).
بالطبع، تحظى عملية بيع حصة في أرامكو باهتمام عالمي، ويراقب المستثمرون الأجانب العملية برمتها عن كثب وربما بشغف كبير. وعلى هذا الأساس، فإن أي تعثر في الاكتتاب (خصوصًا في حال ضعف المشاركة الأجنبية) ربما يخلق حالة من عدم اليقين، وقد ينعكس سلبًا على برامج الخصخصة برمتها في السعودية، وقد يضرب أيضًا مصداقية ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، الذي روَّج كثيرًا لهذا الأمر. لكن في المقابل، النجاح الكبير الذي حققته السعودية مؤخرًا في إصدار سندات سيادية بقيمة 17.5 مليار دولار في أكبر صفقة سندات في الأسواق الناشئة على الإطلاق، ربما يعزِّز الآمال بأن يسير اكتتاب أرامكو على نفس المنوال ويحقق رقمًا قياسيًّا جديدًا عند الاكتتاب(10).
مع ذلك، هناك تساؤلات تحتاج إلى إجابات، من ضمنها ما يتعلق بإفصاح الشركة عبر تقييمات مستقلة ومعتمَدة دوليًّا عن تكاليف الإنتاج، والهوامش الربحية، والضرائب، والأسعار المتوقعة، والاحتياطيات الحقيقية القابلة للاستخراج، وطبيعة الحقول النفطية، فضلًا عن جميع الأمور المطلوبة لتسجيل الشركات بالأسواق المالية. وفي هذا السياق، نقلت صحيفة فايننشيال تايمز تحذيرات على لسان مستشارين في الحكومة السعودية وشركة أرامكو مفادها أنه ما لم تتغير تركيبة وطبيعة نشاطات أرامكو، بشكل يشبه ما تقوم به شركات النفط والغاز العالمية، عبر تخلِّيها عن جميع النشاطات الأخرى والتركيز على مجال الطاقة، فإن مخاوف المستثمرين الدوليين قد تؤثِّر على تقييم الشركة(11). طبعًا هذه القضايا مجتمعة دفعت العديد من المؤسسات الاقتصادية الدولية إلى التشكيك بإمكانية تقييم أرامكو بنحو 2 تريليون دولار.
أو بمعنى آخر، فإن الإيرادات والأرباح النقدية التي تحققها أرامكو هي التي تهم الأسواق، وليس النشاطات أو حجم احتياطيات النفط والغاز التي تديرها أو تملكها الشركة. بالطبع فإن الأرباح سوف تعتمد بشكل كبير على عاملين أساسيين: أسعار النفط العالمية والضرائب المنخفضة(12). وهنا تنبغي الإشارة إلى أن أرامكو منخرطة في العديد من النشاطات الاقتصادية، والصحية، والتعليمية، والاجتماعية داخل السعودية، وفي حال تخليها عن تلك النشاطات أو تقليصها فإن ذلك قد يكون له انعكاسات سلبية على توظيف السعوديين، وربما يكون له تداعيات سياسية أيضًا.
هذا، وقد كشفت صحيفة وول ستريت جورنال أخيرًا أن اختلافات في وجهات النظر بين بعض أفراد الأسرة الحاكمة في السعودية مع كبار المديرين التنفيذيين في أرامكو، ربما تبطئ الطرح العام الأولي المزمع للشركة في 2018(13)، وذكرت الصحيفة نقلًا عن مصادر مطَّلعة أن مسؤولين في أرامكو يحثُّون العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، والأمير محمد بن سلمان على تسجيل الشركة في بورصة لندن. وأضافت الصحيفة: إن مسؤولي أرامكو يعتقدون أن التسجيل في الولايات المتحدة قد يعرِّض الشركة لمخاطر قانونية جسيمة(14). وفي السياق ذاته، يحذِّر محامون دوليون الرياض بأن مخاطر التقاضي في أميركا أكبر من أي مكان آخر في العالم، خصوصًا في ظل التشريعات الجديدة للإرهاب أو ما يُعرف بـ"قانون جاستا" التي يمكن أن يسمح لأسر ضحايا هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 بمقاضاة السعودية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن أرامكو قد تواجه التقاضي في حالة عدم الامتثال الصارم لقواعد الجهات التنظيمية الأميركية التي تتعلق بالاحتياطيات والكشف عن البيانات(15).
