التدافع على مستقبل مصر

مثلت عودة محمد البرادعي تحدياً غير مسبوق للحكم المصري، وجاء مرض الرئيس ليزيد من ارتباك الطبقة الحاكمة، وتشير تطورات الأوضاع أن مساحة المناورة أمام النظام فيما يتعلق بتحديد مآل رئاسة الجمهورية أصبحت أضيق مما كانت من قبل.
1_989453_1_34.jpg







 

بشير نافع


تضافر حدثان رئيسان خلال شهور فبراير/ شباط، مارس/ آذار وإبريل/ نيسان، ليرفعا من مستوى الشعور بالأزمة السياسية وارتفاع وتيرة التدافع على مستقبل مصر:



  1. الأول كان عودة محمد البرادعي، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى البلاد.
  2. والثاني كان الإعلان عن مرض الرئيس حسني مبارك، ومن ثم ذهابه إلى ألمانيا للعلاج، حيث أخضع لجراحة إزالة المرارة وورم، قيل أنه حميد، في (الأمعاء) الاثني عشر.

بيد أن البرادعي، وبالرغم من التلميحات المتكررة إلى عزمه المنافسة في الانتخابات الرئاسية المفترض عقدها في نهاية العام القادم، لم يعلن حتى الآن ترشحه. وبعد عدة أسابيع من القلق والترقب، عاد الرئيس مبارك لممارسة مهماته كالمعتاد.


ولكن ذلك لا يعني أن الأمور باقية على ما هي عليه؛ فقد اندلع الجدل حول مستقبل البلاد كما لم يحدث من قبل. وبينما تروج شائعات في البلاد حول عزم الرئيس مبارك تعيين نائب له، تتزايد وتيرة التجمعات والتظاهرات الصغيرة المطالبة بالإصلاح الديمقراطي.


عودة البرادعي وتوجهاته
الحكم يفقد توازنه
مستقبل الرئاسة؟


عودة البرادعي وتوجهاته 


مثلت عودة د. محمد البرادعي (68 عاماً)، المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية، إلى بلاده في فبراير/ شباط الماضي تحدياً غير مسبوق لنظام الحكم في مصر. فبحكم عمله المبكر في الدبلوماسية المصرية، وموقعه الدولي السابق، وفوزه بجائزة نوبل، يعتبر البرادعي شخصية مصرية بارزة، يصعب تشويهها أو تهميشها. إضافة إلى ذلك، فبالرغم من أن ليس ثمة ما يشير إلى أن البرادعي يتمتع بدعم أميركي، فالواضح أن القوى الغربية تبدو مرتاحة  لبروزه على الساحة السياسية المصرية ودعوته إلى تغيير ديمقراطي في البلاد.





بينما تروج شائعات في البلاد حول عزم الرئيس مبارك تعيين نائب له، تتزايد وتيرة التجمعات والتظاهرات الصغيرة المطالبة بالإصلاح الديمقراطي.
خلال الأسابيع التي سبقت عودته لمصر، ألمح البرادعي في عدد من المقابلات الصحفية إلى إمكانية ترشحه لمنصب الرئيس إذا توفرت شروط تضمن نزاهة الانتخابات. ولأنه يدرك الصعوبات الدستورية التي تمنع ترشحه مستقلاً، فقد دعا البرادعي إلى تعديل المادة 76 من الدستور، والتي تجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، لسياسي مستقل أن يخوض الانتخابات الرئاسية. وسرعان ما ارتفعت أصوات عديدة في أوساط النخبة الإعلامية والفنية والثقافية مؤيدة للبرادعي، لكن المفاجأة الأكبر كانت في بروز أعداد من الشبان النشطين في شبكة الإنترنت، معربة عن تأييدها للبرادعي واستعدادها للعمل ضمن حملته. وشهد وصول البرادعي لمطار القاهرة استقبالاً حافلاً وتلقائياً من مؤيديه، سواء من أوساط النخبة أو الشبان النشطين الجدد.

قام البرادعي بثلاث خطوات هامة، أظهرت قدراً ملموساً من الذكاء والعزم. كانت الأولى في التوقف عن طرح نفسه مرشحاً للرئاسة، والتركيز بدلاً من ذلك على ملف التحول الديمقراطي وتعديل الدستور، وهو الأمر الذي يشكل مطلباً مشتركاً لقطاع واسع من القوى السياسية في البلاد.


