الممانعة الإيجابية: دور المحور الكويتي-العماني في صلابة قطر

نجحت قطر بفضل قوتها الناعمة في جعل عُمان والكويت تتخذان موقف الحياد الإيجابي الذي أبقاها ضمن مجلس التعاون الخليجي ومنحها خيارات تتجاوز بها قيود الحصار.
eaa6ab20ee0142e7ac13adb094285168_18.jpg
السند الكويتي أفشل عزل قطر خليجيًّا (الأناضول)

مقدمة 

لم تواجه دولة قطر في تاريخها المعاصر تهديدًا كذاك الذي مثَّلته ما صارت تُعرف في الأدبيات السياسية بـ"الأزمة الخليجية" التي انفجرت شرارتها الأولى في الخامس من يونيو/حزيران عام 2017. استيقظت قطر -كما المنطقة والعالم- على وقع تلك الأزمة التي طارت لها ألباب العقلاء وحار فيها راصدو الأزمات ومحللو السياسات؛ إذ لم يكن السياق الإقليمي الظاهر يشي بوقوع حدث مركزي يقلب معادلات العلاقات الخليجية-الخليجية على النحو الذي أطاح بكثير من المقررات السياسية والقيمية والاجتماعية التي طالما ضبطت العلاقات الخليجية البينية واستطاعت عبر العقود الخمس المنصرمة -بدرجات متفاوتة الفاعلية- احتواء كثير من الخصومات، أو تخفيف غلوائها ومنعها من التطور إلى مهددات استراتيجية للأمن الجماعي للإقليم. لم يكن للأزمة الخليجية مقدمات مباشرة، غير أن مقدماتها التراكمية لم تكن تخفى على الرصد، فمنذ المحاولة الانقلابية التي استهدفت النظام السياسي القطري في العام 1996، انتظم السلوك السياسي لدول الحصار إزاء قطر في مسارات متضافرة تلتقي كلها عند ثلاثة مقاصد كلية:

  1. إخضاع الخيار الجيوستراتيجي القطري لمحددات تضعها هذه الدول.
  2. الإحاطة بقوة قطر الناعمة المالية والإعلامية والدبلوماسية، وإحباط فاعليتها.
  3. العزل السياسي لقطر على الصعيدين العربي والخليجي. كانت تلك المقدمات كامنة في العلاقات القطرية-الخليجية، والتي كان ظاهرها الاستقرار والوفاق وباطنها التوتر والشقاق. 

كان المشترك الاستراتيجي للأحداث التي تعاقبت منذ العام 1996 هو مصادرة السيادة القطرية، وضبط السلوك الجيوستراتيجي القطري إزاء القضايا الإقليمية كي لا يتحول إلى سلوك متمرد على المواضعات الخليجية (السعودية-الإماراتية على وجه التحديد)، ويغدو بالتالي مصدر تهديد لتلك المواضعات التي كانت صفتها الغالبة هي الاصطفاف مع الاستبداد السياسي والقمع الأمني والقهر الاجتماعي. 

جاء انفجار الثورات العربية في مطلع العشرية الثانية (2011) ليرفع الغطاء عن دبلوماسية "ستر العورات السياسية" التي درجت عليها المنظومة الخليجية تأثرًا بثقافتها القَبَلية، وليفرض مقاربات جديدة في التعاطي مع تلك الحالة الثورية التي اجتاحت المنطقة العربية، وليؤسس لاصطفافات استراتيجية تستجيب لشروط اللحظة التاريخية. فشرعت دول المنظومة الخليجية -إذعانًا لتلك الشروط التاريخية- في إعادة تموقعها تبعًا لرؤيتها الكونية وتوصيفها للحالة الثورية: أهي تهديد وجودي للدولة الخليجية، أم فرصة للتغيير الإيجابي، يمكن استثمارها والتناغم معها؟ 

