منذ تَشَكُّل الدولة المغربية الحديثة في كيانها الراهن، كانت المسألة الدستورية من أهم النقاشات العامة، وكذلك من أبرز العناوين الكبرى المثيرة للخلافات والصراعات السياسية. فمع حصول المغرب على الاستقلال، كان الخلاف محتدمًا بين أحزاب الحركة الوطنية من جهة، والمؤسسة الملكية من جهة أخرى، على الإطار التعاقدي الدستوري الذي يجب أن يربط بين الحاكم والمحكومين، وتوضع من خلاله الأسس الدستورية لنظام الحكم وكيفية ممارسة السلطة.
في خضم هذا الجدال، الذي تحوَّل في فترات ومحطات تاريخية إلى صراع بين مشروعين سياسيين ومجتمعيين، الأول تقوده معارضة سياسية تهدف لبناء الدولة الوطنية والديمقراطية، مع وجود مَلَكية دستورية غير تنفيذية، وذلك بدفاعها عن خيار انتخاب مجلس تأسيسي لصياغة الدستور الأول لدولة ما بعد الاستقلال (دستور 14 ديسمبر/كانون الأول 1962)، وقد تبلور هذا المشروع خاصة مع المؤتمر التأسيسي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في سبتمبر/أيلول سنة 1959. أما المشروع الثاني، فقد عبَّرت عنه المؤسسة الملكية، والذي كان يقضي بالانفراد بالحكم لترسيخ نموذج الملكية التقليدية التنفيذية، استنادًا للمبررات الدينية والتاريخية، باعتبار أن الملك في المغرب ليس قائدًا سياسيًّا فحسب بل هو أمير المؤمنين، يمارس سلطة معنوية لا تقف عند حدود سلطة معينة. وقد استغلت المؤسسة الملكية الانقسام الذي كانت تعرفه أحزاب الحركة الوطنية بشقيها المعتدل والثوري لتنفيذ مشروعها، لاسيما بعد بروز هذا الصراع على إثر انشقاق الجناح الثوري عن حزب الاستقلال وتأسيسه للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهو ما انعكس بشكل جلي في نجاح المؤسسة الملكية، يوم 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1960، بتعيين مجلس موال لها بديلًا عن المجلس التأسيسي المنتخب، ليتولَّى وضع الدستور، قبل أن يُعرض على الملك ومن ثم على الاستفتاء الشعبي.
وتحاول الدراسة الإجابة عن سؤال رئيسي: ما القيمة التي حملها الإصلاح الدستوري في 2011 لبناء أسس الحكم الديمقراطي باعتباره كان أبرز المخرجات في التعاطي مع مطالب حركة 20 فبراير/شباط 2011، وفي تدبير النظام السياسي بالمغرب لزمن احتجاجات الربيع العربي؟
واعتمد الباحث منهج تحليل المضمون لقراءة الوثيقة الدستورية سواء من حيث الشكل أو المحتوى، كما استند إلى المنهج النسقي الذي يوفر أدوات لتفسير فشل أو نجاح أي نظام سياسي في التكيُّف مع بيئته الداخلية والخارجية بناءً على طبيعة بنية نسقه وفاعلية وظائفه الضبطية، عبر ما يطرحه من مخرجات سياسية ودستورية استجابة للديناميات المجتمعية المفرزة.
ومن أجل الحكم على قيمة وأهمية الإصلاح الدستوري الجديد في المغرب، وإلى أي مدى يمكن التأسيس والبناء عليه لإنجاح فرص التحول الديمقراطي، انطلقت الدراسة من معيارين أساسيين من معايير الدساتير الديمقراطية، ووفق ما جاءت به أدبيات نظريات القانون الدستوري، أولهما يتصل بطريقة إخراج وإعداد الدستور. وثانيهما يهتم بمضمونه ودرجة ديمقراطيته فيما يخص الجانب المرتبط بما يمنحه من الحريات والحقوق، وما يتعلق أيضًا بتوزيع واستقلال السلطات وموقع المؤسسة الملكية في بنيان الهرم الدستوري.
