سنوات ثمانٍ على حكم العدالة والتنمية

حقق إردوغان انتصارات عدة مما يجعل في حكم اليقين كون الحكومة التركية القادمة بعد انتخابات صيف سنة 2011 البرلمانية ستناط بها إصلاحات دستورية جديدة من شأنها جعل تركيا دولة رئاسية شبيهة بالنموذج الفرنسي فضلا عن تأهل إردوغان للبقاء في الساحة السياسية لسنوات







 

مركز الجزيرة للدراسات


في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، حقق حزب العدالة والتنمية فوزاً انتخابياً مفاجئاً، بعد عام واحد فقط على تأسيسه، بحصوله على زهاء 35 بالمائة من أصوات الناخبين. ونظراً لطبيعة النظام الانتخابي، وفر الفوز الذي حققه الحزب حكم تركيا منفرداً، دون اللجوء إلى تشكيل حكومة ائتلافية. ولكن حتى قبل أقل من أربع سنوات فقط، كان أغلب مراقبي الشأن التركي يتوقعون سقوطاً وشيكاً لرئيس حزب العدالة والتنمية وحكومته، إما بتدخل مباشر من الجيش، أو بفعل ضغوط الدوائر التركية العلمانية التقليدية النافذة في الدولة والمعارضة. أما اليوم، فلم يعد ثمة شك في أن رئيس حكومة العدالة والتنمية يبرز باعتباره أقوى حكام تركيا الجمهورية منذ مصطفى كمال إلى يومنا هذا. وبينما ينشغل العالم بالدور النشط الذي تلعبه تركيا في حقل السياسة الخارجية، يعزز الطيب رجب إردوغان قوته الداخلية، ويضاعف من تأثيره على الساحة السياسية التركية، ويعيد بناء مؤسسات الجمهورية على نحو جديد.


ولايتا حكم العدالة والتنمية
مؤشرات على تصاعد قوة إردوغان
فما المتوقع الآن في مسيرة إردوغان السياسية؟


ولايتا حكم العدالة والتنمية 





اليوم، لم يعد ثمة شك في أن رئيس حكومة العدالة والتنمية يبرز باعتباره أقوى حكام تركيا الجمهورية منذ مصطفى كمال إلى يومنا هذا.
يعتبر قادة حزب العدالة والتنمية في غالبيتهم العظمى،  وافدين جدداً على الدولة التركية؛ ولذا، فقد تميزت ولاية الحزب الأولى بالتعرف على آلة الحكم والدولة، ومحاولة تبديد الانطباعات الأولية التي ولدها صعود حزب جاء قادته الأساسيون من خلفية إسلامية سياسية، خصوصا من أوساط حزب الرفاه. ما اتفق عليه قادة الحزب عند تأسيسه هو أن يمثل الحزب مصالح الشعب وأن يؤسس لنمط حكم يحقق التكامل بين الدولة والمجتمع. ولكن برنامج حكومة أردوغان الإصلاحي خلال ولايته الأولى كان عاماً إلى حد كبير، متجنباً معالجة المسائل الشائكة، مثل دور المؤسسة العسكرية في الحكم أو المسألة الكردية البالغتي الحساسية. ولكن الإنجازات الاقتصادية الكبيرة للحكومة الأولى، التي ضاعفت الدخل القومي خلال خمس سنوات، وتعزيز نفوذ تركيا الخارجي، جعلا إردوغان أكثر جرأة على الصعيد الداخلي، من ناحية، مثلما جعل خصومه أكثر حدة وتصميما على الإطاحة به وحكومته.

في مايو/ أيار 2006، اغتيل قاض بارز على الدرجات الخارجية لمجلس الدولة. ولأن للقاضي سجلاً في معارضة التوجهات الإسلامية في البلاد، كان واضحاً أن من خطط لحادثة الاغتيال أراد أن توجه أصابع الاتهام في الجريمة إلى التيار الإسلامي، وأن تمهد هذه الحادثة، إلى جوانب حوادث مشابهة أخرى، لحالة من الفوضى الأمنية والسياسية في البلاد. ولكن التحقيقات في قضية الاغتيال سرعان ما أدت، تدريجياً، إلى كشف شبكة سرية واسعة النطاق، وعميقة الجذور، في جسم الدولة والمجتمع، لعبت لعقود طويلة، أداة سيطرة النخبة العسكرية والمدنية العلمانية التقليدية على الدولة وحركة المجتمع. الحادثة، وكانت التحقيقات اللاحقة البداية الحقيقية لولاية حزب العدالة والتنمية الثانية التي ستتضح فيها أكثر الأولويات السياسية لحزب العدالة والتنمية.


