نقله إلى العربية سيدي أحمد ولد أحمد سالم
ملخص
بداية الأزمة
التغيير الاجتماعي وعدم الاستقرار الدستوري
سراب ووعود بـ"ربيع" ما بعد الفترة الطائعية
ما المخرج أو المخارج لهذه الأزمة؟
شكل الانقلاب على الرئيس ولد الطائع في 3 أغسطس/ آب 2005 حدثا بارزا في التاريخ السياسي الموريتاني لأنه فتح المجال أمام تطور الممارسة الديمقراطية في موريتانيا من جهة كما لقي ترحيبا في الداخل و"تفهما" في الخارج فضلا عن أن من أبرز مدبريه العقيد محمد ولد عبد العزيز قائد كتيبة الحرس الرئاسي والعقيد محمد ولد الغزواني قائد كتيبة المدرعات سابقا ومدير الأمن لاحقا اللذان قاما بعد ثلاث سنوات بالإطاحة بالرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله.
ويتهم ولد الشيخ عبد الله - حسب منافسيه - بأن المؤسسة العسكرية وخصوصا ولد عبد العزيز كان وراء نجاحه في رئاسيات مارس/آذار 2007 وقد كافأ ولد عبد العزيز وولد الغزواني بترقيتهما إلى رتبة جنرال. وما لبث ولد الشيخ أن بدأ يبتعد عن أصحاب القبعات وعلى رأسهم ولد عبد العزيز عندما اتخذ إجراءات اعتبرها ولد عبد العزيز بداية "عصيان" مثل إنشائه حزبا جديدا برئاسة ولد الوقف الذي وضعه على رأس وزارة ضمت تشكيلة حكومية جمعت الوجوه المعروفة في عهد ولد الطائع بـ"رموز الفساد"، كما ضمت عناصر من بعض الأحزاب المعارضة كاتحاد قوى التقدم (اليساري) والتجمع الوطني للإصلاح والتنمية - تواصل (الإسلامي).
وتمثل رد فعل المؤسسة العسكرية في تحريض النواب "المستقلين" المقربين من الجنرالين ولد عبد العزيز وولد الغزواني بتقديم حجب الثقة عن الحكومة التي كانت ستحظى - لو عرض على التصويت- بأغلبية الأصوات في البرلمان. وإمعانا في الضغط على الرئيس ولد الشيخ عبد الله بدأ معارضوه من البرلمانيين وبإيعاز من الجنرالين بالتلويح بتشكيل لجنة للتحقيق في الأنشطة المالية لزوجته بشأن مؤسسة خيرية كانت قد أنشأتها باسمها.
وتطورت الأزمة حين هدد الرئيس بحل البرلمان إذا ظل البرلمانيون المتمردون معترضين على حكومة ولد الوقف. ومع إقالة ولد الشيخ الحكومة التي لم تعمر سوى شهرين، كلف ثانية ولد الوقف بتشكيل حكومة جديدة، وصعّد الأزمة حين أقال صبيحة 6 أغسطس/ آب 2008 القادة الرئيسيين للمؤسسات العسكرية من وظائفهم وخصوصا الجنرال ولد عبد العزيز، وهو ما أعطى إشارة الإطاحة به. ثم تعقدت الأزمة بعد رفض المجتمع الدولي بالإجماع الانقلاب على ولد الشيخ بينما سانده أغلب المنتخبين نوابا وشيوخا وأكبر أحزاب المعارضة بزعامة أحمد ولد داداه.
والحلول المحتملة من أبرزها استمرار سلطة الجنرال ولد عبد العزيز في شكل ما من أشكال الشرعية بل ربما تقدم لانتخابات رئاسية جديدة ونال بواسطتها الشرعية في البقاء في السلطة معتمدا في ذلك على الجبهة السياسية الداخلية التي تسانده وعلى إمكانه البقاء في السلطة رغم الضغط الخارجي الذي قد يشهد حلحلة مع مرور الوقت.
وهنالك حل ثان أقل احتمالا بكثير ويتلخص في التنازل عن السلطة المتزامن من طرف ولد الشيخ عبد الله والجنرال ولد عبد العزيز، مع إيجاد مخرج "مشرف" لولد عبد العزيز وبإمكان هذا التنازل المزدوج أن يمهد الطريق لإجراء انتخابات حقيقية تحمل معها ديمقراطية حقيقية، وهذا لن يتم ما لم يلتزم بعض الممولين الدوليين بتكاليف ومراقبة هذه الانتخابات.
