أميركا وأفغانستان وآفاق الحل الأفغاني الإقليمي والدولي

تسرعت إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في شن الحرب على أفغانستان واحتلالها، إذ كان عليها ألا تتصرف برد الفعل على تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.







 

منير شفيق


تسرعت إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في شن الحرب على أفغانستان واحتلالها، إذ كان عليها ألا تتصرف برد الفعل على تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.


إدارة بوش للحرب



كانت بداية أوباما في أفغانستان بتبني إستراتيجية فاشلة مبنية على خطأ في تقدير الموقف، وقد تثبت الأيام بأنها كانت جزءا من خطأ إستراتيجي أكبر في تحديد الأولويات الإستراتيجية.
فقد خاضت إدارة بوش الحرب دون أن تدرس بما يكفي مختلف الأبعاد المترتبة على الحرب، ودون أن تعد قوات بحرية كافية للاحتلال، وأشركت حلف الأطلسي من دون تهيئة كافية لذلك، كما أن الهدف لم يكن محددا: هل هو الانتقام ومطاردة القاعدة وتصفيتها أم احتلال أفغانستان والبقاء فيها وتغيير نظامها السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي والأيديولوجي، أم كل ذلك؟ وضمن هذا السياق يجب أن يلحظ الأبعاد التالية:

  • في الممارسة احتلت أفغانستان بقوات أميركية برية محدودة جدا، وكذلك المشاركة البرية الأطلسية، مما جعل سيطرتها على أفغانستان هشة ومتراخية.
  • ما زال توقف العمليات العسكرية في تورابورا، فجأة، وقبل إنجاز المهمة في مطاردة قيادة القاعدة وكوادرها، يطرح سؤالا كبيرا، حيث أنه نتيجة هذا القرار بإيقاف العمليات أفلتت قيادة القاعدة وحظيت بالوقت الكافي لتأمين نقاط الأمان وإعادة تنظيم صفوفها، مما يؤكد أن الهدف الأول لم يكن القاعدة وإنما احتلال أفغانستان.
  • لقد انتقلت الإستراتيجية الأميركية فورا بعد ذلك إلى إعادة بناء نظام الشرق الأوسط الكبير مع دعم حرب شارون ضد مناطق واحتلالها في ربيع 2002، ثم التركيز على حرب العراق وإعطائها الأولوية قبيل شنها وبعد احتلال العراق فضلا عن فتح جبهة سياسية أيدلوجية ضد الدول العربية تحت شعار "الإصلاح والديمقراطية".. مما أفقدها التركيز على احتلالها لأفغانستان، إذ أصبحت حربا ضمن مجموعة حروب أكثر أهمية، الأمر الذي منح طالبان الوقت الكافي لاستعادة زمام المبادرة في المقاومة. وقد أفادت طالبان أيضا من محدودية قوات الأطلسي التي لا تستطيع السيطرة على كل المناطق، كما أفادت من التخطيط السياسي لنظام كرزاي واندلاع التناقضات في الجبهة المعارضة لها، فضلا عن تفاقم فساد مؤسسات السلطة الجديدة، وتراجع خطط الإعمار وتحسين أوضاع الشعب الأفغاني.

يمكن القطع بأن إدارة بوش سلمت أفغانستان لإدارة أوباما، والمقاومة الأفغانية في أوجها وقد سيطرت على مناطق واسعة من أفغانستان وقد لاحت علامات الفشل الأميركي – الأطلسي عسكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا إلى حد الوقوف في مفترق طرق: قرار الانسحاب الصعب أو قرار بقاء الاحتلال الأصعب وتحمل تبعاته المكلفة.


أوباما والإستراتيجية الجديدة
فيما تبنى أوباما أثناء حملته الانتخابية موقف الانسحاب من العراق واتخذ موقف التصعيد من أفغانستان، وعندما تسلم الإدارة وجد أمامه الاتفاق الأمني الأميركي – العراقي في سحب القوات الأميركية مع نهاية 2011، فوعد بالسير وفقا لهذا الاتفاق وحتى الإسراع فيه، ولكن من دون أن يمتلك إستراتيجية عمل في العراق خلال الفترة المحددة، وإنما راح يتخبط في التعامل مع الوضع العراقي ولم يستطع أن يسجل خطوة واحدة تميزه عن إدارة بوش، بل جاءت خطواته ضمن الإطار نفسه، وبدرجة عالية من "البلادة".





