مركزية القوة في السياسة الدولية
القوة مفهوم مركزي في بنية العلاقات الدولية وفي نظرياتها المتعددة برغم الجدل المستمر حول تعريفها. حتى قبل أن تصبح العلاقات الدولية حقلًا من حقول الأكاديميا الحديثة له نظرياته ومناهجه ورواده، مثَّلت القوة، على مدى التاريخ، محورًا أساسيًّا في العلاقات بين الكيانات السياسية مُدُنًا ودولًا وإمبراطوريات. في تفسيره لأسباب الحرب البيلوبونيزية، يعتبر ثوسيديدس أن توزيع القوة بين معسكري المدن-الدول الإغريقية (حلف ديلوس بقيادة أثينا من جهة، وحلف البيلوبونيز بقيادة إسبرطة من جهة أخرى) كان السبب الرئيس. فهو يرى أن "صعود القوة الأثينية هو الذي دفع سكان إسبرطة للخشية على أمنهم، فكان اندلاع الحرب أمرًا محتومًا"(2).
أما حديثًا، فقد ارتبط مفهوم القوة بالمدرسة الواقعية أكثر من غيرها، ولكن النظريات الأخرى، بدورها، لا تفتأ تدور حوله وتنطلق منه وتعود إليه وإن بتنويعات لا تنقص من مركزيته في أي تحليل. هانز مورغنثاو، من مؤسسي المدرسة الواقعية في نسختها الكلاسيكية، يؤكد أن "السياسة الدولية، مثلها مثل السياسة في أي مستوى آخر، تقوم على الصراع من أجل امتلاك القوة، وأنه أيًّا كانت الأهداف القصوى للسياسة الدولية، فإن القوة تظل هدفها المباشر"(3). وبما أن القوة محور الصراعات في مختلف مستويات النظم الاجتماعية، فإن "الصراع على القوة يجعل من السياسة الدولية بالضرورة ساحة لسياسة القوة"(4). من جهته، يركز كينث والتز على الطابع "غير التراتبي" (anarchic) للمنظومة الدولية التي تغيب فيها كل سلطة عليا يمكنها فرض النظام وحفظ الأمن وتنظيم العلاقات بين مكوناتها من الدول. في نظام كهذا، حيث "يمكن لبعض الدول أن يستخدم القوة في أي وقت من الأوقات، فإن على كل الدول أن تكون مستعدة أيضًا لاستخدامها، وإلا فإنها ستُضطر للعيش تحت رحمة جيرانها الذين يفوقونها في مجال القوة العسكرية. فالحالة الطبيعية في مجال العلاقات بين الدول هي حالة الحرب"(5).
ولا يختلف الواقعيون الجدد (الواقعيون البنيويون) عن أسلافهم الكلاسيكيين في اعتبار مراكمة القوة غاية الدولة القصوى. فحسابات القوة لدى جون ميرشايمر هي التي تقود سلوك الدول وتكيِّف رؤيتها لذاتها و"هي التي تشكل الطريقة التي تنظر بها كل دولة إلى العالم من حولها"(6). إن الحفاظ على البقاء في بيئة عالمية تتسم، بنيويًّا، بالخطورة وعدم اليقين، حيث التهديدات بالاعتداء والغزو الخارجي قائمة باستمرار، يحتِّم على الدولة، باعتبارها فاعلًا عقلانيًّا، تأمين قدر كاف من القوة للدفاع عن وجودها. ولكن، نظرًا لأن كل دولة تجهل حجم القوة التي تملكها الدول المجاورة، وتجهل كذلك نية الماسكين بالحكم فيها، فإن مراكمة المزيد من القوة، خاصة القوة العسكرية، يصبح شغلها الشاغل. وبما أن القدرة على اكتساب القوة ومراكمتها ليست متساوية، لأسباب موضوعية، فإن الدول الكبرى هي التي تفرض هيمنتها على النظام الدولي وعلى القانون الدولي وعلى المؤسسات الدولية.
