وضع الضفة الغربية في السياسة الإسرائيلية وتداعياته على حل الدولتين

ترى الورقة أن حل الدولتين لشعبين تراجع عن الأجندة الإسرائيلية الرسمية والشعبية لصالح فكرة الضم والسيطرة على أراضي الضفة الغربية، وتتركز إجراءات إسرائيل وجهد مؤسساتها على هذا الخيار، وتحرص على ضم الأرض دون سكانها الفلسطينيين.
28 أكتوبر 2019
962395ffedde417b82f1f9c888198644_18.jpg
تسعى إسرائيل إلى ضم المنطقة (ج) التي تحتوي على المستوطنات الإسرائيلية والمناطق الاستراتيجية في الضفة الغربية وتشتمل على عدد سكان قليل نسبيًّا (غيتي).

قبل الانتخابات بأسبوعين وفي محاولة لحشد دعم القاعدة الانتخابية لليمين واليمين المتطرف وفي ظل اتهامات بالفساد المالي، وعد بنيامين نتنياهو ناخبيه بسعيه لضم أجزاء حيوية من الضفة الغربية، وخاصة منطقة غور الأردن التي تشكل مساحتها ربع الضفة الغربية، في حال أعيد انتخابه في السابع عشر من سبتمبر/أيلول 2019. شجع نتنياهو في طموحاته التجاوبُ غير المسبوق من إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في تحقيق المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية واحدة تلو الأخرى. ففي ديسمبر/كانون الأول 2017، اعترف ترامب بمدينة القدس عاصمة موحدة لإسرائيل وأتبع ذلك باعتراف يؤكد السيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان التي ضمتها إسرائيل في عام 1981، وذلك في مارس/آذار 2019. تناقش هذه الورقة الوضع الراهن للضفة الغربية في المخططات الإسرائيلية والخطوات العملية التي اتخذتها في مساعيها لضم الضفة الغربية أو أجزاء حيوية منها، كما ترصد مكانة فكرة الضم لدى المجتمع الإسرائيلي، والتي عبَّر عنها نتنياهو في سياق الحملة الانتخابية الأخيرة.

الضفة الغربية: "مُحتلة" أم "محل نزاع"؟ 

من وجهة نظر القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، تعتبر الضفة الغربية أرضًا مُحتلة من قبل إسرائيل، وتطبق عليها اتفاقية جنيف الرابعة التي أرست قواعد قانونية دولية راسخة لحماية المدنيين أوقات الحرب، وتمنع الدول من تغيير وضع الأراضي "المحتلة" سواء قانونيًّا أو ديمغرافيًّا بما في ذلك تهجير السكان، وإعادة نقلهم أو مصادرة الأرضي. وردًّا على بناء الجدار الفاصل الذي بدأت إسرائيل بتشييده في أراضي الضفة الغربية عام 2002، خلصت محكمة العدل الدولية، وهي أعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة في عام 2004، إلى أن الضفة الغربية وقطاع غزة هي أراض "محتلة"، وبالتالي فإن ضم إسرائيل لأي أراضي فلسطينية يتعارض مع القواعد القانونية الناظمة للعلاقات الدولية.

لكن، لا تعترف إسرائيل بهذه التفسيرات القانونية وتتبنى وجهة نظر تقوم على قاعدة أن أراضي الضفة الغربية، التي تبلغ مساحتها 5860 كلم مربع، أي ما يقارب 21% من مساحة فلسطين التاريخية، "متنازع عليها" وليست "محتلة". فمع انتهاء حرب عام 1948 وإنشاء دولة إسرائيل، أبقت مصر سيطرتها على قطاع غزة، بينما سيطر الأردن على الضفة الغربية، ومن ثم أعلن بعد مؤتمر أريحا في عام 1951 الوحدة ما بين الضفة الشرقية (الأردن) والضفة الغربية وأصبح بالتالي سكان الضفة الغربية مواطنين أردنيين(1). ومن وجهة النظر الإسرائيلية، فإن ضم الأردن لأراضي الضفة الغربية لم يحظ بالاعتراف الدولي، وبالتالي لا تزال أراضي في وضع "مختلف عليه"، والذريعة أنه لم يكن هناك دولة ذات سيادة قبل احتلال إسرائيل للضفة الغربية في حرب عام 1967.

