تتداخل دوائر التوتر السياسي في الأردن تكوينا وتأثيرا:
- الدائرة الأولى: الانشطار الفلسطيني الأردني.
- الدائرة الثانية: الضغط الإقليمي المعارض للإصلاح (السعودية تحديدا) يقابله الإطار الدولي المؤيد للإصلاح (الولايات المتحدة) إلى جانب القوى الشعبية المؤيدة له مع تباين في دوافع الإصلاح من قِبَل الطرفين.
- الدائرة الثالثة: الأزمة الاقتصادية والاعتماد على المساعدات.
- الدائرة الرابعة: قوة الحركة الإسلامية قياسا لغيرها من القوى السياسية.
- الدائرة الخامسة: حراك الأطراف المهمشة في الدولة، لاسيما في مناطق التأييد التقليدية للنظام السياسي.
وكل دائرة من الدوائر الخمس السابقة تؤثر وتتأثر بالدوائر الأخرى، وكل منها تشكِّل بؤرة للتوتر الداخلي، لكنها تمثل قوى ضاغطة على النظام.
الدائرة الأولى: صلاحيات الملك والوطن البديل
ما يميز الوضع في الأردن أن هناك فصلا واضحا بين الحكومة والملك في توجهات القوى السياسية، فشعار تغيير النظام غائب تماما عن الشارع، وهناك نوع من الاتفاق غير المعلن بأن الملك خارج دائرة النقاش(سواء من قبل المعارض البارز ليث شبيلات أو بقية أطياف المعارضة الأردنية)، بينما الشعار المتفق عليه هو تغيير الحكومة، أما الشعار غير المتفق عليه فهو صلاحيات الملك، فالقوى السياسية الأقرب للقصر لاسيما النخب السياسية والاجتماعية التي شكَّلتها إفرازات بيروقراطية الدولة، ترى عدم المساس تقريبا بصلاحيات الملك، بينما هناك قوى ترى ألا تكون صلاحيات الملك خارج دائرة النقاش مثل الجبهة الوطنية للإصلاح التي أعلن عن تشكيلها رئيس الوزراء السابق والمدير السابق للمخابرات أحمد عبيدات، وتضم في داخلها قوى دينية وقومية ويسارية، وتدعو إلى نظام سياسي ملكي دستوري، وهو ما يعني الحد من صلاحيات الملك.
علاوة على ذلك، من الواضح أن الأردنيين من أصل فلسطيني أقل بروزا في قيادات المعارضة، وهذا يُسقط حجة الوطن البديل التي كانت من ضمن أدوات امتصاص الأزمات في المجتمع والدولة من خلال إثارة أن الفلسطينيين يسعون للاستيلاء على السلطة، لاسيما أن المعارضة للنظام ارتبطت بكيفية أو أخرى بالمكوِّن الفلسطيني، وكثيرا ما نظرت نخب شرق أردنية إلى دعوات الإصلاح إذا أتت منهم بأنها أمر طبيعي، بينما تنظر بعين الريبة إلى دعوات الإصلاح إذا جاءت من الطرف الفلسطيني، ويعود ذلك لعلاقة يحيطها قدر كبير من الشكوك بين النظام والقطاع الفلسطيني. ويمكن أن نقيس الثقة بين الجانبين من خلال عاملين، سياسي وثقافي:
-
العلاقة بين النظام السياسي والمجتمع الفلسطيني هي علاقة ذات طبيعة ملتبسة إلى حد بعيد، وليس صحيحا أنها نتيجة لأحداث سبتمبر/أيلول 1970، بل هي سابقة عليها، إلا أن سبتمبر/أيلول 1970 نقلت هذه العلاقة لمستوى أعلى من السلبية.
إن العودة لفترات 1949-1970، تشير إلى أن الطرف الفلسطيني، لاسيما قطاع هام من نخبه السياسية بشكل عام، كان ينظر بعين الريبة لسلوك النظام( ولسنا هنا معنيين بمدى صحة هذه النظرة بل بوجودها في حد ذاته)، فالمظاهرات المعادية في الضفة الغربية خلال الستينات والخمسينات، وانحياز النخب الفلسطينية للنزعة اليسارية والناصرية، والتوتر بين منظمة التحرير في فترة أحمد الشقيري والنظام في الأردن، وآثار مقتل الملك عبد الله من قبل فلسطيني...الخ، لا تدّل على علاقة إيجابية.