تلتقي المقاربة المؤسسية للعلاقات الدولية مع الواقعيين في بعض العناصر التحليلية للنظام الدولي، ولكنها تميل إلى ترجيح دور التعاون والمؤسسات في التخفيف من المخاطر التي تتهدد المنظومة الدولية. فالعمل بشكل تعاوني ضمن مؤسسات مشتركة يساعد على معرفة نية الدول الشريكة، وبالتالي يخفف من احتمالية استخدام القوة بصورة مفاجئة ويضيِّق بالتالي من دائرة "عدم اليقين" إزاء سلوك الدول الأخرى. يتفق روبرت كيوهان، أحد أبرز منظِّري الليبرالية الجديدة مع هذا الطرح ويعترض على توصيف الواقعيين للسياسة الدولية بكونها "بيئة حرب". صحيح أن القوى الكبرى فرضت هيمنتها على السياسة الدولية ولكن تلك الهيمنة لم تكن دائمًا عن طريق الحرب واستخدام القوة الصلبة "السياسة الدولية ليست ساحة حرب"، يقول كيوهان، فرغم النزاعات المستمرة، هناك مصالح مشتركة تربط بين الدول وتجعل من بعض أشكال التعاون، خاصة على الصعيد الاقتصادي، مفيدًا للجميع. كما أن "إدراك الدول لمصالحها ولكيفية تحقيق أهدافها لا يقومان على مفهوم المصلحة الوطنية وعلى توزيع القوة العالمية وحسب، بل أيضًا عن طريق كمية المعلومات ونوعيتها وتوزيعها عبر العالم. فالاتفاق الذي يصعب حصوله بين الدول في الحالات التي ترتفع فيها درجة عدم اليقين، يصبح ممكنًا حين تنخفض تلك الدرجة بفضل نظم تبادل المعلومات ومؤسساتها المشتركة"(7).
لا شك أن الطرح الليبرالي لأهمية التعاون والشراكة في السياسة الدولية يحمل في طياته بعض الصحة، ولكن على صعيد الواقع، حتى المنظمات الدولية التي تبدو في ظاهرها محايدة، هي في الحقيقة أدوات قوة غير مباشرة تسيِّرها الدول الكبرى وتتحكم في خياراتها وأجنداتها. ولا يقتصر الأمر هنا على الهيئات الدولية والأممية، وإنما يشمل كذلك المنظومات الإقليمية من مجالس تعاون وتنسيق وعمل مشترك. فإذا كانت القوة بهذه الأهمية في نظريات العلاقات الدولية، فما مفاهيمها الأساسية؟ وكيف تغيرت آليات استخدامها عبر العقود الماضية؟
من القوة الصلبة إلى القوة الناعمة ومن القوة الذكية إلى القوة الحادة
في العام 1990، أدخل جوزيف ناي إلى مجال التداول مفهوم "القوة الناعمة" باعتباره الوجه الآخر للقوة الصلبة. فالدولة يمكنها أن تحقق أهدافها بوسائل أخرى دون الاضطرار إلى استخدام القوة التقليدية أو التهديد بها. فالقوة الناعمة في تعريف ناي هي "قوة الجاذبية التي تجعل الناس يريدون ما تريد بدلًا من إرغامهم على تغيير سلوكهم بالقوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية"(8). إنها باختصار القدرة على إقناع الآخرين بتنفيذ أجندتك دون تهديد صريح أو مبادلة، فجاذبية القيم وخصائص النموذج هي التي تجعل الآخرين يتعاونون طوعيًّا، فينتهجون سلوكًا معينًا أو يمتنعون عنه. ويحدد ناي موارد القوة الناعمة للدول في ثلاثة مستويات: الثقافة (بما هي آداب وفنون ونظم تعليمية إضافة إلى الثقافة الشعبية)، والقيم السياسية (نمط الحكم وقيم العدالة والمواطنة وحرية الاختيار)، والسياسة الخارجية (ترويج سياسات خارجية تقوم على دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتقرير المصير وتسوية النزاعات سلميًّا). ورغم الارتباط الوثيق بين القوة الصلبة والقوة الناعمة من حيث تكاملهما في ممارسة التأثير على سلوك الآخرين، إلا أن امتلاك موارد القوة الناعمة لا يقتضي بالضرورة امتلاك موارد القوة الصلبة بنفس المقدار. كما أن أثر القوة الناعمة غالبًا ما يكون أوسع وأدوم من أثر القوة الصلبة الذي عادة ما يكون محدودًا في الزمان والمكان.