تمت الإطاحة في الثالث من أغسطس/ آب 2005 ، بالرئيس الموريتاني العقيد معاوية ولد سيد أحمد ولد الطائع بانقلاب عسكري لم يواجه بأية مقاومة، وكان هو نفسه قد وصل إلى السلطة في انقلاب عسكري آخر وقع في 12 ديسمبر/ كانون الأول 1984.
وكان وراء الإطاحة بولد الطائع ضابطان تجمعهما نفس القبيلة بل نفس الأسرة وكانا حاملي لواء ذلك الانقلاب وأعني هنا: العقيد علي ولد محمد فال، مدير الأمن الوطني مدة العشرين سنة التي قضاها ولد الطائع في الحكم، والعقيد محمد ولد عبد العزيز قائد كتيبة الحرس الرئاسي (BASEP). وقد استقبل ذلك الانقلاب بارتياح شعبي كما كان محط آمال أغلبية الموريتانيين. وقد وضع هذا الانقلاب حدا لفترة طويلة من الحكم الشخصي ودشن عملية تغيير مؤسسي استمرت سنتين وتميزت باعتماد دستور جديد وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية. وقد أشاد الجميع في موريتانيا وخارجها بهذه العملية التي أعطت دفعا للديمقراطية في أفريقيا والعالم العربي.
إلا أنه وفي السادس من أغسطس/آب 2008 وبعد ثلاث سنوات من الإطاحة بولد الطائع ها هو العسكر بقيادة ولد عبد العزيز، العقيد (الذي أصبح جنرالا)، يستولي على السلطة مجددا مشكلا بذلك أزمة سياسية ودستورية ما فتئت تتفاعل. كيف حصل هذا؟ وما هي الآفاق المتاحة لإنهاء الأزمة لبلد عانى سنوات من الاستبداد والفساد؟
التغيير الاجتماعي وعدم الاستقرار الدستوري
دشنت حرب الصحراء الكبرى في سبعينيات القرن الماضي هزيمة الجيش الموريتاني السيئ التدريب والتجهيز حقبة من عدم الاستقرار تميزت بصعود العسكر إلى المسرح السياسي عقب إطاحتهم بالمختار ولد داداه أول رئيس لموريتانيا |
وبغض النظر عن مناجم الحديد في شمال البلاد حيث يوجد ما يناهز الثلاثة آلاف عامل 3000 فقد عرفت موريتانيا غداة الاستقلال سنة 1960 عددا قليلا جدا من الأنشطة التي يمكن أن ينتج عنها تقسيم للعمل معقلن ويقطع مع البنيات الاجتماعية التقليدية. كما أن البيروقراطية الصغيرة التي ورثتها البلاد عن الاستعمار الفرنسي ظلت تعيش في المدن على دخلها المتواضع في انقطاع تام عن سكان الأرياف المستغنين عن تلك البيروقراطية إلى أن عرفت المدن موجة الهجرة الريفية العاتية أواخر 1960. ثم إن مكونات هذه البيروقراطية الموريتانية الوليدة هم بعض الإداريين المساعدين ليسوا سوى جزء من هذا المجتمع البدوي ذي الطموحات الحضرية المحدودة.
وما إن حلت كارثة الجفاف أوائل سبعينيات القرن الماضي بالبلاد حتى اضمحل القليل من البنيات التحية التي أنشئت بعيد رحيل المستعمر (الإدارة، والصحة، والتعليم، الخ.) تحت تأثير موجات الهجرة الريفية التي لم تعد الأرياف قادرة على إيوائها.
وستدشن حرب الصحراء الكبرى (1975-1978) وهزيمة الجيش الموريتاني السيئ التدريب والتجهيز حقبة من عدم الاستقرار تميزت بصعود العسكر إلى المسرح السياسي عقب إطاحتهم بالمختار ولد داداه أول رئيس لموريتانيا في انقلاب عسكري تم في 10 يوليو/تموز 1978.
