تأثير حل المجالس المحلية على الواقع السياسي المصري

عندما أصدرت محكمة القضاء الإداري حكمها الذي قضى بحل المجالس الشعبية المحلية يوم الثلاثاء 28 يونيو/حزيران الماضي، كان هذا دليلا جديدا على أن المرحلة الانتقالية في مصر لا تسير على ما يرام.
201172010273987734_2.jpg

عندما أصدرت محكمة القضاء الإداري حكمها الذي قضى بحل المجالس الشعبية المحلية يوم الثلاثاء 28 يونيو/حزيران الماضي، كان هذا دليلا جديدا على أن المرحلة الانتقالية في مصر لا تسير على ما يرام. كان حل هذه المجالس هو أحد مطالب ثورة 25 يناير/كانون الثاني لأسباب عدة، أولها: أنها تمثل ما يمكن اعتباره "البنية التحتية" للتسلط والاستبداد والفساد، وأنها تضم بعض عناصر الصفين الثاني والثالث في الحزب الوطني الذي تولى الحكم منذ أغسطس/آب 1978 حتى حكم القضاء أيضا بحله قبل نحو شهرين. كما تضم الكثير من أعوانه وأتباعه والذين دعموا النظام السابق في مقابل مزايا ومكاسب غير مشروعة حصلوا عليها.

وجاء مطلب حل المجالس الشعبية المحلية، في هذا الإطار، سعيا إلى تصفية إحدى أهم ركائز القوى المضادة لثورة 25 يناير/كانون الثاني، ومحاصرة من يُصطلح على تسميتهم في مصر الآن بفلول النظام السابق. ولذلك لم يستبعد بعض المراقبين وجود علاقة بين الحكم القضائي بحلها وأحداث العنف التي بدأت بعد نحو ساعات على إصدار هذا الحكم، سواء كانت هذه الأحداث من تدبير قوى مضادة للثورة، أو أنها استُغلت من جانبها سعيا إلى خلق فوضى وإحداث انقسام في صفوف قوى الثورة.

أما السبب الثاني فهو أن تلك المجالس جاءت بها انتخابات تُعتبر هي الأسوأ في تاريخ العمل المحلي في مصر. وقد أُجريت تلك الانتخابات في إبريل/نيسان 2008 بعد تأجيلها لمدة عامين. فقد كان موعدها الطبيعي في إبريل/نيسان 2006. ولكن النجاح الملموس الذي حققته جماعة "الإخوان المسلمين" في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في نهاية عام 2005، وحصول مرشحيها على 88 مقعدا بنسبة حوالي 20% من المقاعد، دفع النظام السابق إلى تأجيل الانتخابات المحلية حتى يتمكن من إعادة ترتيب الأوضاع. فكان الهدف من هذا التأجيل هو إحكام قبضته مجددا عبر إجراء تعديلات دستورية واتخاذ إجراءات أمنية جديدة لمحاصرة حركة "الإخوان" وإرباكها.

وكانت تلك هي الفترة التي تحول النظام المصري فيها عن منهج احتواء "الإخوان" واتجه إلى إقصائهم من الساحة السياسية ومحاولة استئصال بعض ركائز قوتهم، فضلا عن انتظار ظرف يسمح بتزوير واسع للانتخابات خشي الإقدام عليه في ذلك الوقت حيث كانت إدارة بوش السابقة تتطلع إلى إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة العربية وفي داخل بعض بلادها. وهذا هو ما فرض تقليل التدخل والتزوير في المرحلتين الأولى والثانية للانتخابات البرلمانية عام 2005. وهما المرحلتان اللتان حصلت فيهما المعارضة، وفي مقدمتها "الإخوان"، على معظم مقاعدها في هذه الانتخابات. وعندما أُجريت الانتخابات في الموعد الذي أُجلت إليه (إبريل/نيسان 2008)، كانت الظروف قد باتت مهيأة لتزوير كثيف تم تجريب بعض أساليبه قبلها بعدة أشهر في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى عام 2007.