وبعد أحداث سبتمبر/أيلول تعمقت هذه الفجوة، ثم جاء فك الارتباط مع الضفة الغربية ليعيد النظر في قانونية العلاقة بين الطرفين، كما ساهم الطرف الإسرائيلي في تعميق الفجوة من خلال الطرح الصريح والضمني لمشروع الوطن البديل، والذي أيقظ إحساسا بالتهديد من قبل الطرف الأردني.
لكن الانشطار شبه الواضح في بعض القطاعات الرسمية داخل المجتمع عزز الشعور بالإبعاد لدى الطرف الفلسطيني، ويبدو هذا الأمر أكثر وضوحا في مؤسسات القوة للنظام السياسي (الجيش، الأجهزة الأمنية، الدفاع المدني، وزارة الإعلام، الديوان الملكي، وزارة الداخلية، رؤساء الجامعات...الخ).
ويبدو أن النظام السياسي أقل ثقة – بعد سبتمبر/أيلول 1970- للسماح للفلسطينيين بأن يتغلغلوا في مؤسسات القوة، نظرا للمكانة الإستراتيجية لهذه المؤسسات في أمن النظام.
كما أن الطرف الفلسطيني عزّز هذا الشعور من خلال النسبة العالية من أفراده الذين انشقوا عن النظام عام 1970، كما أن بروز حركة حماس وصلاتها بالإخوان المسلمين زادت هذه الهواجس المتبادلة.
ونتيجة لذلك كله، وجدت النخب الأردنية التكنوقراطية تحديدا، فرصة لاستثمار هذه الفجوة بين الطرف الفلسطيني والنظام، فغالت في الولاء للنظام، وكرَّست من خلال تحكمها بمؤسسات القوة سياسة تضييق فرص سد الفجوة بين النظام والطرف الفلسطيني، فراحت هذه النخب تعيد صياغة القوانين الانتخابية، وتقسيم الدوائر، وبقية المنظومة القانونية لتعزز هذه الفجوة.
غير أن ما تنبغي الإشارة إليه أن نخبا سياسية أردنية بدأت تتبلور وتجد بعض المسافة بينها وبين النظام ببنيته التقليدية، وقد تكون قادرة على التطور بمقدار وجود دعم لها من الطرف الفلسطيني لاسيما أن فكرة الإصلاح أصبحت فكرة ضاغطة، ويبدو النظام مضطرا للتعامل معها.
-
لقد تمحورت الثقافة السياسية الفلسطينية حول فكرة "العودة، وتحرير فلسطين"، بينما تمحورت الثقافة السياسية الأردنية حول فكرة" الثورة العربية الكبرى والإرث الهاشمي"، ورغم الوحدة التي جرت بين الضفتين إلا أن كلا من الثقافتين ظل يتغذى بشكل منفصل عن الآخر بل كثيرا ما تغذى بشكل معاكس، وإن تلاقت الجذور في باطن هذه الثقافة السياسية أحيانا، إلا أنها لم تتلاقَ في سيقانها ولا ثمارها، بل ولا مزارعيها القائمين على رعايتها.
وقد تآكلت الثقافتين معا، فقد تآكلت ثقافة التحرير والعودة لدى الفلسطينيين لأسباب عديدة أبرزها الخلل في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية، كما تآكلت ثقافة الثورة العربية الكبرى نظرا لتآكل الدولة العربية الموحدة بخسارة المشروع الهاشمي أولا لفلسطين بعد وعد بلفور(1917)، ثم خسارة سوريا ولبنان(1920) ثم خسارة الحجاز(1925)، ثم خسارة العراق(1958) فخسارة الضفة الغربية 1967، وانحسر المشروع في الضفة الشرقية لنهر الأردن بعد الإعلان عن فك الارتباط عام 1988.
ويبدو أن تآكل الثقافتين دفع إلى البحث عن تشكيل ثقافة فرعية تقوم على "الأردن أولا" من ناحية وعلى "استقلالية القرار الفلسطيني" من ناحية ثانية، ولكل من المشروعين مضمون سياسي انفصالي، يعكس حالة الشعور بالهزيمة أكثر من الشعور ببديل عقلاني، وبدأ كل من الطرفين يسعى على عجل لتحويل مشروعه الجديد إلى واقع فعلي، لكنهما اكتشفا أن الأمر أعقد كثيرا مما بدا للوهلة الأولى.
