تداعيات تفجيرات مومباي على العلاقات الهندية الباكستانية

لن تتسبب تفجيرات مومباي الماضية في حرب بين الهند وباكستان لعاملين خارجي متعلق بمصالح القوى الكبرى وداخلي متعلق بحسابات كل من نظامي الدولتين







سببت هجمات مومباي الأخيرة في عدوة الأزمة بين الهند والصومال (الفرنسية-أرشيف)

محمد فايز فرحات


ملخص
تداعيات التفجيرات


ملخص





من المتوقع أن يشهد الحوار حول مشكلة كشمير دفعة قوية بعد الخروج من هذه الأزمة بهدف إنجاز تسوية تاريخية لهذا الصراع كمدخل مهم لمواجهة الجماعات الدينية الباكستانية
من المستبعد أن تتسبب تفجيرات مومباي التي اندلعت صبيحة الأربعاء السادس والعشرين من نوفمبر/تشرين ثاني الماضي في اندلاع مواجهة عسكرية بين الهند وباكستان لعاملين الأول خارجي متعلق بمصالح القوى الكبرى وبالأخص الولايات المتحدة، والثاني لأسباب وحسابات داخلية لدى كل من نظامي الحكم في الهند وباكستان.

فليس من مصلحة الولايات المتحدة (الحليف الإستراتيجي للدولتين) في هذه اللحظة نشوب حرب بين البلدين، لأن هذه الحرب في حال اندلاعها ستؤثر سلبا على عملياتها ضد ما يسمى بالإرهاب في الساحة الأفغانية، وكذلك لتأثيراتها السلبية المتوقعة على مواجهة التنظيمات الدينية المتشددة داخل باكستان.


أما العامل الثاني فيتعلق بمجموعة من التحولات المهمة الداخلية على الجانبين الباكستاني والهندي والتي نجمت عن سنوات الاستقرار والتطبيع الأخيرة بينهما وما نجم عنها من مكاسب يصعب التفريط فيها.


غير أن عملية التطبيع بين البلدين قد تتأثر بشكل مؤقت في المدى القريب، لكن على المديين المتوسط و البعيد لن يكون للتفجيرات تأثيرات عليها.


ومن المتوقع أن تأخذ العلاقات بين البلدين منحى مختلفا لتركز على مجالات مكافحة الإرهاب، والتنظيمات الدينية المتشددة، والتعاون المخابراتي بهدف الوقوف على حقيقة توزيع القوى المتشددة في جنوبي آسيا بشكل عام، وعلاقاتها عبر القطرية، بالإضافة إلى تأمين الملاحة البحرية والمداخل البحرية.


كذلك فإنه من المتوقع أن يشهد الحوار حول مشكلة كشمير دفعة قوية بعد الخروج من هذه الأزمة بهدف إنجاز تسوية تاريخية لهذا الصراع كمدخل مهم لمواجهة الجماعات الدينية الباكستانية التي لازالت قضية كشمير تمثل مكونا مهما في أجندة عملها.


ولا يتوقع أن تختلف تلك الاستنتاجات في حالة وصول حزب بهاراتيا جاناتا (حزب قومي هندوسي والمنافس الرئيسي لحزب المؤتمر) إلى السلطة في حالة فوزه في الانتخابات القادمة، فالأخير هو الذي دشن عملية التطبيع الجارية بقيادة رئيس الوزراء السابق آتال بيهاري فاجبايي.


تداعيات التفجيرات





لا يمكن إغفال الدور الأمريكي كمحدد موضوعي مهم في قرار الحرب والتصعيد العسكري من جانب الهند، إذ ليس من مصلحة الولايات المتحدة في هذه اللحظة نشوب حرب بين البلدين
على الرغم من مظاهر التصعيد التي قامت بها الحكومة الهندية خلال الأيام التالية على وقوع أحداث مومباي، سواء فيما يتعلق بتبني خطاب عدائي تجاه النظام الباكستاني، أو فيما يتعلق باتخاذ إجراءات أمنية على خط السيطرة، وصفت بأنها ترقى إلى مستوى إعلان الحرب، إلا أن تقديرا موضوعيا للموقف الراهن قد ينتهي بنا إلى استبعاد حدوث صدام عسكري بين الجانبين. ونستند في ذلك إلى قراءة موضوعية للبيئة الداخلية، والإقليمية والدولية. نشير فيما يلي إلى أهم تلك العوامل.

