رغم أن دخول الثوار العاصمة "طرابلس" والسيطرة عليها في 23 أغسطس/آب الماضي شكل نقطة تحول فاصلة في الحرب الليبية، ورغم أن إسقاط نظام القذافي اعتبر انتصاراً كبيراً لحملة حلف الأطلسي في شمال إفريقيا باعتبار نجاحه في وقف عمليات القتل العشوائي للمدنيين من قِبل النظام وإنجاح واحدة من سلسلة ثورات ما يعرف بـ " الربيع العربي " حيث شكلت عمليات الناتو نموذجاً جديداً لتدخل عسكري إنساني منخفض التكاليف بمقاييس المعايير التاريخية، وقصير المدة بحكم الموارد المخصصة له.
إلا أن التصريحات الصادرة عن مسئولي الناتو تشير إلى أنه " من المبكر إعلان انتصار نهائي حتى نتأكد من أن بقايا النظام أدركت أن اللعبة انتهت وأنهم خسروا المعركة بالفعل" على حد قول وزير الدفاع البريطاني ليام فوكس، وقول وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه:" النصر النهائي وشيك بعد تحييد القذافي وإزالة التهديد عن المدنيين"، فضلاً عما ذكره السكرتير العام للحلف أنديرس فوج راسموسن بأن:" الناتو سيواصل عملياته لتطبيق قراري الأمم المتحدة طالما كان ذلك مطلوباً لحماية المدنيين".
وتبدو العمليات المستمرة للثوار على الأرض في مثلث "سرت – الجفرة – بني وليد"، والتأهب للتقدم فيما بعد جنوباً نحو سبها، مدعومة بعمليات جوية للناتو تسير بذات معدلات طلعات ما قبل تحرير العاصمة، مؤشراً على أن النظام السابق مازال يحوز بعضاً من القدرات العسكرية وكثيراً من التصورات السياسية لدور ما يأمله في مستقبل ليبيا الجديدة، وبأن الثوار مدعومين بإمكانيات الناتو مدركين بأن شروط انتصار نهائي لم تتحقق بعد. هذا الأمر يطرح تساؤلات حول ماهية إستراتيجية النظام السابق في ليبيا على المستويين الداخلي والخارجي معاً في إطار سعيه لدور ما في ليبيا الجديدة كحد أدنى، أو في استعادة سلطته التي فقدها هناك كحد أعلى.
إستراتيجية النظام السابق في المستوى الداخلي
يعتمد النظام على استغلال خطوط الصدع القائمة في تركيبة الدولة والمجتمع والتي عمد إلى تغذيتها إبان حكمه على مدى 42 عاماً لبناء مصادر قوة توفر إمكانية الاعتراف به كرقم صعب في معادلة الحكم الجديدة في ليبيا، بقدر ما تكون كذلك عوامل خصم من قوة خصومه الذي أطاحوا به، وتشمل خطوط الصدع أربعة أبعاد:
1- البعد الإثني : تشمل التركيبة السكانية في ليبيا على أربعة إثنيات تلعب أدواراً هامة في الأزمة الجارية، هي الإثنية العربية الغالبة (70 - 75%) والأمازيغية (8%) وتقطن الشمال الغربي الليبي في جبل نفوسة وزوارة وغدامس، ولها امتداداتها في تونس والجزائر والتي ظلت على عدائها للنظام الذي عمد إلى تذويب قسري لهويتها ودمجها بالقوة في المجتمع، والطوارق وهم شعب من البدو الرحل الذين يعيشون في الصحراء الكبرى ما بين الجنوب الغربي الليبي وكل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو فضلاً عن صحراء الجزائر، ويتركزون في جات ومرزق بجنوب إقليم فزان، وقد مثّل جزءٌ منهم دعماً دائماً لنظام القذافي سواء في زعزعة استقرار الدول المجاورة، أو في مواجهة معارضي الداخل، ثم تأتي إثنية التبو (1.5%) وهي مجموعة قبائل تقطن في أقصى الجنوب الليبي وشمال تشاد والسودان والنيجر وقد قام النظام باستغلالهم في مغامرات عسكرية في كل من تشاد وأوغندا، كما جلب أعدادا كبيرة منهم من دول الجوار ووطّنهم في إقليم فزان.