لاحقًا، أطلقت سوزان نوسل مصطلح "القوة الذكية" ليعكس تطورات جديدة في فهم مسألة القوة في السياسة الدولية(9). القوة الذكية ليست بالقوة الصلبة ولا هي بالقوة الناعمة، يقول ريتشارد أرميتاج وجوزيف ناي، اللذان مَنَحَا هذا المفهوم رواجًا أوسع في التقرير الذي أشرفا على إعداده لفائدة مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: "وإنما هي المزاوجة الماهرة بين الاثنتين". فالوصول إلى معادلة دقيقة بين القوتين، الصلبة والناعمة، وضبط الإيقاع بينهما لتحقيق أقصى ما يمكن من الأهداف يتطلب قدرة معايرة عالية. تلك القدرة هي القوة الذكية "التي تزاوج استراتيجيًّا بين استخدام القوة العسكرية وتستثمر في الوقت ذاته في التحالفات والشراكات والمؤسسات بمختلف مستوياتها"(10).
في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2017، نشرت "الفورن أفيرز" مقالة لكريستوفر وولكر وجيسيكا لودفيغ ورد فيه مفهوم جديد للقوة هو "القوة الحادة"(11). ثم أُعيد نشر المقالة في تقرير أوسع صدر في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه عن الوقف الوطني من أجل الديمقراطية بعنوان "القوة الحادة: صعود التأثير السلطوي". يعتبر مؤلفو التقرير أن مفردات القوة الصلبة والقوة الناعمة متقادمة وتنتمي إلى الحقبة التي أعقبت نهاية الحرب الباردة. وبالتالي، فهي لم تعد قادرة على تفسير الديناميات الجديدة في مجال السياسة الدولية واستيعاب التعقيدات التي رافقتها. فبعض مظاهر القوة التي طرأت في السنوات الأخيرة على صعيد العلاقات الدولية لا يمكن إدراجها ضمن القوة الصلبة أو القوة الناعمة ولا حتى القوة الذكية. فالصين وروسيا مثلًا تستخدمان تقنيات جديدة بغرض التأثير ليست من قبيل القوة الصلبة بما هي إرغام على تغيير السلوك عبر استخدام القوة العسكرية أو الاقتصادية. وليست كذلك من قبيل القوة الناعمة بما تعنيه من جاذبية ناشئة عن قبول طوعي لنموذج ثقافي أو قيم سياسية أو سياسة خارجية لدولة من الدول. وخلافًا للقوة الصلبة والقوة الناعمة اللتين تحملان معاني موضوعية أو إيجابية في حالة القوة الناعمة، يحمل مفهوم القوة الحادة حمولة سلبية لأنه مرتبط بالأساس بالدول السلطوية التي تريد أن تمارس التأثير العالمي بنفس الأساليب التي تستخدمها في الداخل. فالصين وروسيا، حسب وولكر ولودفيغ، "تستخدمان تقنيات للتأثير في مجالات الإعلام والثقافة ومراكز الفكر والأكاديميا، ليس بغرض الجذب أو الإقناع وإنما للتلاعب وبث البلبلة"(12). في هذا السياق، يمكن فهم التدخل الروسي المزعوم في التأثير على قطاعات من الرأي العام الغربي أثناء الانتخابات في أميركا وبريطانيا على سبيل المثال، عبر استخدام تكنولوجيات التواصل الحديثة وشبكات الميديا الاجتماعية والتحكم في نوعية المعلومات التي تصل إلى الجمهور المعني. محاولات التأثير عبر تقنيات القوة الحادة يمكن أيضًا ملاحظتها في ثنايا الأزمة الخليجية التي انطلقت في أساسها من قرصنة حساب وكالة الأنباء القطرية والتحكم في محتواها من قبل دول الحصار تمهيدًا لاندلاع الأزمة.