فالضفة الغربية، من وجهة نظر الادعاءات الإسرائيلية، هي منطقة "محل نزاع" لها فيها "حق تاريخي" منذ قرون، عندما كانت الضفة الغربية تشكل "مهد الحضارة اليهودية"(2). وهذا ما يفسر سعي إسرائيل الدائم لإحداث تغييرات ديمغرافية وجغرافية في أراضي الضفة الغربية بهدف السيطرة عليها وضمها، حيث سمح اتفاق أوسلو، والذي قسم الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق إدارية (مناطق أ، ب، ج)، لإسرائيل بتنفيذ سياسة واسعة للسيطرة على أراضي الضفة الغربية وضمها من الناحية الواقعية. خضعت مناطق (أ)، والتي تبلغ مساحتها 18% من مساحة الضفة الغربية، للسيطرة الأمنية والمدنية الكاملة للسلطة الفلسطينية؛ حيث تشمل التجمعات الفلسطينية ومراكز المدن الفلسطينية الرئيسية. في حين تخلو مناطق (أ) من أي وجود إسرائيلي عسكري أو استيطاني، ولكن تنفذ إسرائيل مهمات أمنية واعتقالات في هذه المناطق بصورة دائمة، مما يشكل في كثير من الأحيان إحراجًا بالغًا لأجهزة السلطة الفلسطينية. خضعت المنطقة (ب)، والتي تشكل ما مساحته 21% من أراضي الضفة الغربية، للسيطرة المدنية الفلسطينية مع إبقاء السيطرة الأمنية مشتركة ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وتصنف ما تبقى من الأراضي والتي مساحتها 61% من أراضي الضفة باعتبارها مناطق (ج) وتخضع للسيطرة الأمنية والمدنية الإسرائيلية الكاملة وتضم جميع المستوطنات الإسرائيلية، والعديد من المناطق الاستراتيجية، ومصادر المياه، وتطمع إسرائيل في ضمها تحت سيادتها.

المجتمع الإسرائيلي: إجماع على الضم

بدأت السياسة الإسرائيلية خلال الأعوام القليلة الماضية تتجه أكثر من أي وقت مضى إلى ضم الضفة الغربية أو أجزاء حيوية منها إلى إسرائيل. فبدلاً من دعم مبدأ حل الدولتين والترويج له، أصبحت مسألة الضم تلعب دورًا مهمًّا في الدعاية الانتخابية الإسرائيلية وضمن برامج الأحزاب الإسرائيلية، وخاصة اليمينية والدينية. فخلال الحملة الانتخابية التي سبقت الانتخابات الإسرائيلية العامة في أبريل/نيسان 2019، تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بضم المستوطنات اليهودية والمناطق الاستراتيجية في الضفة الغربية مع إبقاء السيطرة الإسرائيلية الأمنية الكاملة على مناطق (ج)(3). وبالرغم من فوز نتنياهو في الانتخابات إلا أنه فشل في تشكيل ائتلاف حكومي ومن ثم أجريت الانتخابات مرة ثانية في سبتمبر/أيلول 2019. ومجددًا، رفع نتنياهو من سقف أهدافه وبدا أكثر إصرارًا في إعادة التأكيد على مسألة الضم التدريجي للضفة الغربية حيث تعهد بضم منطقة الأغوار الفلسطينية و"تطبيق السيادة الإسرائيلية على جميع المجتمعات اليهودية" المنتشرة في الضفة الغربية في حال فاز في الانتخابات وشكل ائتلافًا حكوميًّا جديدًا (4).