طاشت سهام منظومة التعاون، وافترقت تصوراتها على ثلاث: فبينما اقتربت قطر من الحراك الثوري العربي، ووفرت له إسنادًا إعلاميًّا متعاظمًا، لعبت فيه قناة الجزيرة دورًا رياديًّا أسهم في النجاحات الثورية في كل من تونس ومصر وليبيا، اصطفت السعودية والإمارات مع بقايا الدولة العميقة وأعانتاها على تجميع أشلائها الممزقة وقدمتا لها إمدادًا ماليًّا وسياسيًّا مقدرًا، في حين آثرت كل من سلطنة عُمان والكويت البقاء في مربع الانتظار والترقب. كان لتلك الاصطفافات الحادة التي أملتها معادلات التدافع في لحظتها الحرجة تلك، ارتداداتها الاستراتيجية التي أفرزت -فيما أفرزت- تحولًا جذريًّا في المقاربة السعودية-الإماراتية إزاء السلوك القطري الذي قطع شوطًا بعيدًا في الاستقلال والتفرد، والذي انطلق في رؤيته الكونية (World View) من مقدمات قيمية وتحليلية رأت في الثورة العربية استحقاقًا تاريخيًّا لا تمكن مدافعته، فضلًا عن كونها حركة مطلبية عادلة سعت إلى كسر قيود القهر السياسي والبطش الأمني وما نتج عنهما من الحرمان الاقتصادي والهوان الإنساني. 

افترق المعسكران إذن، وكان لابد أن يُعَبَّر عن ذاك الافتراق بدرجة من الحدة والعنف تعكس مستويات التوتر والغضب التي استبدت بالمعسكر السعودي-الإماراتي، فكانت واقعة 2014 (سحب سفراء السعودية والبحرين والإمارات من قطر) التي نجح المسعى الكويتي-العماني في تطويقها، غير أنها خلَّفت من الارتدادات ما مهد لواقعة 5 يونيو/حزيران 2017، ذلك المنعطف الذي وضع قطر أمام مهددات مرتفعة الحدة، فكيف استطاعت تطويقها، وتخطي تبعاتها؟ وما الأدوار التي لعبها المحور الكويتي-العماني في هذا النزاع الخليجي الذي ما انفك يمزق الكتلة الخليجية ويولِّد مزيدًا من التحديات للأمن القومي الخليجي؟ 

حسابات القوة 

يبدو أن المحور السعودي-الإماراتي-البحريني اتكأ على مخزون القوة الصلبة التي يتمتع بها، وظن أن تفوقه الكمي والنوعي في مضمار القوة التقليدية كفيل بحسم المعركة؛ إذ إن نصيب الدولة القطرية من تلك القوة ضئيل للغاية إذا ما وُضِع أمام ما تحوزه السعودية وحدها من القوة الصلبة وفي طليعتها القوة العسكرية (في حالة اللجوء اليها). غير أن قطر -التي استثمرت في حقول القوة الناعمة خلال العقدين المنصرمين- استطاعت أن تُحدث اختراقات استراتيجية في جدار الأزمة، أي إن الدوحة تمكنت من قطف ثمار عوائدها الاستثمارية على الصعيدين الاستراتيجي والتكتيكي(1). 

أحد تجليات القدرة القطرية على استثمار عوائد القوة الناعمة تمثل في الاقتراب من المحور الكويتي-العماني الذي أضحى في جوهره أكثر انحيازًا إلى السردية القطرية، وإن احتفظ في العلن بالحياد لاعتبارات سياسية محض. لسنا بصدد تحليل مضامين القوة الناعمة القطرية أو تقييم أدائها إلا بقدر اتصالها بالمقاربات القطرية إزاء كل من سلطنة عمان والكويت بغية الوقوف على خلاصاتها النهائية. 