1-  لا يمكن إغفال الدور الأمريكي كمحدد موضوعي مهم في قرار الحرب والتصعيد العسكري من جانب الهند، إذ ليس من مصلحة الولايات المتحدة في هذه اللحظة نشوب حرب بين البلدين-أو ربما حتى تعبئة عسكرية، وذلك استنادا إلى التداعيات الخطيرة لمثل هذا التصعيد على مستويين أساسيين. الأول هو التداعيات السلبية لهذه الحرب على عملياتها ضد ما يسمى بالإرهاب في الساحة الأفغانية. إن جر باكستان إلى فتح جبهة إضافية مع الهند، لن يقتصر تأثيره السلبي على فعالية أدائها على الجبهة الأفغانية، ولكنه قد يؤدي إلى إغلاق الجبهة الأفغانية. ويتأكد هذا الاحتمال مع صدور تصريحات باكستانية بأن باكستان سوف تسحب قواتها من منطقة الحدود الباكستانية- الأفغانية إذا اضطرت للحرب مع الهند. وبمعنى آخر، فإن باكستان تعلن صراحة التزامها بجبهة واحدة فقط، ومن ثم فعلى الولايات المتحدة الاختيار بين أي من الجبهتين: إما جبهة الحرب على الإرهاب، أو الجبهة الهندية. ومن المنطقي أن تختار الولايات المتحدة الجبهة الأولى، ليس فقط في ضوء صعود تحدي طالبان والقاعدة على الساحة الأفغانية، ولكن أيضا بالنظر إلى المرحلة الحرجة التي تمر بها الحرب على الإرهاب في الساحة الأفغانية على خلفية مشروع الحوار مع طالبان، وعلى خلفية اتجاه الإدارة الأمريكية الجديدة إلى التركيز على الملف الأفغاني، وهو ما يعني في التحليل الأخير أهمية توفير مناخ أمني إقليمي مواتيا لهذه التوجهات الأمريكية الجديدة.


أما المستوى الثاني فيتعلق بالتداعيات السلبية المتوقعة لتلك الحرب على مواجهة التنظيمات الدينية المتشددة داخل باكستان. إن أحد الانتقادات الأساسية الموجهة للسياسات الداخلية الباكستانية هو عدم اتخاذها إجراءات كافية لمواجهة هذه التنظيمات، فرغم نجاح الرئيس السابق برويز مشرف في إدخال تحولات مهمة على صعيد الارتباطات الخارجية للدولة الباكستانية عقب أحداث سبتمبر 2001، بدءا من التخلي عن نظام طالبان وانتهاء بالتحالف مع الولايات المتحدة في إطار حربها على الإرهاب، إلا أنه لم ينجح على المستوى الداخلي في تحقيق مثل هذه القطيعة مع القوى الدينية. وقد قدمت الانتخابات البرلمانية سنة 2004 مثالا مهما في هذا الإطار. ورغم بعض الإجراءات التي اتخذها نظام مشرف ضد بعض الجماعات مثل "لشكر طيبة" و"جيش محمد" إلا أن هذه الإجراءات لم تترتب عليها نتائج ملموسة فيما يتعلق بحجم انتشار هذه الجماعات على الأرض.


أضف إلى ذلك الانتقادات التي وجهت لنظام مشرف فيما يتعلق بمهادنته للأحزاب الإسلامية الأكبر (تحالف الأمل الموحد) والقوى القبلية. وما يقوم به نظام زرداري الآن-بالتعاون مع الجيش- من عمليات عسكرية واسعة ومكثفة ضد التنظيمات الإسلامية الباكستانية المتشددة، وعلى رأسها حركة "طالبان باكستان"، لا يعدو كونه محاولة لتصحيح الأخطاء الأساسية التي وقع فيها نظام مشرف، والتي أملتها طبيعة النظام السياسي والدولة الباكستانية، هذا فضلا عما يمثله "مشروع زرداري" وصعود (أو تصعيد) حزب الشعب من محاولة لتوسيع دور القوى المدنية وإحلالها محل القوى الدينية التي نجحت في ملء الفراغ الذي أحدثه مشرف بسبب تهميشه للقوى السياسية المدنية العلمانية.