انعطافة الإطار التحليلي: من معادلة الموارد إلى قوة التأثير
رغم اختلاف المقاربات النظرية، ظل مفهوم القوة بمعناه التقليدي منحصرًا في اعتبارات "صلبة" تؤكد على حجم "الموارد القومية" التي تملكها الدولة ودورها في حفظ الأمن القومي. يدخل في تلك الموارد، التي ينبغي أن تكون عينية وقابلة للقياس: القوة العسكرية، والمساحة الجغرافية، وعدد السكان، والموارد الطبيعية، والقدرات التصنيعية. ساد هذا المنحى "المواردي" أدبيات العلاقات الدولية لعقود، ولكن مع منتصف خمسينات القرن العشرين برز اتجاه جديد يؤكد على البعد "العلائقي" للقوة ويركز على جدواها في التأثير الخارجي، فيما اعتُبر انعطافة مهمة في تاريخ هذا المفهوم. فالقوة الكامنة باعتبارها جملة من "الموارد" لا قيمة لها إذا لم تتحول إلى قوة فعلية من خلال القدرة على التأثير في الآخرين بغرض تغيير سلوكهم، سيما أن القوة في أحد تعريفاتها البسيطة تعني قدرة (أ) على إحداث تأثير في (ب) يدفعه لتغيير سلوكه فعلًا أو امتناعًا.
هذه الانعطافة، أو "الثورة" كما يسميها دافيد بالدوين في النظر إلى دور القوة في السياسة الدولية، تضافرت لبلورتها جهود عدد من المنظِّرين من حقول معرفية مختلفة مثل علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد والفلسفة إلى جانب العلوم السياسي(13). ويُعدُّ هارولد لاسويل وأبراهام كابلان، مؤلفا كتاب "القوة والمجتمع"، رواد هذه الانعطافة التي خرجت بمفهوم القوة من الحدود "الوطنية" الضيقة إلى المجال العلائقي بين الدول، وحوَّلت التركيز من ملكية "الموارد" إلى القدرة على توظيف تلك الموارد في التأثير وتغيير سلوك الآخرين. لم يُغفل لاسويل وكابلان أهمية القوة الصلبة ولكنهما أضافا إليها عوامل أخرى مثل "الاحترام والاستقامة والعاطفة والاستنارة كقيم أساسية للقوة والتأثير"(14).
من هذا المنظور "العلائقي"، لم يعد الأهم في موضوع القوة امتلاك الدولة للموارد وإنما طريقة استخدامها وتوظيفها توظيفًا سليمًا لتحقيق الأهداف المرجوة؛ إذ يمكن أن يكون لديك من موارد القوة الصلبة ما يفوق عدوك بأضعاف مضاعفة ولكنك إذا استخدمتها بطريقة خاطئة أو لم تدرك قيمة تلك الموارد فإنك تخطئ أهدافك أو تعجز عن تحقيقها.
