الناتو في ليبيا.. البحث عن إستراتيجية بديلة

الناتو والثور يحققون انجازات متوالية أفقدت قوات القذافي المبادرة والمناورة إلا أن التكلفة الزمنية والبشرية مرتفعة ويمكن خفضها لو زج الناتو بكامل قدراته وحصل الثوار على التسليح الملائم والتدريب الضروري.
201181103052360580_2.jpg

مركز الجزيرة للدراسات

بعد مرور 19 أسبوعًا على الحملة العسكرية التي يشنها الناتو على نظام وقوات القذافي، والتي نفذ خلالها ما يقرب من 19.000 طلعة جوية منها حوالي 7.500 طلعة هجوم أرضي؛ فإن أبلغ توصيف لوضع الحملة ونتائجها هو ما ذكره رئيس الأركان الأميركي الأدميرال مايك مولين في 25 يوليو/تموز الجاري: "نحن في مأزق... هناك العديد من التحديات نتيجة تكيف قوات النظام مع تكتيكات الناتو رغم أن استمرار هجماتنا على مدى الوقت تحقق استنزافا دراماتيكيا في هذه القوات... وعلى المدى الطويل إستراتيجيتنا ستنجح في إزاحة القذافي عن السلطة".

إن المأزق الذي يتحدث عنه الأدميرال مولين هو محصلة متوقعة لتدخل عسكري محدود يعتمد منهج التدرجية المؤسس على استخدام أقل جهد عسكري ممكن لتحقيق تأثيرات مرغوبة على الأرض على مدى زمني ممتد، باعتبار عدم تخصيص أو توافر الموارد الكافية لإنجاز الأهداف السياسية الموضوعة (وهي في حالة ليبيا إزاحة النظام عن السلطة، وتوفير الحماية للمدنيين)؛ وتكمن مثالب التدرجية هذه في بعدين أساسيين: أولهما: التأثير السلبي على الفعالية العسكرية المطلوبة لأداء القوات في الميدان، وثانيهما: أن جوهر عمليات التدخل العسكري لأغراض إنسانية يستهدف الوصول إلى الحد الأدنى من المعاناة التي يتكبدها المدنيون المطلوب حمايتهم، وهو الأمر الذي لا يتحقق بفعل إطالة مدة العمل العسكري، ومن ثمة استمرار الخصم في تكبيد هؤلاء خسائر بشرية ومادية تتراكم على مدى الوقت، حتى وإن كانت فرص النجاح في المهمة راجحة ولكن على مدى طويل.

إن نهج التدرجية سبق وأن مارسه ذات الحلف في حملة كوسوفا لعام 1999، وإن كان بدرجة أقل حدة مما يجري حاليًا في ليبيا (على مدى 78 يومًا هي مدة الحملة الجوية في كوسوفا خصص الناتو 1100 طائرة قتال وإسناد نفذت إجمالي 37004 طلعة، بينما على مدى 133 يومًا من العمليات الجوية فوق ليبيا حتى الآن خصص الناتو 250 طائرة قتال وإسناد نفذت حوالي 19.000 طلعة جوية)، في وقت تبدو فيه البيئة العملياتية أكثر تسامحًا وسهولة في الحالة الليبية باعتبار الطبوغرافية الصحراوية المستوية والمفتوحة، وضعف منظومات الدفاع الجوي التي تم إخمادها في الأيام الأولى للحملة، فضلاً عن تواجد معظم الأهداف المستخدمة في أحزمة حضرية ضيقة متناثرة على سواحل ذات ظهير صحراوي ممتد.

