مستقبل المشهد السياسي في تونس بعد الانتخابات البلدية

جاءت نتائج الانتخابات البلدية معبِّرة عن إعادة تشكل المشهد السياسي التونسي وفق خارطة تتصدرها حركة النهضة ويليها النداء، وتبقى رئاسة المجالس البلدية بالمدن المهمة الرهان الأكبر بالنسبة إلى كل من الحزبين. وقد صعد حزب التيار الديمقراطي وبقيت الأحزاب اليسارية والقومية تراوح بمكانها.
b66f98e31a324aa9a2262b4d4edc1060_18.jpg
الشباب التونسي حاضر بالغياب والعزوف عن العملية الانتخابية (رويترز)

مقدمة 

بعد مضي ثماني سنوات من مسيرة الانتقال الديمقراطي الصاعدة الهابطة في حركة تحاكي أسنان المنشار، جرت أخيرًا يوم 6 مايو/أيار 2018 أول انتخابات بلدية (محلية) في تونس بعد "ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول 2010-14 يناير/كانون الثاني 2011" التي باتت تُعرف رسميًّا بثورة الحرية والكرامة، رغم أن الغربيين يميلون إلى تسميتها بثورة الياسمين. والفرق بين التسميتين واضح ولا يحتاج إلى تحليل وتعليل. وقد دارت هذه الانتخابات التي شهدت إقبالًا محدودًا (36 بالمئة من عموم المرسَّمين بالسجل الانتخابي) في جو تنافسي هادئ عمومًا، رغم بعض التجاوزات المعزولة، ولم تَشُبْها إخلالات كثيرة، مما يجعل نتائجها معبِّرة عن حقيقة المشهد السياسي في تونس بعد انتخابات تشريعية أولى (انتخابات المجلس الوطني التأسيسي) سنة 2011 أعطت الأسبقية لحزب حركة النهضة، وانتخابات تشريعية ثانية أعقبتها مباشرة انتخابات رئاسية، سنة 2014، صعد إثرها حزب حركة نداء تونس إلى سدة الحكم، لكنه ما لبث أن بدأ يتفتت حتى قبل أن ينجز مؤتمره التأسيسي وإن ظل يُعتبر حتى اليوم الحزب الفائز في انتخابات 2014 والحاكم الفعلي لتونس؛ حيث استأثر بالرئاسات الثلاث (رئاسة مجلس نواب الشعب ورئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة) وبنصيب الأسد من الحقائب الوزارية وإن اضطر لتقاسم تشكيلة الحكومة مع منافسه الرئيسي، حزب حركة النهضة، ومع بعض الأحزاب الصغيرة التي قبلت بالمشاركة في "حكومة الوحدة الوطنية" التي تمخضت عن وثيقة قرطاج الأولى التي بادر بطرحها رئيس الجمهورية إثر تعثر أداء حكومة السيد الحبيب الصيد. 

واليوم، تتعرض حكومة السيد يوسف الشاهد لتحرش سياسي وإعلامي يومي، وصل حد تهديدها بالإجبار على التخلي، كما حصل مع حكومة سلفه، أو بتغيير عميق في تركيبتها يرضي المنظمات الاجتماعية الكبرى (وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري) التي انخرطت فيما بات يُعرف بوثيقة قرطاج الثانية إلى جانب الحزبين الرئيسيين: النهضة والنداء. وبعد أن قامت هذه الحكومة بدورها في إنجاح الانتخابات البلدية، آن الأوان لتغييرها أو على الأقل لتغيير مكوناتها وشخوصها حتى تصبح أقرب ما تكون إلى حكومة الكفاءات الفنية (التكنوقراط) التي تعكف على تنفيذ الخطة التي سيضعها لها مهندسو وثيقة قرطاج الثانية، ومن ثم تعد العدة لإنجاح انتخابات 2019 (التشريعية والرئاسية)، قبل أن يُشكَر سعيُها كما حصل مع الحكومات السابقة التي تعاقبت بعد الثورة فيما يشبه العروض التجريبية فلم تعمر أي منها إلا أشهرًا معدودة. وهذا ما أسهم إلى حد كبير في تفاقم عدم استقرار المشهد السياسي. 