لو انحازت عمان والكويت إلى المحور السعودي-الإماراتي-البحريني، أو حتى التزمتا بالحياد السلبي، لأفضى ذلك إلى تداعيات بالغة العنت على قطر، ولأرهق الدولة القطرية من أمرها عسرًا. كان مجلس التعاون لدول الخليج العربية هو الأداة الإقليمية الأولى التي سعت دول الحصار إلى استخدامها لخنق قطر، وتجريدها من شرعية الانتماء والحضور الإقليمي وما يترتب على ذلك من إفرازات اقتصادية وسياسية واجتماعية. ولكن الممانعة الكويتية-العمانية أحبطت ذلك المسعى، ومكَّنت قطر بالتالي من الاحتفاظ بكافة استحقاقات عضوية المجلس. لا ريب أن هذه الممانعة ولَّدت مزيجًا من الغضب والارتباك لدى معسكر الحصار، ولكنها أيضًا أحدثت تحولًا في الحسابات الجيوستراتيجية لإدارة الصراع. لو نجح مسعى إخراج قطر من منظومة التعاون، أو تجميد عضويتها، لكانت تلك إصابة بالغة العمق في الوجدان القطري، ولأحدثت أيضًا تحولًا جذريًّا في خارطة التحالفات القطرية، الإقليمية منها على وجه الخصوص، خاصة لجهة الاقتراب من إيران بحسبانها ظهيرًا إقليميًّا محتملًا، ولكن الممانعة الكويتية-العمانية تلك أسهمت في جعل الارتباط القطري-الإيراني في درجاته الدنيا، ورفعت قيمة الاعتماد على الظهير الخليجي المتبقي المتمثل في الدولتين: الكويت وعمان.  

وتوزعت القوة القطرية الناعمة التي أدارت العلاقة مع المحور الكويتي-العماني على أربع مساحات:

أولًا: القوة الإعلامية: المعركة على العقول والقلوب هي ساحة الحرب الأولى في أي صراع، وتستوي في ذلك الصراعات مرتفعة الحدة وتلك منخفضة الحدة. خاضت قطر صراعها الخليجي ذاك مسلحة بمنظومة إعلامية عالية الجودة، محكمة الأداء، بعيدة الأثر، عميقة النفوذ. لم تكن تلك المنظومة المتمثلة في شبكة الجزيرة الإعلامية -بأذرعها المتعددة- وليدة لحظة الأزمة، بل كانت استثمارًا استراتيجيًّا مرتفع الكلفة، ليس المالية فحسب، بل السياسية أيضًا(2). وأغلب الظن أن القيادة السياسية القطرية أدركت في أعقاب المحاولة الانقلابية الأولى (1996)، وكنتيجة من نتائجها، أن الاستثمار في القوة الناعمة جملة، والإعلامية منها خاصة، هو خيار جيوستراتيجي لا محيد عنه لحماية الأمن القومي القطري. 

يظهر أن محاولة الانقلاب تلك قد أعادت تشكيل العقل الاستراتيجي القطري، ودفعت مراكز صناعة السياسات إلى إجراء مراجعات استراتيجية شاملة لمفهوم الأمن القومي، ومهدداته المحلية والإقليمية، وصولًا إلى صوغ استراتيجية أمن قومي كان من مكوناتها حيازة قوة إعلامية ضاربة؛ فكانت شبكة الجزيرة بمهنيتها الفنية عالية الجودة وخطابها الفكري الثائر، وجسارتها السياسية التي أحدثت تصدعات غير مسبوقة في جُدُر التقاليد الإعلامية الخليجية والعربية على حد سواء. تحملت الدولة القطرية كلفة هذا الفتح الإعلامي ورضيت بدفع أثمانه السياسية والأخلاقية الباهظة، ولكنها لم تلبث أن قطفت ثمار ذلك الاستثمار أضعافًا مضاعفة، ومن بين ذلك الحصاد كان الرأي العام الخليجي الذي انحاز في مجمله إلى السردية القطرية في النزاع، والذي تشكَّل خلال العقدين المنصرمين على وقع المنتج الإعلامي الذي صيغت مادته الفكرية والقيمية في مصانع شبكة الجزيرة بأذرعها الإخبارية والتحليلية والبحثية. أزعم أن الرأي العام الخليجي في المجمل قد انحاز إلى الرواية القطرية، وآية ذلك التجريم القانوني والإكراه السياسي اللذين لجأت إليهما دول الحصار لمنع مواطنيها والمقيمين على أرضها من إظهار أي قدر من الانحياز -حتى الصامت منه- إلى الرواية القطرية، أو إبداء أي درجة من التفهم لها.  

