مقدمة
أسهم التحول الديمغرافي في العالم العربي منذ تسعينات القرن الماضي، بشكل أو بآخر في إحداث تغييرات في منظومات القيم والبنى الاجتماعية والاقتصادية، كما أن انفتاح المجتمعات العربية على الحداثة المعلوماتية وارتفاع استهلاكه للمنتج التواصلي العالمي، كلها عوامل ساعدت في ارتفاع التوقع والمطلب السياسيين. وبما أن التوقع الشبابي ارتفع نتيجة لهذه التحولات، فقد رافقه شُحُّ المنتج السياسي والاقتصادي المطروح من طرف الأنظمة السياسية العربية نتيجة افتقار هذه السلطة السياسية للحكامة الجيدة والتدبير الديمقراطي. توسعت هذه الفجوة مع مرور الزمن بين المطلب الشبابي بأفقه ونسقه المرتفع وبين العرض السياسي والاقتصادي، ووصلت إلى الحد الذي أنتج انفصالًا تامًّا بين الجيل الجديد ممثَّلًا في فئة عريضة من شباب الألفية الجديدة، وبين الدولة العربية بنموذجها التقليدي في الحكم السياسي.
الإطار النظري للديمغرافيا السياسية
يبدأ منظِّرو الديمغرافيا السياسية (جاك كولدستن، وإريك كاوفمن، ومايرون واينر، وآخرون) في دراسة ما يُسمى بالانتقال الديمغرافي، ويرجع أصل المفهوم إلى العالم الديمغرافي الفرنسي، أدولف لاندريه (1934)، لكنه تبلور بشكل أكثر نضجًا مع الاقتصادي الأميركي، نوتشتاين (1945)(1). ويُقصد به، تلك التحولات التاريخية التي تطرأ على نسبة الوفيات والولادات والتطور السكاني في المجتمعات المعاصرة، وتأثيراتها على طبيعة وحجم الهرم السكاني وعلى السياسات والاقتصاديات الوطنية. يُقسِّم نوتشتاين الانتقال الديمغرافي إلى ثلاثة أطوار متمايزة حسب تسلسلها التاريخي؛ وهي: مرحلة النظام التقليدي، ويتميز بارتفاع معدلات الوفيات والولادات معًا وينتج عنه نمو سكاني ضئيل. ومرحلة الانتقال الديمغرافي، وتنقسم إلى مرحلتين: مرحلة الارتفاع؛ حيث تكون نسبة الولادات مرتفعة ونسبة الوفيات منخفضة، ومرحلة الانخفاض وتتميز بتراجع الولادات وعقلنة الخصوبة السكانية. ثم مرحلة النظام العصري أو ما بعد الانتقال الديمغرافي؛ حيث يعود النمو السكاني إلى حالة الضعف وذلك بتناقص معدلات المواليد والوفيات(2). لقد عرفت المجتمعات الحديثة، منذ نهاية القرن الثامن عشر، تجارب كثيرة في الانتقال الديمغرافي، وذلك بفعل انتشار التصنيع والتمدين وانتقال المجتمعات من مجتمعات تقليدية حيث وسائل الإنتاج مادية تقليدية إلى مجتمعات حديثة طورت وسائل إنتاجها خصوصًا في أوروبا والدول الغربية عمومًا.
