رفع تكاليف الارتباط بالنظام السوري

تصيب العقوبات الاقتصادية العربية والتركية القوى المنتفعة من النظام بخسائر تدعوها إلى فك الارتباط به، لكنها قد تصيب المحتجين السوريين بالإنهاك إذا كانت تأثيراتها على معيشتهم أقوى من تأثيراتها على تماسك النظام.
2c09754d18404d1fa22490a101173dab_18.jpg
رفع تكاليف الارتباط بالنظام السوري

يُعد التوافق بين جامعة الدول العربية والجمهورية التركية، في اللحظة الراهنة، على حزمة من العقوبات الاقتصادية رسالة سياسية تتوجه في المقام الأول إلى القوى المنتفعة من النظام داخل سوريا لإقناعها بأن التحالف معه لن يجلب لها إلا الخسارة وأن من مصلحتها أن تفك ارتباطها به؛ وهي عقوبات تستكمل طوق العقوبات الاقتصادية التي أقرَّها الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأميركية. على أن العقوبات الاقتصادية عمومًا ذات تأثير في المدى المتوسط والطويل، وهي عمليًّا لا تخدم أهدافًا آنية تتمثل في إثناء النظام الحاكم عن استخدام العنف والقتل المنهجي ضد المحتجين السلميين في سوريا، مع ذلك فإن من شأن هذه المجموعات من العقوبات، أن تربك النظام وتحد من قدرته على المناورة والتحرك نتيجة تقليل الموارد الضرورية، كما من شأنها أن تحفز فئات جديدة من المتضررين من السكان على حسم موقفها حيال النظام فتقف في وجهه، بعد أن يتبدى عجزه عن توفير الحد الأدنى من الشروط المعيشية اليومية، والحد الأدنى من حماية النشاط الاقتصادي والأعمال إضافة إلى حماية الثروات والأرصدة، لكن العقوبات الاقتصادية ستطول الشعب السوري وتؤثر على حياته اليومية سواء أراد ذلك القائمون عليها أم لم يريدوا، لأن الحكومة سترصد النصيب الأكبر من الموارد، على قلّتها وتناقصها، لأجهزتها الأمنية.

العقوبات الاقتصادية العربية والتركية

أقرَّت جامعة الدول العربية في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي 2011 مجموعة من العقوبات الاقتصادية، والتي كان من أهمها:

  • وقف التعامل مع البنك المركزي السوري.
  • وقف التبادلات التجارية الحكومية مع الحكومة السورية، باستثناء السلع الإستراتيجية التي تؤثر على الشعب السوري.
  • تجميد الأرصدة المالية للحكومة السورية.
  • وقف التعاملات المالية مع الحكومة السورية.
  • وقف جميع التعاملات مع البنك التجاري السوري.
  • وقف تمويل أية مبادلات تجارية حكومية من قبل البنوك المركزية العربية مع البنك المركزي السوري.
  • تجميد تمويل إقامة مشاريع على الأراضي السورية من قبل الدول العربية.

تركز العقوبات كما هو واضح على المؤسسات الحكومية، والأنشطة المرتبطة مباشرة بالحكومة، إضافة إلى المشروعات العربية المشتركة، والتي تكون الدول أو مؤسساتها أطرافًا فيها، وبالتالي تؤثر هذه العقوبات على الأداء الحكومي بتقليل الفرص البديلة ورفع تكلفتها؛ فالحظر المفروض على المصرف المركزي، والتجاري السوري، يحرم الحكومة من إمكانية تمويل مشترياتها الخارجية، كما يؤثر على القطاع الخاص في إجراء عملياته التجارية، وقد يحفز بعض أعضائه على الابتعاد عن النظام.

بعد إعلان عقوبات جامعة الدول العربية، سارعت الإدارة التركية إلى الإعلان عن مجموعة من العقوبات تتمثل في:

  • وقف قرض بنك التصدير والاستيراد التركي لتمويل مشاريع البنى التحتية السورية.
  • تعليق العلاقات بين المصرفين المركزيين في البلدين.
  • تجميد الأصول المالية للحكومة السورية.
  • وقف جميع تعاملات الائتمان المالي مع سوريا.
  • تعليق التعاون الإستراتيجي عالي المستوى مع سوريا.