ويبدو من هذا البعد الإثني اعتماد النظام على جزء من الطوارق والتبو في دعم نظام حكمه واختراق الجوار الإفريقي من خلال تركيزهم في إقليم فزان وجلب المزيد منهم من دول الجوار، وانضمامهم للقبائل العربية الموالية له في الإقليم ( في ظروف الأزمات كالعمليات الأخيرة تتولى أطراف من تلك الإثنيات جلب أقرانها من دول الجوار كمرتزقة نظير مبالغ مالية ووعد بالتجنيس).
2- البعد القبائلي : أمعن النظام السابق في ترسيخ الهيكل القبلي على حساب مؤسسات الدولة لتعزيز نفوذه السلطوي، فبينما يتواجد في ليبيا أكثر من 140 قبيلة وعشيرة، فإن بضع عشرات منهم تتمتع بوزن سياسي نافذ، وقد اعتمد النظام السابق في الأساس على قبيلته القذاذفة إضافة إلى قبائل ورفله وترهونة والمقراحي وورشفانا والتي يعتمد حالياً على جزء كبير منها في محاولة الإمساك بمثلث " سرت – الجفرة – بني وليد " أو المناطق الجنوبية لإقليم فزان خاصة في سبها وأوباري وجات.
إلا أن البعد القبلي لا يشكل سنداً قوياً في محاولة النظام السابق استعادة بعض من مصادر قوته لعوامل عدة ساهمت في رخاوة مستوى الصلابة القبلية في ليبيا، يبرز منها نمو الحالة الحضرية المستمرة منذ عدة عقود في المجتمع الليبي والتي خففت من الهوية القبلية لصالح الانتماءات الوطنية الجامعة والمناطقية المتسعة والأيديولوجيات العامة خاصة في مناطق الظهير الساحلي حيث الكتلة الحيوية للدولة الليبية، وهو ما بدا واضحاً في تركيبة أعضاء المجلس الوطني الانتقالي الذي شمل عديداً من أبناء القبائل الموالية للنظام السابق، فضلاً عن أن موارد الثروة النفطية الليبية تقع في مناطق خلفية مفتوحة خارج النطاقات القبلية المتعارف عليها وهو ما يساعد على تعزيز مفهوم المركزية في هيكلية الدولة.
3-البعد المناطقي: هناك قدر من الحساسية المناطقية فيما بين إقليمي طرابلس وبرقة يعود لتطور النشأة التاريخية لكليهما، وحتى في حقبة الاستقلال الوطني أثناء فترة الحكم الملكي (1951 1969-) فقد كان لليبيا عاصمتان، طرابلس العاصمة الرسمية للدولة، وبنغازي العاصمة الفعلية وقاعدة سلطة الملك إدريس؛ وعقب الانقلاب العسكري في عام 1969 أخذت طرابلس بقوة مكانها كمركز السلطة في عموم ليبيا في الوقت الذي عمد فيه النظام إلى وضع إقليم برقة في آخر سلم أولويات برامج التطوير والتنمية وتشديد القبضة الأمنية عليها، وهو ما جعل الإقليم مصدر عدة انتفاضات غير ناجحة فضلاً عن كونه مهد "الجماعة الليبية المقاتلة" التي تمركزت في برقة الشرقية في مدن عديدة منها درنة وبنغازي. ورغم أن جبهة العمليات الشرقية التي شهدت كثيراً من الأحداث العسكرية تجمدت لمدة طويلة فيما بين أجدابيا شرقاً ورأس لانوف غرباً، وهي المنطقة المقسمة تقريبا ما بين إقليمي برقة وطرابلس، إلا أن جبهات القتال التي شهدت عمليات حاسمة شملت مناطق الجبل الغربي ومصراتة على التوازي، إضافة إلى عملية اقتحام العاصمة ذاتها التي ساهمت فيها وحدات قتال كل هذه المناطق، فضلاً عن الدعم المادي والمعنوي الذي وفره المجلس الانتقالي وشمل كل المناطق الثائرة من مقره في بنغازي، كل ذلك رسّخ حقيقة أن الثورة قدمت البعد الوطني الجامع على حساب ما كان يأمله النظام في الإبقاء على التوترات المناطقية التاريخية التي طالما ذكاها دعماً لسلطته (تبقى مسألة إقليم فزان الذي عمد النظام إلى تغيير تركيبته الديموغرافية لصالح تثبيت دعائم سلطته ودعم عملياته الخارجية في الجوار الأفريقي وهو ما سيطرح لاحقاً) وإن كان هذا لا ينفي حقيقة أن وزن الأدوار التي لعبتها هذه المناطق في إنجاح الثورة سيكون مطروحاً بقوة عند رسم خطوط هياكل السلطة الجديدة في ليبيا.