لا يمكن الادعاء هنا بأن نتنياهو يغرد وحيداً خارج إطار الأحزاب الإسرائيلية الفاعلة. بل على العكس، تدعم غالبية أحزاب اليمين واليمين المتطرف سياسة الضم وأصبح ذلك يشكل عنصرًا مهمًّا من برامجها السياسية. ففي العام 2018، تبنى حزب الليكود الحاكم، الذي يتزعمه نتنياهو، مشروع قرار ينص على فرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات وامتداداتها في الضفة الغربية المحتلة؛ بما فيها القدس، وضمها إلى نطاق السيطرة الإسرائيلية (5). وهذا يتطابق أيضًا مع مواقف حلفاء نتنياهو من اليمين والأحزاب الدينية والتي تؤيد تعزيز الإجراءات الإسرائيلية لفرض "السيادة الإسرائيلية" على أراضي الضفة الغربية أو الأجزاء الحيوية منها. أما حزب أزرق أبيض، المكون من مجموعة من الأحزاب والذي يمكن تصنيفه ضمن تيار الوسط ويعتبر حاليًّا المنافس الأبرز لنتنياهو، فيمكن اعتبار مواقفه ضبابية وغير متبلورة سواء تجاه مسألة الضم أو التسوية السلمية الهادفة إلى إقامة دولة فلسطينية. فرئيس الحزب، بني غانتس، يرى أنه في حال عدم التوصل لاتفاق سلام مع الفلسطينيين يجب اتخاذ إجراءات تعزز الاستيطان، وعدم الانسحاب من هضبة الجولان، وأن يبقى غور الأردن حدودًا شرقية لإسرائيل، وأن تبقى القدس الشرقية عاصمة أبدية لإسرائيل (6). وفي ظل عدم تبلور أفق سياسي حاليًّا لتحقيق مبدأ الدولتين، فإن الفاعلين الأساسيين في المشهد الإسرائيلي يتفقون على ضرورة المضي قدمًا في ترسيخ السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية أو حتى الذهاب إلى ضمها جميعًا أو أجزاء منها (منطقة الأغوار والمستوطنات).

ومما يلفت الانتباه هنا هو أن فكرة الضم لا تلقى رواجًا فقط بين اليمين واليمين المتطرف بل أيضًا ضمن كافة فئات المجتمع الإسرائيلي بما يشمل ناخبي معسكر الوسط واليسار والذي دعم تاريخيًّا مساعي إقامة دولتين لشعبين. فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة هآرتس ذات التوجهات اليسارية، في 25 مارس/آذار 2019، أن 42% من الإسرائيليين -بمن فيهم مؤيدو أحزاب الوسط واليسار- يؤيدون شكلًا من أشكال الضم وأن ثلث الإسرائيليين فقط (34%) يؤيدون حل الدولتين. 28? فقط ممن شملهم الاستطلاع يعارضون أي ضم و30% لم يحددوا موقفهم. ومن اللافت أيضًا أن 41% فقط من ناخبي حزب العمل، يعارضون أي ضم للضفة الغربية مقابل غالبية (46%) يؤيدون ضم المنطقة (ج)، وهو الحزب نفسه الذي أسس لفكرة حل الدولتين في مطلع التسعينات على يد رئيس الوزراء، إسحاق رابين (اغتيل عام 1995). لم يختلف أيضًا حزب ميرتس الصهيوني اليساري عن هذه التوجهات؛ حيث أيد 14% ضم المناطق (ج) ونسبة مشابهة (14%) ضم الضفة الغربية بأكملها، إذا مُنح الفلسطينيون حقوقًا سياسية (7) .

هذه التحولات داخل المشهد الإسرائيلي يمكن التعامل معها باعتبارها مؤشرًا على أن مسألة "الضم" أصبحت مشروعًا ذا جاذبية داخل بنية المجتمع الإسرائيلي، وهو يؤسس لمرحلة جديدة عنوانها الأبرز: لا لحل الدولتين ونعم للضم.

التخوف الديمغرافي: ما هو الحل؟

مع زيادة رواج فكرة الضم بين الإسرائيليين، تزداد في نفس الوقت أيضًا مسألة مصير السكان الفلسطينيين المالكين الأصليين للأرض. أظهرت نتائج التعداد العام للفلسطينيين، للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 2018، أن هناك حوالي أربعة ملايين و780 ألف (حوالي 2.8 مليون في الضفة و 1.9 في غزة) فلسطيني يعيشون في الأراضي المحتلة عام 1967، إضافة إلى 1.5 مليون داخل الخط الأخضر. ويشير الإحصاء إلى زيادة مليون فلسطيني خلال السنوات العشر الأخيرة وهو ما يشكل كابوسًا وجوديًّا لإسرائيل. فبالمقارنة مع عدد اليهود ضمن حدود فلسطين الانتدابية، فإن عدد اليهود والعرب أصبح متساويًا تقريبًا، إذ يصل عدد اليهود 6.5 ملايين نسمة (8). وبينما استطاعت إسرائيل إخراج قطاع غزة، ولو مؤقتًا، من حساباتها الديمغرافية بعدما انسحبت من القطاع في عام 2005 مع إبقائه تحت الحصار المشدد، شكلت الضفة الغربية عاملاً ضاغطاً في الحسابات الإسرائيلية الداخلية. فإسرائيل من جهة تريد السيطرة على الأرض، ولكن من الجهة الأخرى لا تريد ضم السكان الفلسطينيين ومنحهم حقوق مواطنة كاملة، لأن ضم السكان مع الأرض يعني أن تفقد إسرائيل من الناحية العملية، خاصية أن تكون دولة يهودية وفي نفس الوقت "ديمقراطية"، ما يحتم عليها بالتالي، ترسيخ نظام فصل عنصري. وللانفصال عن الفلسطينيين وتغيير البنية السكانية مع إبقاء السيطرة على الأراضي الفلسطينية والسكان، تتبع إسرائيل حاليًّا استراتيجيتين متداخلتين:

الأولى: السيطرة على الأرض: شكَّل الاستيطان أحد أبرز أدوات السيطرة على الأراضي الفلسطينية؛ فمنذ توقيع اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض عام 1993، زاد عدد المستوطنين في الضفة الغربية وحدها بأكثر من ثلاثة أضعاف، من 116 ألفًا إلى أكثر من 413 ألفًا عام 2017 (9). وخلال السنوات القليلة الماضية، أصبح الاستيطان في الضفة الغربية قضية محورية في السياسة الإسرائيلية؛ حيث لم تُبدِ إسرائيل أية رغبة في تقييده أو حتى تجميده مؤقتًا. وكان ذلك سببًا كافيًا لتوقف المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية منذ أبريل/نيسان 2014 وإصدار مجلس الأمن الدولي، في 23 ديسمبر/كانون الأول 2016، قراراً يدعو إسرائيل إلى الوقف الفوري والكامل لأنشطتها الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية (10). ولم تكتف إسرائيل بالاستيطان من أجل السيطرة على أراضي الفلسطينيين، بل قامت ببناء الجدار الأمني الذي عزل القرى والبلدات عن محيطها الفلسطيني وشقت الطرق الالتفافية للربط ما بين المستوطنات المنتشرة في الضفة الغربية، ما وضع قيودًا على حياة السكان الفلسطينيين ودفعهم إلى الهجرة في بعض الأحيان (11) .

الثانية: السيطرة الإدارية والأمنية: بالتزامن مع السيطرة على أراضي الضفة الغربية واستباقًا لما قد يحصل في حال ضمت إسرائيل أجزاء من الضفة الغربية -مثل انهيار أجهزة السلطة الفلسطينية- أعادت إسرائيل تفعيل علاقات السيطرة الإدارية والأمنية المباشرة على الفلسطينيين وذلك عن طريق الإدارة المدنية. فبعدما احتلت إسرائيل الضفة الغربية، أخضعتها للسيطرة المدنية والعسكرية الإسرائيلية ولكن دون أن تضمها قانونيًّا -باستثناء مدينة القدس التي ضمتها إسرائيل عام 1980 بشكل أحادي. وهذا يعني من الناحية العملية أن القوانين الإسرائيلية لا تنطبق على سكان الضفة الغربية الفلسطينيين ويتم التعامل معهم عن طريق القوانين العسكرية.

هذا، وقد أنشأت إسرائيل الإدارة المدنية، عام 1981، كهيئة حكم إسرائيلية لإدارة الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1967 وكانت تعمل ضمن إطار حكومي أوسع يعرف بمكتب تنسيق الحكومة في المناطق، وهو الذراع التنفيذية للجيش الإسرائيلي. ومع توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993، بدأ العديد من مهمات الإدارة المدنية ينتقل إلى مؤسسات السلطة الفلسطينية حيث كان من المتوقع أن تحل مؤسسات السلطة تدريجيًّا مكان الإدارة المدنية. ولكن، استمرت الإدارة المدنية في إدارة شؤون السكان الفلسطينيين في المنطقة (ج) وذلك عن طريق مكاتب التنسيق والارتباط التي تنسق مباشرة مع السلطة الفلسطينية؛ حيث تحتاج السلطة في كثير من الأحيان لموافقة الإدارة المدنية لممارسة وتنفيذ نشاطاتها في الضفة الغربية وخاصة مناطق (ج).