من وجوه القصور الأخرى في المقاربة "المواردية" للقوة، اكتفاؤها بالعناصر الصلبة العينية القابلة للقياس، والتغاضي عن عناصر أخرى غير مرئية وغير قابلة للقياس قد تلعب أدوارًا حاسمة في الصراعات وفي استراتيجيات التأثير الخارجي. صحيح أن السياسيين والقادة العسكريين عمومًا يميلون في تقديرهم لقوة الدول إلى التعيين والقياس عند اتخاذ قرارات الحرب والسلم، ولكن ذلك كثيرًا ما يوقعهم في حسابات خاطئة. فالقيادة والإرادة والاستراتيجية والسياق وصناعة الصورة والفاعلون من غير الدول، كلها عناصر ينبغي أخذها بعين الاعتبار في حسابات القوة. والتاريخ يقدم لنا نماذج كثيرة من الحروب التي كانت مساراتها أو نهاياتها مخالفة لحسابات القوة الصلبة. من أمثلة ذلك حربا فيتنام وأفغانستان حيث انهزمت القوتان العظميان أمام دولتين صغيرتين ومجموعات من المقاتلين لا يملكون من موارد القوة الصلبة ما يُعتد به. يمكن أن نضيف إليهما حرب اليمن الجارية واختلاف مسارها عما كان قد رُسم لها عند انطلاقها في أواخر مارس/آذار 2015. الحسابات الخاطئة التي لا ترى في القوة إلا عناصرها الصلبة ولا تنظر عند تقدير الموقف إلا إلى الفوارق على صعيد العتاد العسكري والمساحة الجغرافية وعدد القوات المسلحة وحجم الاقتصاد دون سواها، غالبًا ما تفوِّت على الدول تحقيق أهدافها. يعرض ريتشارد باركر في كتابه "سياسة الحسابات الخاطئة في الشرق الأوسط"(15) عددًا من الحالات التي أخطأ فيها الأميركان والسوفييت حساباتهما في عقدي الستينات والسبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي في كل من فلسطين ومصر ولبنان.
أهمية هذه الانعطافة لا تكمن فقط فيما فتحته من آفاق فكرية على مستوى النقاش الدائر حول القوة واستخداماتها في العلاقات الدولية، وإنما أيضًا، وبالأساس، فيما أحدثته من تعديل في فهمنا لموضوع توازن القوة. فمحددات توازن القوة في العلاقات الدولية لم تعد محصورة كما في السابق في أحجام الدول وما تملكه من عناصر القوة الصلبة، وإنما أصبح بإمكان الدول الصغيرة، على سبيل المثال، أن تحقق توازن قوة مع دول كبيرة من خلال توظيف عناصر أخرى من القوة غير التقليدية. على هذا الصعيد، يقدم لنا صمود دولة قطر أثناء أزمة الخليج التي اندلعت في الخامس من يونيو/حزيران 2017، مثالًا حيًّا وحالة تطبيقية لتجاوز النموذج التقليدي لتوازن القوة.
صمود قطر تحدٍّ للنموذج التقليدي في توازن القوة
يساعدنا الإطار النظري أعلاه، والتغيرات التي طرأت على مفهوم القوة واستخداماتها المختلفة على فهم الأزمة الخليجية بطريقة مختلفة. فقطر دولة "صغيرة جدًّا" بمقياس موارد القوة التقليدية وموقعها الجيوسياسي في قلب الخليج بين دولتين كبيرتين غير صديقتين، السعودية وإيران، يزيد من هشاشة وضعها ويجعل أمنها مهدَّدًا باستمرار. وترتفع درجة التهديدات الأمنية كلما زادت حدة التوتر بين الجارتين الكبيرتين. فاستقلال السياسة الخارجية والحفاظ على السيادة الوطنية ومقاومة التبعية لإحدى القوتين من أكبر التحديات التي تواجهها قطر بحكم حجمها الصغير ومحدودية مواردها من القوة الصلبة. فالمقارنة السريعة بينها وبين الدول التي تحاصرها منذ عام، تشير إلى اختلال نوعي في كل مستويات القوة التقليدية، حيث يفوقها حلف الحصار الرباعي (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) على هذا الصعيد بأضعاف مضاعفة. فإنفاق الرباعي على التسلح يتجاوز بأكثر من 15 ضعفًا ما تنفقه قطر، ويتجاوز عدد سكانه بأكثر من 55 ضعفًا عدد سكان قطر، أما المساحة الجغرافية لدول الحصار فتفوق مساحة قطر بنحو 280 ضعفًا، بينما على الصعيد الاقتصادي يصل الفارق في حجم الناتج القومي إلى أكثر من 10 أضعاف.