ومن أهم أساليب التدخل التي اتُبعت في تلك الانتخابات أسلوب "التزوير من المنبع" أي عدم قبول أوراق الراغبين في الترشح أصلا عبر ادعاء وجود نقصٍ ما فيها أو الزعم بأنها ليست مستوفاة. وكان مرشحو "الإخوان المسلمين" هم المستهدفين أساسا. ولكن خوف كثير من الموظفين الذين يتسلمون أوراق الترشيح، وحرصهم على الالتزام بالتعليمات الصادرة إليهم من جهاز أمن الدولة دفعهم إلى المبالغة على نحو أدى إلى منع مرشحي أحزاب معارضة ومستقلين من تقديم أوراقهم. وعندما هدد حزبا الوفد والتجمع بالانسحاب، حدث اتفاق معهما على تقديم أوراق مرشحيهما بشكل جماعي بعد فحصها أمنيا.

وأدى ذلك إلى استبعاد مرشحي "الإخوان المسلمين"، وتضاؤل أعداد مرشحي أحزاب المعارضة التي لم يكن لديها، على أية حال، الكثير منهم. فكانت النتيجة هي هيمنة كاملة للحزب الوطني على المجالس التي "انتُخبت" في إبريل/نيسان 2008؛ إذ حصل على نحو 49 ألف مقعد مقابل أكثر قليلاً من خمسمائة مقعد لحزبي الوفد والتجمع ومستقلين غير تابعين للحكم أو جهاز الأمن (يبلغ إجمالي مقاعد هذه المجالس 49 ألفا و522 مقعدا على المستويات الخمسة: 3230 على مستوى المحافظات، و13 ألفا و302 على مستوى المراكز، و5168 على مستوى المدن، و1374 على مستوى الأحياء، و26 ألفا و448 على مستوى القرى).

وساهم عدد كبير من أعضاء هذه المجالس الشعبية المحلية في الترتيبات التي جعلت الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي أُجريت في نهاية عام 2010، هي الأسوأ في تاريخ هذه الانتخابات منذ عام 1979. فكان التدخل الأمني والإداري فيها صريحا والتزوير كثيفا. ولذلك كان ضمان حرية ونزاهة أول انتخابات برلمانية بعد الثورة سببا ثالثا وراء طلب حل المجالس المحلية لحرمان فلول النظام السابق من قاعدة انتخابية يمكن أن يجدوا فيها سندا لهم في بعض الدوائر أو حتى الكثير منها.

وثمة سبب رابع لحل المجالس الشعبية المحلية ركز عليه من يدركون أهمية السياسة على المستوى القاعدي في مراحل الانتقال إلى الديمقراطية؛ فقد فطن علماء سياسة واجتماع، منذ مطلع القرن التاسع عشر، إلى أن الانتخابات على المستوى المحلي تعتبر المدرسة الأولى في عملية بناء الديمقراطية؛ ولذلك رأى العالم الفرنسي المعروف ألكسي دي توكفيل في ثلاثينيات القرن التاسع عشر أنها تشبه دور الحضانة في أي نظام تعليمي.

ولذلك طالب كثيرون بحل المجالس الشعبية المحلية، وإجراء انتخابات جديدة لها بشكل فوري ضمن الإجراءات التي كانت ضرورية لتحقيق أهداف الثورة بمعدلات سريعة، وتحويل حيويتها إلى ديناميكية سياسية نشطة عبر عمليات انتخابية متوالية تشمل النقابات العمالية والمهنية ورؤساء الجامعات وعمداء كلياتها إلى جانب الاتحادات الطلابية. وفي هذا متسع لجميع الأحزاب والقوى السياسية وائتلافات الشباب وغيرها؛ مما يجعل التنافس أقل حدة وبالتالي أكثر إيجابية، ويتيح للناخبين الذين ينتظرون ممارسة دورهم في بناء النظام الجديد فرصة للاستعداد للانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية. وقد أظهر الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 19 مارس/آذار الماضي مدى شوقهم إلى المشاركة. فكان مشهد الطوابير الممتدة أمام لجان الانتخابات، والناخبين الذين ينتظرون للإدلاء بأصواتهم بصبر وأمل وفرح أيضا، حافزا على إجراء الانتخابات المحلية بعده بأسابيع قليلة.