وتأتي خطوة جر باكستان إلى حرب جديدة مع الهند من زاوية المعطيات السابقة من أن مثل هذه الحرب سوف تضع الحكومة الباكستانية والقوى الدينية –بمختلف توجهاتها- في بوتقة واحدة وتوحيدها في مواجهة التحدي الهندي، الأمر الذي يعني عودة باكستان إلى المربع الأول فيما يتعلق بالعلاقة بين الدولة والقوى الدينية، بما يعنيه ذلك من خلق مناخ مشجع لمزيد من انتشار التنظيمات الدينية، ووقف السياسات الخاصة بمحاولات إعادة صياغة العلاقة بين الجيش والتنظيمات الدينية، بل قد يعود الجيش إلى سياساته التقليدية الخاصة باستخدام هذه التنظيمات في تنفيذ وإدارة صراعه مع الهند.


وهكذا، فإن التداخل الشديد بين المصالح الدولية -الأمريكية خاصة- واستحقاقات الحرب على الإرهاب، ببعديها الأفغاني والباكستاني، قد تضطر الولايات المتحدة للتدخل بقوة للحيلولة دون حدوث مواجهة عسكرية مباشرة بين الهند وباكستان.





دأب قطاع الأعمال في البلدين على ممارسة الضغوط على حكومتيهما للفصل بين المسارين العسكري- السياسي والاقتصادي. ورغم أن الدور الكبير للجيش داخل معادلة التوازن السياسي في باكستان قد حجم نسبيا من تأثير هذا التيار
2- العامل الثاني يتعلق بمجموعة من التحولات المهمة الداخلية على الجانبين الباكستاني والهندي، والتي تكرست خلال السنوات الأخيرة، وقد حققت درجة من الاستقرار إلى الحد الذي لا يمكن إغفالها في عملية اتخاذ قرار الحرب على الجانبين.

أ- على الجانب الباكستاني هناك اتجاه قوي لإعادة تقييم خبرة الصراع مع الهند. وتنصرف  إعادة التقييم هنا إلى بعدين أساسيين: الأول هو تنامي إدراك لدى قطاعات باكستانية بالتكلفة الاقتصادية والاجتماعية للصراع، وذلك بالمقارنة بحجم الاقتصاد الباكستاني. وتأخذ تلك التكلفة بعدين رئيسين، الأول هو التكلفة الاقتصادية المباشرة ممثلة في حجم الإنفاق العسكري الباكستاني الضخم، سواء في مجال التسليح التقليدي أو النووي، وتأثير الصراع على عملية تخصيص الموارد الاقتصادية خلال سنوات الصراع(•).


ورغم أن المؤسسة العسكرية ما زالت تدافع عن هذا الإنفاق، إلا أن بعض تلك القيادات، خاصة ممن هم خارج الخدمة، تدعو إلى إعادة النظر في نمط تخصيص الموارد الباكستانية، فقد وصف أحد الجنرالات المتقاعدين حجم الإنفاق العسكري الباكستاني بأنه "انتحار اقتصادي". أضف إلى ذلك حجم الإنفاق على برنامج التسليح النووي والذي لا تتوفر حوله تقديرات محددة بسبب عدم إدراجها في الموازنة العسكرية.(**) فضلا عن التكلفة غير المباشرة لتلك الحرب ممثلة فيما يعرف بتكلفة "الفرصة البديلة" الخاصة بالمكاسب الاقتصادية المتوقعة للعلاقات الاقتصادية بين البلدين (الهند، باكستان) في حالة تطبيع العلاقات الثنائية وتسوية مشكلة كشمير، لا سيما في مجالي التجارة السلعية ومصادر الطاقة. ويبشر أصحاب هذا الاتجاه بإمكانية حدوث نقلة نوعية في حجم العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين في حالة استمرار عملية التطبيع الجارية. هذا بالإضافة إلى المكاسب التجارية المتوقعة في حالة تنفيذ مشروعات نقل الغاز الطبيعي من إيران ومنطقة آسيا الوسطى إلى الهند عبر باكستان، وهو المشروع الذي يتوقع أن يوفر لباكستان، بالإضافة إلى مصادر جديدة للطاقة، مصادر تمويل جديدة في شكل رسوم ترانزيت والتي تقدر بحوالي (600-800) مليون دولار سنويا. كما تسعى النخبة الاقتصادية ومجتمع الأعمال الباكستاني إلى الاستفادة من قطاع تكنولوجيا المعلومات الهندية( ).


