العراق وظاهرة الفساد الإداري والاقتصادي

تعالج هذه الورقة ظاهرة الفساد الإداري والاقتصادي في العراق، وهي ما يعتبرها مسؤولون عراقيون من بين أخطر التحديات التي تواجه البلاد، ويقارنونها بخطورة الإرهاب، لكن القليل فقط تحقق لمكافحة الظاهرة.
375b408496514248be51b8bc4d2fd696_18.jpg
المظاهرات في البصرة خرجت للتنديد بالفساد والمطالبة بفرص عمل (الأناضول)

لم تفلح الإجراءات المختلفة والهيئات المتعددة التي تأسست بعد 2003 في أن تضع حدًّا، وإن أدنى، للتردي المتواصل في نزاهة إدارة الاقتصاد. هيئة النزاهة نفسها تفتقت فيها الكثير من الخفايا التي تؤشر إلى أنها مصابة بنفس الداء الذي تسعى لعلاجه. هيئة النزاهة البرلمانية تطولها الاتهامات من هنا وهناك بأنها تسعى لابتزاز دوائر ومؤسسات الدولة من أجل مال سحت، لا بل إن عضوًا سابقًا فيها أقر بفساده وفساد كل الأعضاء الآخرين(1). ديوان الرقابة المالية صامت مصاب بالخرس بل مخرَّس رغم كفاءته في كشف الحقائق، منذ 2003 حيث اغتيل رئيسه(2)، وما يصدر عنه من تقارير تبقى في طي الكتمان. مكاتب المفتشين العامين في الوزارات تحت وصاية الوزير لأن بقاء مديرها العام رهن برضا الوزير. بعض المفتشين العامين لا يحملون المؤهلات العلمية(3)، ومنظمات المجتمع المدني لا تنشر أية بيانات موثقة يمكن الركون إليها. الإعلام النزيه ممنوع من الوصول إلى مصادر المعلومات، ومعظمها تابع لحزب أو كتلة سياسية هدفها الترويج لهذه الأحزاب والكتل. وجزء من وسائل الإعلام التي تدعي الاستقلالية تعتاش على ابتزاز الفاسدين بغية الحصول على نصيب في الغنيمة. الشفافية معدومة أصلًا وان توفرت فقديمة والبيانات والإحصاءات الجديد منها يقوم على التنبؤ، الحسابات الختامية للموازنات العراقية لم تقدم منذ العام 2012 رغم مطالبات نيابية.

في مثل هذه الأوضاع يصعب التوصل إلى صيغ تضمن النزاهة المالية والإدارية، كما يصعب أيضًا تلمس حدود الفساد وتفاصيله وأدواته والمتورطين فيه بشكل قاطع، إذ تكاد الوثائق أن تنعدم، كما أن هناك عمليات تغطية واسعة لجرائم الفساد، وخبرات متراكمة لدى الأطراف المعنية في عدم ترك آثار مباشرة خلفهم.

ولمعالجة عمليات الإخفاء المتعمدة للمعلومات، ونقص الشفافية، وشحَّة الوثائق، فستعتمد هذه الورقة على مقاربة علمية في تلمس مظاهر الفساد المالي في العراق، وحدوده، من خلال تتبع المسارات التي يتتبعها، ونزيف الثروات الذي تسبب به منذ عام 2003.

التوصيف النوعي للفساد في العراق

يتميز الفساد الاقتصادي في العراق بسمات وأسس غير اعتيادية يرتبط وجودها واستمرارها بصورة جدلية بالوضع السياسي الراهن وترابط منظوماته التي تشبه لعبة (الدومينو). فعلى الرغم من الغرائمية بين الأجزاء المكونة لهذا النظام فإن أي جزء لا يعمل على الإيقاع بالأجزاء الأخرى كونه يدرك حقيقة سقوط الكل إذا وقع جزء من المنظومة الكلية في لعبة (الدومينو).