ثانيًا: القوة الأخلاقية: منذ بواكير الأزمة، بذلت دول الحصار جهدًا كثيفًا لاختراق الضمير الجمعي على الصعيدين العالمي والعربي، ولكن المستوى الخليجي حظي بتركيز أشد، ولم تفتأ المنصات الإعلامية تفرد مساحات واسعة لمخاطبة الضمير الجمعي الخليجي بغية التأثير في معاييره الأخلاقية، ومن ثَم دفعه نحو مربعات مساندة الحصار، أو، على أقل تقدير، إرباك موقفه الأخلاقي ومنعه من الانجذاب الوجداني للجانب القطري. نحت قطر المنحى ذاته، فشرعت في توظيف حزمة من الأدوات التي أرادت بها تعظيم مكاسبها الأخلاقية. 

تحقق لقطر في هذا المضمار ما لم يتحقق لخصومها. ليس هذا فحسب، بل إن السلطة الأخلاقية لدول الحصار تعرضت لغير قليل من التصدعات التي أفقدتها قدرًا كبيرًا من مصداقيتها حتى بين مواطنيها. فبينما رفعت دول الحصار الحرج عن أدواتها الإعلامية وأغرتها بالخوض في أوحال السباب والبذاءات اللفظية، امتنع الخطاب القطري (في مجمله) عن التورط في مساجلات لفظية هابطة، واحتفظ بقدر معقول من الرفعة الأخلاقية. وقد بدا المزاج القطري العام أكثر انضباطًا على المستوى الإعلامي، وأشد تحوطًا في مقارباته التعبيرية، بينما بلغت دول الحصار (أو من يعبِّر عنها من الكتَّاب والإعلاميين ومشاهير المغردين) درجة بالغة الفحش من التطاول على الأعراض والطعن في الشخصيات العامة، فولَّد ذلك كله موجة وجدانية مساندة للموقف القطري في النزاع. عكست تلكم التعبيرات اللفظية الموغلة في الفحش مستوى الانحدار الأخلاقي لأصحابها، كما أوحت للرأي العام الخليجي بحجم الاضطراب السيكولوجي الذي أصاب البنى النفسية للناطقين باسم الدول الأربع. 

أما المقاربات القطرية الرسمية فقد اتسمت بقدر من الرصانة والبعد عن الشحناء، فلم تجنح الدولة القطرية مثلًا إلى ما جنحت إليه الدول الخليجية الثلاث (السعودية، والإمارات، والبحرين) من تشريعات أفضت إلى تمزيق أواصر القربي والتشديد على المواطنين المرتبطين بمصالح تجارية وأخرى تعليمية واجتماعية(3). كما التزمت الدبلوماسية القطرية بنهج معتدل سواءً في اللغة السياسية المعبرة عن مواقف الدولة، أو في مضامين الخطاب ومحتوياته؛ إذ ما فتئت الخارجية القطرية تدعو إلى الحوار البناء والالتقاء على كلمة سواء، ولم تهبط بخطابها إلى مستنقعات التراشق اللفظي الخارج على أعراف العلاقات الدولية والمجانب لتقاليد التواصل الدبلوماسي، كما هي حال دول الحصار التي تلطخت خطاباتها الرسمية بغير قليل من العنف اللفظي.  