وفي ضوء المكاسب المتوقعة السابقة لطرفي الصراع، فقد دأب قطاع الأعمال في البلدين على ممارسة الضغوط على حكومتيهما للفصل بين المسارين العسكري- السياسي والاقتصادي. ورغم أن الدور الكبير للجيش داخل معادلة التوازن السياسي في باكستان قد حجم نسبيا من تأثير هذا التيار إلا أن صعود الجناح المدني إلى السلطة بقيادة الرئيس زرداري –وهو أحد رموز مجتمع الأعمال في باكستان- يشكل فرصة مهمة لتحسين فرص تأثير هذا التيار على قرارات الحرب والسلام مع الهند، ومحاولته التدخل للحفاظ على عملية التطبيع الجارية.


أما البعد الثاني في عملية إعادة تقييم خبرة الصراع مع الهند فينصرف إلى وجود اتجاه متنام يدعو إلى إعادة تقييم الأدوات الباكستانية التقليدية في إدارة الصراع مع الهند، سواء سياسة العمليات العسكرية المحدودة (مثل عملية "كارجيل" سنة 1999) أو سياسة دعم المقاومة الكشميرية المسلحة والتنظيمات الإسلامية المعنية بمشكلة كشمير. وعلى سبيل المثال، ذهب بعض المسئولين العسكريين إلى أن عملية "كارجيل" قد ساهمت في تدهور الموقف الباكستاني، كما كشف رئيس المخابرات العسكرية الباكستانية السابق الجنرال أسعد دوراني Asad Durani في مقابلة له مع مجموعة الأزمات الدولية إلى ضرورة التخلي عن سياسة دعم المتشددين الكشميريين ومنع المتطوعين الباكستانيين من المشاركة في عمليات المقاومة المسلحة داخل كشمير( ). رغم أن هذا الاتجاه ما زال محدودا، إلا أنه يشهد قبولا متزايدا بما في ذلك داخل المؤسسة العسكرية والقيادات العسكرية المتقاعدة، كما أصبحت الصحف المستقلة، خاصة الناطقة بالإنجليزية، تلعب دورا مهما في التعبير عن هذا الاتجاه(***). كما بدأ هذا التوجه يجد طريقه بشكل تدريجي في الصحف الناطقة باللغة الأردية أيضا ( ).





 نجحت باكستان من جانبها في محاصرة السياسة الهندية من خلال دعواتها المتواصلة للهند منذ وقوع أحداث سبتمبر/ أيلول 2001 للدخول في مفاوضات مباشرة حول مختلف قضايا الصراع
ب- على الجانب الهندي يمكن أن نلمس تحولا ملموسا في إدراكات ما يطلق عليه الجيل الثالث  في الهند (والذي تتراوح أعماره حول العشرينيات والثلاثينيات) بشأن طبيعة قضية كشمير والصراع مع باكستان، خاصة لدى الطبقة الوسطى. فعلى الرغم من وجود تيار هندوسي متشدد، إلا أن نسبة مهمة من الطبقة الوسطى (وهي طبقة متنامية بطبيعتها بالنظر إلى معدلات النمو الاقتصادي المستدامة، وتتسم بإعلائها لقيم المال والتجارة وتعظيم مكاسبها الاقتصادية والاجتماعية، والإعجاب بنمط الحياة الأمريكية والغربية)، تشهد نوعا من التمايز التدريجي في إدراكاتها تلك عن الجيلين الأول والثاني وعن قضايا ومشكلات الهند التقليدية.

فقد شهد هذا الجيل تحولا واضحا فيما يتعلق برؤيته لمسئولية طرفي الصراع عن تطور مشكلة كشمير، فبينما مال الجيلان الأول والثاني إلى تحميل باكستان والقادة الباكستانيين المسئولية الأكبر، وربما الكاملة، عن تلك المشكلة، يتبني الجيل الراهن موقفا أكثر عملية بخصوص تلك المسألة، حيث أضحت النسبة الغالبة منه أكثر اقتناعا بمسئولية طرفي الصراع (الهند وباكستان معا) عن التوترات الثنائية، وبمسئولية الأحزاب السياسية الهندية عن تكريس حالة الصراع. كما أصبح هذا الجيل أكثر ميلا للتعامل مع الصراع مع باكستان باعتباره صراعا سياسيا أكثر منه صراعا دينيا(****).