4-البعد الإسلامي: يرّوج النظام السابق وحتى قبل سقوطه بل ومنذ بدأ الأزمة الأخيرة التي أطاحت به إلى ارتباط الثوار بالقاعدة وأن المجلس الانتقالي يشمل أعضاء في الحركة الجهادية الليبية أو ما يعرف بـ "الجماعة الليبية المقاتلة" إلا أن الإسلاميين الليبيين قاتلوا إلى جوار نظرائهم العلمانيين، بل وقاتلوا في معركة تحرير العاصمة طرابلس بتنسيق كامل مع قوات الناتو وفي تعاون وثيق تحت قيادة عبد الحكيم بلحاج أو ما كان يعرف بـ " أبو عبد الله الصادق " قائد لواء طرابلس، وهو مؤسس "الجماعة الليبية المقاتلة " منذ أوائل التسعينات في القرن الماضي إبان تواجده في صفوف المجاهدين العرب في أفغانستان والذي اعتقلته المخابرات الأمريكية في عام 2004 وسلّمته آنذاك إلى النظام السابق حتى أفرج عنه في عام 2010.
ويبدو أن ادعاءات النظام السابق عن هذه الحركات الجهادية الليبية، وحتى ما تروّج له بعض أجهزة الإعلام الغربية حول علاقة الإسلاميين الليبيين بباقي الحركات الجهادية العالمية وفي مقدمتها تنظيم القاعدة لا تلقى رواجاً كثيراً لدى الدوائر السياسية العليا في دول التحالف الكبرى، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، ويعود ذلك إلى اطلاع أجهزة استخبارات هذه الدول على هياكل هذه الجماعة، فضلاً عن إدراكها لاختلافاتها الجوهرية عن تيار العولمة الجهادية الذي تقوده القاعدة، حيث تتصف الجماعة الليبية بالتوجه القطري الداخلي في معاداة النظام، والانتساب والعضوية المحليتين، علاوة على تجنبها في عملياتها السابقة استهداف المدنيين أو الأجانب في داخل ليبيا وخارجها.
هكذا يمكن القول أن رهانات النظام السابق على استغلال خطوط الصدع الرئيسية السابقة تبدو في حدود حظوظها الدنيا، ومن ثم فإن ما تبقى للنظام من رهانات سيتركز على الإطار الخارجي في إستراتيجيته.
إستراتيجية النظام السابق – الإطار الخارجي
في حالة الفشل المتوقع خلال الأيام القادمة في الاحتفاظ بمثلث الولاء في الحزام الساحلي الشمالي " سرت – الجفرة – بني وليد "، ستتركز أنشطة النظام على منطقة الحزام الجنوبي خاصة على الخط الممتد من " جنوب الكفرة – سرير تيبستي – جات " وجنوبه وامتداداته في دول الجوار، وفي هذا المجال فإن بعدين رئيسيين يلزم تناولهما وهما: قاعدة العمليات في إقليم فزان وطبيعة العمليات المتوقعة.
قاعدة العمليات ( فزان)
في سعيه للحفاظ على سلطته المتمددة والتوسع في النفوذ نحو الخارج، اعتمد النظام السابق " إقليم فزان " قاعدة لاحتياطي رصيد القوة لديه من خلال إدراك عميق لأهميته الإستراتيجية وعبر سلسلة من الإجراءات الهادفة في النهاية لتوظيف هذه الأهمية لصالح متطلبات بقاءه وتمدد النفوذ.