ولعل أهم أساس يقوم عليه الفساد في الواقع العراقي هو (الفساد الشبح) وهو الحالة التي يُجمع عليها الفاسدون ويهاجمون فيها الفساد وكأنهم بهذا يخلطون الأوراق بحيث يصعب تشخيص حالة الفساد(4). وهكذا، تعمد شخصيات سياسية إلى قيادة حملات ضد الفساد لخلق واقع ما يسمى (الفساد الشبح). وفي طبيعة هذا النوع من الفساد، فإن ما هو مطروح في العلن من كلمات ضخمة، وحديث عن المبادئ والقيم العليا شيء، وما هو واقع وحادث من هذا الزعيم أو ذاك، شيء آخر؛ لن تجد فاسدًا في العراق يبرر الفساد، ولا لصًّا يجادل في كون السرقة أمرًا مستهجنًا، بل إن الفاسدين والمنافقين هم الأكثر قدرة أحيانًا على انتقاد الفساد والدعوة للتطهير. زعامات سياسية معروفة صرَّحت بأنه لا توجد سلطة في العراق قادرة على اتخاذ أية خطة ضد الفساد لأن السلطة كلها غارقة في الفساد.

لا شك في أن هذا النوع من الفساد هو الأهم والأخطر كونه الداء الذي يمنع كل دواء، فعندما يقول زعيم سياسي معروف بأنه لا توجد سلطة في العراق قادرة على اتخاذ خطة لمحاربة الفساد، فلأنه يدرك أن العملية السياسية كلها ستنهار على رؤوس السلطة إذا ما تورَّط مسؤول في اتخاذ إجراءات فعلية وفعالة ضد الفساد والمفسدين.

وقد وُلِد عن الفساد الشبح عدة أنواع من الفساد الاقتصادي، وهي: 

1. فساد عقود المقاولات والمشتريات 

من خلال تقارير لهيئة النزاهة العراقية، فإن هناك خسائر تقدر بـ250 مليار دولار، وأشارت التقارير إلى أن الفساد المتعلق بهذا النوع يستشري كذلك في رئاسة الوزراء.

ومن بين الأمثلة على فساد العقود والمشتريات(5)، ما كشفت عنه هيئة النزاهة من معلومات حول عقد سري لشراء سلاح من صربيا بقيمة 833 مليون دولار، وقد تولى إنجاز العقد وفد يضم 22 مسؤولًا عراقيًّا كبيرًا في سبتمبر/أيلول 2007. وفيما جرى إنفاق المبلغ، تبين لاحقًا أن القيمة الأصلية للسلاح هي 236 مليون دولار فقط. وقال مسؤولون عسكريون أميركيون كانوا يشرفون على تدريب الجيش العراقي في ذلك الوقت: إن التجهيزات المشتراة من صربيا ذات نوعية سيئة أو إنها لا تتناسب مع مهمات الجيش العراقي. 

 

وقبل انكشاف حجم الفساد الضخم في الصفقة، كان الناطق باسم وزارة الدفاع العراقية قد قال في بيان: إن الصفقة واحدة من أفضل وأكثر الصفقات شفافية من حيث الالتزام بشروط ومعايير وزارتي المالية والتخطيط واللجنة الاقتصادية(6).

2. فساد الوظائف الوهمية 

وهو نوع عراقي بامتياز لا مثيل له في عالم الفساد لا في الدول المتخلفة ولا في الدول الريعية النفطية، إنه فساد التعيينات في وظائف وهمية لا وجود لها، تذهب المرتبات والأجور المخصصة لها إلى القائمين على الوزارات أو الدوائر الحكومية(7).

ويصطلح عراقيا على وصف هذه الشريحة من الموظفين الوهميين بـ(الفضائيين)، ويشمل هذا النوع من الفساد صفوف الجيش؛ حيث جرى في مستهل ولاية رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، الكشف عن وجود 50 ألف جندي وهمي (فضائي)، كان ضباط متنفذون يستولون على مرتباتهم، وقد جرى الكشف عن هذا العدد بوصفه مجرد دفعة أولى لإحصاء سريع، لكن لم يجر بعد ذلك الكشف عن أية أرقام أو تحقيقات أخرى.

وتضم قوائم الجنود الوهميين جنودًا يتمتعون بإجازات مفتوحة مقابل دفع مرتباتهم الشهرية إلى قادتهم العسكريين مع ضمان استمرارهم بالخدمة، أو جنودًا قُتلوا في المعارك ولم تحذف أسماؤهم من قوائم الرواتب الشهرية. 