3- خبرة العلاقات الثنائية بين البلدين خلال الفترة (2001- 2003): فقد شهدت تلك الفترة تدهورا شديدا في علاقات البلدين على خلفية عدد من العوامل، أهمها التنافس بينهما على تعظيم دورهما وأهميتهما الإستراتيجية في إطار الحرب ضد الإرهاب، حيث سعت الهند من جانبها إلى محاولة التأكيد على كونها الحليف الاستراتيجي الطبيعي والليبرالي الذي يمكن الوثوق به في جنوبي آسيا في إطار الحرب ضد الإرهاب، كما سعت باكستان ليس فقط إلى محاولة تعظيم دورها الاستراتيجي في إطار تلك الحرب ولكن أيضا التأثير على السياسة الخارجية الأمريكية فيما يتعلق بصراعها مع الهند بشكل عام، ومشكلة كشمير بشكل خاص، من خلال محاولة التأثير على الموقف الأمريكي التقليدي من هذه المشكلة. كما تدهورت علاقات البلدين على خلفية عدد من العمليات التي وقعت داخل الهند خلال تلك الفترة، كان أبرزها الهجوم على البرلمان الهندي في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2001، والذي أدى إلى تدهور شديد في علاقات البلدين.


وقد حاولت الهند خلال هذه الفترة، وتحت تأثير تجربة هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 وسيناريو الرد الأمريكي على تلك الأحداث، من ناحية، ثم صدور وثيقة "إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2002" من ناحية أخرى، والتي تبنت توجها مرنا لمفهومي "حق الدفاع عن النفس"،  و"الضربة الاستباقية"، وشروط تطبيق كل منهما، أن تطبق هذين المفهومين ضد باكستان. بل رأت الهند في باكستان حالة مثالية تتوفر فيها شروط تطبيق هذين المفهومين وفق التجربة الأمريكية مع أحداث سبتمبر/ أيلول. وقد ذهب وزير الشئون الخارجية الهندية  ياشوانت سن Yashwant Sinh في الأسبوع الأول من أبريل/ نيسان 2003 إلى "أن الهند يتوفر لديها حالة جيدة لتوجيه ضربة استباقية ضد باكستان"، الذي أكد في حديث له إلى صحيفة The Hindu في عددها الصادر في العاشر من أبريل/نيسان 2003 أنه "إذا كان غياب الديمقراطية وامتلاك أسلحة دمار شامل، وتصدير الإرهاب هي شروط الضربة الاستباقية فإن باكستان تمثل الحالة الأولى بالعمل الاستباقي".


غير أن التجربة العملية كشفت بوضوح عن تعقيدات تطبيق الهند لتلك لمفهومي "الدفاع عن النفس" أو "الضربة الاستباقية". جاء في مقدمة تلك التعقيدات عدم وضوح أهداف مثل تلك "الضربة"، إذ كان من الصعب تبني أهداف مثل إزاحة نظام الرئيس برفيز مشرف –آنذاك- أو تعديل خط السيطرة في كشمير، بالنظر إلى ما كان يمكن أن تؤدي إليه تلك الأهداف من تصعيد من جانب المؤسسة العسكرية الباكستانية ضد الهند. أضف إلى ذلك تعقد المعادلة السياسية الداخلية في باكستان، وافتقاد فكرة الضربة الاستباقية الهندية ضد باكستان لجزء مهم من أساسها المنطقي والفلسفي في ضوء السياسة الباكستانية التي ركزت خلال تلك الفترة على دعوة الطرف الهندي إلى الدخول في مفاوضات سلمية حول مختلف القضايا موضوع الخلاف. أضف أيضا إلى ذلك صعوبة تحييد السلاح النووي في أي صراع محتمل.  كما نجحت باكستان من جانبها في محاصرة السياسة الهندية من خلال دعواتها المتواصلة للهند منذ وقوع أحداث سبتمبر/ أيلول 2001 للدخول في مفاوضات مباشرة حول مختلف قضايا الصراع. وقد ساعد على نجاح تلك السياسية الباكستانية اقتران تلك الدعوات بالعديد من الإجراءات العملية التي اتخذتها القيادة السياسية الباكستانية –بغض النظر عن مستوى رضا الهند عنها- نزولا على الضغوط الدولية والهندية، والخاصة بتقييد الجماعات الإسلامية المتشددة سواء داخل الأراضي الباكستانية أو الكشميرية.