ومع تولي الجنرال، يؤاف مردخاي، منصب رئيس مكتب الحكومة الإسرائيلية في المناطق في عام 2014 –حتى عام 2018، بدأت الإدارة المدنية بالتحول مجددًا لتلعب دور الحاكم الفعلي للفلسطينيين مع تهميش متزايد للسلطة الفلسطينية ومؤسساتها. فهي تتحكم في حياة الفلسطينيين المتعلقة بسجلات الأسماء والمواليد وقطاعات الصحة والبناء والتجارة وشبكات المياه والكهرباء والأمن. وفي مارس/آذار 2016، دشنت إسرائيل موقع "المنسق" باللغة العربية على موقع "فيسبوك" وذلك من أجل خلق علاقة مباشرة ما بين الإدارة المدنية والمواطنين الفلسطينيين تتجاوز فيها السلطة الفلسطينية. يهدف موقع المنسق إلى التعامل المباشر مع الفلسطينيين وخاصة في مجالات تقديم الخدمات المتعلقة بمنح تصاريح العمل داخل إسرائيل والخدمات التجارية والصحية والتعليمية، والتحكم بحركة مرور المواطنين على المعابر والجسور؛ حيث أصبح أداة ربط رئيسية تربط السكان المحليين باثنتين وعشرين مفوضية تتبع للوزارات الإسرائيلية المختلفة، وثماني مديريات تنسيق وارتباط موزعة في جميع أنحاء الضفة الغربية. وبعد فترة قصيرة من إنشائه أصبح الموقع يشهد إقبالًا متزايدًا من التفاعل حيث يشترك به أكثر من نصف مليون شخص. ومن خلال متابعة الموقع، يلاحظ وجود عدد كبير من التعليقات الإيجابية والتفاعل مع منشورات "المنسق" والتي يمكن أن تستغلها إسرائيل أيضًا من أجل تجنيد العملاء أو التأثير على الرأي العام الفلسطيني، وخاصة الشباب، وإعادة تشكيله بصورة تخدم الأهداف الإسرائيلية (12) .

ويمكن فهم تزايد نشاطات الإدارة المدنية في جانبين أساسيين: فهي تراكم الضغوطات السياسية على السلطة الفلسطينية ومؤسساتها والتي تعاني من التهميش وعدم الفاعلية، ومن جهة أخرى تمهد لإدارة التجمعات الفلسطينية في حال ضم إسرائيل لمناطق حيوية في الضفة الغربية وما قد ينتج عن ذلك من احتمالية انهيار لمؤسسات السلطة الفلسطينية وأجهزتها الخدماتية.

التفاعلات المستقبلية

مع تصاعد الإجراءات الإسرائيلية الفعلية لضم الأراضي الفلسطينية وزيادة جاذبية الضم ضمن النخبة الإسرائيلية والقواعد الناخبة، تبقى كافة التفاعلات متوقعة، بما فيها ضم الضفة الغربية كاملة أو أجزاء منها، ويمكن الوقوف على أبرزها:

الضم المتدحرج: ترجح كافة الأفعال الإسرائيلية خلال السنوات الماضية أنها تقوم فعليًّا بضم متدحرج لأراضي الضفة الغربية، وذلك عن طريق تغيير التركيبة السكانية والجغرافية بحيث يصبح الضم مع مرور الوقت بحكم الأمر الواقع. ويرتبط بهذا المخطط الإسرائيلي، القيام بخطوات عملية لتعزيز السيادة الإسرائيلية على المستوطنات وامتداداتها في الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس وضمها إلى نطاق السيطرة الإسرائيلية. والجدير بالذكر أنه تم تمرير ما لا يقل عن ستين مشروع قانون يمهد لضم الضفة الغربية في الكنيست المنتهية ولايته، وصودق على ثمانية قوانين دخلت بالفعل حيز التنفيذ. من المتوقع أن تستمر إسرائيل في إصدار مزيد من التشريعات التي تعزز ما يسمونه "سيادة إسرائيل" في الضفة الغربية. ويمكن أن تنتقل هذه الخطوات، في حال توفر الظروف الداخلية، والإقليمية، والدولية، إلى إصدار تشريع في الكنيست، أو من الحكومة الإسرائيلية القادمة، بضم أجزاء من الضفة الغربية. والجدير بالذكر أن هناك تصريحات متكررة لنتنياهو، أبدى فيها رغبته في تطبيق السيادة الإسرائيلية على أراضي الضفة الغربية عن طريق تشريع في الكنيست (13) . ويمكن النظر إلى مثل هذا التشريع من منظور مشابه لحالات سابقة من الضم، كما حصل في القدس الشرقية (1980) أو مع هضبة الجولان (1981).