حصيلة الانتخابات البلدية ودلالاتها: قصة الحمامة والنخلة والآخرين 

مرة أخرى تحصد حركة النهضة النصيب الأوفى من الأصوات والمقاعد بنسبة 28.64 بالمئة تليها حركة نداء تونس بنسبة 20.85 بالمئة. أما جديد هذه الانتخابات فهو صعود حزب التيار الديمقراطي الذي حصل على 4.19 بالمئة من مجموع الأصوات، وبروز المستقلين فاعلًا جديدًا لا يمكن تجاهله؛ حيث كان نصيب القوائم المستقلة من المجالس البلدية 32.27 بالمئة(1)، مع أن هؤلاء لا يمثلون جسمًا واحدًا موحدًا، بل إن بعض القوائم المستقلة ليست إلا قوائم ظلت تشكِّل رقمًا صعبًا في معادلة الحكم المحلي الذي تحاول الأحزاب الاستئثار به على اعتبار أن هذا النوع من الحكم مختبر سياسي وإطار ملائم للاحتكاك اليومي المباشر بالمواطنين يمنح لمن يدير الشأن العام المحلي فرصًا استثنائية لتغيير واقع حياة المواطنين نحو الأفضل ومن ثم كسب ولائهم والاستفادة من أصواتهم في الاستحقاقات والمحطات الانتخابية القادمة سواء تعلقت برئاسة الجمهورية أو بالمجلس التشريعي أو بالمجالس الجهوية والإقليمية التي سيكون تشكيلها الخطوة التالية في تجسيد اللامركزية وبناء منظومة الحكم المحلي. 

وقد كشفت نتائج الانتخابات البلدية تراجعًا كبيرًا لحركة نداء تونس ليس فقط من حيث عدد المصوِّتين وإنما أيضًا من حيث النسبة المئوية من الأصوات والمقاعد؛ إذ خسرت هذه الحركة 16 نقطة بعد أن نزلت حصيلتها من 37 بالمئة إلى 21 بالمئة. في المقابل، خسرت حركة النهضة، رغم حصولها على المرتبة الأولى، 30 بالمئة من قوتها الانتخابية لسنة 2014، إلا أنها حسَّنت نسبة حصيلتها من الأصوات والمقاعد بنقطتين. وفي مطلق الأحوال، يظل "التصويت الوفي" سمة ملازمة لأنصار النهضة الذين عُرفوا بانضباطهم الحزبي، بينما لا يجد أنصار نداء تونس حرجًا في تحويل وجهة تصويتهم ولاسيما باتجاه القوائم المستقلة. وينطبق هذا "السلوك الانتخابي السياحي" أيضًا على أنصار التيار الديمقراطي؛ حيث تنزل نسبة وفائهم إلى 47 بالمئة، وعلى أنصار الجبهة الشعبية الذين تنزل نسبة وفائهم إلى 43 بالمئة. ومن الواضح أن هذا "التصويت المتحرك" لا يخدم إلا حركة النهضة التي حافظت على النسبة المئوية التي حصلت عليها سنة 2014 بل إنها عززتها قليلًا، على الرغم من احتفاظ بعض من صوتوا لها سابقًا بأصواتهم. ومن الملاحظ أن حركة النهضة قد حققت أفضل نتائجها في الجنوب الشرقي للبلاد (36 بالمئة) كما دأبت على ذلك في المحطات الانتخابية السابقة، بينما كانت أفضل نتائج حركة نداء تونس في الشمال الغربي (26 بالمئة) وهذا مما يُحسَب للنداء الذي استطاع أن يستعيد ثقة أهالي هذه الجهة رغم أنه لم يحقق لهم ما وعدهم به من تنمية وازدهار. وعكس ذلك تمامًا ما حصل في الجنوب الشرقي حيث لم يحصل النداء إلا على نسبة ضئيلة من الأصوات والمقاعد لم تتجاوز 10 بالمئة. ومما يستحق التنويه ما حققه التيار الديمقراطي من حصيلة محترمة في ولاية صفاقس (عاصمة الجنوب) حيث حصد 10 بالمئة من مجموع أصوات الناخبين. 