ومع ذلك، فقد شهدت العلاقات الثنائية بين البلدين انفراجا واضحا بدءا من 18 أبريل/ نيسان 2003، بمبادرة من رئيس الوزراء الهندي ذاته آنذاك -آتال بيهاري فاجبايي- عندما أعلن أثناء زيارته للقسم الواقع تحت السيطرة الهندية من كشمير "مد يد الصداقة إلى باكستان" واستعداد بلاده لاستئناف الحوار معها. تبع ذلك ترحيب القيادة السياسية الباكستانية بالمبادرة الهندية، حيث بدأ الطرفان في تطبيق مجموعة من إجراءات بناء الثقة على امتداد عامي 2003/2004، أعقبها دخول البلدين في عملية تطبيع منهجية ومستقرة منذ ذلك التاريخ، شملت مجموعة من المبادرات والإجراءات المتبادلة: عودة السفراء، واستئناف خطوط المواصلات البرية والجوية، وتبادل الوفود البرلمانية، وإطلاق سراح عدد من المسجونين، إعلان الرئيس برويز مشرف وقف جميع أنشطة التنظيمات الإسلامية المتشددة حول خط السيطرة، والتزام باكستان بتفكيك جميع معسكرات التدريب القائمة، ثم الإعلان في منتصف مايو/ أيار 2003 عن حظر قائمة جديدة من التنظيمات الإسلامية المتشددة وتقييد حرية حركة قياداتها،  ثم طرحت الهند في أكتوبر/ تشرين الأول 2003 مبادرة لإجراءات بناء الثقة بين البلدين، ردت عليها باكستان في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2003 بإعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد عبر خط السيطرة، ثم قبول الهند تلك المبادرة في اليوم التالي مباشرة. ثم توجت تلك الإجراءات باستئناف لقاءات القمة بين القيادتين السياسيتين الهندية والباكستانية على هامش اجتماعات قمة رابطة دول جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (سارك)، والأهم من كل ذلك إدخال برويز مشرف تعديلات مهمة على الرؤية الباكستانية التقليدية حول تسوية مشكلة كشمير.





يمكن فهم لغة التصعيد الهندي ضد باكستان في سياق عدد من الاعتبارات، أهمها محاولة امتصاص غضب الشارع الهندي، وكذلك للحيلولة دون تأثير الأزمة على فرص نجاح حزب المؤتمر في الانتخابات البرلمانية القادمة وكذلك إجبار الحكومة الباكستانية على اتخاذ إجراءات لمواجهة التنظيمات الدينية المتشددة
كما تزامن مع عملية التطبيع الثنائي تلك عملية تطبيع هندي مع قوى المعارضة الكشميرية داخل القسم الواقع تحت السيطرة الهندية، كان أبرز ملامحها تطوير سياسة احتوائية للشعب الكشميري تقوم على التركيز على عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية للإقليم والعمل على إدماج الشعب الكشميري في المجتمع الهندي من خلال ارتفاع نسبة نصيب الإقليم من المنح والمساعدات الاقتصادية بالمقارنة بباقي الولايات الهندية، وزيادة نسبة المنح الاقتصادية المخصصة للإقليم وتنمية البنية الأساسية بالولاية خاصة فيما يتعلق بمشروعات بناء السكك الحديدية، وتعبيد ورصف الطرق، وإعادة بناء الجسور المتهالكة، وبناء المدارس، ومشروعات توليد الطاقة، بالإضافة إلى مشروعات التنمية السياحية بالولاية. كما شملت تلك العملية على المستوى السياسي تنظيم حوار مباشر مع القوى السياسية الكشميرية خاصة تلك الرافضة للحكم الهندي.

وبهذا المعنى، فإن خبرة الفترة (2001-2003) والتي اتسمت بالتصعيد العسكري والدبلوماسي ثم انفراج العلاقات بين البلدين تعني: أولا، القول بأن خطاب التصعيد الحالي لا يعني بالضرورة أنه سوف يقود مباشرة إلى التصعيد العسكري أو الحرب. كما يعني ثانيا صعوبة تضحية البلدين بالإنجازات التي تم تحقيقها في إطار عملية التطبيع الجارية رسميا بين البلدين منذ أواخر عام 2003. كما سيعني ثالثا، انهيار عملية التطبيع الجارية بين الهند والجماعات الكشميرية داخل الإقليم الواقع تحت السيطرة الهندية والتي تسعى الهند من خلالها إلى تغيير الواقع الاقتصادي الاجتماعي الذي يفرز حالة التشدد الديني داخل الإقليم، كما تهدف إلى توسيع الهوة بين هذه الجماعات ومثيلاتها داخل باكستان أو داخل إقليم كشمير الواقع تحت السيطرة الباكستانية. كل هذه الاعتبارات ستضع قيودا على قرار الحكومة الهندية بالتصعيد العسكري مع باكستان على خلفية أزمة تفجيرات مومباي الراهنة.