لقد أدى الفساد الحكومي لاستنزاف الموارد الحكومية في التعيينات في الوظائف العامة فنسبة قد تزيد عن 80% من حجم الموازنة تذهب للنفقات التشغيلية ومعظمها رواتب للموظفين الذين يشكِّل (الفضائيون) نسبة غير معلومة منهم، تذهب لجيوب الفاسدين. وقد بلغت قيمة الرواتب وما في حكمها 58.5 تريليون دينار عراقي (نحو 50 مليار دولار) في موازنة العام 2019 لتشكِّل نسبة 61.1% من مجموع الإنفاق التشغيلي الجاري(8)

التقديرات المتاحة عن حجم الفساد في القوات المسلحة فيما يخص موضوع "الفضائيين" أو الجنود الوهميين فقط يصل إلى 250 ألف منتسب أمني، حسب تصريح لنائب رئيس الجمهورية السابق، إياد علاوي، وتصل مرتبات هؤلاء إلى 2500 مليون دولار سنويًّا بواقع 700 دولار شهريًّا لكل منهم، مضافًا له مخصصات طعام بما لا يقل عن 150 دولارًا شهريًّا للفرد، وهذا يعني أن حجم الأموال المهدورة بسبب الفساد للجنود الوهميين فقط يتجاوز عَشْرة مليارات دولار للسنوات الأربع السابقة. وفي الوظائف المدنية، فهناك تصريحات عن وجود 23 ألف متقاعد (فضائي) يتقاضون رواتب تقاعدية منذ 5 سنوات على الأقل دون أن يكون هناك وجود حقيقي لهم، ويمكن أن يصل مجموع المبالغ التي تقاضوها طوال السنوات الـ4 أو الـ5 الماضية إلى مليار دولار أميركي. ولا تتوفر معلومات عن عدد تقريبي للموظفين الوهميين في مؤسسات الدولة المختلفة، علمًا بأن عددهم يصل إلى عدة ملايين.

3. صفقات العمولات

ولعل واحدًا من دلائلها هو تفضيل الدوائر الحكومية الاستيراد من الخارج بدلًا من شراء البضائع المصنَّعة في العراق من قبل شركات وزرة الصناعة. ففي هذه الأخيرة لا يوجد هامش من العمولة للطرف المشتري، في حين أن أي شراء من الخارج سيكون مفتوحًا لإضافة هامش من العمولة. الأمر الأخطر من ذلك أن اشتراط الحصول على عمولة من قبل الفاسدين أدى إلى تلكؤ المئات من المشروعات الخدمية والانتاجية والتي كان نتيجتها هدر المليارات من الدولارات. وفي مجالات المقاولات، فإن استيفاء عمولة يجعل الإحالة تتم بسعر مرتفع جدًّا بحيث يكون هامش ربح المقاول عاليًا جدًّا الأمر الذي يشجع المقاولين والمتعهدين على بيع المقاولة أو عقد التجهيز إلى مقاول أو متعهد ثانوي ومنه لثالث وربما رابع حتى تصل إلى مقاولين أو متعهدين يعجزون عن التنفيذ، وهنا لا تستطيع الجهة الحكومية ملاحقة المقاول الأخير كونه لم يوقع عقد الإحالة مع الجهة التي أحالت العقد وهذا ما يفسر أن عدد المشاريع المتلكئة بالبصرة لوحدها بلغ 233 مشروعًا، منها مشاريع الماء في المحافظة التي تقدر قيمته بنحو 600 مليون دولار(9).

4. تقاسم إيرادات الجمارك والضرائب المباشرة

يقف الفساد حجر عثرة أمام استفادة الدولة من الإيرادات المالية المتحققة من تطبيق قانون التعرفة الجمركية، الذي اضطرت الحكومة إلى تنفيذه، بهدف تقليل نسبة العجز المالي في الموازنة العامة حيث أعلنت هيئة الجمارك العامة حصولها على 400 مليار دينار (306.5 ملايين دولار) خلال ستة أشهر من العام 2016(10). هذا المبلغ الضئيل بالمقارنة مع ما يجب أن تكون عليه الحال يؤشر لحجم الفساد في الجهاز الضريبي العراقي، فنسبة الضريبة الجمركية لا تقل عن 10%، ومقابل هذه النسبة، بلغت استيرادات القطاع الخاص وفقًا لمبيعات البنك المركزي العراقي من الحوالات الخارجية والاعتمادات المستندية، ما لا يقل عن 30 مليار دولار في العام 2016، الأمر الذي يستوجب أن تصل قيمة الإيرادات الجمركية إلى 1.5 مليار دولار خلال ستة الأشهر الأولى من العام في حين أنها لم تتجاوز مبلغ 306 ملايين دولار. وهذا يعني أن حجم الفساد في الجمارك وحدها يتجاوز المليارين ونصف المليار سنويًّا. 