التحديات الاقتصادية
ولا تقتصر المخاوف على أرامكو فحسب، بل تتعداها إلى أداء الاقتصاد السعودي بشكل عام. فقد يؤدي التباطؤ الحالي إلى ضعف النمو الاقتصادي، ويجعل بيئة الاقتصاد الكلي (انكماش في الإنفاق العام، وارتفاع تكاليف الطاقة، ونقص السيولة النقدية، والضغوط التي ستواجهها شركات القطاع الخاص في الهوامش الربحية) أكثر تحديًا، بشكل ربما يعقِّد محاولات زيادة التوظيف ورفع المستوى المعيشي للسعوديين.
وفي هذا الإطار، أظهرت بيانات رسمية سعودية انكماش الناتج المحلي الإجمالي للمملكة في الربع الأول من 2017 للمرة الأولى منذ الأزمة المالية العالمية؛ فقد انخفض الناتج المحلي المعدَّل في ضوء التضخم 0.5% على أساس سنوي في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى مارس/آذار مسجِّلًا أول هبوط منذ عام 2009(16). كما أن التوقعات الاقتصادية على المدى الطويل لا تزال غائمة؛ فوفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي من المرجح أن يتراجع نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي إلى أقل من 1% في عام 2017، (وهو أدنى مستوى له منذ 8 سنوات) على أن يتعافى بشكل طفيف مسجِّلًا 1.3% في عام 2018، ثم يستقر عند حدود 1.9% على المدى المتوسط (2019-2022)(17).
في الوقت ذاته، تتراجع الفوائض المالية للسعودية بمعدلات تنذر بالخطر، وفقًا لبيانات رويترز، فقد تراجعت احتياطيات النقد الأجنبي في المملكة إلى نحو 493 مليار دولار مع نهاية شهر أبريل/نيسان 2017، أو ما يعادل تراجعًا يُقدَّر بنحو الثلث من مستوى الذروة (737 مليار دولار) التي بلغتها في نهاية شهر أغسطس/آب عام 2014(18). صحيح أن الرياض لا تزال تملك مجالًا للمناورة؛ حيث لا تزال تملك احتياطيات معتبرة، كما أن عملية بيع أسهم أرامكو في حال إتمامها قد توفر في نهاية المطاف موارد إضافية، بالإضافة إلى اللجوء إلى الاقتراض خصوصًا في ظل تدني نسبة الديون الأجنبية.
مع ذلك، فإن الاحتياطيات تُستنفد بمعدلات غير مستدامة، أو ما يعادل بالمتوسط 100 مليار دولار سنويًّا. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن السعودية تحتفظ بسعر صرف ثابت للدولار الأميركي، مما يعني أن المملكة ربما تحتاج، بحسب بعض التقديرات، إلى توفر الحد الأدنى من الاحتياطيات أو بحدود 200-300 مليار دولار للحفاظ على الثقة الاقتصادية، وعدم المخاطرة بزيادة الضغوط المالية على الريال السعودي(19).
ولعل أهم التحديات الكبيرة الأخرى التي تنتظر الحكومة السعودية يتمثل في تخفيض معدلات البطالة المرتفعة (أكثر من 12% حاليًّا) بين صفوف السعوديين خصوصًا فئة الشباب؛ فمن المتوقع أن تصل نسبة السعوديين الذين تقل أعمارهم عن 25 عامًا إلى 50% بحلول عام 2030، وهي نسبة تُعتبر ذخرًا كبيرًا إذا تم توظيفها، و"قنبلة موقوتة" في حال بقيت معدلات البطالة على حالها(20). وهنا، تنبغي الإشارة إلى أنه مع خفض الحكومة لعمليات التوظيف في القطاع العام، من المستبعد أن ينمو القطاع الخاص بسرعة كافية لخلق عدد كاف من فرص العمل للشباب السعوديين الذين يدخلون إلى سوق العمل سنويًّا، والذين يُقدَّر عددهم بنحو 300 ألفًا(21). هذا العدد يحتاج إلى معدلات نمو اقتصادية سنوية تبلغ 7-8%، وبشكل مستمر، وهو الأمر الذي من غير المتوقع تحقيقه خلال السنوات القادمة(22).
بالإضافة إلى كل ما سبق، فإن سرعة الإصلاحات الاقتصادية قد تتباطأ أو تتعطل نتيجة التقلبات في أسعار النفط العالمية. استمرار تخمة الأسواق الحالية، قد يضطر السعودية لمواجهة خيارين رئيسيين أحلاهما مُرٌّ: الاعتراف بأن جهود أوبك قد فشلت والعودة إلى السياسة السابقة في الحفاظ على الحصة السوقية، أو المخاطرة بإجراء تخفيضات عميقة في معدلات الإنتاج في السعودية وسط الرهان على قفزات كبيرة في الأسعار لتعويض الخسارة في إيرادات الصادرات. ولكن أي تخفيضات إضافية قد تعيد المملكة إلى المربع الأول من الأزمة، أي انتعاش إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة مع فقدان حصص سوقية لصالح منتجين داخل أوبك وخارجها(23).