وقد شحذت خلفية المشهد الاجتماعي المتدهور وتقاسم الموارد الشحيحة بين شبكات افتراس، ما فتئت تتحلل من أي وازع، همّه التنافس بين المجموعات الإثنية والجهوية وبين العصبيات القبلية الدائر حول نهب الغنيمة المكونة مما كان يسمى المال العام الذي يسهل نهبه عندما يكون للشخص تأثير داخل جهاز الدولة. وقد ظلت الفجوة التي تفصل بين البورجوازية الموريتانية الزبونية الوليدة والتي تقودها استهلاكية "معولمة" وبين الجماهير الفقيرة تتسع أكثر فأكثر. ولم تقدم هذه البورجوازية تبريرا لشرعيتها سوى خطاب ذي تقاليد إسلامية لا يخلو من مزاعم.
وهذا الالتقاء بين مصالح برجوازية تتمظهر في "التدين" وبين اضطراب جماهير بدوية وفقيرة أرغمها الجفاف على التحضر قد سبب في موريتانيا وفي أماكن أخرى (الجزائر، إيران، وغيرهما) في ظهور "الأصولية الدينية".
إن تقاليد الحكم المركزي الجديدة على موريتانيا وضعف رسوخ الهوية السياسية والنقابية المستقلة لدى الموريتانيين من ذوي الانتماءات العرقية والقبلية والجهوية المختلفة عَمِلا على تشرذم وعدم استقرار الساحة السياسية وهو ما يشرح جزئيا حالة الحل والترحال التي تعرفها ممارسة الموريتانيين أفرادا وجماعاتٍ للسياسة كلما حل نظام مكان آخر. يضاف إلى هذا اعتماد موريتانيا الشديد على الخارج وهو الأمر الذي دفع بولد الطائع إلى الاعتراف بإسرائيل وهو اعتراف رفضته الغالبية العظمى من الموريتانيين في حين كانت حكومة ولد الطائع ترى أنه قد يمكنها من اندماج كلي في "المجتمع الدولي" وفي مشاركتها النشطة في مكافحة "الإرهاب".
هذا إذن تذكير مختصر جدا ببعض السمات الأساسية للمشهد الاجتماعي الموريتاني الذي قد يمكن من إلقاء الضوء على التطورات السياسية الأخيرة التي نحن بصدد مقاربتها.
سراب ووعود بـ"ربيع" ما بعد الفترة الطائعية
لم يكن تشكيل ولد الشيخ عبد الله برئاسة ولد الوقف في 11 مايو/ أيار 2008 في نظر الجنرال ولد عبد العزيز وحلفائه في الجيش سوى تعبير عن استعداد الرئيس ولد الشيخ عبد الله للعصيان. |
وقد حددت اللجنة العسكرية للعدالة والديمقراطية، وهي الهيئة التي دبرت الانقلاب على ولد الطائع، فترة انتقالية من سنتين وتعهدت بعودة السلطة لأجهزة منتخبة ديمقراطيا تحت إشراف اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات وبمساعدة مراقبين دوليين (الاتحاد الأوروبي أساسا). وحظرت اللجنة العسكرية على أعضائها وأعضاء الحكومة الانتقالية الترشح لأي استحقاق انتحابي (النواب، مجلس الشيوخ، رئيس الجمهورية).
وقد تم تغيير بعض مواد الدستور القائم على نحو فعال عن طريق الاستفتاء. وأجريت انتخابات تشريعية تميزت إلى حد ما بدعم العسكر للمرشحين "المستقلين"؛ وهؤلاء وإن لم يكونوا منتمين لحزب سياسي معترف به فإنهم في الواقع يشكلون امتدادا للزبونية الانتخابية المعروفة في عهد ولد الطائع. وتميزت هذه الانتخابات مع ذلك بإجرائها في ظروف مقبولة بشكل عام لدى كل المجموعات المتنافسة على الرغم من اتهام بعض أطراف المعارضة السابقة بعض أعضاء اللجنة العسكرية بالميل إلى بعض المترشحين من النواب. وقد أسفرت تلك التشريعيات عن تصدر المستقلين حيث حصدوا 41 مقعدا من أصل 95 عدد مقاعد الجمعية الوطنية. وقد شكلوا بذلك إلى جانب حلفائهم أغلبية برلمانية في الجمعية الوطنية. أما "المعارضة الديمقراطية" المكونة من عدة أطراف، من أبرزها تكتل القوى الديمقراطية (15 نائبا) بزعامة أحمد ولد داداه، فقد حصلت على ما يناهز ثلاثين مقعدا.