منطقة الأغوار: بغض النظر عن الاختلافات والصراعات السياسية التي تتصدر المشهد الإسرائيلي من حين إلى آخر، ستستمر إسرائيل على الأغلب في مساعيها لضم منطقة الأغوار الفلسطينية كخطة تجريبية يمكن إعادة تطبيقها في مناطق أخرى، وخاصة تلك التي تضم مستوطنات كبيرة، وهو ما صرح به نتنياهو قبل الانتخابات الأخيرة لاستمالة الناخبين(14). ما يميز منطقة الأغوار ليس فقط مساحتها التي تشكل ما يقارب 22% من مساحة الضفة الغربية -90% مصنفة مناطق (ج)- بل أن الوجود السكاني فيها طفيف، حيث يعيش فيها حوالي 53 ألف فلسطيني في مجموعة من البلدات، بما فيها مدينة أريحا، لكنها منفصلة جغرافيًّا ومعزولة عن بعضها(15). ومن الملاحظ أن الخرائط التي عرضها نتنياهو للضم لا تحتوي على التجمعات الفلسطينية؛ إذ بقيت خارجها. كما أن ضم منطقة الأغوار، التي تمثل "حدود" إسرائيل الشرقية مع الأردن، محل توافق كبير بين النخب الإسرائيلية وتتحكم إسرائيل حاليًّا بشكل مطلق في هذه المنطقة.

ضم المستوطنات: مع وجود بعض الاختلافات البسيطة بين الأحزاب الرئيسة تجاه الاستيطان، يتبنى نتنياهو ليس فقط ضم الكتل الاستيطانية الكبيرة، التي تتراوح مساحتها ما بين 7 و 10% بل يسعى لأن يشمل الضم في إطاره النهائي كافة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وإضفاء الطابع الرسمي عليها(16). وبالتالي، فإن إسرائيل لم تعد تميز ما بين الكتل الاستيطانية الكبرى القريبة من الخط الأخضر، وبين المستوطنات المعزولة والواقعة في عمق الضفة. فعلى سبيل المثال، صادق نتنياهو مؤخراً، باعتباره أيضًا وزيرًا للأمن، على شق طريق التفافي في منطقة حوارة -منطقة نابلس، لصالح أربع مستوطنات "معزولة" يسكنها 7500 مستوطن، وذلك في إطار مخطط بتكلفة 5 مليارات شيكل لتقليل الاحتكاك مع الفلسطينيين(17). هذا يعني من الناحية العملية أن إسرائيل سوف تسعى إلى ضم المنطقة (ج) التي تحتوي على جميع المستوطنات الإسرائيلية والمناطق الاستراتيجية في الضفة الغربية وتشتمل على عدد سكان قليل نسبيًّا، حوالي 400 ألف (18) .

انهيار أجهزة السلطة الفلسطينية: مثلت الأرض جوهر الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي حيث يسعى الفلسطينيون منذ توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993 إلى إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة منذ حرب عام 1967. وبالتالي، فإن فرض السيادة الإسرائيلية سيعني نهاية الطموح الفلسطيني. ومن الناحية العملية، أدت سياسات إسرائيل الساعية إلى ضم الضفة الغربية إلى تحويل التجمعات الفلسطينية إلى "كانتونات" معزولة جغرافيًّا عن بعضها. والأسوأ من ذلك أنها قامت بعزل الريف الفلسطيني، الذي يقع في مناطق (ب)، (ج)، عن مراكز التجمعات الفلسطينية وهو ما دمر الفضاء الجغرافي الفلسطيني ورسخ بشكل عملي لمبدأ "الانفصال" عن الفلسطينيين، ولكن بصورة تجعل من الصعب بل المستحيل، إقامة دولة فلسطينية متواصلة الأطراف وقابلة للحياة. وفي حال ضمت إسرائيل مناطق (ج) فإنها يمكن أن تسمح للفلسطينيين بأن يحكموا مناطق (أ) و(ب) والتي تشكل 40% من مساحة الضفة، ولكن دون منحهم السيادة الأمنية والسياسية على هذه المناطق.