وتُظهر الملامح الكبرى للناخبين أن معظم الشباب -على قلة عددهم، بسبب عزوفهم عن الانتخاب- قد صوتوا للمستقلين، بينما صوَّت معظم الكهول لحركة النهضة، في حين صوت قطاع واسع من المسنين لحركة نداء تونس. وحسب سبر للآراء نشرته صحيفة "المغرب"(2) التونسية، يوم 12 مايو/أيار 2018، فإن 42 بالمئة ممن صوتوا لحركة نداء تونس سنة 2014 أعادوا التصويت لها سنة 2018، بينما اختار 35 بالمئة من نفس القاعدة الانتخابية التصويت للقوائم المستقلة. أما بالنسبة إلى حركة النهضة، فتشير نتائج السبر إلى أن 70 بالمئة ممن صوتوا لها سنة 2014 قد منحوها ثقتهم من جديد سنة 2018، بينما آثر 17 بالمئة من نفس القاعدة الانتخابية التصويت للقوائم المستقلة رغم أن قوائم حركة النهضة قد قُسِّمت مناصفة بين النهضاويين والمستقلين حتى إن بعض تلك القوائم ترأسها مستقلون. ومهما قيل عن قرب هؤلاء من الحركة، فإنهم يظلون غير منتظمين رسميًّا في صفوف مناضليها. وقد أثار وجود نساء شقراوات وشباب غير ملتزم دينيًّا في قوائم حركة النهضة جدلًا كبيرًا في الأوساط الاجتماعية والإعلامية. أما الطبقة السياسية فقد غبطت "الحركة الإسلامية" على ترشيح مواطن تونسي يهودي الديانة رئيسًا لإحدى قوائمها بجهة الساحل التونسي؛ حيث اعتبر أغلب الملاحظين أن هذه الحركة غير المسبوقة -لدى الأحزاب الأخرى- تنم عن ذكاء سياسي وتحمل رسالة تجميع للتونسيين بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية والعقائدية. وحتى لو كان ذلك مجرد مناورة سياسية يراد بها إحراج القوى السياسية المناوئة لحركة النهضة، فإنها تُحسب –سياسيًّا- لصالح الحركة وتخدم صورتها ليس في الداخل فحسب وإنما أيضًا، وخاصة، في الخارج الذي يراقب كل كبيرة وصغيرة تتعلق بالحركة، باعتبار أن وجودها في قلب العملية الديمقراطية في تونس هو اختبار للإسلام السياسي المرن والمنفتح يحكم من خلاله على مدى إمكانية التعايش السلمي بين الإسلام والديمقراطية في صيغة سماها رئيس الحركة، الأستاذ راشد الغنوشي، بالإسلام الديمقراطي(3). 

ومن الواضح أن حركة النهضة هي الحزب التونسي الوحيد المنظَّم تنظيمًا فعَّالًا، هيكليًّا ووظيفيًّا، في الوقت الراهن(4)، رغم ما يخترقه هو الآخر من صراعات مكتومة واختلافات في الرؤى تطغى عليها وحدة الحركة التي لا تزال تحكم قمة هرمها التنظيمي الزعامة التاريخية وإن أحاطت هذه الأخيرة نفسها بنسيج فسيفسائي من القيادات القديمة والجديدة، بحثًا عن توازن صعب المنال في ظل تحرر الجميع من سلطة القائد الملهم والزعيم الأوحد والأب المهيمن. لكن، كيف ستدير حركة النهضة المرحلة القادمة، بما في ذلك تجربة الحكم المحلي والاستعداد للانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019 التي أصبحت هي الأخرى على الأبواب؟ وهل ستستطيع مواصلة التوافق مع الشركاء السابقين والتعايش مع القوى الصاعدة، في آن معًا، حتى تؤمِّن لنفسها منزلة المربط النشيط الذي لا تستقيم أية معادلة سياسية تتعلق بإدارة الشأن العام بدونه؟ لقد أثبتت هذه الحركة قدرتها على الانتشار واكتساح كل المناطق، بما في ذلك معاقل خصومها التاريخية؛ فكانت الحزب الوحيد الذي استطاع أن يشكِّل قوائم في كل الدوائر الانتخابية، وهذا مما أعطاها الأسبقية على غيرها من الأحزاب والفعاليات الأخرى التي خاضت معركة الانتخابات البلدية. 

ورغم مطالبة معظم الأحزاب والقوى السياسية بتأجيل الانتخابات البلدية عديد المرات، "من أجل توفير الضمانات الكافية لإنجاحها" و"حتى تتمكن كل الأحزاب من المشاركة فيها"، إلا أن أيًّا من تلك الأحزاب -عدا حركة النهضة- لم يستطع تغطية كامل التراب الوطني بقوائمه؛ حيث جاءت مشاركة مختلف الأحزاب انتقائية و/أو اكتفائية و/أو ارتجالية بعد أن وجدت نفسها تحت ضغط الآجال وأمام الشروط التعجيزية التي وضعها القانون الانتخابي (التناصف الأفقي والعمودي، إلزامية تشريك الشباب وذوي الإعاقة...إلخ) عاجزة عن تعبئة الموارد والكفاءات المطلوبة للمشاركة في الانتخابات البلدية على نطاق واسع. وهذا ما أفسح مزيدًا من المجالات أمام المستقلين الذين اعتُبروا مفاجأة هذه الانتخابات التي سيكون لها تداعيات على إعادة تشكيل المشهد السياسي التونسي في مستقبل الأيام. 