وبالنسبة للانتخابات الرئاسية فقد ظهر ائتلاف متباين في المصالح ومحَرَّك من طرف بعض أعضاء اللجنة العسكرية اختار وزيرا سابقا عمل في عهدي الرئيسين ولد داداه وولد الطائع وهو سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله الذي عاش أكثر من عشرين سنة خارج البلاد ولم يشتهر في تاريخه السياسي بشيء يذكر عدا أنه كان وزيرا سابقا. إن اختيار هذه الشخصية المطموسة والقليلة الشعبية تحت شعار "الرئيس المؤتمن" كان على ما يبدو محاولة من طرف عضو المجلس العسكري المتنفذ محمد ولد عبد العزيز للوقوف في وجه مرشح المعارضة البارز أحمد ولد داداه. فولد عبد العزيز لا يريد بأي حال من الأحوال رؤية ولد داداه على رأس البلاد. وقد أسفر الشوط الأول من الرئاسيات وبعد معركة خاضها تسعة عشر مرشحا عن تصدر ولد الشيخ عبد الله بنحو 25٪ من الأصوات ثم أحمد ولد داداه 21٪ فالزين ولد زيدان 15٪ فمسعود ولد بالخير 10%.
واستعدادا للشوط الثاني بدأت المفاوضات على أشدها ولم يغب عنها تأثير المجلس العسكري. فالزين ومسعود (الذي وقّع في السابق حلفا مع أحمد ولد داداه...) تحالفا مع سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله على أن يتولى الزين - في حالة فوز سيدي محمد- رئاسة الوزراء، ويتولى مسعود رئاسة الجمعية الوطنية (على الرغم من أن حزبه قد فاز بخمس مقاعد فقط).
وقد التزم ولد الشيخ عبد الله بالاتفاق وكان ذلك –كما يظن- بإيعاز من العقيد ولد عبد العزيز الذي سارع الرئيس المنتخب لترقيته جنرالا، فعين ولد زيدان رئيسا للوزراء وولد بالخير رئيسا للجمعية الوطنية بعد أن صوت له النواب "المستقلون" وهم أساس "الأغلبية الرئاسية".
غير أن الرئيس بدأ يعمل وبشكل تدريجي على بناء "وضعه السياسي" مدفوعا - كما تقول بعض الشائعات- بتأثير زوجته المتنفذة ثم - وهذا ما يؤكده خصومهم الآن- بإيعاز من الكادحين القدماء المنضوين في حزب اتحاد قوى التقدم(2)، والمعجبين ضمن أمور أخرى بجهود ولد الشيخ عبد الله المبذولة في سبيل تصحيح أوضاع الزنوج المبعدين من ضحايا الانتهاكات التي جرت في عهد ولد الطائع من 1989 إلى 1991. وكان الرئيس ولد الشيخ عبد الله قد أسند ملف المبعدين الساخن لرجل ثقته يحيى ولد أحمد الوقف الذي كان يشغل منصب الوزير الأمين العام للحكومة. كما أسند إليه إنشاء "حزب الرئيس" المكون من النواب "المستقلين" والذي يبدو وكأنه إحياء للحزب الجمهوري وهو الحزب الحاكم في عهد ولد الطائع. وتم تعيين مجلس وطني للحزب الجديد (العهد الوطني للديمقراطية والتنمية "عادل") مكون من ثلاثمائة عضو في فبراير/ شباط 2008 وذلك تمهيدا لتعديل وزاري أوصل رئيس الحزب ولد الواقف إلى منصب رئيس الوزراء خلفا لولد زيدان (6 مايو/ أيار 2008).
ولم تتوقف طموحات ولد الشيخ عبد الله الرامية إلى الاستقلال عن مؤطريه أصحاب البزات العسكرية عند هذا الحد، ففضلا عن إنشاء "حزب الرئيس" والإخلال بالعقد الانتخابي الذي تم بين شوطي الانتخابات فقد أسند إلى ولد الوقف رئاسة الوزراء ملفقا معه تشكيلة حكومية، هي الأكثر تغطية للمشهد السياسي في تاريخ موريتانيا بأعضائها الاثنان والثلاثون، وقد طمح الرئيس من خلالها إلى إدماج جميع القوى السياسية ذات الوزن. وعلى الرغم من رفض حزب تكتل القوى الديمقراطية -أهم أحزاب المعارضة- العرض المقدم إليه للمشاركة في الحكومة فإن تشكيلتها قد جمعت الوجوه المعروفة في عهد ولد الطائع التي يطلق عليها "رموز الفساد" إلى جانب ثلاثة أعضاء من حزب التحالف التقدمي الشعبي الذي يتزعمه مسعود ولد بلخير وزراء منتمين لاتحاد قوى التقدم (الحزب اليساري) ووزيرين يمثلان الحزب الإسلامي المعتدل (التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل").