بنهاية فترة رئيس الجمهورية السابق أحمد نجدت سيزار في صيف 2007، تقدم الحزب الحاكم بوزير خارجيته، عبد الله غول، مرشحاً للرئاسة. وقد أدى الانقسام حول ترشيح غول، وتدخل قيادة الأركان السافر في القضية، إلى انتخابات 2007 البرلمانية. قاد إردوغان الحزب إلى انتصار انتخابي كبير بحصوله على 47 بالمائة من الأصوات، بما أوصل غول إلى موقع رئاسة الجمهورية، وعزز ثقة إردوغان في قدرته على تغيير أوضاع البلاد وإصلاح النظام الجمهوري. كانت محاولة حل الحزب الفاشلة من قبل الادعاء العام والمحكمة الدستورية في مارس/ آذار 2008 آخر المواجهات الكبيرة بين العدالة والتنمية والنخبة العلمانية التقليدية؛ وستشهد الأعوام الثلاثة التالية تبلور سياسات إردوغان الهجومية على صعيد المسألة الكردية، والحجاب، والحريات، وحقوق الإنسان، ومسألة الإصلاح الديمقراطي، ووضع نهاية لسيطرة المؤسسة العسكرية، الخفية والعلنية، على الحكم.


مؤشرات على تصاعد قوة إردوغان 


ثمة عدد من المؤشرات تضارفرت لنجاح إردوغان في حسم أغلب التحديات التي واجهته داخلياً لصالحه. وفيما يلي  أبرزها:



  1. ساعد إخلاص وتصميم وكيل واحد من  النيابة العامة منذ 2006 في الكشف التدريجي عن جزء كبير من التنظيمات السرية التي عششت طويلاً في جسم الدولة التركية، والتي تعرف الآن بشبكة الأرغنكون، سواء في المؤسسة العسكرية والأمنية، أو في أوساط القضاة والصحفيين والإداريين الأتراك. وقد أدى الكشف المستمر عن الأرغنكون والجرائم السياسية العديدة التي ارتكبها أعضاؤها إلى تقديم أعداد متزايدة من أعضاء الشبكة للقضاء، وإثارة الخوف في أوساط آخرين، بما في ذلك بعض من كبار الضباط العاملين في قيادة الجيش.





  2. بينما ينشغل العالم بالدور النشط الذي تلعبه تركيا في حقل السياسة الخارجية، يعزز الطيب رجب إردوغان قوته الداخلية، ويضاعف من تأثيره على الساحة السياسية التركية، ويعيد بناء مؤسسات الجمهورية على نحو جديد.
    قامت دوائر العدل والقضاء التركية (بتوجيه من رئيس الحكومة على الأرجح)، وسط الأزمة المالية – الاقتصادية العالمية، التي طالت تركيا أيضاً، بوضع مجموعة دوغان الإعلامية الضخمة وواسعة النفوذ تحت التدقيق والمساءلة. وقد انتهت العملية بتوجيه اتهامات تهرب هائل الحجم من الضرائب للمجموعة، تصل إلى أكثر من أربعة مليارات ليرة تركية (أكثر من ثلاثة مليارات دولار). وتعتبر مجموعة دوغان، التي تملك صحفاً يومية نافذة مثل حرييت وملييت وراديكال، والعديد من الدوريات الأخرى، وعدة قنوات تلفزية، ووكالة أنباء، قلعة المعارضة العلمانية ، كما تمثل خصماً لدوداً لإردوغان وحكومته. لم تزل قضية مجموعة دوغان موضع تحقيق أمام القضاء، حتى أخذت أسهمها في الانهيار، وأصبح واضحاً أن مالكها الرئيس سيلجأ إلى بيعها كمجموعة، أو سيضطر إلى تفتيتها وبيع أغلب مؤسساتها.


  3. بالرغم من المخاوف التي أحاطت بالاستفتاء على حزمة التعديلات الدستورية في سبتمبر/ أيلول الماضي، فقد صمم إردوغان على التعديلات وعرضها على الاستفتاء. ولأن إردوغان قاد بنفسه الحملة الشعبية لتمرير التعديلات في العشرات من التجمعات الجماهيرية، فإن النجاح في الاستفتاء اعتبر نجاحاً لسياسة حكومته وله شخصياً.


  4. تضمنت التعديلات الدستورية ثلاثة إصلاحات رئيسية لمؤسسات الدولة التركية، تصب كلها في صالح حزب العدالة والتنمية الحاكم، وتسهم في إضعاف النخبة العلمانية التقليدية ونفوذها في دوائر الدولة والحكم:

    • تضع التعديلات الدستورية الجيش تحت سلطة الحكم المدني، وتعطي القضاء المدني الحق في محاكمة العسكريين، سواء على جرائم سابقة أو لاحقة. بذلك يمكن القول أن الجيش عاد لثكناته للمرة الأولى منذ انقلاب 1960 الدموي.
    • تعيد التعديلات الدستورية بناء مجلس القضاء الأعلى وتزيد من عدد أعضائه، وهي المؤسسة صاحبة السلطة في نقل وتعيين وترقية القضاة ووكلاء النيابة، وأحد قلاع النخبة العلمانية التقليدية. وقد أظهرت الانتخابات الجزئية للمجلس الجديد التي جرت هذا الشهر، أن 10 من المرشحين الـ 11 الذين تدعمهم وزارة العدل قد حصلوا على عضوية المجلس.
    • توسع التعديلات من نطاق عضوية وتعيد بناء المحكمة الدستورية العليا، أعلى سلطة قضائية في الدولة التركية، والتي ظلت لعقود سيفاً في يد النخبة العلمانية الجذرية ضد كافة القوى السياسية الجديدة. ولم تتم بعد عملية إعادة بناء المحكمة الدستورية، التي يتوقع أن تصب أيضاً لصالح حكومة العدالة والتنمية.