يدرس الباحث، تيم دايزن (Tim Dyson)(3)، هذا الإشكال بالبحث والتنظير الإمبريقي (التجريبي)؛ حيث طوَّر أنموذجًا تفسيريًّا لحركة التأثير الجدلي بين الانتقال الديمغرافي والانتقال الديمقراطي واعتبر أن كل مراحل الانتقال الديمغرافي لها تأثيرات على الانتقال الديمقراطي. ويقوم هذا الأنموذج على ثلاث مراحل أساسية: تمثِّل المرحلة الأولى، الحالة التي تكون فيها الخصوبة السكانية مرتفعة، وهي حالة الانفجار الديمغرافي، والتي تعتبر تحديًا حقيقيًّا للسلطة الحاكمة خصوصًا السلطة الشمولية. أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة التراجع في معدلات الخصوبة واستقرار النمو السكاني في هرمية شبابية، ما يقوِّي دور المرأة ويجعل المطالب نحو توزيع عادل للسلطة السياسية أكثر إلحاحًا. أما المرحلة الثالثة، فهي مرحلة انخفاض النمو السكاني والتي تساعد على الاستقرار السوسيو-سياسي، وهو ما يخدم الانتقال الديمقراطي أيضًا(4). ما يعنيه الباحث من خلال هذا الطرح، هو أن التحولات الديمغرافية تساعد بصيغة أو بأخرى على تحقيق الحوافز الذاتية والموضوعية في الانتقال الديمقراطي، من دون أن يعني ذلك أن جميع السلطات السياسية، الثيوقراطية بالخصوص، تسقط أو تتأثر بشكل كلي بمجرد حصول التحول الديمغرافي. ذلك أن الأنظمة الثيوقراطية تستطيع مجاراة فترة الانفجار السكاني لمدة تختلف حسب طبيعة كل نظام إلى أن تمر مرحلة التحول الديمغرافي نحو مراحلها المتأخرة حيث تتراجع معدلات الخصوبة وتستقر نسبة النمو السكاني(5). ويذهب المنظِّر الديمغرافي، ريتشارد كينكوتا (Cincotta Richard)(6)، إلى اعتبار الأنظمة الاستبدادية قادرة أحيانًا على مجابهة تحدي النمو السكاني، بل يمكنها أن تعزز قوتها عن طريق رفع شبح عدم الاستقرار الحقيقي أو المحتمل الذي يهددها. ويقول: إن النخب المؤثرة في المجتمع أو في الفضاء العام، قد تدخل في نوع من الصفقة الواعية، "صفقة هوبزية"، بينها وبين النظام الديكتاتوري، وذلك لتأمين المصالح المشتركة والتي قد تجعل الأوضاع الاقتصادية على حالها وتخنق القوة السياسية التي اكتسبتها الساكنة بعد نموها المتصاعد(7).
في سياق هذا الفعل الثوري الجديد، يبرز سؤال مُلحٌّ على منظِّري الديمغرافيا السياسية؛ وهو المتعلق بالتحول النوعي في الهرم السكاني وتأثيراته على التحول الديمقراطي، فهل يمكن ربط تشبيب الساكنة (ارتفاع نسبة الشباب ما بين 20 و40 سنة) بتأكيد المطلب الديمقراطي؟ ما زالت مباحث الديمغرافيا السياسية لم تطوِّر نظريات متقدمة حول فئة الشباب باعتبارها وحدة قياس أو تحليل، في علاقتها بنمو المطلب الديمقراطي وإنجاحها للانتقال الديمقراطي. يرى صمويل هنتنغتون (samuel huntington) أن اجتماع كل من الشرط النوعي (ارتفاع فئة الشباب) مع الحركة الاجتماعية النشطة (التمدن والهجرة الحضرية) وارتفاع مستويات التعليم لدى فئة الشباب، تؤدي إلى نتائج سياسية ملموسة؛ فالشباب هم وقود الثورات والتوترات السياسية والإصلاح(8). لقد تنبأ هنتنغتون وغيره من المفكرين بظهور إرهاصات التحولات السياسية في المنطقة العربية عندما لاحظوا التغير الديمغرافي المتنامي في الدول العربية والذي سوف يفرض شروطًا سياسية جديدة على الأنظمة الشمولية العربية التقليدية. لكن المعطى الديمغرافي لن يفسر وحده الثورات العربية من دون ربطها بالمتغيرات الاجتماعية والثقافية الجديدة في المنطقة والعالم من حوله.