ولم يكن الإعلان عن هذه الحكومة في 11 مايو/ أيار 2008 في نظر الجنرال ولد عبد العزيز وحلفائه في الجيش سوى تعبير عن استعداد الرئيس ولد الشيخ عبد الله "للعصيان". كما أن قيام ولد الشيخ عبد الله "بإعادة التوازنات" الزبونية المرتبطة بقبيلة الجنرال ولد عبد العزيز (قبيلة أولاد بالسباع) وحلفائها وقد ظل ميزان تلك الزبونية ولمدة طويلة راجحا نحو منافسيهم الاقتصاديين في عهد الرئيس ولد الطائع (وأعني هنا عناصر قبيلة الرئيس السابق نفسه أي قبيلة السماسيد)(3) كان السبب في عودة أكثر وجوه المشهد السياسي قبل انقلاب أغسطس/ آب 2005. ولم يكن الجنرال ولد عبد العزيز ليرضى عن وجود الأحزاب "المؤدلجة" اتحاد قوى التقدم (يساري) وتواصل (إسلامي) في الحكومة والذين هم بطبيعة الحال خارج منطقة نفوذه ويشكلون بالنسبة لولد الشيخ عبد الله حلفاء موازين "لمستقلي الجنرال".
ومنذ اللحظة التي اعتقد فيها الرئيس ولد الشيخ عبد الله، "الصنيعة" الانتخابية لأصحاب القبعات العسكرية، أن بإمكانه التخلص ولو جزئيا من وصاية العسكر فإنه قد قضى على مصيره كرئيس. وقد بدأت إزاحته بتحريض مدبر من جانب النواب "المستقلين" حين قدموا اقتراحا بحجب الثقة عن الحكومة التي لم تكن تشكيلتها ترضي حماتهم "في الخفاء". ولم يعد خافيا على أحد أن الجنرال ولد عبد العزيز كان وراء هذا التحريض. ويمكننا أن نتساءل في ضوء الشكوك التي أبداها قادة الجيش حول انسحابهم من الساحة السياسية خلال الانتخابات الرئاسية هل كان هنالك سيناريو تم وضعه بعناية غداة فترة الانتخابات؟...
ومهما يكن من أمر فإن مشروع حجب الثقة كان سيحظى بدعم نواب حزب تكتل قوى الديمقراطية المعارض فهم غير مستائين من تعميق الخلاف داخل التحالف الرئاسي في الوقت الذي حرم حزبهم حزب التكتل من صفقات تقاسم المنافع أثناء توزيع المناصب الوزارية على حلفائهم السابقين في "المعارضة الديمقراطية" كحزبي اتحاد قوى التقدم و"تواصل" اللذين انضما إلى أنصار ولد الشيخ عبد الله بعدما انضم إليه من قبلهما التحالف الشعبي التقدمي. ومن المؤكد أن مشروع حجب الثقة لو عرض على التصويت كان سيحظى بأغلبية الأصوات في البرلمان.
وفى نفس الوقت بدأ معارضو الرئيس المنتخب بالتلويح بشبح تشكيل لجنة للتحقيق في الأنشطة المالية لزوجته بشأن مؤسسة خيرية كانت قد أنشأتها باسمها، فضلا عن التحقيق في التسيير المالي لرئيس مجلس الشيوخ –الشخصية الثانية في الدولة والبديل المحتمل للرئيس حالة فشله- والذي ظهر كمن يجرجر أقدامه ليكون ضمن المتآمرين على الرئيس.