5- بيع وشراء العملات الأجنبية  

اعتمد هذا النوع، الذي انتهى كليًّا منذ الربع الأخير من العام 2017 بفضل إجراءات البنك المركزي، على فساد أجهزة حكومية متعددة على رأسها الجمارك وقنصليات عراقية في الخارج وبعض المصارف الخاصة. وقبل أن يباشر البنك المركزي إجراءاته الجديدة في بيع العملة الأجنبية للمصارف، كانت إجراءاته التي يتخذها للحيلولة دون غسيل وتهريب الأموال بحد ذاتها سببًا يجعل سعر بيع الدولار للمصارف أقل كثيرًا من سعره في السوق الموازي الأمر الذي أدى إلى مضاربة قوية على شراء وبيع العملة وحرمان المستوردين من الانتفاع بسعر الدولار المنخفض في البنك. فشرط الحصول على التصريح الجمركي كان يتم اختراقه بتصاريح مزورة تصدر عن الجمارك مقابل رشوة. أما شرط تصديق الفاتورة وشرط شهادة المنشأ فكانت تتم بدفع رِشًا لموظفين في القنصليات العراقية في الخارج، كما أن هناك من قام بتأسيس مصارف كارتونية ليس لها وجود حقيقي للحصول على حصة من العملة الأجنبية التي كانت تباع للمصارف. 

6- بيع وشراء المناصب العليا في الدولة

وهو المظهر الأخطر في ظاهرة الفساد، ويشمل استحواذ أفراد وأحزاب وكيانات ومنظمات وما شابه على المناصب التنفيذية في الدولة ووظائف عليا أو متوسطة، تكون مسيطرة على اتخاذ قرارات سياسية أو اقتصادية أو استثمارية أو تجارية أو مالية واستغلالها لمصالح ذاتية وفئوية، وينتج عن ذلك سوء إدارة الموارد الاقتصادية والمالية أو سرقتها بشكل مباشر أو غير مباشر.

وبطبيعة الحال، لا يترك هذا النمط من الفساد أية آثار أو وثائق وراءه، لذلك فتوثيقه غير ممكن، لكن ما يعلن من خلال السياسيين أنفسهم يؤكد تحول عمليات بيع المناصب إلى ظاهرة شائعة، ويتراوح سعر المنصب الوزاري في الحكومة العراقية بين عشرة ملايين إلى 25 مليون دولار، وبشكل أقل بالنسبة لبقية المناصب الإدارية العليا. 

التوصيف القيمي أو محاولة القياس الرقمي للفساد الاقتصادي

من الواضح أنه لا يمكن الكشف رقميًّا عمَّا تم اختلاسه وهدره من المال العام العراقي طيلة السنوات الخمس عشرة الماضية وما أشرنا له في أولًا أعلاه لا يعدو كونه توصيفًا نوعيًّا لا يعبِّر رقميًّا عن حقيقة الفساد. غير أن التوصل إلى تصور واضح وذي دلالة سيكون ممكنًا بالتعرف على الواردات التي حصل عليها العراق خلال المراحل المختلفة قبل عام 2003 وبعده، من خلال رصد حجم الصادرات النفطية التي تمثل المورد الأساسي وربما الوحيد للاقتصاد العراقي. إن مثل هذه المقارنات ستكشف عن الكيفية التي استُخدمت فيها هذه الموارد، والهدر الذي تعرضت له.

الجدول أدناه يوضح إيرادات العراق النفطية للسنوات (1992- 2013)(11)

العام

إلانتاج النفطي ألف ب/ي

الاستهلاك المحلي ألف ب/ي

الفرق (الصادرات) ألف ب/ي

الإيرادات النفطية السنوية   دولار

النسبة السنوية للزيادة في الإيرادات النفطية

النسبة السنوية للتغير في التوظيف

1992

425

425

0

0

0.0

0

1993

511

425

86

525,782,500

147.7

100.54

1994

552

425

 