حساب الحقل وحساب البيدر: توافق الشيخين وتصارع المشروعين 

مع أن الحزبين الرئيسيين الحاكمين في إطار ائتلاف مترجرج النسق قد حصلا معًا على حوالي نصف مقاعد المجالس البلدية، إلا أن معركة رئاسة تلك المجالس قد احتدمت بينهما في الآونة الأخيرة بما يُخشَى معه تصدع الائتلاف الهش بينهما وصعوبة التوافق على إدارة المرحلة القادمة ولاسيما في المحليات التي ستكون طريقة تدبير شؤونها محرارًا سياسيًّا عالي الحساسية به تقاس فاعلية القوى السياسية ومدى قدرتها على الإيفاء بوعودها الانتخابية. كما أن التقدم الذي حققته حركة النهضة على حساب "صديقها اللدود" نداء تونس، وإن أعادها إلى صدارة المشهد السياسي وأبرز أهمية خزانها الانتخابي الذي لا ينضب، إلا أنه لم يحجب تراجع عدد من صوتوا لها بشكل لافت، حتى إن بعض قادتها صرحوا بالقول إن حركتهم انتصرت في الانتخابات البلدية واحتلت المرتبة الأولى بين الأحزاب المتنافسة لكن حلاوة الانتصار كانت مشوبة بمرارة تراجع عدد الأنصار بمن فيهم بعض المنتظمين في الحركة وكثير من المتعاطفين معها و"المؤلفة قلوبهم". 

وهذه النتيجة ستجعل قادة حركة النهضة يقومون بتقييم أدائهم وأداء حركتهم ومدى قدرتها على احتلال موقع الفاعل الرئيسي في الحياة السياسية في تونس، في ظل صعود قوى أخرى تطرح أفكارًا وبرامج من شأنها أن تشعل من جديد جذوة الثورة في نفوس التونسيين بعد أن حسب المعسكر القديم أن الخطاب الثوري قد تجاوزته الأحداث وأن الشعب بات يترحم على وضعه الاقتصادي والاجتماعي في مرحلة ما قبل الثورة في ظل تدهور القدرة الشرائية لعموم المواطنين وانتشار العنف والفوضى والفساد على نطاق واسع. صحيح أن الخطاب الذي يتبناه التيار الديمقراطي ويستخدمه مدغدغًا مشاعر "الجماهير المسحوقة" والشباب "المعطلين عن العمل" والمناطق "المهمشة والمنسية" هو خطاب شعبوي يصعب تحويله إلى آليات تغيير وبرامج إصلاح وإجراءات عملية لمحاصرة الفساد ومحاربة الحيف وسوء التصرف في الموارد والثروات الوطنية، لكن من راهن على الثورة لإصلاح نظام الحكم وتحقيق العدالة والتوازن بين القطاعات وبين الجهات يجد هذا الخطاب صدى وهوى في نفسه ويعيد إليه أملًا كاد يتبدد في تحقيق أهداف الثورة وعلى رأسها ضمان العزة والعيش الكريم لكل مواطن. 

وحيث تفتت حزب نداء تونس وعجز عن استعادة وحدته وعنفوانه، رغم المحاولات المتعاقبة للملمة صفوفه وفلوله، وكاد ينهار في اختبار الانتخابات البلدية، لاسيما بعد أن فقد كثيرًا من معاقله النوعية على غرار مدينة تونس التي تعتبر "معقل البلدية (أهل الحاضرة)" منذ زمن طويل، فإذا بسكانها يزكون بأصواتهم سيدة "آفاقية" نهضاوية الانتماء وإن لم تلتحف حجابًا، ويفتحون لها سبيلًا بكرًا لأن تكون أول "شيخة" لمدينة تونس، مما أثار حفيظة الندائيين و"البلدية المحافظين" وبعض العلمانيين المتطرفين الذين وإن مجدوا في كل مناسبة "مجلة الأحوال الشخصية" و"تحرير المرأة" على يد "المجاهد الأكبر"، الحبيب بورقيبة، رئيس الجمهورية التونسية الأولى و"باني تونس الجديدة"، إلا أنهم لم يستسيغوا "التفويت" في هذا المنصب عالي الرمزية لسيدة نهضاوية غير أصيلة العاصمة يقال لها سعاد عبد الرحيم. صحيح أنها امرأة حداثية ونائبة سابقة بالمجلس الوطني التأسيسي وصيدلانية، إلا أنها ليست سليلة إحدى عائلات الحاضرة، تونس، وليست بورقيبية النزعة، فضلًا عن أنها ليست رجلًا. فكيف لها أن ترأس ثاني بلدية نشأت في العالم الإسلامي بعد بلدية إسطنبول، فتحوز فخر أول امرأة مسلمة ترأس مجلس بلدية عاصمة بلادها، وهي لا تتوفر على المرجعية الندائية الضيقة والتوجه العلماني النمطي وهما العنوانان اللذان يجمعان ما بات يُعرف في تونس بـ"جماعة النمط المجتمعي التونسي". 