الخطوة الثانية، كانت في رفضه الانضمام لأي من الأحزاب السياسية القائمة والإصرار على موقعه المستقل، وهو ما يضعه فوق الخلافات والتنافس الحزبي. ولتوكيد موقعه المستقل، شكل وأنصاره الجمعية الوطنية للتغيير في مصر، التي ضمت مستقلين وسياسيين حزبيين من خلفيات مختلفة، بما في ذلك قيادات إخوانية.


أما الثالثة فكانت في توجهه المباشر للقطاعات الشعبية المصرية في جولات في الأسواق والصلاة في مساجد رئيسية واللقاء بقادة الكنيسة القبطية، وقد أظهرت هذه الخطوة  إمكانية أن تتحول حملته إلى حركة شعبية حقيقية. مع العلم أنه خلال شهر إبريل/ نيسان، الذي شهد بدايات تحرك البرادعي، تعاملت قوى الأمن المصرية مع أنصاره بأساليب القمع والاعتقال المعهودة؛ ولكن المؤكد أن القاهرة تسلمت احتجاجات أميركية ضد هذه الأساليب، بما في ذلك تصريح علني للناطق باسم الخارجية الأميركية في 17 إبريل/ نيسان، مما ساهم في عدم تفاقم المقاربة القمعية.


والواضح أن البرادعي يستخدم خطاباً يجد صدى لدى قطاعات واسعة من المصريين، سواء في توكيده على الارتباط بين الأزمات الاجتماعية وانخفاض مستوى المعيشة والديمقراطية، أو تلميحاته إلى ضرورة اتخاذ موقف مصري أكثر صلابة من إسرائيل وسياساتها. بيد أن الحراك السياسي في البلاد لم يزل في بدايته، ومن الصعب التيقن من صلابة البرادعي والملتفين حوله واستعدادهم لمواصلة الحملة مهما كانت التكاليف، بل حتى في هذه المرحلة المبكرة فإن مشروع البرادعي يواجه عقبات ليست باليسيرة.


أولى هذه العقبات أن قطاعاً هاماً من قادة الرأي المصريين والقيادات الحزبية لم يتحرك بعد لدعم الحملة، ولا حتى على مستوى مطالبها الديمقراطية، ليس لخلافهم مع هذه المطالب، بل لغموض مواقف البرادعي تجاه قضايا كبرى، مثل الموقف من إسرائيل والمسألة الفلسطينية.


الثانية أن البرادعي يحتاج التزاماً إخوانياً قاطعاً بدعمه والوقوف خلفه، نظراً لأن الإخوان يمثلون أكثر القوى شعبية في البلاد. وبالرغم من أن النائب الإخواني سعد الكتاتني التقى البرادعي مطولاً، وأصبح أحد الأعضاء المؤسسين في الجمعية الوطنية للتغيير، إلا أن القيادة الإخوانية لم تحسم موقفها بعد. والسبب خلف هذا التردد الإخواني أن البرادعي يتجنب تقديم الوعود للإخوان (وغيرهم)، بحجة أنه ليس مرشحاً للرئاسة بعد، وأن هدفه حتى الآن هو تعديل الدستور وتحقيق تحول ديمقراطي في البلاد.


ولكن الإخوان يدركون أن معركة تعديل الدستور تكاد تكون كل المعركة؛ ذلك أن النجاح في تعديل الدستور سيؤدي في النهاية إلى النجاح في الانتخابات الرئاسية. ولذا، فسيكون من الصعب على الإخوان التعهد بدعم الحملة لتعديل الدستور، بدون أن يقدم البرادعي تعهدات مقنعة حول ملامح سياساته الرئيسة وسياسته تجاه الإخوان، ولاسيما الترخيص لهم بالعمل السياسي من جديد.


أما الثالثة فتتعلق بطبيعة نظام الحكم، والتماهي بين النظام وأجهزة الدولة، وتصميم الطبقة الحاكمة على إعادة إنتاج نفسها ومنع المنافسين من الوصول إلى الحكم. ونظراً للقوة الهائلة التي تتمتع بها الدولة المصرية، وتغلغلها الاقتصادي، السياسي، الإعلامي، والأمني في دوائر المجتمع كافة، فمن المتوقع أن تجد حملة البرادعي نفسها أمام معركة متعددة الأبعاد.