725,919,300

106.3

99.25

1995

560

425

135

825,356,250

113.3

99.78

1996

578

425

153

1,142,588,700

477.1

101.57

1997

1155

425

730

4,918,667,000

236.3

99.69

1998

2150

425

1725

7,498,833,750

120.7

99.90

1999

2507

425

2082

12,584,440,800

103.0

99.46

2000

2570

425

2145

21,444,315,750

91.6

98.95

2001

2390

425

1965

16,496,175,000

81.3

99.61

2002

2023

425

1598

13,304,388,700

55.3

99.64

2003

1308

425

883

8,924,348,550

176.8

100.71

2004

2011

450

1561

21,457,349,900

91.4

99.60

2005

1877

450

1427

26,063,584,200

108.3

103.08

2006

1995

450

1545

32,876,827,500

105.9

103.60

2007

2086

450

1636

38,336,388,000

114.6

103.12

2008

2375

500

1875

62,853,000,000

100.8

103.21

2009

2390

500

1890

36,941,467,500

97.8

100.05

2010

2399

550

1849

47,997,821,200

112.2

99.90

2011

2625

550

2075

68,224,340,000

114.8

99.83

2012

2983

600

2383

75,176,381,850

109.1

99.28

2013

3200

600

2600

94,900,000,000

 

99.76

الجدول أعلاه يُظهر نتائج مهمة، وأولى هذه النتائج هي أن السنوات العشر التي أعقبت الاحتلال والتي دخلت خلالها خزينة الدولة العراقية ما يزيد عن النصف تريليون دولار وبالتحديد 513.7 مليار دولار من صادرات النفط الخام (كما في الجدول أعلاه)، لم تؤدِّ إلى تحسن الوضع المعيشي للعراقيين. فإذا ما قارنَّا هذا الرقم بإيرادات الحقبة الصعبة التي أعقبت غزو الكويت وهي حقبة الحصار الاقتصادي، سنجد أن الأخيرة لم تتجاوز الإيرادات فيها مبلغ 66 مليار للأحد عشر عامًا الممتدة من 1992 وحتى نهاية العام 2002.

لقد زاد المعدل السنوي للإيرادات في حقبة ما بعد 2003 عن سبعة أضعاف مثيله في الأحد عشر عامًا التي سبقت الاحتلال. غير أن الأداء الاقتصادي لم يتحسن بنفس النسبة ولا حتى بالضعف؛ فأين أُنفقت هذه الأموال، ولم يكن العراق خلال حقبة الأحد عشر عامًا التي أعقبت الاحتلال في حالة حرب؟!

ولمزيد من الموضوعية في إثبات الفساد (الشبح) الذي هيمن على العراق، فلابد من استبعاد أثر انخفاض القوة الشرائية لإيرادات حقبة ما بعد الاحتلال مع القوة الشرائية لإيرادات الحقبة التسعينية وكذلك استبعاد أثر الزيادة السكانية، كما في الجدول أدناه(12):

مجموع الإيرادات المتحققة في عشر سنوات حتى 2002 ألف دينار

مجموع الإيرادات المتحققة في عشر سنوات حتى 2013 ألف دينار

قيمة الإيرادات للعشر سنوات حتى 2013 بأسعار 2002 ألف دينار

عدد سكان العراق في 2002

عدد سكان العراق في 2013

معدل حصة الفرد من الإيرادات للعشر سنوات المنتهية في 2002

معدل حصة الفرد من الإيرادات للعشر سنوات المنتهية في 2013 بأسعار 2002

66000000

513000000

395000000

25565000

34208000

2581$

11547$

الجدول أعلاه استبعد أثر انخفاض القوة الشرائية للدولار الأميركي؛ فحسب إيرادات العراق النفطية للفترة 2003-2013 بأسعار العام 2002، فأصبحت 395 مليار دولار بدلًا من 513، وحتى بعد استخراج معدل حصة الفرد لغرض استبعاد أثر الزيادة السكانية، فإن حصة الفرد لأحد عشر عامًا التي أعقبت الاحتلال تزيد بأربع مرات ونصف المرة عن حصة الفرد خلال نفس العدد من السنوات التي سبقت الاحتلال. 