دروس مستفادة وعبر مستعادة: الشباب حاضر بالغياب 

بالعودة إلى نتائج عملية سبر آراء الناخبين إثر الاقتراع(5)، يوم 6 مايو/أيار 2018، وأخذًا بعين الاعتبار جملةً من المتغيرات الاجتماعية والعمرية، نجد أن النسبة الكبرى من الشباب المستجوبين (حوالي 40 بالمئة) قد صوَّتوا للمستقلين. وحيث سُجِّل عزوف واضح من قبل الشباب عن العملية الانتخابية وفتور في التعاطي مع استحقاق الانتخابات البلدية وانصراف عن المشاركة في إدارة الشأن العام، فإن على الأحزاب السياسية أن تراجع حساباتها وأن تغير استراتيجياتها في استقطاب الشباب وتشريكه في العمل الحزبي وفي الحياة السياسية. ولا شك أن هذه الشريحة الاجتماعية الواسعة مدعوة إلى الإسهام بإبداعاتها الفكرية في نحت مستقبل أوطانها ومجتمعاتها. ويصبح هذا الانتظار أكثر إلحاحًا في المجتمعات التي يمثل فيها الشباب أغلبية السكان وأكثرهم تعلمًا. وهذه حال المجتمع التونسي الذي يرى في الشباب صانع ثورته وباني غده ومحقق رهاناته، على الرغم مما أصبح يُلاحَظ لدى هذه الفئة من عزوف عن الأنشطة المدنية وضعف في الالتزام الفكري والسياسي ونزوع إلى الاستهلاك السلبي لكل ما هو دارج وشائع. بيد أن هذه الملاحظة العفوية لا ترقى إلى مستوى الحكم العلمي ولا تنفي فرضية عجز هياكل المجتمع الرسمية منها والأهلية عن استقطاب الشباب وتوظيف طاقاته الفكرية الكامنة منها والمنطلقة في تفعيل الخيارات الوطنية ذات العلاقة بمعاشه ومستقبله، على غرار الديمقراطية الناشئة والحكم المحلي. 

واستئناسًا بنتائج المسح الميداني الذي أجراه المرصد الوطني للشباب حول واقع الشباب في تونس وتطلعاته(6)، والتي عُرضت بمناسبة المؤتمر الوطني للشباب، ديسمبر/كانون الأول 2016، نلاحظ أن الشباب التونسي يبدي عزوفًا واضحًا عن النشاط المدني وعن الانتماء الحزبي بسبب تدني ثقته في السياسيين وفي رموز المجتمع المدني ذوي التأثير العالي في توجيه القرار السياسي، حتى إن نسبة انخراطه في الأحزاب السياسية لا تتجاوز 3 بالمئة، حسب بعض الدراسات التي أنجزها المرصد الوطني للشباب. كما نلاحظ أن تمثُّل الشباب للقيادة ينحو منحى براغماتيًّا اقتصاديًّا يتصل بريادة الأعمال (بنسبة 53 بالمئة) يكاد يُخفي تمامًا المنحى السياسي (2.2 بالمئة). وهذا مما يفسر المشاركة الشبابية الضعيفة في الانتخابات البلدية مع أنها أول انتخابات محلية تعقب الثورة. أما السمة الأكثر وضوحًا لدى الشباب التونسي فهي ضعف دافعيته للعمل التطوعي مما يجعل مشاركته في التنمية الجماعية ضعيفة كمًّا ونوعًا. 

وأما عن الاهتمام بالشأن العام والمشاركة في إدارته عبر العمل الجمعياتي والنشاط السياسي (الحزبي أساسًا)، فالشباب في سلبية تنحو نحو الاستقالة. وهذه مفارقة حقيقية؛ حيث إن الشباب الذي كان الفاعل الرئيسي في "ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول-14 يناير/كانون الثاني" وجد نفسه ينزاح شيئًا فشيئًا إلى خارج دائرة الفعل السياسي والاجتماعي في ظل سيطرة شيوخ الدين والمال والسياسة على تلك الدائرة ولاسيما عقب الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014 التي جاءت لترسي قواعد "الوضع الدائم" وتضع حدًّا لمرحلة الحكم في وضع انتقالي. ومع أن مرحلة الانتقال الديمقراطي قد تدوم عقدًا أو عقدين من الزمن قبل أن تستقر الممارسة الديمقراطية وتُبنى مختلف المؤسسات الجمهورية وتكتمل كل الآليات الدستورية، إلا أن الشباب بات متبرمًا من الانتهازية السياسية والصراعات الأيديولوجية العقيمة وانتهى به الأمر إلى نوع من الإحباط المركوم الذي يغذِّيه الشك المريب في نزاهة الفاعلين السياسيين والمدنيين الذين أثبتت غالبيتهم الساحقة تشبثها بالسلطة وتقديم مصالحها على المصلحة العامة رغم أن خطابها لا يزال مركزًا على "المشروع الوطني" و"التوافق" و"الوحدة الوطنية" و"الحس المدني" و"علوية القانون"...إلخ. 