الدائرة الثانية: رهانات الإصلاح غربيا وخليجيا
ترتبط الدائرة السابقة بدائرة تشتمل على البعد الإقليمي والدولي، فالولايات المتحدة وإسرائيل تشجع فكرة الإصلاح بغرض فتح المجال أمام امتصاص المكوِّن الفلسطيني في الجسد السياسي الأردني، وبالتالي التحقيق الفعلي للوطن البديل، وهو ما يربك القوى السياسية المعارضة، فالإصلاح قد يفتح المجال أمام التذويب الفلسطيني فعلا، ولكن عدم القبول بالإصلاح يؤدي إلى حرمان قطاع كبير من الشعب(المكوِّن الفلسطيني) من العديد من حقوقه السياسية، وهنا المأزق، فالإصلاح يسهِّل تحقيق الوطن البديل، وعدم الإصلاح يبقي التوتر لدى قطاع من الشعب قائما.
بالمقابل فإن بعض مؤسسات القوة (المؤسسات العسكرية والأمنية) تبدو أقل ميلا للقبول بالإصلاح، لاسيما من زاوية تقليص صلاحياتها على غرار ما جرى في مصر وتونس، وهو ما يجعل النظام السياسي موضع تنازع مطالب متضادة، ويبدو أنه لم يتمكن من بلورة حل متكامل للتعامل مع الموقف.
على أن دول مجلس التعاون الخليجي لاسيما السعودية أقل تشجيعا للإصلاح خوفا من أن يمتد شعاعه إلى النظام السعودي فسارعت إلى دعوة الأردن للانضمام لمجلس التعاون الخليجي، لكن من ناحية أخرى فإن هذا الانضمام إن اكتمل سيجعل من القضية الفلسطينية شأنا خليجيا داخليا ويجعل منها بندا على كل دورة من دورات المجلس وهو أمر لا تريد نخب خليجية الانغماس فيه.
الدائرة الثالثة: سيف المعونات
تتكاتف مع الأزمة السابقة أزمة أخرى مزمنة وهي الأزمة الاقتصادية، فالأردن يعتمد بنسبة 27% من ميزانيته على المساعدات الخارجية (أمريكية غالبا وخليجية أحيانا)، كما يعتمد على تحويلات العاملين في الخارج والتي تصل إلى حوالي 21%، أي أن الاقتصاد الأردني يعتمد على الخارج بنسبة النصف تقريبا، وهو ما يجعل النظام قابلا للضغط، وقد برز ذلك في أزمة احتلال العراق للكويت، عندما تم طرد أكثر من 300 ألف أردني من أسواق العمل الخليجي، وجففت الولايات المتحدة مساعداتها لفترة معينة، فنتجت عنه أزمة اقتصادية حادة.
من ناحية أخرى، فإن تقرير التنمية البشرية الأردني يشير إلى التباين الواضح في مستويات التنمية بين المحافظات، حيث تبتلع العاصمة الجزء الأكبر من اقتصاد الدولة، علاوة على أن التباين التنموي بين محافظات الشمال والوسط هو أكثر حدة من نظيره بين محافظات الجنوب، فالفجوة التنموية بين المحافظات الأولى قد تصل إلى أكثر من 70 % التي تمثل الفجوة التنموية بين محافظة العاصمة ومحافظتي المفرق وعجلون (لأن هاتين المحافظتين تكثر فيهما جيوب الفقر) في حين قد لا تصل في الجنوب إلى أكثر من 20% وهي عبارة عن الفجوة بين محافظتي معان والطفيلة، رغم أنهما الأكثر فقرا.
الدائرة الرابعة: قوة الإسلاميين
يبدو النظام قلقا من أن السير في الإصلاحات قد يحمل في طياته فوزا للحركة الإسلامية بكل ما يفترضه النظام من تبعات سياسية داخلية وإقليمية ودولية لاسيما في القضية الفلسطينية، خاصة وأن حركة حماس ستجد في ذلك متنفسا لها، ويترافق ذلك مع تخفيف الضغوط عليها نسبيا من الجبهة المصرية، وفي هذه الحالة ستجد الأردن نفسها مرة أخرى في موقع التعرض لضغوط داخلية لمواجهة آثار ذلك لاسيما من مؤسسات القوة.
الدائرة الخامسة: الخيمة والمخيم
أما الدائرة الخامسة، فهي دائرة لا يمكن فك طلاسمها بعيدا عن علم الاجتماع السياسي، فلعل المتابعة التاريخية للحراك الاجتماعي في الأردن، تشير إلى الاختفاء التدريجي والمتسارع للمجتمع البدوي وثقافته، (ومع ذلك ما زال له تمثيل منفصل -كوتا للنواب في البرلمان- كنسق اجتماعي فرعي في السلطة التشريعية)، بالمقابل فإن المخيم الفلسطيني بقي محافظا على قدر كاف من الهوية الاجتماعية السياسية.