استنادا إلى العوامل السابقة يمكن القول باستبعاد نشوب حرب بين البلدين على خلفية أزمة تفجيرات مومباي، بل يمكن أيضا استبعاد استجابة الحكومة الهندية لمطالب بعض الاتجاهات الداخلية التي تطالب بقيام الهند بشن عمليات عسكرية انتقائية ومحدودة ضد الجماعات الدينية داخل القسم الواقع تحت السيطرة الباكستانية من كشمير. ومن ثم يمكن فهم لغة التصعيد الهندي ضد باكستان في سياق عدد من الاعتبارات، أهمها محاولة امتصاص غضب الشارع الهندي، سواء على خلفية الانتقادات الواسعة لأداء حكومة حزب المؤتمر، وأداء الأجهزة الأمنية الهندية، أو على خلفية المطالب الخاصة باتخاذ إجراءات عسكرية ضد باكستان، وبهدف الحيلولة دون تأثير تلك الأزمة على فرص نجاح حزب المؤتمر في الانتخابات البرلمانية القادمة. وأخيرا بهدف إجبار الحكومة الباكستانية على اتخاذ إجراءات أكثر صراحة ووضوحا فيما يتعلق بمواجهة التنظيمات الدينية المتشددة.


وإزاء هذا التقدير، فإن الاتجاه الأغلب هو عدم تأثر عملية التطبيع على المدى المتوسط أو على المدى البعيد- دون أن ينفي ذلك تأثرها سلبا على المدى القريب- غير أنها قد تأخذ منحى مختلفا لتركز على مجالات مكافحة الإرهاب، والتنظيمات الدينية المتشددة، والتعاون المخابراتي بهدف الوقوف على حقيقة توزيع القوى المتشددة في جنوبي آسيا بشكل عام، وعلاقاتها عبر القطرية، بالإضافة إلى تأمين الملاحة البحرية والمداخل البحرية. أيضا يتوقع أن يشهد الحوار حول مشكلة كشمير دفعة قوية بعد الخروج من هذه الأزمة بهدف لإنجاز تسوية تاريخية لهذا الصراع كمدخل مهم لمواجهة الجماعات الدينية الباكستانية التي لا زالت قضية كشمير تمثل مكونا مهما في أجندة عملها. ولا يتوقع أن تختلف تلك الاستنتاجات في حالة وصول حزب بهاراتيا جاناتا (حزب قومي هندوسي والمنافس الرئيسي لحزب المؤتمر) إلى السلطة في حالة فوزه في الانتخابات القادمة، فالأخير هو الذي دشن عملية التطبيع الجارية بقيادة رئيس الوزراء السابق آتال بيهاري فاجبايي.
_______________
خبير بوحدة العلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، ومتخصص في الشؤون الآسيوية


*على سبيل المثال، بينما بلغ متوسط الإنفاق السنوي العام على قطاع التعليم خلال الفترة (1995-1997) 2.7% من الناتج المحلي الإجمالي GDP، بلغ متوسط الإنفاق العسكري 5.1% من هذا الناتج. وبينما بلغ متوسط الإنفاق العسكري في عام 1998 حوالي 4.8% من الناتج المحلي الإجمالي لم يتعد متوسط الإنفاق على الصحة 0.9% فقط. ولم يقتصر تأثير الإنفاق العسكري الضخم على نصيب القطاعات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، ولكنه امتد أيضا إلى زيادة حجم الدين العام الخارجي الذي بلغت قيمة خدماته في عام 1999 حوالي 43% من الناتج القومي الإجمالي GNP، ووفق بعض التقديرات بلغ إجمالي الدين العام الباكستاني (الداخلي والخارجي) حوالي 72 مليار دولار في عام 2003.
** بعض التقديرات تشير إلى أن تكلفة هذا البرنامج قد بلغت (4-6) مليار دولار خلال السنوات العشرين الماضية، بينما تقدرها مصادر أخرى بحوالي 5.821 مليار دولار خلال الفترة (1990-1996) فقط، ووفق تقدير ثالث بلغت حصة الإنفاق السنوي على هذا البرنامج بمفرده حوالي 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا. انظر:
International Crisis Group “Kashmir: The Viewpoint From Islamabad”, ICG Asia Report, No. 68, 4 Dec. 2003, p. 8.
Center for Strategic and International Studies (CSIS), “India-Pakistan Trade: Creating Constituencies for Peace”, op., cit. 
 International Crisis Group (ICG), “Kashmir: The Viewpoint From Islamabad”, op., cit., p. 13.