نظريًّا، هذا الاختلال الهائل لصالح الرباعي يجعل من إمكانية صمود قطر في وجه حصار بري وبحري وجوي، مع تصميم معلن لتغيير النظام، من قبيل المعجزة. وكان يمكن لقطر أن تنهار في الأيام الأولى للحصار أو تخضع لمطالب المحاصِرين لو اقتصرت حساباتها في المواجهة على موارد القوة الصلبة، ولكنها تمكنت على مدى اثني عشر شهرًا، حتى الآن، من الصمود وإفشال تلك الخطة في كل مستوياتها.
تدرك القيادة القطرية، التي تولت الحكم في منتصف تسعينات القرن الماضي، هذا الخلل في موازين القوة التقليدية، وتدرك أكثر خطر التهديدات الأمنية التي تتعرض لها هذه الدولة الصغيرة في بيئة غير مستقرة. فقد تعرضت في السنة الأولى لحكم الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في العام 1995 إلى محاولة انقلاب خطط له نفس الرباعي الذي حاصرها في العام 2017. وقد تخللت هاتين العشريتين محاولات متعددة لإخضاعها سياسيًّا تراوحت بين ضغوط خفية وأخرى معلنة كان أبرزها الحصار الدبلوماسي أو ما يُعرف بأزمة سحب السفراء؛ حيث أقدمت كل من الرياض وأبوظبي والمنامة على سحب سفرائها من الدوحة في مارس/آذار 2014. دفع إدراك قطر لهذه التهديدات المستمرة وهذه العلاقات المضطربة مع جيران أقوياء إلى التفكير بطريقة غير تقليدية لتعديل موازين القوة، ومواجهة التحديات التي تفرضها حقائق الجغرافيا السياسية فسعت إلى المزاوجة بين نمطي القوة الصلبة والناعمة، بتعزيز مواردها من القوة الصلبة، ومراكمة موارد مستحدثة من القوة الناعمة.
على صعيد القوة الصلبة، استخدمت قطر موقعها الاستراتيجي في منطقة الخليج وفي الشرق الأوسط عمومًا باستضافة قيادة القوات المركزية الأميركية وقيادة القوات الجوية المشتركة في قاعدة العديد منذ العام 2003 على إثر انتقالهما من قاعدة الأمير سلطان الجوية في المملكة العربية السعودية. وطوَّرت تعاونها العسكري والأمني والاقتصادي مع الولايات المتحدة، وكان الحوار الاستراتيجي الذي عُقدت دورته الأولى في واشنطن، في يناير/كانون الثاني 2018، تتويجًا لذلك التعاون. فقد أعلنت الدولتان في أعقاب ذلك الحوار عن عدد من الاتفاقيات كان من بينها برنامج مبيعات أسلحة أميركية لقطر تصل قيمته إلى 24.7 مليار دولار. من جهة أخرى، بدأت قطر في تطوير تعاونها الثنائي مع تركيا خاصة في المجال العسكري منذ 2014 حيث وقَّع البلدان اتفاقية دفاعية أقيمت بموجبها قاعدة عسكرية تركية في قطر تلتها عدة مناورات مشتركة ومشاريع تصنيع عسكري من بينها مشروع أنظمة محاكاة الطائرة المروحية "AW139"، وهو أكبر مركز تركي للصناعات الدفاعية في قطر. وفي العام 2017، وبعد اندلاع الأزمة الخليجية، عززت قطر علاقاتها مع شركاء آخرين في أوروبا على رأسهم المملكة المتحدة وفرنسا اللتين عقدت معهما اتفاقيتين لاقتناء طائرات مقاتلة ومدرعات وأنظمة تسلح متطورة بقيمة تصل إلى 17 مليار دولار.
قد تكون هذه الشراكات والتحالفات الإقليمية والدولية أسهمت، بأقدار متفاوتة، في تغيير مسار الأزمة الخليجية وزودت قطر بعوامل إضافية للصمود في وجه الحصار، ولكن إدارة الدوحة "الذكية" لموارد قوتها الناعمة كان لها بالتأكيد الدور الأكبر في إفشال خطة الرباعي المحاصِر.