افتقرت اتهامات دول الحصار لقطر إلى أدنى درجات التماسك والموضوعية، وتجردت بالتالي من المصداقية الأخلاقية. أخفقت دول الحصار في تقديم قرائن -فضلًا عن أدلة- موضوعية داعمة لقائمة الاتهامات التي شملت دعم الإرهاب، والتقارب مع إيران، والتدخل في الشأن الداخلي لدول الحصار، والإثارة الإعلامية. وبتبعثرها ذاك، وعدم تماسكها، شكَّلت تلك الاتهامات سقطة أخلاقية أخرى استثمرتها الدبلوماسية القطرية، بل وحوَّلتها إلى أداة لإقناع الرأي العام بتهافت سردية دول الحصار، الأمر الذي أضفى على مشهد الأزمة عبيثة ساخرة. 

كان الرأي العام الخليجي عامة، والكويتي-العماني خاصة في طليعة الشرائح التي استجابت لتأثير القوة الأخلاقية القطرية، الأمر الذي شكَّل انتصارًا نوعيًّا آخر لقوة قطر الناعمة، ويسَّر بالتالي مزيدًا من الاقتراب مع المحور الكويتي-العماني. 

ثالثًا: القوة الدبلوماسية: لعبت الدبلوماسية القطرية أدوارًا بالغة الأثر في إدارة الأزمة، وأظهرت قدرًا رفيعًا من المهنية في تعاطيها مع مكونات الحدث. شكَّلت قوة قطر الناعمة في المساحات الإعلامية والأخلاقية والاقتصادية البنية الأساسية التي انطلقت منها الدبلوماسية القطرية وهي تجوب بقاع الأرض لتبسط حجتها من جهة، وتدحض حجج خصومها من جهة أخرى. استمدت الدبلوماسية القطرية قوتها من السمة الوطنية "National Brand"(4) التي اشتغلت عليها الدولة القطرية سنين عددًا لبناء الصورة الذهنية لقطر، فلما حان وقت القطاف وجدت الدبلوماسية القطرية نفسها مسلَّحة بترسانة من القوة الناعمة استطاعت عبر سنوات الاستثمار أن تحقق اختراقات ناعمة في فضاءات الإعلام والتعليم والجذب الاستثماري والمعونات الإنسانية والإسناد السياسي لمطالب الشعوب. مهَّد هذا الكسب للدبلوماسية القطرية سبل الانطلاق في آفاق العلاقات الإقليمية والدولية، متسلحة بـ"سمة وطنية" قد تجذرت سلفًا في ذاكرة الأمم الجمعية، واكتسبت غير قليل من النفوذ وحسن الصيت.  

اتكأت السياسة الخارجية القطرية -في إدارتها للأزمة- على رصيد من المصداقية الأخلاقية والجذب الاستثماري والفاعلية الإعلامية، فاستطاعت أن تحقق كسبًا دبلوماسيًّا على الصعيدين الإقليمي والدولي(5). نشطت الدبلوماسية القطرية في الفضاءين، الدولي والإقليمي، من أجل استمالة أو تحييد القوى الفاعلة، وقد تحقق لها في هذا المضمار إنجازات مقدرة، لعلها الأهم في تاريخها المعاصر؛ إذ استطاعت أن تكسب مواقف مساندة وأخرى محايدة خاصة في الفضاء الغربي: الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية. كان المحور الكويتي-العماني ضمن المدارات التي انجذبت إلى الموقف القطري في جوهرها، وإن أعلنت عن موقف حيادي في الظاهر، لاعتبارات دبلوماسية محض. تجلى ذلك الانجذاب في الخطاب الإعلامي الذي انحاز في مجمله إلى السردية القطرية في تكييف الأزمة، كما تبدَّى في منصات التواصل الاجتماعي -المتحللة بطبيعتها من أي التزامات قانونية أو سياسية- التي جاءت غالب تعبيراتها متعاطفة إنسانيًّا ومساندة سياسيًّا للموقف القطري. 