* الأهمية الجيواستراتيجية:
• نافذة مفتوحة على دول الجوار جنوباً وغرباً وهي دول الجزائر والنيجر وتشاد وامتداداتها في مالي وبوركينا فاسو.
• الامتدادات العرقية والقبلية الليبية من خلال الطوارق ( الجزائر – مالي – النيجر – تشاد – بوركينا فاسو ) والتبو ( تشاد – النيجر)، ومن الملاحظ أنه اعتمد خلال الحرب الأخيرة على استدعاء مرتزقة من تلك الإثنيتين( الطوارق من مالي والنيجر– التبو من مالي والنيجر وتشاد ).
• الثروة النفطية الضخمة في جنوب الإقليم ( حوض مرزق بمتوسط إنتاج يومي 400.000 برميل يومياً) وهو ما يؤهله لإمكانية استمراره ككيان سياسي مستقل بمقومات اقتصادية ذاتية.
• الاستناد داخل دول الجوار على ظواهر طبيعية ملائمة لشن حروب عصابات أو كمناطق لوجيتسية (جبال تبليسي عبر الحدود مع تشاد – جبال تاسيلي عبر الحدود مع الجزائر).
* إجراءات التهيئة : عمد النظام السابق إلى تغيير جذري للتركيبة الديموغرافية في الإقليم من خلال :
• جلب جزء من قبائل الطوارق من مالي والنيجر للاستيطان والحصول على الجنسية وتمركز معظمهم في منطقة الجات والحدود مع النيجر( هذه القبائل تشكل رأس حربة لأي تدفقات طارئة من ذات الإثنية يتطلبها الأمر وهو ما حدث بالفعل في الحرب الأخيرة).
• جلب جزء من قبائل من التبو من تشاد والنيجر للاستيطان والحصول على الجنسية وتمركز معظمهم في جنوب الإقليم في مدن القطرون وتجرهي.
• جلب جزء من قبائل البيضان من موريتانيا ومالي والنيجر للاستيطان والحصول على الجنسية وتمركز معظمهم في مناطق سبها وأوباري وغات.
ومن ثمّ فإلى جانب جزء من القبائل العربية القائمة في الإقليم والتي تدين للنظام بالولاء، كان تغيير التركيبة الديموغرافية بهذه الصورة قد ضمن جسراً لتدفق الإمدادات والنفوذ معاً في اتجاه جنوب الصحراء الكبرى.
طبيعة العمليات المتوقعة
بناء على الخبرة السابقة من ردود أفعال النظام السابق على مدى العقود الثلاث الأخيرة من القرن المنصرم، والتي اعتمد فيها على العمليات الإرهابية عبر توظيف جماعات متطرفة كوكلاء على غرار حركات التمرد الإفريقية (إسقاط الطائرة الفرنسية UTA في سبتمبر/أيلول عام 1989 نتيجة وضع قنبلة في مطار برازفيل عاصمة جمهورية الكونغو) واستخدام البعثات الدبلوماسية في الخارج ( إسقاط الطائرة الأمريكية PAN AM في ديسمبر/كانون الأول عام 1988 فوق لوكيربي باسكتلندا نتيجة وضع قنبلة في مطار فاليتا بمالطا برعاية دبلوماسيين ليبيين) أو عبر أشخاص موالين من خلايا نائمة سواء في داخل ليبيا أو في دول التحالف الدولي التي قامت بالإطاحة به، فإن سلسلة العمليات الانتقامية التي يتصف تنفيذها وتأثيرها بردود أفعال دولية وإعلامية واسعة في الداخل والخارج الليبي قد تصبح هي مجال العمل المتاح لنظام سابق اتصفت أفعال بخليط من الشعور بالعجز والرغبة في الانتقام، وهو الأمر الذي يدفع مسئولي الناتو إلى التشديد على أن نصراً نهائياً لن يكون متاحاً قبل " تحييد " رأس النظام نفسه.