وعلى أية حال، فإن عزوف الشباب عن المشاركة المجتمعية هو تعبير واضح عن الانسحاب من مسرح المشاركة في الحياة العامة بما في ذلك الحياة السياسية والمدنية. ويبدو هذا جليًّا من النظرة النمطية لكل من العمل الجمعياتي والعمل الحزبي والتي ورثها الشباب من زمن ما قبل الثورة حيث كان يُنظر إلى عموم الناشطين الشباب في الحقلين المذكورين على أنهم مجموعة من الانتهازيين المتسلقين أو ثلة من الثورجيين المتنطعين، ثم انضافت إليهم بعد الثورة زمرة من غلاة المتدينين اتخذوا من العمل الخيري مطية لتحقيق مآرب سياسية تهدد السلم الاجتماعي والأمن القومي. وعلى الرغم من محاولات التشبيب العديدة التي عمدت إليها جل الأحزاب السياسية النشيطة، فإن نوايا الانتساب إلى تلك الأحزاب لم تتجاوز 2.2 بالمئة لدى أفراد العينة المستجوبة في إطار المسح الميداني الذي أجراه المرصد الوطني للشباب حول واقع الشباب في تونس وتطلعاته. وهذا مؤشر يشي بأن الشباب في قطيعة فكرية ووجدانية مع تلك الكيانات السياسية. ومع أن الأمر يختلف قليلًا فيما يتعلق بالانخراط في العمل الجمعياتي بجميع أصنافه ومجالاته؛ حيث صرح 11.2 بالمئة من المستجوبين بانتسابهم لمنظمات مدنية، إلا أن هذه النسبة تظل ضعيفة لاسيما بالنظر إلى السياق الانتقالي الذي يفترض تعبئة قطاعات واسعة من الشباب من أجل بناء تونس الغد وتحقيق أهداف ثورتها ذات العلاقة بالتنمية التضامنية والتوازن الجهوي والتشغيل. وهي أهداف صاغها شباب الثورة، لكن إكراهات الواقع وعودة القوى المناهضة للتغيير الذي بشرت به الثورة جعلتهم ينصرفون عنها شيئًا فشيئًا أمام مطارق الإحباط التي سفهت أحلامهم بغد أفضل من يومهم وأمسهم. 

وهنا موضع الإشارة إلى تناقض مواقف الشباب المستجوب من الانتخابات البلدية، فمن جهة هم يعتبرونها مهمة وضرورية، ومن جهة أخرى لا يبدون أي حماس للمشاركة فيها لاعتقادهم أن أصواتهم لن تغير شيئًا من واقع الحال. وبسؤالهم عن السبب الذي يكمن وراء عدم مشاركتهم، أجاب 50 بالمئة من المستجوبين بأنهم لم يسجلوا أسماءهم في القوائم الانتخابية. كما أجاب 13 بالمئة بأنهم لا يثقون في الأحزاب. أما بخصوص الترشح للانتخابات البلدية، فإن 82 بالمئة من المستجوبين يؤكدون أنهم لا يرغبون في ذلك، وهذا على الرغم مما قد يجلبه لهم الترشح من منافع مادية ورمزية إذا فازت قوائمهم الانتخابية. ولعل ذلك دليل ساطع على الحاجز النفسي الذي بات قائمًا بينهم وبين إدارة الشأن العام. وغير بعيد عن هذا الموقف، نجد اتجاه الشباب المستجوب نحو العمل التطوعي متسمًا بالبرود و"اللامبالاة الجميلة" والتقليل من الأهمية. وقد يعود هذا الموقف إلى أن الأسرة لا تثمِّن عادة هذا النوع من الأعمال وقد تعتبره مضيعة للوقت والجهد، كما أن المؤسسة التربوية لا تخصص حيزًا كافيًا من الزمن المدرسي للقيام بأعمال تطوعية لفائدة المجتمع المحلي أو المجموعة الوطنية، وبالتالي لا تعمل بجدية على نشر ثقافة التطوع والغيرية. ولذلك تبدو نسبة المشاركة الطوعية في صفوف الشباب ضعيفة جدًّا مقارنة بالمعدلات الدولية، حيث لم يقم إلا 16 بالمئة من الشباب المستجوب بعمل طوعي. 