في الحقيقة، لم تكن زيادة موارد قطر من القوة الصلبة هي التي أثارت مخاوف أبوظبي والرياض والمنامة، كما كان شأن إسبرطة وحلف البيلوبونيز مع تزايد قوة أثينا، 431 عامًا قبل الميلاد، وإنما زيادة التأثير الذي باتت تمارسه بفعل قوتها الناعمة. لقد استثمرت قطر في الإعلام منذ أكثر من عشرين عامًا فأطلقت قناة "الجزيرة" في العام 1995، التي سرعان ما تحولت إلى لاعب دولي كبير ينافس كبرى شبكات الإعلام العالمية، خاصة بعد تحولها إلى شبكة تضم عدة قنوات ومنصات رقمية ناطقة بلغات متعددة. على المستوى العربي، سلطت الجزيرة الأضواء على مكامن الفساد والتسلط والتبعية لأغلب الأنظمة فشكلت رأيًا عامًّا مناهضًا للاستبداد مدافعًا عن الحرية مطالبًا بالتغيير، فتصدت لها أغلب حكومات المنطقة بما في ذلك حكومات خليجية.
على مستوى السياسة الخارجية، انتهجت قطر، منذ مجيء الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة إلى الحكم، خطًّا استقلاليًّا جعلها تختلف، وأحيانًا تصطدم، مع بعض سياسات جيرانها "الأقوياء". كما تبنت سياسة نشطة بادرت خلالها بالتوسط في عدد من الأزمات الإقليمية، فلعبت دورًا مؤثرًا في كل من لبنان وفلسطين والسودان وأفغانستان. ولا يخفى أن هذه الساحات تُعتبر ساحات تقليدية للتأثير السعودي والمصري. من جهة أخرى، ساندت قطر ثورات الربيع العربي التي انطلقت من تونس، في ديسمبر/كانون الأول 2010، وامتدت إلى مصر وليبيا واليمن ثم سوريا، فوجدت نفسها مصطفة مع حركة تغييرية واسعة تقودها قوى سياسية واجتماعية جديدة أبرزها قوى الإسلام السياسي. هذا الاصطفاف جعلها في مواجهة مباشرة مع أنظمة الحكم المحافظة في المنطقة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات.
اقتصاديًّا، شهدت قطر في العشريتين الأخيرتين نهضة تنموية متسارعة نقلتها في ظرف سنوات معدودة إلى المركز الأول عالميًّا حسب متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، الذي وصل إلى 129 ألف دولار سنويًّا. كما تمتلك قطر صندوقًا سياديًّا يحتل المرتبة التاسعة عالميًّا، يديره "جهاز قطر للاستثمار" بأصول مالية تصل قيمتها إلى أكثر من 335 مليار دولار، وتتوزع على استثمارات واحتياطات مالية في عدد كبير من بلدان العالم. ويستثمر الصندوق مليارات الدولارات في بنوك عالمية كبيرة، مثل: "باركليز" و"كريدي سويس"، ويُعدُّ أكبر مساهم في شركة "فولكسفاغن" الألمانية العملاقة لصناعة السيارات، كما يدعم الناقلة الجوية "الخطوط القطرية" التي تدير مطار حمد الدولي وتملك أسطولًا كبيرًا من الطائرات وتصل إلى أكثر من 150 وجهة حول العالم. ولا شك في أن موقع قطر في سوق الطاقة العالمية باعتبارها صاحبة ثالث أكبر احتياطي من الغاز في العالم وأكبر مصدِّر للغاز الطبيعي المسال، يجعلها أحد أهم اللاعبين على هذا الصعيد. فهي تصدِّر الطاقة للعديد من الاقتصادات الكبرى، وتقع في قلب شبكة خدمات لوجستية للهيدروكربونات تمتد على آلاف الكيلومترات من اليابان شرقًا إلى بريطانيا شمال غربي أوروبا؛ ما يجعلها في قلب دائرة الاهتمام العالمي.