أولوية طالبان، بالتأكيد، العودة إلى حكم أفغانستان أو على الأقل أن تكون قيادة الائتلاف الذي سيحكم أفغانستان بعد انسحاب الاحتلال.
أما في أفغانستان فقد تبنى أوباما إستراتيجية دعم القوات الأميركية – الأطلسية بعشرات ألوف من الجند، وشن هجوما واسعا على منطقة سوات ضد طالبان، ولكن ما إن مضت الأشهر الستة الأولى على تلك الإستراتيجية حتى تبين عجزها عن توفير الزيادات المطلوبة في تمديد القوات، وعدم قدرتها على حسم الحرب عسكريا مع طالبان. كما تبين أن هجوم سوات لم يحقق شيئا يذكر في تغيير ميزان القوى العسكري مع طالبان أو المقاومة الأفغانية عموما.

لقد دخل أوباما المأزق مع تقرير قائد القوات الأميركية – الأطلسية ستانلي ماكريستال في أفغانستان وتأييد قائد المنطقة الوسطى بترايوس له، وكذلك هيئة الأركان، وجاء طلب المزيد من القوات العسكرية ليس لتحقيق الانتصار وإنما لتجنب الهزيمة.


ومنذ شهرين وأوباما ومستشاروه وفي مقدمتهم القادة العسكريون، غير قادرين على بلورة إستراتيجية جديدة لأفغانستان بعد فشل الإستراتيجية الأولى خلال ستة أشهر، وهو ما لم يحدث مع إدارة بوش بمثل هذه السرعة والتهافت أو الهشاشة.


لقد كانت بداية أوباما في أفغانستان بتبني إستراتيجية فاشلة مبنية على خطأ في تقدير الموقف، وقد تثبت الأيام بأنها كانت جزءا من خطأ إستراتيجي أكبر في تحديد الأولويات الإستراتيجية، إذ بقيت تلك الأولويات ضمن النطاق العام لأولويات إستراتيجية بوش ولكن بلغة أخرى. فأوباما ما زال في نطاق حرب أفغانستان والتسوية السياسية في فلسطين والدوران في المكان في العراق، والتركيز على البرنامج النووي الإيراني من دون أن يكون الهدف إعادة بناء الشرق الأوسط الكبير. وذلك إلى جانب، طبعا، مواجهة الأزمة العالمية، وهو بالضبط ما كانت عليه إدارة بوش في سنتها الأخيرة، على الأقل.


من الواضح الآن أن أوباما وإدارته ومستشاروه منخرطون في صوغ إستراتيجية جديدة في أفغانستان، وستبدأ بالضرورة في الاستجابة لتقرير ماكريستال بإرسال ما يقارب 40 ألف جندي إلى أفغانستان، ولكن التركيز سيكون على الحل السياسي. وقد أشارت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أن الهدف هو ضرب القاعدة، وتحدثت عن حوار مع طالبان من دون تفريق بين طالبان متشدد ومعتدل وذلك خلافا لما كان عليه الحال في السابق من تفريق، هذا يعني التخلص من الخطأ القاتل السابق الذي تعامل مع القاعدة وطالبان بقيادة الملا عمر كأنهما واحد، من دون التفريق بين أهداف طالبان وأهداف القاعدة وحتى لو أن القاعدة بايعت الملا عمر أميرا للمؤمنين.


أولوية طالبان، بالتأكيد، العودة إلى حكم أفغانستان أو على الأقل أن تكون قيادة الائتلاف الذي سيحكم أفغانستان بعد انسحاب الاحتلال، وهذه الأولوية تختلف عن أولوية تنظيم القاعدة، ولا بد من إخضاع الأخيرة لها إذا كانت قيادتها ستبقى في أفغانستان.


