واقعة "ماسبيرو" بمصر تبين مجددا الخلل في طريقة تسيير المجلس العسكري للمرحلة الانتقالية، فلو أشرك القوى الاجتماعية في إدارتها لما توالت مطالبها، ولما اضطر إلى ترضية المحتجين تحت الضغوط، فيخلق بيئة لا تقيم وزنا كبيرا لأهم قيمة ديمقراطية وهي احترام القانون.
فقد أديرت المرحلة الانتقالية منذ البداية بالطريقة التي انتهجها النظام السابق وبعقليته، ولكن من دون أهم أدواته على الإطلاق وهي الأداة الأمنية الطاغية التي استطاعت فرض قبضتها الحديدية على المجتمع الذي تراكمت مشاكله تحت سطح بدا مستقراً، ومن بينها المشكلة المتصلة بالعلاقة بين المسلمين والمسيحيين، أو ما اصطلح على تسميته في مصر المشكلة - أو الفتنة – الطائفية.
أدار المجلس الأعلى للقوات المسلحة (المجلس العسكري) المرحلة الانتقالية منذ 12 فبراير/شباط الماضي، ولا يزال، بقرارات ومراسيم فوقية وبطريقة بيروقراطية رتيبة وفق خريطة طريق مضطربة، وفي ظل ضباب كثيف يخيَّم على المسار الانتقالي.
لم يطرح رؤية واضحة، ولم يُشرك شعباً يعيش في زخم ثورة في إدارة شؤونه المحلية، ناهيك عن أن يجعله شريكاً في مرحلة انتقال شديدة الصعوبة.
لم يشأ المجلس العسكري أن يضع قواعد جديدة لإدارة شؤون البلاد عبر شراكة حقيقية مع المجتمع كان ممكناً تحقيقها عبر تنظيم سلسلة من الانتخابات القاعدية (أي التي تجرى في قاعدة المجتمع مثل انتخابات المحليات والنقابات واللجان العمالية والاتحادات الفلاحية وغيرها)، ومن خلال منظومة حوارات وطنية تتسم بالجدية.
وكان هذا كله ضرورياً لتأمين المسار الانتقالي وعبوره بأقل مقدار ممكن من الخسائر وبطريقة تعزَّر ثقة المصريين في المستقبل، ولبناء علاقة إيجابية بين المجلس العسكري والمجتمع. ولمّا لم يفعل المجلس شيئا من هذا كله، واختار أن يتصرف باعتباره سلطة فوق المجتمع وليس شريكاً له، فقد تعامل كثير من الفئات والشرائح الاجتماعية معه على هذا الأساس فانهالت مطالبهم بلا هوادة.
غير أن الخطأ الأكبر الذي وقع فيه المجلس العسكري هو أنه لم يستجب لهذه المطالب في الأغلب الأعم إلا تحت ضغط التظاهر والاعتصام والإضراب بمستوياتها المختلفة من التجمعات الصغيرة والمتوسطة إلى "المليونيات". وأصبحت العلاقة بين المجلس العسكري والمجتمع قائمة على "قاعدة" أن من يضغط أكثر يحصل على مطالبه بشكل أسرع.
ولأن شيئا لم يتغير في طريقة إدارة البلاد، مقارنة بما سبق، فقد واصل المجلس العسكري التعامل مع المسيحيين باعتبارهم جماعة تتبع الكنيسة كما لو أنها وطنهم. فهو لم يدرك أهمية استثمار أجواء ثورة 25 يناير التي جمعت مسلمين ومسيحيين في "ميدان التحرير" وغيره من الميادين التي حفلت بمشاهد يعبر كل منها عن معنى المواطنة بأكثر من كل الخطابات.