ردّت الحكومة السورية على هذه العقوبات التركية، بتعليق العمل باتفاقيات التجارة الحرة بين البلدين، وأتبعتها بزيادة تعريفة العبور في الأراضي السورية، وفرض رسم إضافي على أسعار "المازوت" لاستعمال السيارات التركية العابرة في الأراضي السورية، وذلك في محاولة لإبراز نوع من التحدي والقدرة على التأثير في اقتصاد الخصم. مع ذلك فإن للعقوبات التركية دورها وتأثيرها، كون تركيا شريكًا رئيسيًا تجاريًا وإستراتيجيًا على المستوى الإقليمي، وانسجام موقفه مع موقف عدد من الدول العربية، يعزز الموقفين ويمنح العقوبات فرصة أكبر في التأثير.

أثر العقوبات ودورها

تشكِّل الدول العربية تقليديًا، السوق الرئيسي للصادرات السورية المصنَّعة، وكانت سوريا من الدول العربية المستفيدة نسبيًا من إقامة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى؛ حيث استوعبت الدول العربية نحو 52,5% من إجمالي الصادرات السورية لعام 2009، وتصبح هذه النسبة مرشحة للزيادة مع وقف الصادرات النفطية السورية إلى دول الاتحاد الأوربي. ويتم تبادل معظم السلع مع الدول العربية عبر القطاع الخاص المحلي، ولكن فرض عقوبات على المصرف التجاري السوري وحظر التعامل معه، يحرم التجار السوريين من فتح اعتمادات مستندية، والقيام بالتحويلات إلى حساباتهم في المصارف المحلية؛ مما يحمل السلع المصدَّرة أعباء إضافية قد تجعلها غير منافسة وتفقد بالتالي أسواقها التي كسبتها خلال فترة زمنية طويلة، مع ذلك تبدو التأثيرات على الصادرات السورية محدودة في ظل رفض العراق للعقوبات وعدم التزامه بها وهو المستورد الأول بالنسبة لسوريا (نحو 49% من إجمالي الصادرات إلى الدول العربية)، كما أن تحفظات الأردن ولبنان وعدم التزامهما بالعقوبات، وحصتهما من الصادرات السورية 6,3% و6,4% على التوالي يجعل ما يزيد عن 60% من إجمالي  الصادرات السورية إلى الدول العربية خارج أي تأثير فعلي لتلك العقوبات.

أما بالنسبة للواردات السورية، فإن حصة الدول العربية منها لا تزيد عن 16,4% (2009)، وتتركز نسبة 59% منها في دولتين، هما مصر 34.5% والسعودية 24.6% من إجمالي الواردات من الدول العربية عام 2009؛ لذلك سوف يؤثر التزام هاتين الدولتين بتطبيق العقوبات، على توافر هذه السلع في السوق السورية؛ لذلك يمكن أن تتسبب تلك العقوبات بضغوط تضخمية على أسعار الغذاء وبعض المستلزمات الصناعية، ويمكن أن يطول التأثير إمدادات المشتقات النفطية والغاز المنزلي، وهي المنتجات التي يعاني الإنتاج المحلي من قصور فيها، علاوة على أن العقوبات على الشركات العامة والمصارف الحكومية، ستؤدي إلى صعوبات جدية في التزود بهذه السلع من السوق العالمية، وإلى ارتفاع تكاليفها بالنسبة للحكومة؛ لأنها الجهة الوحيدة المخوَّلة بالتعامل مع هذه السلع استيرادًا وتوزيعًا داخل البلاد، من هنا تبدو وطأة مقاطعة المصرف المركزي والبنك التجاري أكبر تأثيرًا من تجميد الأرصدة.

وستحد العقوبات من تدفق الاستثمارات العربية والأجنبية التي تعد رهانا رئيسيا للحكومة السورية، حيث منحت الكثير من الإعفاءات والتسهيلات للاستثمار الأجنبي المباشر والذي بلغ عام 2010 نحو 1,9 مليار دولار أميركي بعد أن كان 2,6 مليار عام 2009 ، وتشكِّل الاستثمارات العربية جزءًا مهمًّا منها وخاصة في مجالات المال والعقارات، وتقدر المؤسسة العربية لضمان الاستثمار تلك الاستثمارات المرخَّص لها عام 2010 بما يعادل 333,5 مليون دولار، وكانت بعض الشركات العقارية قد أوقفت أعمالها في سوريا مبكرًا قبل صدور العقوبات.

إلى جانب الاستثمارات، هناك مساعدات إنمائية مقدَّمة لسوريا بلغت نحو 136 مليون دولار أميركي عام 2008، لكن سوريا سوف تُحرم من هذه التدفقات الخاصة بالتمويل الاستثماري، وسوف يترافق ذلك مع تراجع الإيرادات السورية من النقد الأجنبي نتيجة انهيار السياحة، وعدم قدرة النظام السوري على تصدير  الفائض من النفط وهو مورد رئيسي للدولار. يضاف إلى كل ذلك وجود دَيْن عام خارجي بلغ عام 2010 نحو 4677 مليون دولار أميركي، وتُقدَّر الالتزامات السنوية المترتبة عليه بنحو 265 مليون دولار أميركي.