على أن واجب التدقيق العلمي يقتضي الإشارة إلى أن عددًا مهمًّا من الشباب المستجوب أكدوا على أن عدم الرغبة في الانخراط في الأنشطة المدنية والسياسية لا علاقة له بالرغبة في القيادة أو بالقدرة عليها. وفي هذا المعنى، أكد 42 بالمئة من المستجوبين أنهم يتوفرون على الكفايات والمهارات القيادية اللازمة لتزعم الرأي لكنهم يفضِّلون توظيفها في مجال ريادة الأعمال والمقاولة الفردية. وهذا موقف يثير الاهتمام لأنه يبشر بثقافة قيادية جديدة قد يرسيها جيل جديد من باعثي المشاريع الشبان الذين يكونون أمثولة تُحتذى لأولئك الذين لا يزالون يراهنون على الوظيف العمومي طريقًا إلى الاستقرار المهني.    

خاتمة: مستقبل الفاعلين القدامى والجدد غداة الانتخابات البلدية 

جاءت نتائج الانتخابات البلدية، كما أعلنتها رسميًّا الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، معبِّرة عن إعادة تشكل المشهد السياسي التونسي وفق خارطة تتصدرها حركة النهضة، بعد أن تم حسم رئاسة 49 دائرة بلدية، من أصل 350، ضمنت الحركة 23 منها لصالحها باعتبار حصولها في كل منها على نصف عدد المقاعد أو أكثر. وسيكون بإمكانها أيضًا أن تعزز نصيبها من رئاسة المجالس البلدية، دونما عناء، فيما لا يقل عن 50 دائرة أخرى لم تحسم بعد رئاستها. وهذا لأنها تتوفر على الكتلة الكبرى في هذه المجالس؛ حيث يتجاوز نصيبها من المقاعد الثلث بكل مجلس، فضلًا عن أن الأحزاب التي حصلت على بعض المقاعد في تلك المجالس ليست مناوئة للنهضة ولن تعترض على رئاستها لها، على الأرجح. ونفس الأمر يصدق على من صعدوا من القوائم المستقلة ولاسيما في الجنوب حيث المزاج الشعبي العام ميال إلى النهضة. ومما سيخدم هذه الأخيرة ويفسح المجال رحبًا أمامها في سباق رئاسة المجالس البلدية بالمناطق الجنوبية ضعف النتائج التي حصل عليها هناك شريكها في الحكم وغريمها في الانتخابات، نداء تونس. فهذا الأخير يجد نفسه في وضعية معقدة بعد أن خسر الجنوب لصالح النهضة وخسر الساحل والشمال الشرقي لصالح المستقلين الذين ضمنوا حتى الآن رئاسة 13 بلدية جلها في تينك المنطقتين. ويمكن لهؤلاء أن يضاعفوا هذا العدد إذا ما تحالفوا فيما بينهم أو مع بعض الأحزاب متفاوتة النصيب. ويُلاحَظ أن المستقلين يتقدمون على الأحزاب في حوالي 60 بلدية من حيث عدد المقاعد سواء للقائمة المستقلة الوحيدة أو لمجموعة من القوائم المستقلة قد ترى أنه من الأصلح لها جميعًا أن تعقد تحالفًا فيما بينها بدل تحالف بعضها أو كلها مع هذا الحزب أو ذاك. 

أما نداء تونس، فقد ضمن هو الآخر رئاسة 13 بلدية. ولكن سيكون عليه أن يتحالف مع "غريمته"، النهضة، بشكل مبدئي واستراتيجي، في إطار "القبول بما أفرزته الإرادة الشعبية" ومواصلة "التوافق المر" معها، إن أراد أن يحصل على المزيد من المناصب الرئاسية في المجالس البلدية التي ضمن فيها الحزبان معًا أغلبية مريحة. أما إذا رغب النداء عن تجديد التوافق مع النهضة، فسيدير عملية السعي إلى الرئاسة المحلية حالة بحالة، فيبحث عن توافقات وتحالفات مع بعض الأطراف التي يعتبرها قريبة منه كالأحزاب الدستورية والليبرالية والعلمانية عمومًا. ولكن هذا "الخيار" سيكون محفوفًا بالمخاطر وسيجعله عرضة للابتزاز والمساومة أو للنبذ، لأن الأطراف السياسية التي سيتعاطى معها حينئذ هي إما أحزاب من نفس عائلته السياسية لكنها متقدمة عليه، وإما أحزاب مناوئة له على غرار التيار الديمقراطي وحركة الشعب. 

وتبقى رئاسة المجالس البلدية بالمدن المهمة، ولاسيما مدن تونس الكبرى ومراكز الولايات، هي الرهان الأكبر بالنسبة إلى كل من النهضة والنداء، لأن النتائج في هذه المدن لم تمنح الأسبقية لأي طرف سواء أكان حزبيًّا أو مستقلًّا. وهذا يعني أن التفاوض الصراعي والذكاء السياسي سيكونان حاسمين في الحصول على رئاسة تلك المجالس بدءًا بمجلس بلدية مدينة تونس الذي أثارت رئاسته كثيرًا من الجدل وأسالت كثيرًا من الحبر لدى المحللين السياسيين ومثله من اللعاب لدى أنصار الحزبين الرئيسيين. 