غير أن الذهنية القديمة التي ما زالت سائدة في الحكومة الانتقالية حالت دون ذلك، وظل وزير التنمية المحلية يتذرع بمبررات واهية لرفض طلب حل المجالس الشعبية وإجراءات انتخابات جديدة، إلى أن حسم القضاء الإداري الأمر وقضى بأنه (لما كانت هذه المجالس من بين أدوات النظام السابق تعمل على تحقيق أهدافه ورغباته، فمن غير المقبول أن يسقط هذا النظام وتظل المجالس قائمة حتى الآن بعد فقدانها أصل شرعيتها، ويكون حلها وإبعادها عن أي دور كانت تقوم به أمرا واجبا وحتميا) وفقا لما جاء في حيثيات هذا الحكم الذي أضاف أن المصلحة العامة في حل المجالس المحلية (ظاهرة كالشمس، ولا تحتمل تأخيرا).

وبإصدار هذا الحكم، وإعلان الحكومة أنها لن تطعن فيه، أصبح هناك خياران أساسيان بشأن إجراء الانتخابات المحلية الجديدة في ضوء الواقع السياسي الجديد في مصر:

  • الخيار الأول: هو التعجيل بإجرائها بشكل فوري في الأسبوع الأخير من شهر يوليو/تموز الجاري قبيل بدء شهر رمضان المعظم. وفي هذه الحالة، يمكن أن تكون الانتخابات المحلية تدريبا عمليا قبيل الانتخابات البرلمانية التي ينبغي فتح باب الترشيح لها قبل أول أكتوبر/تشرين الأول المقبل وفق الإعلان الدستوري القائم. ولكن هذا الخيار يتطلب حركة سريعة وديناميكية ربما يصعب التطلع إليها في ضوء طريقة إدارة المرحلة الانتقالية حتى الآن.
  • ولذلك فالخيار الثاني هو إجراء الانتخابات المحلية في بداية العام القادم بُعيْد الانتخابات البرلمانية. ولن يُحدث هذا الخيار فراغًا لأن المجالس المنحلة لم تكن تفعل أكثر من مسايرة الإدارة المحلية والتصديق على إجراءاتها مثلما كانت حال البرلمان مع الإدارة المركزية أو الحكومة. ولا داعي، والأمر هكذا، للبحث عن بدائل لها حتى إجراء الانتخابات؛ فالمهم هو أن تأتي الانتخابات المقبلة بمجالس فاعلة ومعبرة عن مصالح الناس.

    ويتطلب ذلك إصدار قانون جديد للمحليات. وهذه مهمة سهلة لوجود عدد من مشاريع القوانين التي لم يُعْنَ بها النظام السابق بالرغم من أنه تذرع بالحاجة إلى قانون جديد لتأجيل الانتخابات الأخيرة من 2006 إلى 2008، ثم تبين أنه لم يكن صادقا؛ فثمة توافق واسع النطاق منذ سنوات طويلة على ضرورة تحويل الإدارة المحلية في مصر إلى حكم محلي ديمقراطي، وإعطاء المجالس المنتخبة سلطة رقابية حقيقية بحيث يستطيع أعضاؤها مراقبة أداء السلطة التنفيذية في المحافظات ممثلة في المحافظ وأجهزته والوحدات المحلية التي تتحكم في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، ومساءلتها ومحاسبتها بما في ذلك تقديم استجوابات للمحافظين.

    ويمكن أن يصدر القانون الجديد بمرسوم من المجلس الأعلى للقوات المسلحة في حالة إجراء الانتخابات الجديدة بشكل فوري، أو عن طريق مجلس الشعب الجديد فور انتخابه في حالة تأجيلها إلى العام القادم. وربما يكون ضروريًا فتح حوار عام حول قضية انتخاب المحافظين بدلا من تعيينهم بقرارات جمهورية. فإذا تبين وجود توافق بين الأطراف الأساسية في الساحة السياسية والمجتمع على أن الانتخابات أفضل، يمكن أن يبين قانون المحليات الجديد الطريقة التي يُنتخب بها المحافظ. وعندئذ تكون مصر قد دخلت مرحلة جديدة نوعيا تنتشر فيها الديمقراطية على المستوى المحلي وتشيع في مختلف الأرجاء.