الحكم يفقد توازنه 





بالرغم من أن حظوظ جمال مبارك في تراجع، فمن غير الواضح ما إن كان مبارك والدائرة الصغيرة حوله ما زالت على عزمها ترشيح مبارك الابن للرئاسة.
مر نظام الحكم، من ناحيته، خلال الأسابيع الماضية بما يشبه فقدان التوازن والقدرة على التحكم بمسار الوضع السياسي. في البداية، لم تظهر أركان النظام اكتراثاً كبيراً بتحدي البرادعي، ولكن ما أن لاحظت دفء الاستقبالات الشعبية له حتى أطلقت ضده حملة إعلامية، تناول بعضها حقائق، مثل عمله الطويل في خارج البلاد، واستهدف بعضها الآخر دس شائعات مغرضة. وعندما بدأت التجمعات المرتبطة بتحركه في الظهور في الشارع، ردت أجهزة الأمن بمستوى ملموس من القمع، بما في ذلك مهاجمة المتظاهرين (محدودي العدد، على أية حال) بوسائل العنف والاعتقال.

وبإعلان توجه الرئيس للعلاج في ألمانيا، تعمق مستوى الاضطراب في الحكم حيث غادرت عائلة الرئيس برفقته إلى الخارج، وبدلاً من أن يعزز جمال مبارك ظهوره في الساحة السياسية، باعتباره المرشح المفترض للحزب الوطني لخلافة الرئيس، اختفى تماما من الساحة المصرية.


وقد شاب أجهزة الدولة الارتباك في إخبار الرأي العام المصري بتطورات وضع الرئيس الصحي، لاسيما بعد أن نشرت وسائل إعلام غير مصرية أنباء إجراء جراحة لإزالة ورم في أمعاء الرئيس. ولكن مؤشرات الارتباك برزت في أكثر مستوياتها عندما أعلن عن فشل المباحثات بين دول منبع ومصب نهر النيل، وأعلنت دول المنبع عزمها على توقيع اتفاق بينها حول توزيع مياه النهر وتنمية حوضه، بغض النظر عن موقف دولتي المصب: مصر والسودان. ولأن ملف نهر النيل يتعلق بحياة مصر ومستقبلها، لم يكن من الغريب أن ينتظر المصريون موقفاً واضحاً ومحدداً من إعلان دول المنبع، وهو الموقف الذي لم يتضح بعد.


وباعتبار تقدم العمر بالرئيس مبارك، والتدهور الواضح في صحته، لم يكن من الغريب أن يبدأ الجدل في البلاد حول ما إذ كان سيرشح نفسه من جديد في الانتخابات الرئاسية القادمة. وقد نشرت صحيفة مصرية تقريراً، رددته وسائل إعلام بريطانية وأميركية، مفاده أن مبارك ينوي اختيار نائب للرئيس من بين قائمة صغيرة من المرشحين، تضم وزير الدفاع محمد حسين طنطاوي، رئيس المخابرات عمر سليمان، وزير الطيران المدني أحمد شفيق، ورئيس ديوان الرئاسة زكريا عزمي. كل من هؤلاء يعتبر من دائرة الحكم المضيقة،  وجميعهم من الضباط السابقين أو العاملين.


الحقيقة، أن ليس ثمة مؤشر بعد على أن مبارك سيعين نائباً للرئيس؛ مع العلم أن خطوة من هذا القبيل تعني أن النظام والحزب الوطني الحاكم سيلقيان ثقلهما خلف النائب المفترض لخلافة مبارك في حال خلو منصب رئاسة الجمهورية، بالوفاة أو التقاعد. ولكن من غير المستبعد أن طرفاً في النظام قام بتسريب هذا التقرير للإيحاء بأن جمال مبارك لم يعد له من حظ لخلافة والده.


الحقيقة الأخرى أن أحداً لا يعرف بعد ما إن كان مبارك سيرشح نفسه من جديد لمنصب الرئاسة في انتخابات العام القادم، أو أن وضعه الصحي لن يسمح له بإعادة الترشح. وبالرغم من أن حظوظ جمال مبارك في تراجع، فمن غير الواضح ما إن كان مبارك والدائرة الصغيرة حوله ما زالت على عزمها ترشيح مبارك الابن للرئاسة.


من جهة أخرى، تشير أصوات في أوساط النخبة المصرية، لا تحسب بالضرورة على المعارضة، إلى أن نتائج الانتخابات السودانية، التي قد تكون مقدمة لانقسام الجنوب، وفشل المباحثات حول مياه نهر النيل، إضافة إلى تعثر عملية السلام، تستدعي أن يكون الرئيس القادم عسكرياً بالضرورة، وأن الوقت لم يحن بعد لأن يتولى مدني رئاسة الجمهورية.