على صعيد القوة الناعمة أيضًا، تمكنت قطر من تحقيق طموحها في استضافة كأس العالم لكرة القدم للعام 2022. وهي الدولة الأولى في العالم العربي وعلى مستوى الشرق الأوسط التي تنال شرف تنظيم هذه التظاهرة العالمية. كما تملك قطر، وترعى، نوادي رياضية عالمية مثل نادي العاصمة الفرنسية، باريس سان جيرمان، وقبله نادي برشلونة الإسباني. كما فازت الخطوط القطرية في العام 2018 بعقد رعاية للنادي الألماني، بايرن ميونخ، بعد منافسة مع الناقلة الوطنية "لوفتهانزا". وبموجب هذا العقد سيحصل النادي البافاري على أكثر من عشرة ملايين يورو كل موسم، مقابل دعاية لاعبيه للشركة القطرية بوضع شعارها على قمصان اللاعبين.
خاتمة
أعادت الأزمة الخليجية للنقاش موقع الدول الصغيرة في النظام الدولي وفي النظم الإقليمية، كما طرحت على المحك مفهوم القوة وأصنافها واستخداماتها المتعددة. وتُعتبر إدارة قطر للأزمة الخليجية وصمودها في وجه الحصار الرباعي نموذجًا تطبيقيًّا في كيفية مواجهة الدول الصغيرة للأخطار الأمنية التي تتهدد وجودها وسيادتها واستقلال قرارها. هذا النموذج يمكن أن تستفيد منه بقية الدول الصغيرة التي تقع في محيط إقليمي مُعادٍ أو مضطرب، سواء في منطقة الخليج مثل الكويت وعُمان، أم في أنحاء أخرى من العالم. وأبلغ درس يقدمه لنا صمود قطر في هذه الأزمة هو قدرة الدول الصغيرة على التعامل الإيجابي مع حقائق الجغرافيا السياسية من خلال مراكمة موارد القوة الناعمة وتوظيفها توظيفًا ذكيًّا مع ما يتيسر لها من موارد القوة الصلبة ولو كان ميزان القوة على هذا المستوى يميل لغير صالحها. في النهاية، ليست كل دولة صغيرة ضعيفة، فقد بيَّنت تجربة صمود قطر أنها صغيرة ولكنها قوية.
______________________________________________
* عزالدين عبد المولى، مدير إدارة البحوث بمركز الجزيرة للدراسات.
1. Wendt, A., Social Theory of International Politics, (Cambridge University Press, 1999), p. 97.
2.Thucydides, History of the Peloponnesian War. Translated by Richard Crawley, Project Gutenberg (E-book) released 2009. Book 1, Chapter 1.
3. Morgenthau, J. H. Politics among Nations: The Struggle for Power and Peace, (University of Chicago Press, 1954, 3rd ed), p. 25.
5. Waltz, K. N. Theory of International Politics, (McGraw-Hill, Inc., 1979), p. 102.
6. Mearsheimer, J. The Tragedy of Great Power Politics, (Norton, New York: W.W. 2001), p. 12.
7. Keohane, R. O. After Hegemony: Cooperation and Discord in the World Political Economy, (Princeton University Press, 1984), p. 245.
8. Nye, J. Soft Power: The Means to Success in World Politics, (Public Affairs, 2004), p. 5.
9. Nossel, S, “Smart Power”, Foreign Affairs, (March/April, 2004).
10. Armitage, R. and Nye, J. S. CSIS Commission on Smart Power: A smarter, more secure America, (The CSIS Press, 2007), p. 7.
11. Walker, C. and Ludwig, J, “The Meaning of Sharp Power: How Authoritarian States Project Influence”, Foreign Affairs, (November 16, 2017).
13. Baldwin, D. A, “Power and International Relations”, in Handbook of International Relations, p. 2, (Visited on 22 May 2018): http://www.princeton.edu/~dbaldwin/selected%20articles/Baldwin%20%282012%29%20Power%20and%20International%20Relations.pdf
14. Lasswell, H. D., and Kaplan, A. Power and Society: A Framework for Political Inquiry, (Yale University Press, New Haven, 1950), p. 87.
15. arker, R. B. The Politics of Miscalculations in the Middle East, (Indiana University Press, 1993).