تنامت في المجتمعات العربية، وبفعل التطور التكنولوجي والتواصلي، نوع جديد من المجتمعات الشبكية(9)، وهي تلك التي تعتمد الشبكة والتشبيك باعتبارها أنماطًا تواصلية جديدة في إنتاج السلطة والفعل الاجتماعي؛ ذلك أن المبادئ الأساسية للشبكات هي القوة المحركة للحياة الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحيث إن منطق التشبيك يعمل على تعديل العمل وثماره تعديلًا جوهريًّا في نواحي الإنتاج والتجربة والقوة والثقافة(10). لذلك، وبفعل امتلاك الشباب للوسائط الشبكية الحديثة، فقد تم استثمارها بشكل فعَّال لإنتاج الفعل السياسي الذي أطاح العديد من الأنظمة التسلطية، والذي سيسهم من جهة أخرى في الانتقال نحو الديمقراطية. هذه الجماعات الشبكية الجديدة هي ما سماه تشارلز تايلر (charles taylor) بالمجتمع النفَّاذ المباشر(11)، حيث ينتقل المجتمع من المجتمعات التراتبية الميالة إلى شخصنة علاقات السلطة والخضوع، إلى المجتمعات الأفقية الحديثة بما هي نظام مساواتي غير شخصي يسمح بتجاوز عالم النفاذ بالتوسط إلى عالم النفاذ المباشر. فهو يتحدث عن سلطة النفاذ المباشرة التي تكوَّنت لدى الجيل بفعل امتلاكه للوسائط الشبكية الحديثة، وعن المتخيَّلات الاجتماعية في المجتمع الحديث؛ حيث لم تعد الوسائط نحو المركز هي التي تُنشئ متخيلًا اجتماعيًّا ما، ولكن قدرة النفاذ المباشرة للمعلومة أعطت المجتمع قدرة أكبر وأدق لتكوين متخيَّل اجتماعي عن ذاتها وعن المجتمع المحيط بها. وبفعل اجتماع عوامل الديمغرافية السياسية والتحولات الاجتماعية والثقافية الحديثة، سيسهم في المحصلة، في تعقيد البحث الأكاديمي حول قضايا التحول الديمقراطي، ولكنه سيغني بالمقابل البحث في علاقة التحول الديمغرافي بالانتقال الديمقراطي وسيفتح آفاقًا جديدة للنظر الأكاديمي حول الديمغرافيا السياسية الحديثة.
تعزيز المطلب الديمقراطي لدى الشباب في تجربة الحراك المغربي
لا شك أن تجربة الحراك الثوري المغربي لسنة 2011 وما تلاه، أحدثت تحولات عميقة في المشهد السياسي، سواء على مستوى طبيعة الهرم السياسي بما تعرَّض له من تحولات في التشريع الدستوري والممارسة السلطوية، أو على مستوى التعاطي المجتمعي مع السياسة بحيث تصالحت القوى المجتمعية مع الحقل السياسي بما هو أفق للتغيير الفعَّال بعدما تمَّ إفراغه من حمولته وقوته في فترات سابقة. وبما أن الشباب هو الفئة المحركة لهذا الحراك، ولا تزال، فإن تتبع مسار تجربته ما بعد ثورة 20 فبراير/شباط(12) 2011، يمكِّننا من التعرف على هذه القوة المجتمعية وعلى أفقها ومتطلباتها من جهة، وعلى التحولات العميقة التي أحدثتها، ولا تزال، في الواقع السياسي والمجتمعي عمومًا من جهة أخرى.