ولكن المشكل أمام إدارة أوباما بعد التفريق بين طالبان والقاعدة تكمن في تعقيدات الوضع الأفغاني على مستوى المقاومة (أطرافها الرئيسية ثلاثة: طالبان وحكمتيار وحقاني) من جهة، ومستوى القوى السياسية التي شكلت المعارضة لطالبان وتحالفت مع قوات الاحتلال الأميركي، من جهة ثانية، وعلى مستوى المكونات الإثنية لأفغانستان من جهة ثالثة. ثم أضف التعقيد الدولي روسيا والصين والهند وأوروبا، والتعقيد الإقليمي باكستان وإيران والسعودية ودول جوار أخرى، وبالمناسبة تركيا لها دور بشكل أو بآخر ضمن الإطارين الإسلامي والأطلسي.


ليس من السهل على من يبدأ بإستراتيجية خاطئة أن ينتقل إلى أخرى لا تحمل نفس بصمات البداية الخاطئة أصلا، ذلك لأن رسم مسار جديد على بداية خاطئة يحتاج إلى انقلاب جذري في النهج الذي قاد إلى الإستراتيجية الغلط، لا سيما وأن صناعها هم أنفسهم ما زالوا قائمين على رسم المسار الجديد.





ليس من السهل على من يبدأ بإستراتيجية خاطئة أن ينتقل إلى أخرى لا تحمل نفس بصمات البداية الخاطئة أصلا، ذلك لأن رسم مسار جديد على بداية خاطئة يحتاج إلى انقلاب جذري في النهج الذي قاد إلى الإستراتيجية الغلط.
ولهذا مهما حاولت إدارة أوباما إحداث تغيير في نهجها السابق فستظل عاجزة عن إيجاد الحل للمشكل الأفغاني، لأن الحل يتطلب إما انسحابها بلا قيد أو شرط أو تذاكي، تماما كما حدث مع انسحابها من فيتنام أو انسحاب السوفييت من أفغانستان، وإما القبول بالانسحاب غير المشروط عبر تدخل آخرين لخروج أفغانستان بمعادلة حياد سلبي إقليمي ودولي كما كان الحال في التجربة الأفغانية الأولى.

ولكن بشرط إيجاد توافق داخلي على هذا الحياد من جهة، وعلى اقتسام السلطة وتوافق عام على النظام بقيادة طالبان من جهة أخرى، باعتبار أن طالبان القوة الأكبر التي تمثل البشتون والقادرة على ضبط القاعدة، ولكن ليس ضمن عقلية النظام الطالباني السابق ونهجه في إقامة النظام الإسلامي، الأمر الذي يتطلب التخلي عن نظرية الإمارة وأمير المؤمنين، والتحول إلى زعيم إسلامي قومي لأفغانستان من أجل توحيدها وإنقاذها من البدائل الأخرى، أي بديل إطالة أمد الاحتلال والانتقال إلى حروب داخلية أخطر مما حدث بعد خروج الاتحاد السوفييتي، ومن دون آفاق أن يكرر التاريخ نفسه بحسم الصراع (الذي لم يحسم عمليا) من خلال استفراد طالبان في الحكم.


خلاصة
تدخل أفغانستان الآن مرحلة جديدة وتقف أمام مفترق طرق (عدة طرق)، وتواجه حالة من شبه المتوازنات الإقليمية والدولية كما الداخلية بالغة التعقيد، فاستمرار الاحتلال الأميركي – الأطلسي لا مستقبل له، ولا قدرة لأصحابه على خوض حرب استنزاف طويلة الأمد.


ومن هنا يتأتى تداول اقتراح جس النبض لتدخل أطراف محايدة قادرة على الحديث مع أطراف المقاومة الثلاثة، ومع مختلف المكونات الداخلية والإقليمية والدولية، مع حسم موضوع الانسحاب الأميركي – الأطلسي بلا شروط، ومع هدف إقامة أفغانستان المستقلة المحايدة ضمن مساومة داخلية تحقق شبه إجماع على ما سيقوم من نظام إسلامي يحظى بالرضا والإجماع الشعبي من مختلف القوى الأفغانية، السياسية والمكونات الاجتماعية – الإثنية الداخلية.
_______________
باحث إستراتيجي