التحديات السياسية
هذا، ويبقى طريق الإصلاحات الاقتصادية محفوفًا بزيادة المخاطر السياسية في السعودية، علاوة على الآثار الاجتماعية الكبيرة التي قد تولِّد ردَّات فعل سلبية ربما تدفع بالمحصِّلة إلى إبطاء عجلة الإصلاحات أو توقفها. في الواقع، تجاهَلَ برنامج "رؤية 2030" البُعد السياسي تمامًا، ولعل تجارب الإصلاح الاقتصادي في مناطق مختلفة من العالم سواء في شرق آسيا مرورًا بإفريقيا ووصولًا إلى دول أميركا اللاتينية، تدلِّل على أن الإصلاحات الاقتصادية لا يمكن لها أن تمضي قدمًا في ظل الهياكل السياسية القائمة. وهنا يمكن رصد عدَّة عوامل سياسية قد تؤثِّر سلبًا في تطبيق الإصلاحات الاقتصادية في المملكة:
- تماسك الأسرة الحاكمة: حتى الآن، لا يوجد ما يشير إلى صراعات عنيفة على السُّلطة داخل الأسرة الحاكمة في السعودية قد تمثِّل تهديدًا وجوديًّا. مع ذلك، فإن برامج الإصلاحات التي يقودها الأمير محمد بن سلمان قد تواجه مقاومة في المستقبل؛ حيث تنقل صحيفة فايننشيال تايمز عن دبلوماسيين غربيين في الرياض أن المعارضة قد تزداد داخل الأسرة الحاكمة ضد ولي العهد في حال ارتكب خطأ جسيمًا في اليمن، أو تصاعد التذمر الشعبي نتيجة فشل الإصلاحات الاقتصادية(24).
- السخط الشعبي: لن تتردد الحكومة السعودية في إبطاء أو تأخير أو حتى إلغاء بعض الإصلاحات إذا ما تسبَّبت في ردود فعل سلبية لدى السعوديين، وهو أمر بالمحصلة قد يقوِّض العديد من أهداف رؤية 2030(25). في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى أن الحكومة السعودية قرَّرت، في شهر مايو/أيار 2017، إعادة البدلات لموظفي الدولة والجيش، بعد تخفيضها في سبتمبر/أيلول 2016، عازية ذلك إلى تحسن الأداء المالي، ومن أجل تحفيز النمو الاقتصادي(26).
- المؤسسة الدينية: الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية قد تولِّد توترات مع القوى المحافظة في البلاد. على مدى العقد القادم، تتطلع الحكومة السعودية إلى زيادة الاستثمارات الأجنبية، وزيادة الترفيه في المملكة، فضلًا عن تطوير السياحة غير الدينية. وفي حال حدث هذا الأمر، قد يؤدي إلى تآكل سلطة المؤسسة الدينية بصورة متزايدة، وربما يدفعها أو بعض رموزها إلى زيادة جرعة الانتقادات أو حتى المعارضة بما يترتب على ذلك من تداعيات ربما تؤثِّر سلبًا على الاستقرار السياسي في البلاد(27).
- الإصلاحات السياسية: على الرغم من أن السعودية شرعت في إجراء إصلاحات اقتصادية دون الإعلان عن أي إصلاحات سياسية، لكن عدم توفر آليات سياسية حقيقية وفعَّالة لمراقبة أداء الحكومة بشكل شفاف، وتحارب الفساد، وتتفاعل مع مطالب الناس، قد يقوِّض الدعم الشعبي في المديين المتوسط والطويل أو يدفع الحكومة للتخلي عن جوانب مُهمَّة من الإصلاحات في حال تصاعد المعارضة الشعبية. طبعًا الإصلاحات السياسية (برلمان منتخب، القضاء المستقل، الأحزاب، النقابات...إلخ)، وتدابير مثل زيادة المساءلة السياسية لا تزال خارج رادار المناقشات أو جدول أعمال الحكومة السعودية.