بلغ عدد سكان المغرب حسب آخر إحصائيات سكانية لسنة 2014 أجرتها الوزارة المكلفة بالتخطيط حوالي 34 مليون نسمة، بزيادة نمو قُدِّرت بحوالي 1.25 في المئة، حيث تتركز 60.3 في المئة منها في المدن بنسبة زيادة قدرت بـ4,2 في المئة بالمقارنة مع إحصائيات عام 2004. وقُدِّر عدد البالغين ما بين 15 و59 سنة بحوالي 62.4 في المئة حيث 64.6 في المئة منها تتركز في المجال الحضري، وبلغت نسبة البطالة، حسب نفس الإحصائيات، حوالي 16.2%(13). تؤكد هذه المعطيات أن المغرب يشهد انتقالًا ديمغرافيًّا مثله مثل باقي الدول العربية والتي تميزت كلها بارتفاع معدلات الخصوبة ونسب الفئات النشطة وخصوصًا فئة الشباب. وهذا المعطى هو الذي حاولنا دراسته في هذا البحث باعتباره وحدة قياس لمختلف التغيرات السياسية والاجتماعية الطارئة على هذه الدول.
تميزت حركة 20 فبراير/شباط 2011 (الحراك المغربي اختصارًا) باعتبارها حركة مطلبية اجتماعية وسياسية قادها جيل من الشباب الصاعد الذين استثمروا التحولات الثورية في البلدان العربية وخصوصًا الجارة تونس، ليخرجوا للشارع مطالبين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وهو اختصارًا الشعار الذي عُرف به الحراك المغربي. لكن الميزة الأهم في هذا الحراك هي استجابة النظام الملكي لمطالب الشارع الثوري في أقل من شهر على اندلاعه، عقب إقدام الملك محمد السادس على تقديم إصلاحات دستورية(14) وتشريعية مهمة في الخطاب المشهور والمعروف بخطاب 9 مارس/آذار. وأعقب هذا الخطاب حزمة من التغيرات السياسية، بدءًا بحل الحكومة والبرلمان، وتكوين لجنة تأسيسية لصياغة الدستور الجديد، ثم انتهاء بالانتخابات المبكرة والتي أفرزت وللمرة الأولى بالمغرب حكومة بزعامة حزب العدالة والتنمية الإسلامي. وعُرفت فيما بعد تجربة الحراك المغربي بتجربة "الاستثناء المغربي"؛ وأيًّا من كان وراء طرح هذا المفهوم في النقاش العمومي المغربي، فقد أُريد به استمالة وتليين المطلب الديمقراطي المغربي إلى جهة اعتباره مجرد إصلاح سياسي وبالتالي تجنب السقوط في العنف أو الإطاحة بالنظام ككل. وطبعًا، لقيت هذه الأطروحة ترحيبًا من طرف النخب السياسية والمثقفة، لكونها توفر على المطالبين بالتغيير كلفة التحول الديمقراطي من جهة، ولكونها تؤشر على إمكانية الإصلاح في ظل ملكية برلمانية ديمقراطية، وهو الطرح الذي لقي ترحيبًا من طرف النخب كلها.
وإذا كان المتتبعون والدارسون للشأن السياسي الجديد في المغرب، ما بعد دستور 2011، يرون في الدستور الجديد ثورة حقيقية في تاريخ الملكية بالمغرب، فإن آخرين يرون فيه مراوغة دستورية من أجل الالتفاف حول المطالب الحقيقية للشباب والنخب المعارضة(15). ذلك أن اللجنة المشكَّلة من طرف الملك من أجل إعداد الدستور الجديد، لم تحظ بالدعم الكامل من طرف شريحة واسعة من الشباب المنتفضين؛ فلقد غاب عن تشكيلة اللجنة الشباب المشاركون والمؤسسون للحراك، كما أن توصيات اللجنة لم ترقَ إلى مستوى تطلعات الجماهير والنخب ومنها التأسيس الفعلي للملكية البرلمانية ومحاربة المفسدين، بينما اقتصرت على تقليص بعض من صلاحيات الملك مع الإبقاء على جزء كبير من صلاحياته الواسعة. ومع ذلك، فإن الشارع هدأ وتراجعت الانتفاضة وبدأ الشباب في فهم حيثيات هذه الإصلاحات رغم ضيق أفقها، لكنهم اقتنعوا ولو اضطراريًّا بأن النظام المغربي ربما سينتقل فعليًّا إلى ملكية ديمقراطية على غرار الملكيات الديمقراطية في أوروبا مع مرور الوقت وتوالي الضغوط والإصلاحات. يُعتبر هذا الوعي أول مؤشر إيجابي على النضج السياسي للفاعلين الشباب الجدد، فرغم مساعدة الظروف الإقليمية السياسية للثوار بالتصعيد، إلا أنهم اقتنعوا بأنه يمكن إنجاح ما سُمِّي بالاستثناء المغربي إذا توفرت الإرادة العامة خصوصًا إرادة السلطة الحاكمة.
