بادرت كوريا الشمالية الثلاثاء الفائت 23 نوفمبر/تشرين الثاني إلى قصف جزيرة يون بيونغ في كوريا الجنوبية، القريبة من الحدود البحرية الغربية المتنازع عليها بين البلدين، مثيرة بذلك خوفا عالميا من تصاعد التوتر بين الكوريتين بما قد يؤدي إلى حرب لا يمكن التنبؤ بعواقبها.
والسؤال المطروح الآن ماهي الأسباب الكامنة وراء لجوء بيونغ يانغ إلى تصعيد حدة التوتر لهذه الدرجة القصوى، وما هي الأهداف التي تسعى لتحقيقها؟
- على الصعيد الداخلي فإن أحد الأولويات الملحة لكوريا الشمالية في هذه المرحلة هي ترسيخ دعائم وأسس انتقال الخلافة من الأب إلى ابنه الشاب الذي يفتقد تاريخه القصير لأية شرعية من الإنجازات العملية أو النظرية أو الفكرية. لهذا فإنها ستعمد إلى محاولة تكريس ما جرى باعتباره انتصاراً ساحقاً على اعتداء خارجي سافر جرى بإشراف مباشر للزعيم القادم كيم جونغ أون وبالتالي إظهاره بمظهر القائد الحازم وغير المتردد الذي لا يقل جرأة عن والده، ولا يقل حنكة عن جده. وبأنه قادر على اتخاذ القرارات الحاسمة في الحرب والسلم في الوقت المناسب وفي المكان المناسب.
ترى بيونغ يانغ أن الاهتمام الدولي وبالتحديد الأمريكي قد انصرف عنها وتوجه نحو قضايا هامشية بحسب تقديرها، ويبدو أنها أرادت بهذا القصف تذكير المجتمع الدولي والقوى المؤثرة فيه بأن قضيتها لا تقل أهمية القضايا الأخرى، وربما بدرجة أكبر وبالتالي فإنها لن تقبل بتهميشها |
هذا بالإضافة إلى محاولة النظام الكوري الشمالي التعتيم على الصعوبات الاقتصادية والمالية الشديدة والنقص الحاد في المواد الغذائية والاحتياجات المعيشية الأساسية جراء العقوبات الدولية، وتوحيد الإحساس والوعي العام وصولاً للتضامن الشعبي الكامل في وجه الأخطار والتهديدات الخارجية (خلال مرحلة نقل السلطة على الأقل ).
- هدف آخر تسعى بيونغ يانغ لتحقيقه هو إعادة خلط الأوراق من جديد وتحريك المياه الراكدة منذ ديسمبر/كانون الأول 2008 بعد جولة المحادثات السداسية الأخيرة في بكين. فبيونغ يانغ ترى أن الاهتمام الدولي وبالتحديد الأمريكي قد انصرف عنها وتوجه نحو قضايا هامشية بحسب تقديرها، مثل البيئة والأزمة المالية والتغيرات المناخية بالإضافة طبعاً إلى الوضع في الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي والبرنامج النووي الإيراني والوضع في أفغانستان. ويبدو أن كوريا الشمالية أرادت تذكير المجتمع الدولي والقوى المؤثرة فيه بأن قضيتها لا تقل أهمية عن كل تلك، وربما بدرجة أكبر وبالتالي فإنها لن تقبل بتهميشها.
ويبدو أنها نجحت في تحقيق ذلك وفرضت قضيتها من جديد في واجهة الأحداث وعلى رأس الأولويات الدولية.