- خطر الجماعات الجهادية واضطرابات المنطقة الشرقية: احتمالات تنفيذ المزيد من الهجمات داخل السعودية من قِبَل تنظيمات مثل القاعدة وتنظيم "الدولة الإسلامية" تبقى قائمة. ورغم أنها لا تشكِّل خطرًا وجوديًّا، إلا أن استمرارها أو تصاعدها من المؤكد أن ينعكس سلبًا على التوقعات الاقتصادية أو الاستثمارية. وهناك أيضًا قضايا حقوق الإنسان التي تثيرها المنظمات الدولية، والاضطرابات المستمرة في المنطقة الشرقية التي يقطنها السعوديون الشيعة ويطالبون بحقوقهم السياسية، التي بالمحصِّلة ترسل إشارات سلبية للعالم الخارجي.
- عمليات الخصخصة: هناك تحفظات ومعارضة داخل السعودية لخصخصة الأصول المملوكة للدولة في ظل انخفاض أسعار النفط العالمية؛ حيث من المحتمل أن تُقيَّم هذه الأصول أقل بكثير من قيمتها الحقيقية. كما توجد مخاوف حقيقية من أن تشجع عمليات الخصخصة ما يشبه "رأسمالية المحاسيب"، من خلال بيع ممتلكات الدولة لكبار المستثمرين المرتبطين بالنظام أو العائلات المتنفذة. بينما يذهب البعض الآخر للقول: إن برامج الإصلاح الشكلية في السعودية لا تهدف إلى دعم القطاع الخاص بشكل يؤدي إلى ظهور طبقة وسطى حقيقية في المملكة، يمكن لها في نهاية المطاف تحدي الهيمنة الاقتصادية للأسرة الحاكمة أو العائلات المتنفذة(28).
- الوضع الإقليمي الملتهب: لا تزال القضايا السياسية والأمنية الإقليمية تشكِّل تحديات صعبة، ويمكن أن تضع المزيد من الضغوط على اقتصاد المملكة، وهي تمتد من الحرب في اليمن، إلى الأوضاع في سوريا والعراق، مرورًا بدعم الاستقرار في مصر، والمغرب، والأردن، والبحرين، والمخاوف من تزايد النفوذ الإيراني، وصولًا إلى الأزمة الخليجية الحالية.
تداعيات الأزمة الخليجية الحالية
تترافق تلك التحديات، مع تصاعد الأزمة الخليجية الراهنة التي من المتوقع في حال استمرارها لفترة طويلة أن تنعكس في بعض جوانبها سلبيًّا على الوضع الاقتصادي في السعودية. ولعل الوضع الإقليمي الملتهب في منطقة الخليج، بالإضافة إلى انخراط السعودية بصراعات عسكرية وسياسية على أكثر من جبهة، يعيد تذكير الدول المستهلِكة للنفط بحالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وربما يدفع شركاء مهمين للمملكة مثل الصين والهند إلى توسيع عملية تنويع مصادر الواردات النفطية من مناطق خارج الشرق الأوسط، مثل: روسيا، وإفريقيا، وأميركا اللاتينية.
من ناحية أخرى، من المتوقع أن تلجأ الحكومة السعودية إلى المزيد من عمليات الاقتراض أو إصدار المزيد من السندات في الأسواق الدولية لتمويل العجز المالي في الميزانية العامة. لكن الأوضاع الإقليمية الجارية قد ترفع تكاليف الاقتراض عبر وجود علاوات مخاطر نتيجة حالة عدم الاستقرار السياسي التي تسود منطقة الشرق الأوسط والخليج.
هذا، وتتطلع الحكومة السعودية إلى استقطاب 18 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر بحلول عام 2020، مقارنة مع 8 مليارات دولار في عام 2015(29). إلا أنه من المتوقع أن تؤثِّر أزمة الخليج، خصوصًا في حال استمرارها لفترة طويلة، على البيئة الاستثمارية في السعودية، وربما تقلِّل من حجم الاستثمارات المتوجهة إلى المملكة. في الواقع، حجم تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI) إلى السعودية يتراجع سنويًّا منذ عام 2009 عندما بلغ ذروته ووصل إلى 36.5 مليار دولار، ليصل في العام الماضي إلى 7.4 مليارات دولار فقط(30).
كما أن توقف الصادرات السعودية إلى قطر سوف يضر العديد من المصدِّرين السعوديين الذين بلغت صادراتهم إلى قطر في العام الماضي نحو 1.3 مليار دولار. صحيح أن تلك الصادرات مثَّلت نسبة بسيطة من إجمالي الصادرات السعودية التي بلغت حوالي 169.7 مليار دولار في عام 2016، إلا أن جُلَّها تقريبًا صادرات غير نفطية ومن الشركات الخاصة التي هي بأمسِّ الحاجة لزيادة نشاطاتها خصوصًا في ظل الركود الذي يشهده اقتصاد السعودية(31).