ولذلك، فما إن انتهت أيام الثورة الثمانية عشر وأخفق المجلس العسكري في التقاط مغزى اختلاط دماء المسلمين والمسيحيين فيها وتجاور صلواتهم خلالها، واختار مواصلة التعاطي مع الأقباط بوصفهم جماعة تتبع الكنيسة وليس باعتبارهم مواطنين في دولة يدير شؤونها، حتى استأنف الناشطون في أوساطهم تحركاتهم للمطالبة بحقوقهم الدينية بجرأة غير مسبوقة بسبب انكسار الأداة الأمنية الطاغية التي أخافتهم طويلا كغيرهم من فئات المجتمع. فلم يعد الخوف حاجزاً أمام الاحتجاجات بأشكالها المختلفة، بما في ذلك احتجاجات الناشطين المسيحيين التي بدأت رداً على الاعتداء على كنيسة أطفيح في محافظة الجيزة في مارس/آذار الماضي، وتواصلت متخذة من منطقة "ماسبيرو" حيث يوجد مقر التليفزيون الرسمي المصري مركزاً لها. وأخرجت هذه الاحتجاجات غضباً مخزونا لعقود طويلة انغلق فيها كثير من المسيحيين على أنفسهم عندما تعاملت معهم الدولة باعتبارهم جماعة تتبع الكنيسة، وازداد شعورهم في المقابل بأن حقوقهم الدينية منقوصة، وخصوصا على صعيد بناء الكنائس وترميمها.
ولذلك كانت لحظة الفراغ الأمني والسياسي مشجعة على التحرك للمطالبة بهذه الحقوق، مثلما بدا عدم استعداد المجلس العسكري للاستجابة إلا تحت الضغط مشجعا على النزول إلى الشارع والميل إلى التصعيد.
تأثير أزمة ماسبيرو على سلطة المجلس العسكري
كانت هذه هي الخلفية التي تصعب بدونها قراءة "أزمة ماسبيرو" أو الأحداث المؤلمة التي وقعت يوم 9 أكتوبر/تشرين الأول الجاري وأدت إلى سقوط 24 قتيلا وأكثر من ثلاثمائة مصاب نتيجة اشتباكات عنيفة بين قوة الجيش الموجودة أمام مبنى التليفزيون وبعض الأفراد ممن كانوا ضمن المظاهرة.
فلم يكن لرد فعل على هذا الاعتداء أن يخلق أزمة كبرى بهذا الحجم إلا لأنه جاء في أجواء مشحونة ومثقلة بالتراكمات، وبسبب سوء إدارة المرحلة الانتقالية وضعف قدرة المجلس العسكري على احتواء المشاكل الطائفية.
وقد كرست أزمة "ماسبيرو" الاعتقاد بأن المجلس العسكري لا يستجيب إلا تحت الضغوط، بعد أن سارع إلى اتخاذ إجراءات للاستجابة إلى بعض مطالب المسيحيين لوضع حد لغضب المحتجين على سقوط قتلى من بين المتظاهرين.
فقد استجاب المجلس العسكري لمطلبين أساسيين يتعلق أحدهما بإصدار قانون جديد لبناء دور العبادة حلا لمشكلة إقامة الكنائس، ويتصل الثاني بتقنين أوضاع كنائس بُنيت من دون ترخيص وأقيم بعضها مخالفا للقانون. كان مشروع القانون الموحد لبناء دور العبادة نائما في دهاليز المطبخ السياسي لنظام مبارك منذ عام 2003، وتم إيقاظه عندما بدأت احتجاجات الناشطين المسيحيين عقب ثورة 25 يناير.
ولكنه بقي من دون تحريك إلى أن وقعت "أزمة ماسبيرو" فبدأ العمل للانتهاء منه أو استبداله بقانونين لبناء الكنائس والمساجد وفق طلب هيئات دينية عدة. وأُعلن أن هذا الموضوع على جدول أعمال مجلس الوزراء المنعقد يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول الجاري. كما تقرر الإسراع بتقنين أوضاع الكنائس غير القانونية وفتح ما هو مغلق منها.
وإلى جانب هذين المطلبين الدينييْن، استجاب المجلس العسكري عقب أزمة "ماسبيرو" أيضا لمطلب عام يتعلق بمكافحة التمييز الحديث وفرض عقوبات جنائية، فأصدر في 15 أكتوبر/تشرين الأول الجاري المرسوم بقانون رقم 126 لسنة 2011 بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات لهذا الغرض.