*** على سبيل المثال، في مقال له بعنوان "بحثا عن حل لمشكلة كشمير" “In search for a solution for Kashmir” بجريدة The News عدد الأول من يناير 2004، ذهب عضو مجلس الشيوخ الباكستاني إقبال هايدر إلى: "أن الجهاد لا يمكن أن يجبر الهند على التنازل عن بوصة واحدة أو حث أي دولة بما في ذلك حلفاء باكستان القريبين للضغط على الهند لحل مشكلة كشمير بشكل سلمي، كما لم يتأثر الاقتصاد الهندي أو صورة الهند بفعل الجهاد. وعلى العكس، وُصفت باكستان بأنها دولة إرهابية، وما زال الاقتصاد الباكستاني هو الضحية، وانتشر التطرف الإسلامي في باكستان كالوباء.. ويجب أن نشير إلى أن القيادات الكشميرية بما في ذلك مؤتمر الحريات قد أعلنت مرارا أن الصراع من أجل تحرير كشمير ليس صراعات دينيا ولكنه صراع سياسي، ومن ثم لا يوجد مبرر للقول بأن هذا الصراع يمثل جهادا".
كما عبرت عن التوجه ذاته السيدة الراحلة بينظير بوتو، التي ذهبت في مقال لها بعنوان "كامب ديفيد من أجل كشمير" بجريدة The New York Times  في عددها الصادر في الثامن من يونيو/ حزيران 1999 أن سياساتها (هي) تجاه كشمير قد غذت التوترات بين الهند وباكستان، كما عبرت عن أن ربط العلاقات الثنائية بين البلدين بقضية كشمير كقضية وحيدة سوف يؤذي الشعب الكشميري، وأن تلك السياسة لم تحرز تقدما ملحوظا في تحقيق السلام في جنوب آسيا.
 Suba Chandran, “Kashmir and Jihad (Pakistan Media Analysis 1-7 January 2004)”, Article No. 1281, 17 January 2004, Institute of Peace and Conflict Studies, New Delhi.
**** فقد كشف أحد استطلاعات الرأي التي أجريت علي عينة من أبناء الطبقة الوسطي والمثقفين (شملت أساتذة وطلبة الجامعات والصحفيين والمحامين)، خلال الفترة نوفمبر/ تشرين الثاني 1998- يناير/ كانون الثاني 1999، أن 45% من عينة الدراسة عبروا عن قناعتهم بمسؤولية طرفي الصراع معا عن الأزمات التي نشبت بين الطرفين وعدم التوصل إلي تسوية سلمية إلي الآن، مقابل تأكيد 27% علي مسئولية باكستان بمفردها، و2% للهند. وفى الاتجاه ذاته، أضحي لدى هذا الجيل قناعة متزايدة عن مسئولية النظام السياسي الهندي ذاته وآليات المنافسة الحزبية والانتخابية، عن افتعال بعض الأزمات حول كشمير بهدف تحقيق مكاسب داخلية خاصة خلال الانتخابات، فقد عبر 59% من عينة الدراسة عن مسؤولية الأحزاب السياسية عن تلك المشكلة مقابل رفض 21% لدور الأحزاب السياسية. والأهم من ذلك كله هو التحول النسبي الذي طرأ على تكييف هذا الجيل لطبيعة مشكلة كشمير، بحيث أضحى ينظر إلى المشكلة باعتبارها مشكلة سياسية أكثر منها مشكلة دينية، الأمر الذي يعنى تزايد الاستعداد النسبي لقبول تسوية عملية للمشكلة أكثر منه في حالة اعتبارها مشكلة دينية. فقد كشف الاستطلاع ذاته عن اعتبار 42% من أفراد العينة مشكلة كشمير مشكلة سياسية بينما اعتبرها 32% قضية ثنائية، 14% مشكلة متعددة الأبعاد (سياسية، دينية، دولية، ثنائية)، 1% قضية دولية، بينما اعتبرها 11% مشكلة دينية، بما يعنى أن هناك 89% يرون غياب البعد الديني في هذا الصراع، أو علي الأقل أنه ليس البعد الوحيد.