يمكن قراءة المؤشر الثاني الدال على تغير الوعي السياسي، خصوصًا لدى الشباب، في أول محطة سياسية بعد الحراك، ألا وهي محطة الانتخابات التشريعية، في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، ما بعد تشكيل الدستور الجديد، والتي تميزت ولأول مرة في تاريخ الانتخابات المغربية بالإجماع على نزاهتها وعلى ظروفها الديمقراطية. فلقد ارتفعت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات إلى 45 في المئة، والتي تصدرها حزب العدالة والتنمية الإسلامي بـ107 مقاعد وشكَّل بذلك اكتساحًا انتخابيًّا غير مسبوق في تاريخ الانتخابات التشريعية المغربية(16). لكن، وبسبب طبيعة النظام الانتخابي المغربي، لم يستطع حزب العدالة والتنمية الإسلامي تشكيل الحكومة وحده، بل كان لزامًا عليه البحث عن ثلاثة حلفاء على الأقل من أجل تشكيل الحكومة. ورغم ذلك، فقد صوَّت المواطنون بكثافة في هذه الانتخابات وشكَّلت رسالة قوية إلى المؤسسة الحاكمة بأن الشعب يريد الإصلاح من داخل المؤسسات إذا استقل قرارها السياسي. وإذا حصل حزب العدالة والتنمية على هذه النسبة العالية، فذلك لأن شريحة واسعة من الشباب (حتى غير المنتمين له) صوَّتوا لهذا الحزب؛ لأن برنامجه الانتخابي كان محاربة الفساد بشكل أساسي، وهذا طبعًا موقف ومؤشر على نضج سياسي آخر للطبقة الاجتماعية الواسعة لوعيها بإمكانية الدعم السياسي لحزب ما من دون الاتفاق معه على أيديولوجيته وسياساته.
أحدث الحراك المغربي تحولات جوهرية في المنظومة الاجتماعية والسيكولوجية للطبقات الاجتماعية وفي أنماط التفكير والعمل السياسيين، ولا شك أن عوامل الحداثة المعلوماتية كانت فاعلة في هذا التغيير بمرافقتها للعوامل الديمغرافية وإحداثها لهذه الثورة الثقافية لدى فئة الشباب(17). فلقد رافقت الثورة الديمغرافية في المغرب ومنذ بداية الألفية الجديدة تحولات مهمة في البنية الاجتماعية والاقتصادية ثم في الوعي السياسي، بالشكل الذي أصبح فيه هذا الوعي يتنافر مع الثقافة والوعي السياسي المرافق للاستبداد وأسهم في بلورة النقد الموجه لهذه المرجعيات التي تتعايش مع الاستبداد(18). ويمكن عدُّ مظاهر عديدة لهذه الثقافة السياسية الصاعدة؛ فلقد تنامت ثقافة رفض المشاركة في أنشطة الأحزاب السياسية لدى شريحة واسعة من الشباب لإيمانهم بضعف واستقلالية قرارها، وبسبب ممارسات هذه الأحزاب غير الديمقراطية، سواء فيما يخص علاقاتها مع المواطنين أو فيما يرتبط بالديمقراطية الداخلية المغيبة في أجنداتها. ولم تتنامَ هذه الثقافة تجاه الأحزاب السياسية فقط، بل تجاه كافة المؤسسات السياسية الأخرى والتي منها البرلمان والمؤسسات السيادية والتشريعية الأخرى. وبسبب استشراء الفساد في هذه المؤسسات وفشل مشاريع تشريعية واقتصادية واجتماعية كبرى (مثل إصلاح قطاع التعليم والصحة ونظام التقاعد وغيرها)، فقد تنامت ثقافة منفصلة عن الثقافة السياسية للمؤسسات بالشكل الذي أحدث انفصامًا حادًّا بين الجيل الجديد بكل طموحاته ورهاناته، وبين المؤسسات السياسية التقليدية بل بين الشباب والدولة بوجه أوضح.