خاتمة
في إطار التحليل السابق تبيَّن لنا أن برنامج "رؤية 2030" يُعد مشروعًا طموحًا وقد يمتد تطبيقه لسنوات طويلة، لكن العقبات لا يمكن التقليل من شأنها، ومخاطر التنفيذ مرتفعة واحتمالات الفشل واردة. وبصرف النظر عن التحديات السياسية والصراعات الإقليمية، فإن التحديات اللوجستية لتنفيذ هذه المجموعة الواسعة من الإصلاحات في بيئة قاومت التغيير في الماضي لا يستهان بها.
صحيح أن الرياض تملك الأدوات الاقتصادية والمالية للتأقلم مع تلك التحديات في المديين القصير المتوسط، إلا أن نجاح برنامج التنويع الاقتصادي يتطلب إجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية داخلية عميقة وحقيقية، والعمل على تهدئة الأوضاع الإقليمية من أجل ضمان استقرار المملكة في المدى الطويل.
______________________________
ناصر التميمي- باحث في اقتصادات دول الخليج
1- IMF, “Saudi Arabia: Selected Issues,” IMF Country Report No. 15/286, 13 October 2016.
http://vision2030.gov.sa/ar/node
4- “Gulf Economic Monitor”, World Bank, 15 June 2017.
5- BMI Research, “Saudi Arabia: Transformation Plan a Positive for Sovereign Profile,” Middle East Monitor, Volume 26, Number 8, August 2016, p. 2-3.
http://vision2030.gov.sa/ar/node
7- “Saudi Arabia Polishes Its Crown Jewel”, Stratfor, 21 June 2017.
8- "الأمير محمد بن سلمان: بيع حصة في أرامكو سيحدث في 2018"، رويترز، 2 مايو/أيار 2017: https://goo.gl/nvWdNX
9- “Saudi Arabia Polishes Its Crown Jewel”, op, cit.
10- “Saudi Bond Coup Seen Strengthening Banks Seeking Aramco IPO Role,” Bloomberg, 26 October 2016.
11- “Saudi Aramco strives to curb its state role before IPO”, Financial Times, 19 June 2017.
12- “Lex in depth: The $2tn Saudi Aramco question”, Financial Times, 3 April 2017.
13- “Saudi Aramco IPO Plans Slowed Over Where to List”, The Wall Street Journal, 14 June 2017.
15- “Lawyers warn Saudi Aramco of New York IPO litigation risks”, Financial Times, 4 June 2017.
16- الناتج المحلي السعودي يهبط للمرة الأولى منذ الأزمة المالية، رويترز، 30 يونيو/حزيران 2017: https://goo.gl/3Bhtqs
17- "صندوق النقد الدولي "المجلس التنفيذي يختتم مشاورات المادة الرابعة لعام 2016 مع المملكة العربيةالسعودية"، 28 يوليو/تموز 2016: http://goo.gl/sZ1zTQ
18- “The mysterious (and continuing) fall in Saudi foreign reserves”, Reuters, 28 June 2017.
19- “Saudi Arabia eases austerity just as oil prices decline: Kemp”, Reuters, 21 June 2017.
20- Lex, “Saudi reform: not all about oil,” Financial Times, 28 April 2016.
21- BMI Research, “Saudi Arabia Country Risk Report Q3 2017”, July 2017, p. 30
23-) “OPEC Resists Flow of History with Reluctance to Cut Deeper”, Bloomberg, 29 June 2017.
24- “Dramatic reshuffle reshapes Saudi Arabia’s leadership”, Financial Times, 21 June 2017.
25- BMI Research, “Saudi Arabia Country Risk Report Q3 2017”,op, cit.
26- رويترز، "مسؤول سعودي: إعادة البدلات لموظفي الدولة ستتكلف نحو 7 مليارات ريال هذا العام": https://goo.gl/JsKmFx
27- BMI Research, “Saudi Arabia Country Risk Report Q3 2017”,op, cit.
28- CNBC News, "Academic: Saudi political issues stymie diversification," 24 April 2016.
29- “Economic Analysis - Barely Avoiding a Recession In 2016”, Emerging Markets Monitor, 1 August 2016, vol. 22, no. 30, p.17
30- UNCTAD, “World Investment Report’, various issues.