ـ على صعيد العلاقات بين الكوريتين تسعى بيونغ يانغ إلى تحريك العلاقات الكورية-الكورية المتدهورة على مدار ما يقرب من ثلاثة أعوام، وتحديداً منذ تولي لي ميونغ باك الرئاسة في كوريا الجنوبية أوائل عام 2008، وخاصة في ظل رفض سول تغيير مواقفها المتشددة إزاء مطالب بيونغ يانغ بالنسبة لاستئناف برامج السياحة الجنوبية داخل الأراضي الشمالية (كمنتجع كومغانغ) علاوة على عدم إرسال المساعدات الغذائية والإنسانية المطلوبة بالرغم من إلحاح بيونغ يانغ في هذا الصدد على غير العادة "مما سبب إحراج وإهانة للشمال استوجب الرد". وكذلك استطاعت بيونغ يانغ بهذا القصف المفاجئ زعزعة أركان حكومة لي ميونغ باك وإحراجه جماهيرياً وهذا ماتجلى في استقالة وزير دفاعه كبداية الغيث .
- إن اختيار جزيرة يون بيونغ الصغيرة (7 كيلومتر مربع) الخاضعة لسيطرة كوريا الجنوبية لتكون مسرحاً للتوتر الحاصل لم يكن اختياراً عشوائياً. فبمعاينة الموقع الجغرافي للجزيرة سيلاحظ المرء أنها أقرب إلى الجانب الشمالي منها إلى الجانب الجنوبي وتقع في الجهة الشمالية لامتداد خط العرض 38. وهو خط الهدنة الفاصل بين الكوريتين وفق اتفاقية عام 1953 والمعترف به من الأمم المتحدة، لكن هذا الخط يقتصر فقط على الحدود البرية ولا يشمل الحدود البحرية. وبهذا فإن بيونغ يانغ من خلال زيادة حدة التوتر في هذه المنطقة تسعى إلى نفض الغبار عن ملف اتفاقية الهدنة وبعث الروح فيها من جديد لتشمل الحدود البحرية ومن ثم بتحويلها إلى اتفاقية سلام دائم، مع الأخذ بالاعتبار أن كوريا الشمالية تصر على أن كوريا الجنوبية لم تكن طرفاً في توقيع اتفاقية هدنة عام 1953، وبالتالي فإن الجهة المخولة بالتفاوض بالنسبة لها هي واشنطن.
- إن منطقة التوتر التي جرى فيها تبادل القصف المدفعي هي جزيرة معزولة لا يزيد عدد سكانها على ألف نسمة ولا تتجاوز مساحتها سبعة كيلومترات مربعة وتتمتع بوجود عسكري كوري جنوبي كثيف بحيث يمكن ذلك كوريا الشمالية من الإبقاء على التوتر في أعلى درجاته، ولكن في إطار جغرافي محدود ومنعزل يصعب تمدده. كما أن المنطقة ظلت طوال الأشهر الماضية مسرحاً لمناورات عسكرية مشتركة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية ظلت معها كوريا الشمالية تراقب بامتعاض وتوتر دون قدرة على التحرك، وهو الأمر الذي سبب لها إحراجاً. أما الآن وبعد هذا القصف الأخير، فإن إجراء أي تدريبات عسكرية قادمة لا بد أن يخضع من قبل واشنطن وسول للتفكير ولحسابات أكثر دقة وتعقيداً.
نجحت بيونغ يانغ في تحقيق بعض المكاسب التكتيكية، لكنها تنتظر الآن قطف ثمار أهدافها الإستراتيجية وهي حل جميع قضاياها الأمنية والدبلوماسية والاقتصادية والتي ستتركز على محورين، الأول هو السعي لفتح حوار مباشر مع واشنطن ينهي عزلتها الدبلوماسية ويحول أطول هدنة في التاريخ إلى اتفاقية سلام دائم. |
- حادثة القصف المدفعي المتبادل هذه جاءت في وقت تشهد فيه العلاقات بين واشنطن وبكين تدهوراً على أكثر من صعيد. كما تشهد فيه العلاقات الصينية مع معظم دول الجوار تدهوراً ملحوظاً أيضاً ( اليابان ، كوريا الجنوبية ، الفيلبين ، الهند. ...)، مما دفع بالصين نحو التقارب أكثر مع حليفتها السابقة بيونغ يانغ، وهذا ما يفسر الموقف الصيني المتجاهل لما حدث واكتفاء بكين بالإعراب عن قلقها، ودعوة جميع الأطراف إلى ضبط النفس بخلاف ما حصل عندما قامت بيونغ يانغ بإجراء تجربتها النووية.