لقد نضجت الأمور بسرعة كبيرة فبين سفرين من أسفار الرئيس ولد الشيخ عبد الله –وكان كثير الأسفار...- حذر الرئيس في خطاب رسمي عبر الإذاعة والتلفزيون بتاريخ 2 يوليو/ تموز 2008 النواب المتمردين مهددا إياهم باستعمال صلاحياته الدستورية المتعلقة بحل البرلمان في حالة ما إذا ظلوا غير راغبين في الحكومة التي يرأسها ولد الوقف. ومع أن هذا التهديد غير جدير بالتصديق: حيث لن يكون للرئيس سيدي أية فرصة للفوز بأغلبية "خاصة به" في حال إجراء انتخابات جديدة، نظرا لقلة شعبيته لدى الرأي العام ونظرا لدعم العسكر المستمر "لنوابهم المستقلين"، وقد كانوا الداعمين في السابق الوحيدين لولد الشيخ عبد الله داخل البرلمان.
وعلى الأرجح فإن ولد الشيخ عبد الله أدرك الأمر على الفور، ففي الثاني يوليو/ تموز 2008 أقال الحكومة المرفوضة من قبل العسكريين ونوابهم –وهي حكومة لم تعمر سوى شهرين فقط- وكلف مرة ثانية ولد الوقف بتشكيل حكومة جديدة. وما من شك أن ولد الشيخ عبد الله أراد كسب بعض الوقت واستغلال وجود البرلمانيين في إجازة ثلاثة أشهر تبدأ في 11 يوليو/ تموز فأعلن تشكيل الحكومة الثانية في 15 يوليو/ تموز. وهي عبارة عن مجلس وزراء عديم اللون خال من الوجوه المعروفة في عهد ولد الطائع وخال أيضا من ممثلي أحزاب المعارضة السابقة الذين انتدبهم ولد الشيخ عبد الله ورئيس وزرائه والأعضاء في حزبي اتحاد قوى التقدم و"تواصل".
ولم يرح هذا التغير المفاجئ ولد الشيخ عبد الله بل أكد للجمهور ضعفَ مجال المناورة المتاحِ أمامه للتصدي للجنرال ولد عبد العزيز لمواجهة التحريض الذي كان قد دبره الجنرال. فعدد البرلمانيين الذين يناصبون العداء لولد الشيخ عبد الله ظل يزداد باطراد كلما اشتعلت المعركة بينه وبين ولد عبد العزيز، وقد طالبوا بدورة برلمانية استثنائية لإنشاء لجان لا تسعى لإرضاء الرئيس (فهدفها التدقيق في حساباته وحسابات زوجته...) ومع أن الدعوة إلى هذه الدورة الاستثنائية من صلاحيات الرئيس الدستورية إلا أنها لن تعود عليه بأية فائدة. وبدا الوضع مسدودا. وبطبيعة الحال فالحكومة الجديدة لم تكن قد قامت بأي نشاط يذكر. وقد أثمرت الأزمة صبيحة السادس من أغسطس/ آب 2008 عن إعلان الرئيس فصل القادة الرئيسيين للمؤسسات العسكرية من وظائفهم وخصوصا الجنرال ولد عبد العزيز. وأعطى هذا القرار إشارة الإطاحة بالرئيس المنتخب في مارس/ آذار 2007 من قبل قائد كتيبة الحرس الرئاسي.
هذه بإيجاز التقلبات الكبرى التي أدت إلى الانقلاب الذي عرفته موريتانيا 6 أغسطس/ آب الماضي.