منذ محطة إنجاز الدستور الجديد وتحقيق أول انتخابات تشريعية حرة ونزيهة سنة 2011، توالت أحداث سياسية مهمة والتي لها أهميتها الرمزية البالغة في الفضاء السياسي الجديد ولدى الفاعلين الشباب الجدد. من جهة، حاول النظام المغربي إبطاء الحراك السياسي الذي نتج عن الحراك الثوري، وذلك بعرقلة سرعة الإصلاحات خاصة تلك التي تُحسب لحكومة العدالة والتنمية. فلقد اشتد الخناق على الحزب الإسلامي عندما تزعَّم إصلاح صندوقي المقاصة والتقاعد، بحيث نمت حركة احتجاجية تتهم الحزب بالمعادي للقدرة الشرائية للمواطنين والداعي لِلَبْرَلة الاقتصاد المغربي ككل. وفي هذا السياق، حاولت جهات داخل الدولة نسف التشكيلة الحكومية التي يتزعمها الحزب الإسلامي عندما خرج حزب الاستقلال من الحكومة، والتي رأى فيها محللون محاولة انقلابية نعمة، الغرض منها إضعاف الائتلاف الحكومي ومحاولة تقليص الثقل الإسلامي أو حتى التخلص منه عن طريق الدعوة لانتخابات مبكرة. تحوَّلت محاولات إضعاف الحكومة التي يتزعمها الإسلاميون، إلى صراع سياسي بين تيارين بارزين: تيار سياسي تقليدي سلطوي يتلقى دعمًا قويًّا من طرف أذرع وازنة في النظام المغربي، وبين تيار سياسي نقدي مقاوِم للتطبيع السياسي مع الفساد والسلطوية والذي يمثله شريحة واسعة من الشعب ويتزعمه سياسيًّا حزب العدالة والتنمية.
وتعتبر محطة السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2016، المحطة السياسية البارزة في هذا الصراع والحاملة لدلالات قوية ومؤشرات سياسية تحتاج لمزيد من الدراسة والفحص. ويبدو أن السلطة الحاكمة وصلت، وبعد اتساع شعبية الحزب القائد للحكومة خصوصًا بزعامة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بن كيران، إلى قناعة مفادها أن هذه المحطة يجب أن تكون محطة نهاية الحزب الإسلامي. لذلك، سبقت انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2016، مؤشرات تدل على نية السلطة في تنفيذ هذا الأمر، خصوصًا بعد تنظيم مسيرات مُفَبْرَكَة ضد الحزب، ومحاولات تطويع الانتخابات المحلية وذلك باستعمال النفوذ والمال ودعم أحزاب إدارية تقليدية ضد الحزب الإسلامي. وباحتدام هذا الصراع، اصطف جمهور من الشباب لصالح معسكر مقاومة التسلط رغم اختلافهم الأيديولوجي مع الحزب الإسلامي، وبرز في صفوفهم نقاش سياسي مهم: هل ندافع عن السياسة وشروط بقائها أم عن السياسات القابلة للتحول؟ إن هذا الطرح في حدِّ ذاته يعبِّر عن نضج سياسي حديث، بحيث، ورغم الخلافات الأيديولوجية، تمكَّن هؤلاء الشباب من التصويت على الحزب الإسلامي في اللائحة الوطنية، مع تصويتهم على مرشحهم الأيديولوجي محليًّا، أو العكس، وهذا الأمر يعبر عن تدبير عقلاني للخلاف الأيديولوجي كآلية للتصدي للتسلط، ومن أجل تثبيت الانتقال الديمقراطي نحو إقرار القوانين والأعراف الديمقراطية قبل الانتقال إلى الصراع على السياسات.