أما على المستوى الرسمي، فإن احتفاظ قطر بعضويتها كاملة غير منقوصة في مجلس التعاون يُعدُّ إنجازًا مقدرًا للدبلوماسية القطرية. صحيح أن ممانعة المحور الكويتي-العماني لعبت دورًا مركزيًّا، ليس في رفض إخراج قطر من المجلس فحسب، بل أيضًا في صيانة المجلس ذاته من التفكك والاندثار ولكن الصحيح أيضًا أن مهنية الدبلوماسية القطرية وأداءها المتماسك كان عنصرًا فاعلًا في تشكيل الرؤية الكويتية-العمانية. كان انعقاد القمة الخليجية الثامنة والثلاثين في الكويت (5 ديسمبر/كانون الأول 2017) تجسيدًا للممانعة الإيجابية للمحور الكويتي-العماني، كما هو تجسيد أيضًا لفاعلية الدبلوماسية القطرية وقدراتها الإقناعية. 

رابعًا: قوة الجذب الاستثماري: علينا أن نفرِّق ابتداء بين صنفين متداخلين من القوة، كلاهما داخل في تصنيفات القوة والمشترك بينهما هو "الاقتصاد" بتعريفه الواسع وتجسيداته متعددة الأبعاد. فالقوة الاقتصادية للدولة هي صنو قوتها العسكرية وهي أحد أبرز الأدوات الجيوستراتيجية المستخدمة في إدارة المصالح العليا وضبط معادلات الصراع. قوة الدولة الاقتصادية لا تنحصر في احتياطاتها النقدية، أو أدواتها الإنتاجية، أو حجم ناتجها المحلي الإجمالي (GDP)، بل تتسع لتشمل بنيتها الجيوسياسية بما تمثله من امتيازات أنتجتها الجغرافيا وعززتها تطلعات سياسية متوثبة. الحد الفاصل بين صنفي "القوة الاقتصادية" هو أسلوب التوظيف وما يترتب عليه من طرائق التعاطي مع الآخر. فحينما تُستخدم القوة الاقتصادية لإكراه الآخر على إعادة تموضعه، أو إغرائه بقصد حمله على تغيير سلوكه السياسي، فإن هذه المقاربة تنتمي إلى القوة الصلبة (Hard Power). أما إذا استخدمت الدولة موردًا من مواردها الاقتصادية المتحققة أو الكامنة -طبقًا لشمولية التعريف الذي أشرنا إليه- لجذب الآخر إلى مداراتها الاستثمارية -على سبيل الإقناع وليس الإكراه- فإن تلك المقاربة هي أقرب إلى مساحات القوة الناعمة (Soft Power)(6) الإكراه والإقناع هما العنصران المفتاحيان المحددان لطبيعة القوة المستخدمة وفاعليتها، وبالتالي تصنيف انتمائها. 

فتح الحصار -بما ترتب عليه من تمزيق الروابط التجارية وتجميد أو إلغاء كافة المشاريع الاستثمارية المشتركة بين قطر ودول الحصار- أبوبًا لشراكة تجارية متينة مع القطاعين العام والخاص في كل من سلطنة عمان والكويت. استجابت الدولتان لتلك الفرص الاستثمارية التي نشأت في أعقاب الحصار وكنتيجة من نتائجه، وسارعت قطر بدورها إلى احتضان تلك الاستجابة، فيسرت لها السبل وذللت أمامها الصعاب، ومنحتها امتيازات استثمارية جاذبة، فشهد النصف الثاني للعام 2017 حراكًا تجاريًّا غير مسبوق، تمثَّل في كثافة الاتصال التجاري بين الدول الثلاث. وكانت محصلة ذلك كله الانخراط في جملة من المشاريع الاستثمارية المشتركة، والتأسيس لتعاون تجاري هو آخذ في التمدد والنمو.  