ما المخرج أو المخارج لهذه الأزمة؟
رفض المجتمع الدولي انقلاب السادس أغسطس/ آب بالإجماع، أما في الداخل فالأمور أكثر تعقيدا. فالانقلاب تسانده غالبية المسؤولين المحليين المنتخبين نوابا وشيوخا والذين يعود نجاحهم في الانتخابات وإلى حد كبير للعسكر. كما أن أكبر أحزاب المعارضة بزعامة أحمد ولد داداه يساند الانقلاب انتقاما ربما من حلفائه السابقين في معسكر المعارضة والذين تحولوا إلى مساندة ولد الشيخ عبد الله. أما الرأي العام المحلي، والذي له وزن ما في هذه الأزمة، فقد بدأ يتناغم مع الإجراءات "السلطانية" ذات الأسلوب الشعبوي والاستبدادي المعتمد من طرف رئيس الطغمة العسكرية. في حين تعارض هذا الانقلابَ الجبهةُ الوطنية للدفاع عن الديمقراطية والتي تجمع بين كل المستفيدين من النظام الذي كان ولد الشيخ عبد الله قد بدأ يضع أسسه. وأخيرا نقل ولد الشيخ عبد الله إلى مسقط رأسه حيث وضع تحت الإقامة الجبرية ومع ذلك ما زال يواصل المطالبة بشرعيته، في حين يرى "مسقطوه" أن عودته للسلطة غير واردة. وعلى الرغم من بعض محاولات الوساطة فإن مواقف كلا الجانبين تبدو غير قابلة للتوفيق. إلى ماذا يؤدي هذا الأمر؟
على الرغم من دعم جزء من الرأي العام المحلي وقطاعات كبيرة جدا من "المجتمع الدولي" لعودة ولد الشيخ عبد الله للسلطة إلا أن هذا الاحتمال يبدو ضئيلا للغاية. ففي الوقت الحالي ليست هنالك أي وسيلة لإكراه العسكريين على التخلي عما قاموا به.
وعلى الأرجح فالمخرج المحتمل لهذه الأزمة سيكون في استمرار سلطة الجنرال ولد عبد العزيز في شكل ما من أشكال الشرعية ربما شرعته في نهاية المطاف "انتخابات". وربما فكر الجنرال بأنه في مأمن من تعبئة محلية قد تؤدي إلى الإطاحة به، ويمكنه أن يتخيل كغيره من الضباط الانقلابيين ممن سبقوه أن بإمكانه البقاء في السلطة رغم العقوبات الدولية منتظرا رفعها يوما ما.
وهنالك سيناريو وسيط، وهو أقل احتمالا بكثير، ويكمن في التنازل عن السلطة المتزامن من طرف ولد الشيخ عبد الله والجنرال ولد عبد العزيز، في حالة ما إذا أمكن لبعض الجنرالات توفير مخرج "مشرف" لولد عبد العزيز كبديل للوظيفة التي سيخسرها. وبإمكان هذا التنازل المزدوج أن يمهد الطريق لإجراء انتخابات حقيقية تحمل معها ديمقراطية حقيقية، وهذا لن يتم ما لم يلتزم بعض الممولين الدوليين بتكاليف ومراقبة هذه الانتخابات.
_______________
أستاذ الأنتربولوجيا بجامعة ميتز بفرنسا
مركز الجزيرة للدراسات
1 - الإرث الإنساني: ترجمة للعبارة الفرنسية (passif humanitaire) وتعني هذه العبارة في مفردات السياسة الموريتانية الراهنة ما لحق بالعديد من الزنوج الموريتانية من مساس بحقوقهم قتلا ونهبا وتهجيرا في سنوات 1989-1991 بعد الأزمة الموريتانية السنغالية التي اندلعت في أبريل/ نيسان 1989 والتي تمخضت عن احتكاكات عرقية ألحقت أضرارا بجميع مكونات المجتمع الموريتاني عربا وزنوجا (المترجم).
2 - يجمع هذا الحزب في قاعدته الشعبية تنوعا إثنيا كما أن قيادته مؤلفة من "يساريين" قدماء أصبحوا اليوم "واقعيين" جدا ورغم ذلك ظلوا يوصفون بشيوعية سابقة تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، ولكون رئيس هذا الحزب من قبيلة إدوعلي وينحدر من ولاية تكانت فقد قام بتجنيد أكثر ناخبي حزبه في الانتخابات التشريعية من تلك الولاية ويصف البعض من خصومه الحزب بأنه حزب قبيلة "إدوعلي".
3 - إن أحد أكثر قبيلة السماسيد حضورا ووريث زعامة هذه القبيلة التقليدية أحمد ولد سيدي بابا الذي كان رئيس "المغفور له" حزب التجمع من الديمقراطية والتقدم (لقد تمت التضحية بهذا الحزب ليذوب في حزبي الميثاق الوطني للديمقراطية والتنمية وحزب عادل) وولد سيدي بابا صديق قديم من سيدي ولد شيخ وكان قد عينه رئيسا للمجلس الاقتصادي والاجتماعي قبيل الإطاحة به هو أحد الأشخاص القلائل الذين ألقي القبض عليهم مع ولد الشيخ عبد الله غداة الانقلاب عليه في 6 أغسطس/ آب 2008.