ويبقى السؤال قائمًا بخصوص وضع الأحزاب التي لم تحصل إلا على نسب قليلة من أصوات الناخبين ومقاعد المجالس البلدية(7): أي مستقبل لهذه الأحزاب ضمن المشهد السياسي التونسي الذي أصبح ينحو نحو الثنائية الحزبية ويحتاج إلى قطب ثالث لتعديل المشهد ولاسيما في الانتخابات التشريعية والرئاسية التي ستُجرى أواخر سنة 2019؟ وهنا، يمكننا الحديث عن أحزاب صاعدة وأخرى نازلة وثالثة عديمة الحركة. فأما الأحزاب الصاعدة فأهمها حزب التيار الديمقراطي الذي وإن كانت مشاركته جزئية في الانتخابات البلدية إلا أنه استطاع أن يحصل على أكثر من مئتي مقعد بالمجالس البلدية مما يرشحه إلى مزيد من الصعود في الانتخابات التشريعية القادمة. ويحظى هذا الحزب بمساندة طيف واسع من الغاضبين على ما آلت إليه الحياة السياسية من عودة للمعسكر القديم وتخاذل في محاسبة رموز الفساد. وأما الأحزاب النازلة فأهمها حزب مشروع تونس الذي يقدم نفسه على أنه بديل تصحيحي لنداء تونس بإمكانه إزاحة النهضة وحكم البلاد دون حاجة إلى التوافق معها، لكنه لم يحصل إلا على نسبة 1.72 بالمئة من مجموع أصوات الناخبين. وأما الأحزاب عديمة الحركة فخير مثال لها هي الأحزاب اليسارية والقومية المنضوية تحت لواء الجبهة الشعبية. فهذه الأخيرة لم تتحرك من مكانها حيث تحصلت مجتمعة على نسبة 3.06 بالمئة من أصوات الناخبين وهي نسبة تتناسب مع حجم تمثيليتها في مجلس نواب الشعب (البرلمان). غير أن هذا الوضع لا يخدم هذا الجسم السياسي الذي عجز عن تجديد خطابه وأصبح مهددًا بالاضمحلال في ظل بروز بعض الأحزاب اليسارية الجديدة التي ستسحب من رصيده وقد تستخدم خزانه الانتخابي بجميع مكوناته السياسية والنقابية والأيديولوجية في المستقبل القريب.

_________________________________

د. فتحي الجراي، أكاديمي تونسي ووزير سابق

نبذة عن الكاتب

مراجع

1 - بلغ نصيب حركة النهضة من إجمالي مقاعد المجالس البلدية 2138 مقعدًا، بينما حصلت حركة نداء تونس على 1586 مقعدًا، في حين بلغ عدد المقاعد التي آلت إلى المستقلين -على اختلاف قوائمهم- 2376 مقعدًا.

2 -  نشرت صحيفة "المغرب" نتائج سبر الآراء الذي أجراه مكتب سيغما للاستشارات إثر الاقتراع يوم 6 مايو/أيار 2018، في عددها رقم 2059 الصادر يوم السبت 12 مايو/أيار 2018.

3 -  راجع خطابه في المؤتمر العاشر للحركة، يوليو/تموز 2016.

4 -  يوجد اليوم في تونس أكثر من 210 أحزاب معظمها غير معروف وغير نشيط. ومما يؤكد ذلك المشاركة المحتشمة لتلك الأحزاب في الانتخابات البلدية؛ حيث إن نسبة الأحزاب التي شاركت ولو بصفة جزئية ومحدودة لم تتجاوز 10 بالمئة من مجموع الأحزاب المصرح بوجودها رسميًّا.

5 -  شملت هذه العملية 32306 ناخبين موزعين على 864 مكتب اقتراع موجودة بـ148 بلدية داخل 24 ولاية.

6 -  المرصد الوطني للشباب، التقرير التأليفي للحوار المجتمعي حول شؤون الشباب وقضاياه، تونس، 2016.

7 -  حصل حزب التيار الديمقراطي على 205 مقاعد، بينما حصل حزب مشروع تونس على 124 مقعدًا وحزب حركة الشعب على 100 مقعد، في حين لم يحصل حزب آفاق تونس إلا على 93 مقعدًا يليه حزب حراك تونس الإرادة بـ84 مقعدًا ثم الحزب الحر الدستوري التونسي بـ 76 مقعدًا.