  5. كشف الاستفتاء على التعديلات الدستورية عن اضطراب كبير في صفوف حزبي المعارضة الرئيسيين، الحزب القومي وحزب الشعب الجمهوري؛ فبينما رأت قطاعات من قاعدة الحزبين الشعبية أن التعديلات الدستورية تدعم الديمقراطية والحريات والعدالة في البلاد، وقفت قيادتا الحزبين ضد التعديلات. وقد عمل هذا الاضطراب على إضعاف الحزبين، وعزز من شعبية العدالة والتنمية. وتظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن شعبية العدالة والتنمية تجاوزت الـ 50 بالمائة، للمرة الأولى منذ سنة 2002.


  6. صدقت  تقديرات الحكومة لخروج تركيا من الأزمة المالية – الاقتصادية في النصف الثاني من 2010 فعلا. وتشير التوقعات الآن إلى أن الاقتصاد التركي سينمو هذا العام بنسبة 7 بالمائة، أي أعلى بكثير من كل الاقتصاديات الأوروبية الرئيسية، بينما تجاوز معدل نمو الصادرات التركية في أكتوبر/ تشرين أول 10 بالمائة للمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة المالية – الاقتصادية العالمية.





  7. تمثل الاستراتيجية الجديدة باختصار إصلاحاً جوهرياً لمفهوم الأمن القومي التركي، سواء على الصعيد الخارجي أو الداخلي، وتضع نهاية لتصورات الأمن القومي المرتبطة بالحرب الباردة، أو بسيطرة فئة علمانية – كمالية صغيرة على الحكم.
    انتهز إردوغان النجاح الكبير الذي حققه في الاستفتاء على التعديلات الدستورية لفتح ملف مراجعة استراتيجية الدولة التركية، التي تعرف بـ "الكتاب الأحمر"، وتعتبر المرجعية الرئيسة لعمل المؤسسة العسكرية وأنماط تدريبها وتسليحها، ولسياسة الدولة الخارجية ورؤيتها لطبيعة التهديدات الداخلية والخارجية على السواء. وبالرغم من أن الاستراتيجية هي وثيقة سرية، فالمعتقد من خلال التسريبات الصحفية أن النسخة الجديدة التي أقرها مجلس الأمن القومي التركي في أكتوبر/ تشرين أول المنصرم تضمنت تصنيف التسلح النووي الإسرائيلي والإيراني باعتبارهما مصدر تهديد، مع الإشارة إلى أن "انعدام استقرار المنطقة بسبب النشاط الإسرائيلي، وسياساتها (أي إسرائيل) التي قد تسبّب بسباق تسلُّح في المنطقة، هما تهديد لتركيا". وقد أزالت الاستراتيجية الجديدة سوريا وإيران وبلغاريا وجورجيا وأرمينيا، والأهم من ذلك كله، روسيا، من لائحة الدول التي تعد تهديداً خارجياً لتركيا. ويعتقد إضافة إلى ذلك، أن الاستراتيجية الجديدة ألغت الإشارة في السابقة إلى "خطر الرجعية الدينية" على الأمن القومي التركي، وهو التعبير العام السابق للتيار الإسلامي في البلاد، وأدخلت بدلاً من ذلك مصطلحاً يحصر التهديد في "المجموعات الراديكالية التي تستغل الدين" والتي يطالها قانون العقوبات التركي أصلاً. تمثل الاستراتيجية الجديدة باختصار إصلاحاً جوهرياً لمفهوم الأمن القومي التركي، سواء على الصعيد الخارجي أو الداخلي، وتضع نهاية لتصورات الأمن القومي المرتبطة بالحرب الباردة، أو بسيطرة فئة علمانية – كمالية صغيرة على الحكم.

فما المتوقع الآن في مسيرة إردوغان السياسية؟ 


نظرا للانتصار الذي حققه إردوغان وفريقه  في معركة أكبر حزمة من التعديلات الدستورية، أصبح من اليقين أن الحكومة القادمة بعد انتخابات صيف 2011 البرلمانية ستقوم بإعداد دستور جديد كلية.


والمرجح أن هذا الدستور الجديد سيتضمن إعادة بناء للجمهورية التركية على أسس جديدة، ومن ذلك جعلها دولة رئاسية، أقرب إلى النموذج الفرنسي، حيث يتقاسم رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة السلطات. مثل هذا التطور، سيفتح الطريق أمام إردوغان للاستقالة من رئاسة الحكومة بعد عام من الفوز في الانتخابات القادمة، والترشح لرئاسة الجمهورية، عندما يفرغ المنصب في صيف 2012، مما سيؤهله البقاء في الساحة السياسية لسنوات قادمة على الأرجح.