إن ما يثبت الفساد المالي الهائل هو أن الزيادات الكبيرة جدًّا في حصة الفرد (كمعدل) لم تغير الواقع الاقتصادي للعراق ولا المستوى المعيشي للفرد، ففي تقرير التنمية البشرية الوطني لسنة 2014، كانت التحديات التي تواجه الشباب في العراق تدور خصوصًا حول مجالي التعليم والتشغيل، وأوضح التقرير أن مؤشرات التعليم في مستوى متدنٍّ وبلغت نسبة الأمية عند الشباب 13% في حين أن نسبة الفتيات اللواتي ينهين الدراسة الثانوية بلغت 7.8% فقط. أما من حيث العمالة، فقد أظهر التقرير أن النسب متدنية حيث إن 56% فقط من الشباب الذكور يعملون، في حين بلغت نسبة الشابات اللواتي لهن عمل 6% فقط.. أما الوضع الصحي فلم يكن بأفضل حالًا، كما في الجدول ادناه:

السنوات

2000

2008

عدد المستشفيات

203

221

حصة كل ألف نسمة منها

.0.010

0.07

المراكز الصحية

1392

1716

حصة كل ألف نسمة منها

0.071

0.059

العيادات الشعبية

187

238

حصة كل ألف نسمة منها

0.009

0.011

عدد الأطباء

9540

15945

ذوو المهن الطبية

3396

6871

عدد الممرضين

47890

70896

الجدول أعلاه يُظهر مقارنة في المؤشرات الصحية في العراق قبل وبعد عام 2003 والتي تؤشر لتردي معظم هذه المؤشرات؛ الأمر الذي يثبت مرة أخرى أن ما تحقق من زيادة في الإيرادات الحقيقية المتأتية من قطاع تصدير النفط الخام لم يكن له أثر في تطوير البنى التعليمية والصحية وخلق فرص عمل، وبالتالي فشبهة الفساد الكامن وراء هذه الإخفاقات تبدو واضحة.

تأثير الفساد على عملية التنمية والبناء وعلى العمل السياسي في نظام ما بعد 2003

من الصعب علميًّا تقدير حجم الأموال التي اختُلست أو أُهدرت، خلال السنوات الماضية، ولكن يمكن قياس ذلك من خلال المؤشرات على الآثار الاقتصادية السلبية للفساد على التنمية الاقتصادية؛ ففيما يتعلق بمستويات البطالة، تعاظمت هذه الظاهرة في العراق على خلفية استمرار تراجع جهود التنمية، وتفاقم الديون الخارجية، والظروف السياسية والأمنية التي يتعرض لها العراقيون منذ 2003، فضلًا عن طغيان الفساد المالي، والإداري، واختلال منظومة القوانين الخاصة بالاستثمارات، وسوق العمل، وحركة الأموال. ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء، فإن نسبة البطالة بين الشباب في العراق بلغت 22.6 بالمئة بين الفئات العمرية بين 15 الى 29 سنة، فيما أعلن صندوق النقد الدولي، في مايو/أيار 2018، أن معدل بطالة الشباب في العراق بلغ أكثر من 40 بالمئة، بسبب غياب الخطط الحكومية والتمويل اللازم والتي تهدف إلى توفير فرص عمل للعاطلين من خلال تفعيل القطاع الخاص، كما يتخرج سنويًّا من الجامعات آلاف الطلاب دون أن يجدوا وظائف لهم في الدولة مما يجعل نسبة البطالة بارتفاع مستمر وسط غياب حلول والمعالجات(13)، إلا أننا نعتقد أن البطالة المقنَّعة في القطاع الحكومي تصل إلى نسبة تفوق 80% من حجم العاملين في الأجهزة الحكومية حيث إن هذه البطالة هي إحدى صور الفساد الإداري حيث أدت المحسوبية إلى تعيين ملايين من الموظفين في فترة الرخاء النفطي.

ويبرز الأمر كذلك في تزايد معدلات الفقر؛ إذ تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن معدل الفقر "وفقًا لخط الفقر المحدد بـ 3.2 دولارات" في اليوم هو 17.9?، وكشفت وزارة التخطيط في سبتمبر/أيلول 2017 عن ارتفاع نسبة الفقر في البلاد إلى نسبة 30%(14)

ويشمل سوء الأوضاع والهدر في الموارد، قطاعي التربية والتعليم والصحة؛ حيث يعاني القطاعان من الإهمال وقلة التخصيصات المالية وانخفاض المستوى المعيشي للكوادر التعليمة والصحية. وكغيره من المرافق العامة في الدولة العراقية، فقد نخره الفساد سواء في جانب الأبنية التي تفتقد للصيانة والنظافة أو في جانب كفاية أعدادها.

وفي القطاع الصناعي، تراجعت أعداد المشاريع الصناعية الصغيرة والمتوسطة الخاصة بعد عام 2003 بسبب الإهمال وغياب الدعم غير المباشر الذي كانت توفره الحماية الجمركية. فبسبب الفساد في الأجهزة الجمركية تم إغراق السوق العراقية بالبضائع المستوردة من مناشئ رخيصة لا تخضع للرسم الجمركي بسبب الرشا، فانخفضت أعداد المشاريع الصغيرة بشكل واسع، حتى تكاد لا تُذكر.