وبالرغم من أن هذا التعديل الذي حدث والمرسوم بقانون متوقع صدوره بشأن إجراءات بناء دور العبادة يمثلان تطورين إيجابيين تأخرا كثيرا، فمن شأن الاستجابة لهما تحت ضغط أزمة كبرى بهذا الحجم أن يكرّس الاعتقاد بأن الضغوط الاحتجاجية هي التي تُحدث التغيير، وأنه كلما اشتدت هذه الضغوط جاءت الاستجابة أسرع وأكبر، الأمر الذي قد يُضعف مركز المجلس العسكري في لحظة شديدة الحساسية. كما أن الاستجابة للمطلب الخاص بتقنين الكنائس غير المرخصة قد يُشجع فئات أخرى في المجتمع على تصعيد الاحتجاجات لفرض أوضاع غير قانونية، وخصوصا إذا لم يتم استبعاد الكنائس التي لا تتوفر فيها الشروط التي سيتضمنها القانون الجديد لبناء دور العبادة.
تأثير أزمة "ماسبيرو" على مسار الانتقال الديمقراطي
بالرغم من أن احتجاجات الناشطين المسيحيين تعتبر نوعا من الممارسة الديمقراطية الإيجابية التي افتقدتها مصر طويلا، إلا أن العنف الذي صاحبها وأدى إلى "أزمة ماسبيرو" يؤثر سلبيا على مسار الانتقال الديمقراطي بغض النظر عن مصدر هذا العنف ومن الذي بدأه وغير ذلك من تفاصيل تخضع للتحقيقات الآن. فالديمقراطية تعني، ضمن ما تعنيه، قواعد وإجراءات لحل الخلافات والصراعات السياسية والاجتماعية بشكل سلمي وفي منأى عن أي شكل من أشكال العنف. فإذا حضر العنف ذهبت الديمقراطية، والعكس. ولذلك ألقى العنف الذي صاحب أزمة "ماسبيرو" بظلال من الشك على مسار الانتقال الديمقراطي في مصر على نحو يتطلب معالجة سريعة للآثار السلبية لهذه الأزمة والتي يمكن إجمالها في أربعة:
-
أولها، إضعاف تماسك القاعدة الشعبية المطالبة بالديمقراطية نتيجة الاستقطاب الديني الذي تزيد حدته في مثل هذه الأزمات، وبسبب الخوف من أن تشهد الانتخابات البرلمانية التي ستبدأ في 28 نوفمبر/تشرين الثاني القادم عنفا على نحو قد يؤدي إلى الحد من المشاركة فيها.
فأسوأ أنواع الانتخابات هو ذلك الذي يشهد ميلا إلى الاقتراع على الهوية سواء الدينية أو العرقية أو غيرهما. والأكثر سوءً هو أن يحدث هذا الميل من خلال تعبئة منظمة تقوم بها مؤسسات وجماعات دينية سواء رسمية أو غير رسمية.
-
وثانيها، أن نمط الاستجابة للمطالب تحت ضغط الشارع، وليس لأهميتها أو ضرورتها أو نتيجة لحوار ديمقراطي جاد، يتعارض مع أحد أهم مقومات الديمقراطية، وهو حكم القانون وخضوع الجميع له. فالدولة الديمقراطية هي الدولة التي يكون فيها القانون فوق الجميع.
-
وثالثها، أن هذا النمط يؤدي إلى استمرار وترسيخ مفهوم يصعب تصور نجاح مسار الانتقال الديمقراطي في ظله، وهو تنامي المطالب الفئوية على حساب المطالب العامة. وهذا هو المفهوم السائد الآن في كثير من الاحتجاجات الفئوية، مثل من يتظاهر ليخطف قانونا يريده بلا قواعد عامة ومعايير مجردة تطبق على الجميع بلا استثناء أو تمييز.
-
أما الأثر السلبي الرابع، فهو أن العنف الواسع الذي حدث في أزمة "ماسبيرو" قد يزيد شعبية أية دعوة إلى تأجيل الانتخابات وبالتالي إرجاء نقل السلطة من المجلس العسكري إلى حكم مدني منتخب، بما قد يعنيه ذلك من إسدال الستار على مسار الانتقال الديمقراطي إلى أجل غير مسمى.