ليس من أغراض هذا البحث الإحاطة بأوجه التبادل التجاري بين قطر وكل من الكويت وسلطنة عمان، وحسبنا الإشارة إلى بعضها. بحكم موقعها الجغرافي الذي أتاح لها امتدادات بحرية مترامية ومنحها امتيازات ملاحية فريدة، دشنت عمان خطوطًا ملاحية مع قطر كان أبرزها الخطان البحريان المباشران بين ميناء حمد في الدوحة ومينائي صحار وصلالة اللذين أسهما في تعاظم حجم التبادل التجاري بين البلدين(7). كما شهدت الملاحة الجوية نشاطًا متعاظمًا، خاصة بعد أن حصلت الخطوط الجوية القطرية على امتياز تشغيل مطار صحار. ووفقًا لما صدر عن المركز الوطني (العماني) للإحصاء والمعلومات، فإن الصادرات العمانية إلى قطر قفزت من 97.122 مليون ريال عماني عام 2016، إلى 325.4 مليون ريال حتى نهاية الربع الثالث من العام 2017(8). وكذا الحال مع الكويت التي شهد النشاط التجاري معها اتساعًا متسارعًا خاصة في مجالات الطيران والنقل والسياحة(9). ستبقى قوة الجذب الاستثماري هي الأقدر على تمتين الروابط البينية مع المحور الكويتي-العماني، والأبلغ أثرًا -بالتالي- في صوغ معادلة العلاقات الخليجية-الخليجية. 

خاتمة 

منذ النصف الثاني من تسعينات القرن المنصرم، تُشكِّل القوة الناعمة حجر الزاوية في سياسة قطر الخارجية، وقد حصدت الدولة القطرية عوائد استثمارية متعاظمة من وراء استثمارها ذاك في حقول القوة الناعمة. غير أن الأزمة التي انفجرت شرارتها الأولى في الخامس من يونيو/حزيران 2017، كانت هي المنعطف التاريخي الذي أعاد تشكيل العقل الاستراتيجي القطري، ومن إفرازات إعادة التشكيل تلك تعاظُم الإحساس بمركزية "القوة الناعمة" في الوعي السياسي القطري بشقيه الرسمي والشعبي. تعززت أهمية القوة الناعمة -بأبعادها ومكوناتها المتعددة- في العقل الجمعي القطري بسبب عوائدها المحسوسة التي أسهمت في حماية الأمن القومي القطري ومكنت الدولة القطرية من الالتفاف على معضلة القوة الصلبة، والمناورة في فضاءات القوة الناعمة التي وفرت للدبلوماسية القطرية حيزًا واسعًا للنفوذ.  

ولكن القوة الناعمة لا تعمل بمعزل عن القوة الصلبة، فالوضع الأمثل هو أن تتعاضد القوتان لتشكِّلا ما يُعرف بـ"القوة الذكية" (Smart Power)، التي تصنع من العنصرين مزيجًا متجانسًا من القوة. عمدت قطر إلى تعزيز قوتها الصلبة عبر سلسلة من التحالفات العسكرية، كان منها التقارب العسكري مع تركيا، وهي قوة استراتيجية تضطلع بأدوار مركزية على المستوى الإقليمي(10). ويظهر أن التقارب التركي-القطري ليس تقاربًا براغماتيًّا محضًا، بل تمتزج فيه المصالح بالمحددات القيمية والأخلاقية التي تصدر عنها الدولتان في تصوراتهما الإقليمية، والتي تسهم بالتالي في صوغ مقارباتهما الجيوسياسية إزاء قضايا المنطقة. ومن شأن المشترك القيمي ذاك أن يعزز التحالف القطري-التركي، ويمده بقيمة مضافة تمنحه مزيدًا من التماسك الاستراتيجي. 