الصورة العملياتية الجارية.. تشديد الخناق بتدرج

يمكن القول إجمالاً: إن الاستنزاف التراكمي –وإن كان بطيئًا– في قوات النظام وبنيته العسكرية بفعل الحملة الجوية للتحالف على مدى الأسابيع الـ 19 وحتى الآن قد أحدث تحولاً إستراتيجيًا ملحوظًا ومقدَّرًا في الأوضاع العسكرية على الأرض لصالح الثوار الذين يمتلكون الآن زمام المبادأة في الجبهات الرئيسية الثلاث؛ في الشرق، وحول زليطن شرق العاصمة طرابلس، وفي منطقة جبل نفوسة في الغرب الليبي، إلا أن هذه المبادأة تبدو غير حاسمة بفعل بطء معدل العمليات الجوية، وقدرة قوات النظام على التكيف، وأخيرًا بتواضع مستويات القدرة القتالية للثوار، وإحجام المجتمع الدولي عن تزويدهم جديًا بأنظمة التسليح الضرورية لمواجهة تقدم الخصم في القدرات النيرانية.

قوات النظام.. فقدان المبادرة

  • فقدت زخم المناورة الحركية التي تفوقت بها في الأسابيع الأولى للعملية، بفعل القصف الجوي المتوالي لطائرات التحالف الذي أنتج حالة من الاستنزاف التراكمي في المعدات ودرجة رخاوة شديدة في نظام القيادة والسيطرة، الأمر الذي لجأت معه قوات النظام في الأسابيع الأخيرة إلى وضع الدفاع التعطيلي، وقصر اعتمادها على المناورة بالنيران عبر مسافات تكتيكية ضد المناطق الحضرية المأهولة التي يسيطر عليها الثوار.
  • وفرت التدرجية التي يمارسها الناتو فرصة زمنية استغلتها قوات النظام لامتصاص صدمة الضربات الجوية والصاروخية الكثيفة للتحالف في المرحلة الأولى من الحملة بقيادة الولايات المتحدة آنذاك، إضافة إلى تعديل أساليب عملها للتكيف مع حالة السيادة الجوية وتكتيكات طائرات التحالف من خلال تقليص حركية أرتال الآليات المدرعة الثقيلة إلى الحد الأدنى، واعتماد استخدام شاحنات خفيفة مجهزة بأسلحة ثقيلة توفر ثلاثية المبادرة والسرعة والقدرة على التخفي، فضلاً عن استخدام مجموعات مستقلة مدعومة بالهاونات ومنصات إطلاق الصواريخ متعددة الفوهات لتوفير تأثيرات عملياتية ومعنوية تتماثل مع القصف المدفعي الثقيل تجاه المراكز الحضرية المأهولة للقوات.
  • رغم إخراج قوات النظام إلى خارج المراكز الحضرية التي يسيطر عليها الثوار، والخسائر الضخمة التي تكبدتها في المعدات والكوادر النظامية المؤهلة لديها بفعل تأثيرات الحملة الجوية وعمليات الثوار، فإن هذه القوات لم تصل بعد إلى نقطة الانهيار كقوة مقاتلة، ولا يبدو أن لدى النظام نية في تجنب الوصول الحتمي إلى هذه النقطة بمرور الوقت نظرًا لطبيعة النظام الذاتية التي لا تقدر ما تتعرض له قواته من استنزاف وتدهور على المستويين المادي والمعنوي، إضافة إلى إدراكه أنه مطارد على المستوى الدولي بفعل استحقاقات المحكمة الجنائية الدولية.

قوات الثوار.. نقص التسليح والتدريب

  • انتقل إلى قوات الثوار زمام المبادأة، وإن كان دون قدرة حسم واضحة على الأرض؛ حيث تحاصر مدينة البريقة ذات المنشآت النفطية الحيوية في الشرق الليبي وتتقدم عبر هوامشها ببطء نظرًا لحقول الألغام الأرضية الكثيفة وعشوائية نشرها من قبل قوات النظام، بينما تتقدم هذه القوات إلى مشارف مدينة زليطن على مسافة 130 كم شرق طرابلس وتعاني هناك كذلك من ذات حقول الألغام المعادية، بينما تبدو جبهة جبل نفوسة الأكثر تألقًا في إنجاز الثوار الذين يسيطرون على مساحة ممتدة بطول 355 كم من الغرب إلى الشرق حيث لم يتبق أمامها سوى 25 كم فقط للتقدم نحو مدينة غريان الإستراتيجية المتحكمة في خطوط الإمداد القادمة من الجنوب والجنوب الغربي الليبي إلى طرابلس.
  • تعاني قوات الثوار من ثلاثة عوامل سلبية تحد من قدرتها القتالية على الحسم السريع للعمليات في مواجهة قوات خصم تتمتع بتنظيم ميداني أفضل نسبيًا -وإن كانت تعاني من استنزاف مادي ومعنوي هائل- وتتضمن هذه العوامل:

- نقص المستويات التدريبية والتنظيمية، وافتقاد الخبرة الميدانية الكافية، وعدم كفاءة نظام القيادة والسيطرة، وهي مثالب يمكن تفهمها باعتبار حداثة تحول حركة شعبية سلمية إلى العمل المسلح في مواجهة قوة نظامية محترفة تم استثمار الكثير من الأموال والوقت في تجهيزها.

- إحجام المجتمع الدولي حتى الآن عن توفير أنظمة التسلح الرئيسية لتأمين الحد الأدنى من مستويات الدفاع عن النفس لقوات الثوار (عدا بعض الحالات التي تتم بمبادرات خاصة على غرار الإسقاط الجوي الفرنسي لأسلحة للثوار في منطقة جبل نفوسة في منتصف يونيو/حزيران الماضي، إضافة إلى الجهد القطري المستمر في الدعم التسليحي واللوجيستي لهم).

- عدم كفاية وكفاءة الإسناد الجوي القريب الذي توفره طائرات التحالف للثوار على خطوط التماس مع قوات القذافي؛ حيث تعاني دورة طلب الثوار لهذا النوع من الإسناد من طول الفترة الزمنية، فضلاً عن عدم وجود مسيطرين جويين أماميين بأعداد كافية، إضافة إلى أن الموارد الجوية المخصصة لهذه المهمة أصلاً تعاني من نقص شديد بفعل تحفظ عديد من الدول الأوربية الحليفة على تقديمها (6 دول أوربية فقط توفر هذه القدرة من إجمالي 26 دولة أوربية عضوًا في الناتو).

قوات التحالف.. تقشف في الموارد
تتبع نهج التدرجية لتحقيق أهداف الحملة (وقف عنف النظام ضد المدنيين – إزاحة القذافي عن السلطة)؛ فتعتمد استخدام أقل جهد ممكن على مدى زمني مطول، وهو ما يلائم الموارد الجوية المحدودة المخصصة للحملة على حساب معاناة بشرية ومادية أكبر للمجتمع المدني الليبي الذي تستهدف الحملة حمايته، وقد يكون اتباع هذه الإستراتيجية التدرجية مفهومًا لاعتبارات عدة من أبرزها:

  • طبيعة الحملة العسكرية في ليبيا كتدخل عسكري إنساني غير مرتبط بتهديدات أمن قومي أو بمصالح قومية للدول المشاركة، وهي التهديدات التي تفرض تعبئة موارد أكثر وتقبل تكاليف مادية وبشرية أكبر.
  • نفور الولايات المتحدة لأول مرة في تاريخ العلاقات الأورو-أطلسية من تولي القيادة العسكرية لعمليات الناتو لعوامل عدة على رأسها الأزمة المالية الطاحنة، والمزاج القومي الأميركي الرافض لحروب أخرى ممتدة في منطقتي الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، إضافة إلى تنامي إدراك النخبة السياسية والعسكرية في واشنطن عدم جدية الحلفاء الأوربيين في المشاركة في تحمل أعباء مثل هذه التدخلات العسكرية.
  • الخفض المتتالي في مستويات الإنفاق الدفاعي للحلفاء الأوربيين بانعكاساته السلبية على هياكل القوة العسكرية والقدرات العسكرية المتوفرة لدى هؤلاء الحلفاء من الناحيتين الكمية والنوعية معًا (منذ عقد مضى كانت الولايات المتحدة مسؤولة عن 50% من إجمالي الإنفاق الدفاعي لدول الناتو، وقد تصاعدت هذه النسبة حاليًا لتصبح 75% من إجمالي هذا الإنفاق، في الوقت الذي يصل فيه إجمالي الناتج القومي لدول الناتو الأوربية إلى 127% من الناتج القومي الأميركي، بينما لا تحقق سوى 4 دول فقط من هذه الدول الـ 26 النسبة المقررة للإنفاق الدفاعي وهي 2% على الأقل من الناتج القومي)، الأمر الذي دفع اللورد جورج روبرتسون وزير الدفاع البريطاني الأسبق وأمين عام الناتو الأسبق إلى القول: إن "الناتو أصبح نمرا من ورق في بيئة دولية معقدة وخطيرة لأن بعض الدول تضع مصالحها الوطنية وخصوماتها الساذجة قبل العمل الأمني الجماعي"، كما أضاف في موضع آخر: "ليس لدينا قوات قادرة على الانتشار الخارجي بصورة كافية، ولا موارد بحرية تسمح بإدامة حملة قصف فعالة، ولا عدد الطائرات الملائم لقدرات قصف دقيق ... كل ما لدينا بضاعة خاطئة من زمن الحرب الباردة ومع ذلك نزعم أن أوربا مسلحة جيدًا فقط لأننا ننفق 300 مليار دولار سنويًا على الدفاع".

ليبيا.. نقطة انعطاف حادة في مستقبل الناتو
الاستعراض السابق لطبيعة المأزق القائم في حملة الناتو في ليبيا بفعل النهج الإستراتيجي التدرجي في إدارة العمليات، والصورة العملياتية الناجمة عن هذا النهج، فضلاً عن صعوبة تصور إنهاء العمليات العسكرية دون تحقيق الأهداف السياسية الموضوعة لها هي كما سبق القول تتمحور في رحيل القذافي ونظامه عن السلطة؛ لأن هذا الفشل يؤدي إلى انعكاسات سلبية على مستقبل الحلف وعلى ديناميكيات السياسة الداخلية في عواصم الحلف الكبرى، واشنطن ولندن وباريس، كل ذلك يجعل التحالف أمام خيارين: الأول وهو الاستمرار في نهج التدرجية القائم والقبول بكسب ناقص (يُبقي على نظام القذافي لفترة زمنية فيما بعد انتهاء العمليات على غرار ما حدث مع نظام ميلوسفيتش في صربيا بعد حملة كوسوفا 1999)، أو الكسب الصريح الذي يفرض تحولاً عن نهج التدرجية والتوجه نحو توسيع العمليات العسكرية وتكثيفها لإجبار النظام الليبي على الرحيل بالتوازي مع وقف هذه العمليات، وهو الأمر الذي جعل أطرافا عديدة في الغرب حاليا تدعو الولايات المتحدة لاستعادة دورها القيادي في الحملة، وإعادة تدفق مواردها القتالية الفريدة إلى مسرح العمليات مرة أخرى، إضافة إلى توسيع قائمة أهداف القصف لتشمل شخصيات من الدائرة القريبة من رأس النظام بما فيهم الرأس ذاته، فضلاً عن طرح خيار العمليات البرية والتهيؤ لنشر قوات أرضية –حتى ولو كانت النية تتجه إلى عدم استخدامها– لإجبار النظام الليبي على إعادة التفكير الجدي في مصيره تحت ضغط توقع هزيمة تقليدية كاملة.

الناتو منخرط حاليًا في حرب تدرجية قد تحقق النجاح على المدى البعيد ولكن تكلفة الوقت وحصاد خسائر الأرواح البشرية للسكان المدنيين الأبرياء يتجاهل روح الحرب العادلة التي آن الأوان أن يوفرها التدخل العسكري الإنساني للمجتمع الدولي بإعادة صياغة إستراتيجية جديدة تعتمد توفير الموارد العسكرية الكافية وتقليص الفترة الزمنية الباقية حتى تتحقق المهمة النهائية لهذا التدخل.