مستقبل الرئاسة؟ 





وضع مصر السياسي، بكلمة أخرى، هو أقرب إلى السيولة منه إلى الثبات، وقد بات مستقبل موقع رئاسة الجمهورية، البالغ الأهمية في تحديد هوية النظام وتوجهاته، مفتوحاً على كل الاحتمالات.
الذي يمكن استنتاجه من تطورات الأوضاع خلال الشهرين الماضيين أن مساحة المناورة أمام النظام فيما يتعلق بموقع رئاسة الجمهورية أصبحت أضيق مما كانت عليه؛ وهو ما دفع الرئيس إلى التحذير من الصراع على السلطة في أول خطاب له بعد عودته من رحلة العلاج.

والملاحظ أنه في لحظة غياب الرئيس وظهور البرادعي على المسرح السياسي ومواجهة البلاد لتطورات إقليمية هامة، لم يظهر المصريون، شعباً أو مؤسسات دولة رئيسية، أي تعاطف مع جمال مبارك، أو اقتناعا بخلافته لوالده. وإن كانت دوائر الحكم والحزب الوطني لم تزل على تصميمها على تولي مبارك الابن رئاسة الجمهورية، رغم وجود معارضة خفية للتوريث داخل النظام والحزب الحاكم، فربما ستتمكن من تحقيق هدفها؛ ولكن مثل هذه الرئاسة ستفرض فرضاً على الشعب المصري وعلى دوائر نافذة في النظام على السواء.


في الجانب الآخر، جعل البرادعي ومناصروه من معركة تعديل الدستور وتعزيز التحول إلى الديمقراطية، معركتهم الرئيسة في هذه المرحلة. قادة النظام والحزب الحاكم، من جهتهم، يعتبرون أن ليس ثمة ما يستدعي تعديل الدستور، وأن الدستور الحالي يوفر فرصة كافية لمن يرغب في المنافسة على منصب الرئاسة. وإن النجاح في معركة تعديل الدستور يعتبر مؤشراً هاماً على مستقبل البلاد السياسي، وربما سيكون حاسماً في تحديد هوية الرئيس المقبل. ولكن إجبار النظام على تعديل الدستور، يتطلب حراكاً شعبياً واسع النطاق في الشارع ولفترة طويلة، ويستند إلى توافق واسع للقوى والأحزاب والدوائر المعارضة بحيث تتضح الإرادة الشعبية في صورة قاطعة، ويصبح من الممكن تصاعد الضغوط الدولية على النظام. وهذا هو التحدي الأكبر أمام مشروع البرادعي والقوى الديمقراطية المصرية.


وليس ثمة شك في أن الإخوان المسلمين مرشحون للعب دور بالغ الأهمية في تحديد مستقبل مصر السياسي. وقد عقد الإخوان مؤخراً لقائي حوار غير مسبوقة مع الناصريين وحزب التجمع اليساري، إضافة إلى مشاركتهم في تأسيس الجمعية المصرية للتغيير، في توكيد لا يخفى على أن الجماعة في قيادتها الجديدة ستكون أكثر نشاطاً وفعالية على المستوى السياسي، وأن التوقعات المبكرة بانسحاب إخواني ملموس من الساحة السياسية لم تستند إلى قراءة صحيحة.


لكن الإخوان لم يقرروا بعد ما إن كانوا سيلقون بثقلهم إلى جانب البرادعي؛ وسيكون من الضروري مراقبة تطورات العلاقة بين الطرفين خلال الشهور القليلة القادمة.


في حال تصاعد الحراك الشعبي ليس من المستبعد أن يلجأ النظام إلى امتصاص الحركة الشعبية المعارضة بالتخلي عن مشروع التوريث، وتعيين نائب مدني غير مثير للجدل لمنصب الرئاسة، أو الاتفاق على مرشح من صفوف المؤسسة العسكرية؛ وذلك بهدف الحفاظ على نظام الحكم وتأمين موقع ومصير طبقته الحاكمة.


وضع مصر السياسي، بكلمة أخرى، هو أقرب إلى السيولة منه إلى الثبات، وقد بات مستقبل موقع رئاسة الجمهورية، البالغ الأهمية في تحديد هوية النظام وتوجهاته، مفتوحاً على كل الاحتمالات. والمتيقن، على أية حال، أن أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والتعليمية، كما تأثيرها الإقليمي، يزداد تدهوراً، وهذا ما يجعل إطالة مرحلة عدم اليقين الحالية بالغة الضرر على مصر وما حولها.
_______________
مركز الجزيرة للدراسات