واتفقت نتائج الدراسة في بعض النقاط مع الرأي القائل إن الإصلاحات الدستورية على مستوى المضمون عكست الخلل الذي عرفته منهجية التشكيل المصاحب للسلطة الفرعية التي لها الحق في تعديل الوثيقة الدستورية، من خلال فرض المؤسسة الملكية لمنطقها القاضي بتعيين لجنة استشارية وتكليفها بالقيام بالإصلاحات، بدل الانتصار لمنطق الحركة الاحتجاجية 20 فبراير/شباط المطالبة بانتخاب سلطة تأسيسية. كما أن تراجع حركة 20 فبراير/شباط وضعفها بعد خطاب الملك محمد السادس في 9 مارس/آذار وما أفرزه من مخرجات للتفاعل مع المطالب المرفوعة وفي تدبير زمن احتجاجات وثورات الربيع العربي مغربيًّا، ما كان ليدفع بالنظام السياسي للقيام بإصلاحات جوهرية وعميقة، خاصة بعد انكشاف العجز والمحدودية في طروحات الأحزاب السياسية والقوى المجتمعية، من خلال ما جاء في مذكراتها المرفوعة للجنة صياغة الدستور، وهي التي من المفروض أن تكون داعمة ومساندة لمطالب الشارع.
وأبدت الدراسة تفهمها لتلك المنظورات التقليدية التي تحاول أن تقرأ الدستور الجديد وفق الأحكام السلطانية لسلاطين وخلفاء المسلمين بدل منظور الدستورانية الغربية، حيث وحدة السلطة هي من طبيعة الأنظمة السياسية القائمة على مرتكز الدين، ووفقًا لهذا المنظور لا ينبغي أن يفهم الفصل بين السلطات إلا في مستواه الأدنى، أي في العلاقة بين البرلمان والحكومة، ولا يجب أن يمتد إلى الملك الذي يُعَدُّ فوق السلطات باعتباره أمير المؤمنين، والإمامة تقتضي أن يتكفَّل الحاكم بشؤون رعاياه ويحتفظ بجميع السلطات.
لكن الدراسة تختلف مع من يدعي أن دستور 2011 قد أتى بإصلاحات تسمح له بأن يكون دستورًا تعاقديًّا، يحترم توزيع الصلاحيات واستقلال السلطات، أو قلَّص من صلاحيات الملك لصالح منح صلاحيات حقيقية للحكومة والبرلمان، بما يخول إمكانية الانتقال نحو نظام الملكية البرلمانية أو أية صيغة أخرى لنظام حكم ديمقراطي، يتم فيه التعبير عن إرادة المواطنين في اختيار من يتولى تدبير الشأن العام، وتكون أصواتهم الانتخابية الفيصل في تحديد من يصل إلى السلطة وفي محاسبة من يتولاها.
هذا الأمر يبقى بعيدًا، حسب وجهة نظر الباحث، في حالة من يمسك بالسلطة بالمغرب، فمع أن دستور 2011 ألغى صفة القدسية عن الملك، لكن الأمر لا يعني فتح المجال لانتقاد الملك على غرار انتقاد باقي رؤساء الدول والحكومات الذين يتحملون المسؤولية في الحكم؛ ذلك أن الفصل 46 والذي ينص على أن "شخص الملك لا تُنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام"، قد يطرح نفس الإشكال الذي كان مطروحًا حول قدسية الملك، بحيث يمكن تأويل أو اعتبار أي انتقاد للممارسة الملكية، إهانة وعدم تقدير أو عدم احترام للملك.
ارتباطًا بالسؤال المطروح في مقدمة الدراسة، يرى الباحث أن المدخل الدستوري في قياس درجة التحول الديمقراطي بالمغرب أظهر غياب القطيعة في فكر وموضوع السلطة؛ حيث استمرت هيمنة المؤسسة الملكية على البنيان الدستوري واحتفاظها بكل السلطات والصلاحيات الفعلية، وهو ما دفع الباحث للقول بأن مطلب الإصلاح الدستوري المؤدي لتوزيع السلطات واستقلالها سوف يتجدد كموضوع محوري ويصبح مطلبًا جوهريًّا لكل القوى المطالبة بالديمقراطية في الأفق المنظور والمتوسط، خاصة أمام انكشاف هامشية الإصلاحات الدستورية لسنة 2011 على وقع الممارسة والتطبيق.
للاطلاع على الدراسة كاملة في العدد الأول (اضغط هنا)