أسباب فشل الحكومات المختلفة في مواجهة الفساد

قد تتطلب الموضوعية والمدخل العلمي لتناول الفساد في العراق الغوص في جذوره التاريخية للوقوف على أسباب تأصله الراهن؛ فليس كل الفساد المالي والإداري وليد ما بعد 2003 بل إن قسمًا منه موروث من مرحلة العقوبات الدولية بعد غزو الكويت عام 1991؛ حيث أصبح المرتب الشهري للموظفين آنذاك، أقل من دولارين شهريًّا، وكان ذلك من بين أسباب ظهور ملامح الفساد بين الموظفين الصغار. كانت هذه البدايات قد اختلطت بفوضى التغير وهيمنة مركز القوى، والحرية المنفلتة والمغلفة بالديمقراطية التي أتاحت الفرصة لتحول الفساد الفردي لفساد مؤسسي وهو الأخطر. 

هذا النوع من الفساد المالي والإداري (المؤسسي) هو النتيجة الحتمية للتناقض بين البنية التحتية (النظام الاقتصادي) والبنية الفوقية (النظام السياسي). فبعد العام 2003، تأسس نظام سياسي مختلف كلية، مقابل نظام اقتصادي لم تتغير طبيعته منذ 2003، نظام يقوم على دور مركزي للدولة.

في ظل الحرية السياسية يجب أن تسود الحرية الاقتصادية التي يقودها القطاع الخاص وآلية السوق. وبالعكس في ظل التسلطية السياسية لا يمكن للقطاع الخاص أن يزدهر ويقود التطور لسبب بسيط هو أنه سيصبح مركز قوة تهدد التسلطية أو الديكتاتورية السياسية. ولنستذكر تجربة الليندي في تشيلي في سبعينات القرن الماضي عندما حاول أن يجمع نقيضين، وهما: النظام الاقتصادي المدار مركزيًّا مع نظام سياسي قائم على الحرية والتعددية فكانت النتيجة أن أسقطت الحرية السياسية النظام الاقتصادي المدار مركزيًّا.

في عراق اليوم نواجه تجربة معاكسة؛ فالنظام السياسي التعددي يتناقض مع النظام الاقتصادي المركزي "رأسمالية الدولة"؛ فاقتصاديًّا كل شيء يعتمد على الحكومة والدولة والمال العام. بدءًا من "المشاريع التنموية" مرورًا بالوظائف، والدخول، والطعام، والكهرباء، والماء، والخدمات، وانتهاء بالإدارات الدينية التي أصبحت تُموَّل حكوميًّا. 

هذا من جانب الإنفاق، أما من جانب الإنتاج والإيرادات، فقرابة 50% من الناتج المحلي الإجمالي العراقي يتأتى من القطاع العام النفطي والتعديني والصناعي، كما أن 97% من الإيرادات الحكومية مصدرها موارد النفط سواء مباشرة أو عبر استخدام هذه الإيرادات في تمويل التجارة وتحصيل الضرائب منها. ثروات هائلة بيد حكومة تجعل كبار "قادتها" -وهم كثر- يتصارعون، على الأقل، من أجل تجديد الفوز بدورة حكم أو هيمنة جديدة على مقدرات العراق. هذا، إذا لم نقل: من أجل المزيد من نهب الثروات السائبة.

في ظل نظام تعددي لا يوجد فيه رأس حاسمة وتوجد فيه ثروات مركزة بين عدة أيدي ورؤوس متصارعة كل يقبض على جزء بصلاحية اختصاص منصبه، فإن من الطبيعي أن تتبخر هذه الثروات وتُبتلع من حيتان السياسة. وهذا ما يفسر عجز المتشاركين في العملية السياسية عن أن ينبري أحدهم لاستلال سيف الحرب على الفساد.

في ظل التعددية السياسية لا تفلح ولا تنجح المركزية الاقتصادية، والتناقض بين النظام الاقتصادي المركزي الذي تهيمن عليه الدولة والنظام السياسي التعددي وخصوصًا حديث التحول نحو الديمقراطية حيث الانفلات والفوضى العارمة، يجعل من الطبيعي أن ينتهي الأمر إلى انهيار أحدهما.