حاليًّا، لم يعد مبدأ حل الدولتين ضمن الأجندة الإسرائيلية، حيث تجنب نتنياهو منذ وصول الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لسدة الحكم في عام 2017، أي تأييد صريح لحل الدولتين مفضلاً أن يحكم الفلسطينيون أنفسهم ضمن كانتونات منعزلة فاقدة لأية سيادة. وفي حال وقف التنسيق الأمني وتفكك أجهزة السلطة، وخاصة الأمنية، وعودة الحراك الفلسطيني المسلح، يمكن أن تلجأ إسرائيل إلى إعادة سيطرتها الأمنية والسياسية على الفلسطينيين حتى في مناطق نفوذ السلطة حاليًّا. وربما تعمل على فرض القانون الإسرائيلي عليهم، أو نقل إدارتهم للأردن على شاكلة ما كان معمولًا به قبل فك الارتباط ما بين الضفة الغربية والشرقية في عام 1988، وذلك من ضمن حل إقليمي يقوم على إلحاق قطاع غزة بمصر والضفة الغربية بالأردن. ولكن في هذه الحالة، يخشى في إسرائيل أن يؤدي الضم إلى زعزعة الاستقرار في الأردن(19) أو أن تنشأ أوضاع جديدة تهدد استقرار إسرائيل، وهي لا تريد إضافة إلى حدودها الجنوبية والشمالية المتوترة، معضلة أمنية جديدة يمكن أن تتفاقم على حدودها الشرقية.

خاتمة

تبدو الظروف الحالية مناسبة لقيام إسرائيل بخطوات عملية لضم أجزاء من الضفة الغربية ضمن خطة استراتيجية طويلة الأمد، ربما تبدأ بغور الأردن ومن ثم تمتد لتشمل الكتل الاستيطانية وصولاً إلى ضم المناطق المصنفة (ج)، مع إبقاء الاستعداد لضم جميع أراضي الضفة الغربية في حال انهيار أجهزة السلطة الفلسطينية.

وتستغل إسرائيل لتحقيق هذه الأهداف أو بعضها، دعم الولايات المتحدة الأميركية غير المشروط لمخططاتها، وتراجع الدعم العربي للفلسطينيين مع "تفهمهم" أكثر لاحتياجات إسرائيل الأمنية، وخاصة في ظل الصراع مع إيران وتوجه أنظار بعض الأنظمة العربية نحو تل أبيب لإحداث توازن ما حسب اعتقادهم، فضلًا عن التغيرات الجيوسياسية التي تعصف بالمنطقة لاسيما انسحاب الولايات المتحدة شبه الكامل من سوريا، وإقامة تركيا لمنطقة آمنة في الشمال السوري وعدم استقرار الجبهة الشمالية مع حزب الله.

إن ضم إسرائيل، الجزئي أو الكلي لأراضي الضفة الغربية سيجعل الفلسطينيين الذين يسكنون هذه المناطق مواطنين من الدرجة الثانية دون أي حقوق سياسية. ليس من المتوقع أن تمنح إسرائيل الفلسطينيين الحقوق الكاملة كمواطنين إسرائيليين، خشية أن يؤدي ذلك تدريجيًّا إلى ظهور أغلبية سكانية عربية تقضي على حلم إقامة دولة يهودية "ديمقراطية". 

*د. محمود جرابعة، معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا الاجتماعية، ألمانيا.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) ريحان شريف، "دور مناخ الاستثمار في دعم وترقية تنافسية الاقتصاد الوطني الجزائري: دراسة تحليلية تقييمية"، مجلة كلية بغداد للعلوم الاقتصادية الجامعة، (كلية بغداد للعلوم الاقتصادية الجامعة، العراق، العدد 32، المجلد 8، أبريل/نيسان 2013)، ص 34.

(2) Abderrahmane Mebtoul , “World Economic Forum Report 2015–2016,” la nouvelle république, December 06, 2015.