ناهيك عن تنامي القلق لدى الصين تجاه سياسات إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما بإعادة بناء القوة والنفوذ الأمريكي في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ، والذي ترى فيه بكين تهديداً لمصالحها ونفوذها الإقليمي في المنطقة. وهنا ترى بيونغ يانغ أن ما قامت به يزيد من تعميق الشرخ بين واشنطن وبكين من جهة، وبين بكين وحلفاء واشنطن في المنطقة خاصة طوكيو وسول.
فبيونغ يانغ تعي أن واشنطن مطالبة برد يحفظ لها ماء الوجه أمام حلفائها ويؤكد لهم أنها قادرة على حمايتهم، وهذا ما حدث بتحرك حاملة الطائرات الأمريكية جورج واشنطن التي تعمل على الطاقة النووية إلى المنطقة، للمشاركة في مناورات عسكرية مشتركة مع سول بالقرب من منطقة التوتر وليس بعيداً عن سواحل الصين الشرقية، وهو الأمر الذي أدى إلى انزعاج صيني تم التعبير عنه بإلغاء زيارة مقررة لوزير الخارجية الصيني إلى كوريا الجنوبية.
فبكين لا تنظر إلى هذه المناورات على أنها مجرد رد على التصعيد الكوري الشمالي، بل تنظر إليها بكثير من التوجس والقلق لقربها من مياهها الإقليمي، بل إنها لن تكون بعيدة كثيراً عن العاصمة بكين وعن بعض الموانئ والمناطق الصناعية والتجارية الإستراتيجية الصينية، والتي ستكون في إطار التهديد وتحت مرمى النيران المباشرة للقوات الأمريكية، خاصة أن الجيش الأمريكي يتمتع بسجل طويل في توجيه "ضربات خاطئة " وفق ما تقول بكين بالإشارة إلى قصف سفارتها في بلغراد عام 1999.
- وحتى الآن يبدو أن بيونغ يانغ نجحت بهذا القصف في تحقيق بعض المكاسب التكتيكية، لكنها تنتظر الآن قطف ثمار أهدافها الإستراتيجية وهي حل جميع قضاياها الأمنية والدبلوماسية والاقتصادية والتي ستتركز على محورين، الأول هو السعي لفتح حوار مباشر مع واشنطن ينهي عزلتها الدبلوماسية ويحول أطول هدنة في التاريخ إلى اتفاقية سلام دائم. والمحور الآخر هو العودة إلى طاولة المفاوضات السداسية التي ترعاها بكين لجعل شبه الجزيرة الكورية خالية نووياً، ولكن هذه المرة وفق شروط جديدة وآلية جديدة تضعها بيونغ يانغ تأخذ بعين الاعتبار واقعاً جديداً أصبحت فيه كوريا الشمالية دولة نووية، بالإضافة إلى كونها قوة عسكرية تقليدية معنية بحفظ الأمن والاستقرار أو قادرة على افتعال التوتر وتهديد مصالح الآخرين.
خاصة أن كوريا على موعد تاريخي هام بالنسبة لها بعد عامين وهو الذكرى المئوية الأولى لميلاد زعيمها ومؤسسها الراحل كيم إيل سونغ، وكانت قد تعهدت أن تحيي هذه المناسبة باعتبارها دولة قوية سياسياً واقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، وليست مجرد دولة تقتات على مساعدات وهبات الآخرين أعطوها متى شاءوا وحرموها متى ما أرادوا.
وحتى ذلك الحين سيبقى العالم يترقب وستبقى بيونغ يانغ تحاول الوصول إلى أهدافها ولكن بطرقها الخاصة والتي ربما تشكل (إن نجحت) نموذجاَ جديداَ في كيفية وصول الدول -المستهدفة من أميركا- إلى أهدافها.
_______________
مكتب الجزيرة في بكين