والسؤال الذي تجدر الإجابة عليه، هو: من الذي سينهار أولًا: هل النظام الاقتصادي أم النظام السياسي؟ لا شك أنه في حالة بقاء النظام الاقتصادي مركزيًّا تقوده وتنهبه رؤوس متعددة، فإن النتيجة الحتمية ستكون انهيار النظام السياسي وما يسمى بـ"العملية السياسية" برمتها، كون التذمر الشعبي قد يعمل على توليد ثورة شعبية.

الإصلاح الاقتصادي باتجاه تحرير الاقتصاد العراقي هو السبيل الوحيد لكف يد الدولة وما ينبثق عنها من فاسدين آمنين للعقاب في ظل توزع مصادر القوة والنفوذ، وهيمنة المصالح الحزبية والشخصية. 

وفيما تقدم حكومة عادل عبد المهدي الحالية وعودًا بمحاربة الفساد، فإن بقاء نفس الآليات السابقة وكذلك المرجعيات السياسية والحزبية لا يترك الكثير من الفرص لتوقع نجاح هذه الحكومة بتنفيذ وعودها.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1.  مقابلة تليفزيونية مع النائب السابق مشعان الجبوري، 30 يناير/كانون الثاني 2016، (تاريخ الدخول: 18 ديسمبر/كانون الأول 2018): https://www.youtube.com/watch?v=z4DXXtztAEQ

2.  اغتيال مدير الرقابة المالية، كونا، 8 ديسمبر/كانون الأول 2004 ، (تاريخ الدخول: 18 ديسمبر/كانون الأول 2018): https://www.kuna.net.kw/ArticlePrintPage.aspx?id=1457956&language=ar

3.  وزير النقل يطالب المفتش العام بإثبات حصولة على التأهيل العلمي، وكالة أنباء براثا، 19/9/2017 (تاريخ الدخول: 18 ديسمبر/كانون الأول 2018):                           http://webcache.googleusercontent.com/search?q=cache:vMvnozeisnQJ:burathanews.com/arabic/documents/322954+&cd=5&hl=ar&ct=clnk&gl=iq&client=firefox-b

4.  احتجاج الفاسدين على الفساد، روداو، 14 أبريل/نيسان 2016 ، (تاريخ الدخول: 19 ديسمبر/كانون الأول 2018):               http://www.rudaw.net/arabic/opinion/14042016

 5. خسائر البلاد من عقود التسليح توازي موازنات أربع سنوات، الصباح الجديد، 26 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول: 19 ديسمبر/كانون الأول 2018): http://newsabah.com/newspaper/172234

6.  المصدر السابق.

7.  الفضائيون تركة المالكي التي تنخر جيوب العراقين، 2 فبراير/شباط 2015، (تاريخ الدخول: 19 ديسمبر/كانون الأول 2018): https://goo.gl/8H5fFQ

8.  مشروع الموازنة الاتحادية للعام 2019، 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، (تاريخ الدخول 19 ديسمبر/كانون الأول 2018): https://goo.gl/1ce8Yn

9.  النزاهة تعلن عن عدد المشاريع المتلكئة في محافظة البصرة، 13 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول: 19 ديسمبر/كانون الأول 2018): http://www.rudaw.net/arabic/middleeast/iraq/131220187

10.  فساد المنافذ الحدودية يرهق الموازنة والاقتصاد العراقي، 27 ديسمبر/كانون الأول 2017، (تاريخ الدخول: 19 ديسمبر/كانون الأول 2018):   https://goo.gl/N9Gw5H

11.  Gdp per cap https://countryeconomy.com/gdp/iraq?year=2002

GDP per cap       https://countryeconomy.com/gdp/iraq?year=2015

12.  الجدول من تنظيم الكاتب بالاعتماد على الموقع الخاص بحساب التضخم، وانخفاض القوة الشرائية للدولار: https://www.usinflationcalculator.com

13.  وزارة التخطيط: نسبة البطالة بين شباب العراق بلغت 22,6%، روداو، 23/8/2018، (تاريخ الدخول: 19 ديسمبر/كانون الأول 2018):

http://www.rudaw.net/arabic/middleeast/iraq/230820186

14.  خط الفقر في العراق، جدل الفوق والتحت، الغد برس، 20 مايو/أيار 2017، (تاريخ الدخول: 10 ديسمبر/كانون الأول 2018): https://goo.gl/AM4kUD