إذن ستكون سوريا معرَّضة خلال الفترة القصيرة القادمة، إلى صعوبات متعددة الأوجه، ويعزز من تلك الصعوبات ما فرضته تركيا من عقوبات، وخاصة تلك المتمثلة بتعليق العلاقات بين المصرفين المركزيين، ووقف تعاملات الائتمان المالي، ووقف قرض بنك التصدير التركي لتمويل مشاريع البنية التحتية؛ وحسب نتائج مسح الاستثمار الأجنبي المباشر في سوريا عام 2009 بلغت قيمة الاستثمارات التركية ذلك العام 1273 مليون ليرة سورية، ويتضح أن الاستثمارات التركية ضئيلة نسبيًا، لكنها ذات أهمية خاصة نتيجة تمركزها بالدرجة الأولى في قطاع الصناعة التحويلية، وهي مرشحة للتزايد خلال السنوات القادمة (من المتوقع أن تتجاوز الاستثمارات التركية في سوريا 3 مليار دولار في السنوات الخمس القادمة).

أما بالنسبة للتبادل التجاري، فيُقدَّر التبادل التجاري بين سوريا وتركيا عام 2010 بما يعادل 10% من التجارة الخارجية لسوريا، وكانت الصادرات السورية إلى تركيا قد بلغت 3% من إجمالي صادراتها، وشكَّلت الواردات من تركيا نحو 7,6% من إجمالي الواردات، وقد تنامت المبادلات بين البلدين بعد دخول منطقة التجارة الحرة بين البلدين حيز التنفيذ عام 2007 ولكن الجانب التركي كان المستفيد الأكبر من إنشاء هذه المنطقة؛ حيث تطورت حصته من 4% من إجمالي الواردات السورية عام 2002 لتصبح عام 2010 نحو 10% من إجمالي الواردات، في حين أن حصة تركيا من الصادرات السورية والبالغة 7,4% من الصادرات السورية عام 2002 لم تتجاوز 5% من إجمالي الصادرات عام 2010.

شكَّل النفط السلعة الرئيسية المصدَّرة من سوريا إلى تركيا، فتراجعت نسبة الصادرات بعد حظر تصديره دوليًّا، لكن من جهة أخرى سوف تتأثر الصادرات التركية بالإجراءات السورية المضادة، كما سوف يتأثر التبادل التجاري التركي مع الدول العربية الخليجية، نتيجة القيود السورية المفروضة على حركة الترانزيت؛ لذلك ستعزز العقوبات التركية أثر العقوبات العربية على القطاع المالي وعلى الاستثمارات، ولكن هذه العقوبات ليست ذات تأثير كبير على الصعيد التجاري.

استنتاجات

تزايدت مخاوف السوريين بشكل عام جرَّاء توسع دائرة العقوبات فيما يخص أوضاعهم المعيشية وحياتهم اليومية؛ فلقد عرفت أسعار صرف الليرة السورية مزيدًا من التدهور لتبلغ نحو 60 ليرة/الدولار الأميركي، كما ارتفعت بالمقابل أسعار الذهب، وحذت مختلف السلع تقريبًا -وخاصة المستوردة منها- حذو سعر صرف الدولار، وبدأت الأسواق تشهد ارتفاعات متقاربة ومتكررة في الأسعار؛ مما يتهدد بانفجار تضخمي يعصف بالفئات الفقيرة والمتوسطة، والتي تعاني الآن في العديد من المناطق من نقص في السلع الأساسية، واحتكار لمواد ضرورية كالمازوت والغاز المنزلي، والذي يعود جزء أساسي منه إلى سياسة العقاب الجماعي الذي يمارسه النظام على مناطق بعينها، إلا أن الظاهرة تتوسع لتشمل مختلف المناطق وبدرجات متفاوتة، لتولِّد قلقًا جماعيًّا وخشية من القادم. لكن تبدو العقوبات بشكلها الحالي أقل وطأة من أنواع أخرى من العقوبات الشاملة، والأهم من ذلك أنها بالدرجة الأولى رسالة سياسية تعبر عن موقف دولي جماعي يهز الثقة في النظام ويقلل حظوظ المراهنة عليه، على أن نجاعتها لن تتحقق إلا بالموازنة بين تأثيراتها على تماسك النظام وإنهاك قدرة الشعب على المقاومة والاستمرار في النضال.