أبلت الدبلوماسية القطرية بلاءً حسنًا في معركة استقطاب المحور الكويتي-العماني بينها وبين خصومها، غير أن معركتها القادمة في هذا المضمار ستكون أشد ضراوة؛ ذلك أن دول الحصار ستبذل جهدًا مضاعفًا من أجل استمالة هاتين الدولتين أو تحييدهما. سيحتفظ هذا المحور بمركزتيه الاستراتيجية كأحد أهم المدارات الحيوية للدبلوماسية القطرية التي عليها -كي تحافظ على تفوقها في معركة الاستقطاب تلك- أن تضاعف استثمارها في:

  1. تعظيم قوة الجذب الاستثماري بحسبانها الأداة الأكثر فاعلية في ضبط معادلة العلاقة مع هاتين الدولتين.
  2. تكثيف حجم الاتصال بالرأي العام الكويتي-العماني باعتباره المخزون البشري الأقرب وجدانيًّا للموقف القطري، والأقدر على صناعة حالة شعبية مساندة للسردية القطرية في النزاع. 

_______________________________________

د. عبد الله محمد الغيلاني، باحث عماني في الشؤون الخليجية

نبذة عن الكاتب

مراجع

1. للوقوف على أهمية القوة الناعمة، انظر:

Nye Jr, Joseph, “How Sharp Power Threatens Soft Power”، Foreign Affairs, 24 January 2018, (Visited on 23 May 2018):

 https://www.foreignaffairs.com/print/1121771.

2. انظر: التميمي، نواف، "الدبلوماسية القطرية واختبار الأزمة"، سياسات عربية، العدد 27، يوليو/تموز 2017، ص 15-16. 

3. انظر: أحمد جبريل، أمجد، "أزمة قطع العلاقات مع قطر .... إلى أين؟"، مركز إدراك للدراسات والاستشارات، يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 23 مايو/أيار 2018):

http://idraksy.net/the-crisis-of-severing-relation-with-qatar/

4. Szondi, Gyorgy, “Public Diplomacy and Nation Branding: Conceptual Similarities and Differences”, Netherlands Institute of International Relations, October 2008, (Visited on 23 May 2018):

 http://www.kamudiplomasisi.org/pdf/nationbranding.pdf

5. التميمي، "الدبلوماسية القطرية واختبار الأزمة"، مرجع سابق.

6. Bilgin, Pinar & Elis, Berivan “Hard Power, Soft Power: Toward a More Realistic Power Analysis”، Insight Turkey, Vol. 10, No. 2/2008, p. 5-20.                                                                                                  

 http://pbilgin.bilknet.edu.tr/Bilgin-Elis-IT-2008.pdf

7. "سلطنة عمان: منطقة العبور والترانزيت للمنتجات القطرية"، الراية، 27 سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 23 مايو/أيار 2018):

http://www.raya.com/news/pages/b29f2ee2-8869-4692-af6b-2dabebb4e340

8. أشقر، طارق، "ما هي آفاق التبادل التجاري العماني القطري؟"، الجزيرة نت، 7 فبراير/شباط 2018، (تاريخ الدخول: 23 مايو/أيار 2018):

https://bit.ly/2BMq0dp

9. البحار، علاء، "الوجه الآخر لحصار قطر.... 8 رابحين من الأزمة الخليجية"، العربي الجديد، 14 يونيو/حزيران 2017، (تاريخ الدخول: 23 مايو/أيار 2018):

https://www.alaraby.co.uk/economy/2017/6/14/الوجه-الآخر-لحصار-قطر-8-رابحين-من-الأزمة-الخليجية

10. Aras, Bulent and Akpinar, Pinar, “Turkish Foreign Policy and the Qatar Crisis”, Istanbul Policy Center, Sabanci University, August 2017.

http://ipc.sabanciuniv.edu/wp-content/uploads/2017/08/Aras_Akpinar_QatarCrisis.pdf