(3) Alain Faujas, “Classement, où investir en Afrique en 2019?,” jeuneafrique.com, février 13, 2019, accessed June 1, 2019”. https://bit.ly/2SJfT1i  

(4) “Les pays émergents investissent la Méditerranée: Bilan 2012 de l'attractivité des pays MED en matière d'investissement étranger,” ANIMA, Octobre 19, 2013, p. 13.

(5) Tayeb Chennouf, L’Algérie face a la mondialisation (Dakar: Codesria, 2008): 10-11.

(6) محمد سيدمو، "الجزائر في نادي العشرين الأكثر تدهورًا في الحرية الاقتصادية"، قناة الجزائر، 18 يناير/كانون الثاني 2014، (تاريخ الدخول: (2 يونيو/حزيران 2019): https://bit.ly/2J0EY1V 

يقيس مؤشر الحرية الاقتصادية، 2014، مستويات الحرية الاقتصادية في عشر دعائم، هي: حقوق الملكية (العلامة 30)، والحرية من الفساد (28.7)، وإنفاق الحكومة (51.0)، والحرية الجبائية (80.5)، وحرية الأعمال (66.3)، وحرية العمل (48.3)، والحرية النقدية (67.8)، وحرية التجارة (60.8)، وحرية الاستثمار (45.0)، والحرية المالية (30.0).

(7) صحيفة الخبر، العدد 2، يناير/كانون الثاني 2014. 

(8) Arezki Benali, “Un ancien ministre révèle les dessous de la signature de l’accord d’association entre l’Algérie et l’UE,” algerie-eco.com, Mai 28, 2019, “accessed June 1, 2019”. https://bit.ly/323kHjG 

الوزير هو السيد الهاشمي جعبوب، وزير تجارة سابق. 

(9) Sabrina Mouloud, “Accord d’association L'Algérie -union européenne,” dzentreprise.net, Octobre 16, 2012, accessed June 2, 2019. https://bit.ly/2YnywYc.  

(10) kadi Ihsane, “La semaine éco: L’Accord d’association entre l’Algérie et l’Union européenne glisse vers une zone de tempête,” elwatan.com, Octobre 29, 2018, accessed June 2, 2019. https://bit.ly/2IYYXhu  

(11) انظر في هذا المجال التقرير التالي:

“Rapport Nabni 2020,” nabni.org, Janvier 2013, accessed June 2, 2019, https://bit.ly/2NovrpT  

(12) النقاط ملخصة من "تقرير نبني"، المرجع السابق. 

(13) رفائيل أهرين، كيف سيمضي نتنياهو نحو ضم المستوطنات؟، مصدر سبق ذكره.

(14) رفائيل أهرين، كيف سيمضي نتنياهو نحو ضم المستوطنات؟، مصدر سبق ذكره.

(15) دائرة شؤون اللاجئين منظمة التحرير الفلسطينية، تقرير: بعد الأغوار وشمال البحر الميت، نتنياهو يخطط لضم 75 بالمئة من المناطق المصنفة (ج)، 14 سبتمبر/أيلول 2019، (تاريخ الدخول 19 أكتوبر/تشرين الأول 2019): https://bit.ly/2pvAA3L  

(16) قناة الجزيرة الاخبارية، قبل أسبوعين من الانتخابات.. نتنياهو يتعهد مجددًا بضم مستوطنات الضفة، 1 سبتمبر/أيلول 2019، (تاريخ الدخول 19 أكتوبر/تشرين الأول 2019): https://bit.ly/2pAePjg  

(17) عرب 48، مخططات ضم الضفة: مستقبل عنيف وقاتم، مصدر سبق ذكره. 

(18) الإحصاء الفلسطيني، تحت رعاية وحضور فخامة السيد الرئيس محمود عباس "أبو مازن" حفظه الله، الإحصاء الفلسطيني يعلن عن النتائج الأولية للتعداد العام الثالث للسكان والمساكن والمنشآت 2017 في دولة فلسطين، 28 مارس/آذار 2018، (تاريخ الدخول 19 أكتوبر/تشرين الأول 2019): http://www.pcbs.gov.ps/postar.aspx?lang=ar&ItemID=3098  

(19) أسوأ السيناريوهات لإسرائيل، نشوب اضطرابات قد تحول الأردن إلى "دولة فاشلة" وجبهة جديدة غير مستقرة ومفتوحة على دول ومنظمات تعتبرها إسرائيل معادية لها.