وقد أدى هذا الاختلاط إلى تشابك مكونات الثقافتين الفرعيتين، وهو ما يشكِّل مرحلة انتقالية لبلورة ثقافة هجينة، بكل ما تحمله المراحل الانتقالية في التحولات الاجتماعية من اضطراب.
ويبدو أن الهوية الأردنية (بسماتها الاجتماعية) تعرف حركية أكبر، فوقعت تحت غواية التحول إلى المنظومة الثقافية المركز، فاحتكت بالهوية الاجتماعية الفلسطينية، وهو أحد مؤشرات الأزمة.
إستراتيجية التعامل مع الأزمة
التحديات
-
مقاومة النخب المستفيدة من الوضع القائم لأي تغيير.
-
قوة الانشطار في الطبقات الوسطى بشكل خاص بين المكونين الفلسطيني والأردني.
-
تردد مؤسسات القوة في مساندة الإصلاح السياسي.
-
مقاومة بعض القوى الإقليمية للإصلاح.
الفرص
-
ظهور قوى سياسية – ما تزال ناشئة- ولكنها قابلة للتطور تجمع بين المكونين(الجبهة الوطنية للإصلاح)على سبيل المثال.
-
وجود ثقافة دينية قابلة للاستثمار السياسي باتجاه تغليب عناصر التقارب على عناصر التباين استنادا للمنظور الديني.
-
الحراك السياسي العربي وموجة الإصلاح السياسي.
-
التحولات في بنية النخب السياسية باتجاه نخب ذات سمة تكنوقراطية ذات نزوع براغماتي (أميل للمساومة وأكثر عقلانية).
ومن الملاحظ أن مؤشرات الفرص تحتاج للتطوير حتى يتمكن المجتمع والدولة من تجاوز الأزمة بالتركيز على:
-
تأكيد ثقافة أن الخطر الصهيوني هو خطر على الطرفين(الوطن البديل يهدد الكيان الأردني، ويحرم الفلسطيني من حقوقه التاريخية).
-
التأكيد على أن القوى الدولية لا يرتكن لها في ضماناتها للنظم السياسية أو الكيانات السياسية، وقد دلَّت دراسة سياسية أن ما نُفِّذ من تعهدات دولية للدول الصغرى خلال الفترة من 1815-1990 حوالي 15% فقط.
-
التأكيد على أن الصدام أو الانشقاق أو تهديد الوحدة الوطنية لن يوصل الطرفين لأية مكاسب.
-
لا بد للطرف الفلسطيني أن يقدم رؤيا سياسية واضحة تحل إشكالية المواطنة من ناحية والحق التاريخي في فلسطين من ناحية ثانية، ويبدو أن الطرف الفلسطيني يحاول تقديم محاججات قانونية(ولكنها ليست هي الحاكمة رغم وجاهتها) بل لا بد من تقديم تصور سياسي.
غير أن الانتقال إلى هذا المستوى من المواطنة الأردنية مرتبط بتطور النظم السياسية، فالنظام السياسي التقليدي على غرار ما هو قائم في الأردن ما زال أسير مفهوم المواطنة القائم على "الوطنية" (Nationality) دون التطور لمفهوم المواطنة(citizenship)، وهذه عملية معقدة دونها صعوبات كثيرة.
الخلاصة
من غير المتوقع أن تتطور الأزمة نحو تغيير النظام السياسي نظرا لمقاومة الداخل والإقليم والقوى الدولية لهذا التوجه، لكنها ستتواصل نحو تغيير الحكومة وإدخال مزيد من التعديلات الدستورية، وقد تتزايد هذه التوجهات الإصلاحية مع إجراء انتخابات برلمانية نزيهة ومراقبة دوليا وعربيا ومحليا في العام القادم طبقا لما أعلنه الملك، غير أن عدم إقرار النظام الانتخابي الذي سيعتمد في الانتخابات القادمة يشير إلى استمرار النزاع بين مؤسسات القوة وبين الضغوط الشعبية، وقد يتم الاتفاق على النظام الذي طبِّق عام 1989(القائمة)، غير أن احتمال إدخال تعديلات عليه قد يعيد الأزمة إلى بدايتها، ولكن بحدة أكبر وباحتمالية أكبر للتصعيد لتلحق بمطالب الإقليم العربي.