____________________________________
مصطفى آيت خرواش- باحث بمعهد الدوحة للدراسات العليا
1 – فاضل البياتي، فراس عباس، الاتجاهات النظرية الحديثة في علم اجتماع السكان، (المؤسسة الجامعية للدراسات، الموصل، 2011)، ص 77.
3 – يُعتبر تيم دايزن أحد أهم المنظِّرين في مجال الديمغرافيا السياسية، له عدة كتب وأبحاث في هذا المجال، أهمها كتابه الموسوم: Population and development: the demographic transition
4 – Dyson, Tim. "On Demographic and Democratic Transitions" In Population and Development Review, p. 38, 83-102, 2012, 87.
5 - Elizabeth Leahy Madsen, "What Can Demography Tell Us about the Advent of Democracy?" In New Security Beat, 28 April 2014.
6 – يعتبر ريتشارد كينكوتا أحد المنظِّرين الأميركيين في مجال الديمغرافيا السياسية، يهتم مجال بحثه بالتأثيرات السياسية للتحولات الديمغرافية خصوصًا على مراحل التحول الديمقراطي.
7 – Elizabeth Leahy Madsen, Op cit.
8 – Huntington, Samuel. P. The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order, (Simon & Schuster, New York, 1996), p. 117.
9 – بارني، دارن، المجتمع الشبكي، ترجمة أنور الجمعاوي، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2015)، ص 12.
10- M.Vastells, The Rise of the Network Society, (Blackwell, oxford, 1996).
11 – تايلر، تشارلز، المتخيلات الاجتماعية الحديثة، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2015)، ص 182.
12 – نسبة للانتفاضة المغربية التي انطلقت بتاريخ 20 فبراير/شباط 2011 وانتشرت فيما يقرب من خمسين مدينة وكان لها الأثر الكبير في تغيير عميق شهدته السلطة السياسية المغربية، ولعل أحد نماذجها هو تغيير الدستور وتنازل الملك على بعض من صلاحياته لصالح رئيس الحكومة وهي إصلاحات اعتُبرت سابقة في تاريخ السلطة السياسية المغربية.
13 – انظر: موقع المندوبية السامية للتخطيط، في http://bit.ly/2sfFJfb
14 – انظر: الدستور المغربي الجديد على محك الممارسة، أعمال ندوة أبريل/نيسان 2013، تنسيق عمر بندورو وآخرون، مجموعة البحث في القانون الدستوري وعلم السياسة، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الرباط، 2014.
15 – انظر: دستور 2011 بين السلطوية والديمقراطية، الطبعة الأولى، تنسيق حسن طارق وعبد العلي حامي الدين، (منشورات سلسلة الحوار العمومي، الرباط، أبريل/نيسان 2011).
16 – انظر: البوابة الوطنية الرسمية للحكومة في http://bit.ly/2sfFJfb
17 – إدريس كسيكس، "الحصيلة الثقافية لـ 20 فبراير/شباط: المكوِّنات والامتدادات الإعلامية والثقافية لحركة ذات حمولة سياسية"، في مراد دياني (إشراف وتقديم)، 20 فبراير/شباط: عسر الانتقال الديمقراطي بالمغرب ومآلاته، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2017).
18 - خلاف أوجادر، "التحولات السوسيولوجية والسيكولوجية "في مغرب ما بعد الحراك، في مغرب ما بعد حراك 2011؛ ماذا تغيّر؟ إشراف وتنسيق محمد باسك منار، (المركز المغربي للأبحاث وتحليل السياسات، 2016)، ص 207.