المواجهات الطائفية بمصر: المضامين والآفاق

لا ينبغي الاقتصار على تطبيق القانون لمعالجة داء الطائفية بمصر بل ينبغي ملء الفراغ السياسي الذي أحدث تحولا نوعيا في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين بمصر بشكلي يسمح بوضع حد للتصدع الذي يهدد المجتمع.
1_1061399_1_34.jpg







 

مركز الجزيرة للدراسات


يلاحظ متابعو المواجهات وغيرها من الأزمات التي يُطلق عليها "الفتنة الطائفية" ارتباطها في الفترة الأخيرة بأسماء نساء صرن مشهورات في كثير من وسائل الإعلام كما على المستوى الشعبي في مصر، مثل وفاء قسطنطين وكاميليا شحاتة، وأخيرا عبير فخري التي كانت سببا مباشرا في انفجار المواجهة الطائفية في منطقة إمبابة (جنوب القاهرة). وربما تلحق بهن كريستين وهيب، التي كادت أن تفجَّر أزمة طائفية في محافظة قنا (جنوب مصر) قبل أيام، إذا لم يتم التوصل إلى حل مشكلتها بعدما أمكنت تهدئتها مؤقتا. وهذا الارتباط ليس عابرا، بخلاف ما قد يظنه كثيرون، بل ينطوي على دلالة مهمة حيث أن قضية كل منهن ذات مضمون اجتماعي.


فلقد أصبح الاحتقان الطائفي المستمر والمتزايد منذ بداية سبعينات القرن الماضي مرتبطا في السنوات الأخيرة بمشاكل اجتماعية واقتصادية تغذيه وتخلق الأسباب المباشرة للأزمات والمواجهات التي تحمل في طياتها خطر تصدع المجتمع. وإذا كان هذا الاحتقان بدأ نتيجة فراغ سياسي أدى إلى انغلاق كثير من المصريين على هوياتهم الدينية وانغماسهم فيها وتعصبهم لها، فقد ظهرت تجلياته في أشكال عدة ترتبط بمضامين دينية وأخرى اجتماعية تأخذ طابعا دينيا.


المضامين الاجتماعية للأزمات الطائفية
التصدع الاجتماعي: ترياق التعددية السياسية


المضامين الاجتماعية للأزمات الطائفية 





يرتبط رأب الصدع الاجتماعي بإمكانات معالجة الداء الذي أدى إلى مرض الاحتقان الطائفي، وليس فقط أعراضه التي تظهر في أزمات ومواجهات شتى.
باستثناء الخلافات التي تحدث على بناء دور عبادة، وبصفة خاصة الكنائس في بعض المناطق، لا نجد مضمونا دينيا أو طائفيا صريحا بين العوامل المباشرة التي تخلق مشاكل تتحول إلى أزمات ومواجهات تُستخدم عبارة "الفتنة الطائفية" للإشارة إليها. أما الخلافات التي تُنتج القسم الأكبر من هذه الأزمات فهي اجتماعية واقتصادية. ومن هذه الخلافات ما يحدث بسبب عمليات بيع وشراء أو احتكاكات بين جيران مسلمين ومسيحيين.

لكن أكثرها يرتبط بعلاقات عاطفية بين رجل مسلم وامرأة مسيحية، أو العكس، تؤدي إلى خلافات بين ذويهما. وأخطر أنواع هذه العلاقات هو ذلك الذي تقترن فيه علاقة عاطفية بتغيير الدين. والملاحظ أن تغيير الدين يحدث هنا لأسباب اجتماعية في الأغلب الأعم وليست دينية، لأن معظم الحالات التي تُنتج أزمات تقترن بتحول امرأة مسيحية إلى الإسلام. ومعروف أن زواج مسيحية من مسلم لا يتطلب تغيير دينها وفقا للشريعة الإسلامية. ولكنها تفعل ذلك لاعتقادها أن هذا التغيير يوفر لها حماية المسلمين إذا حاولت عائلتها منع زواجها أو تفريقها عن زوجها بالقوة، وخصوصا حين يكون ذووها مصرين على تزويجها من مسيحي لا ترغب فيه.


وفي بعض الحالات تلجأ امرأة مسيحية إلى اعتناق الإسلام، لتفترق عن زوجها المسيحي الذي ترفض التقاليد الكنسية في مصر تطليقها منه حتى إذا استحالت حياتهما معا. وقد يحدث ذلك دون أن تعرف هذه المرأة شيئا عن الإسلام الذي تهرب إليه، ولا حتى عن المسيحية التي لا تهرب منها بمقدار ما ترغب في الفرار من ظلم عائلتها.


وهذا هو السبب المباشر الأكثر شيوعا الآن للأزمات الطائفية في مصر نتيجة ازدياد حدة التناقض بين القيود الأسرية والاجتماعية الصارمة حيث يتم تزويج الفتيات أحيانا بغير قبولهن، وميل أعداد متزايدة منهن إلى رفض هذا الإرغام حين تكن راغبات في الزواج من آخر. فإذا كان دين هذا الآخر المرغوب مختلفا، تتحول مشكلة عائلية-اجتماعية إلى أزمة طائفية حين تهرب الفتاة للزواج بمن تفضله. وحين تهرب وتتزوج مثلا من مسلم، تبدأ الأزمة عندما تبحث عنها عائلتها. وتكتمل مقومات هذه الأزمة حين تعثر العائلة المسيحية على ابنتها التي أسلمت. ويتفاقم الوضع إذا أُخفيت هذه المرأة وعرف زوجها أنها في كنيسة فسعى إليها بمساعدة مسلمين آخرين. وتسوء الأمور أكثر إذا كان هؤلاء الذين يساعدونه أو بعضهم مصنفين ضمن تيار أو اتجاه إسلامي يُنظر إليه من خلال صورة نمطية معينة.


وهذا ما حدث في حالة عبير فخري التي اعتقد زوجها المسلم أنها أُخفيت في إحدى كنائس إمبابة فلجأ إلى مسلمين بعضهم من أحد التيارات السلفية. ولذلك، فما أن توجهوا إلى الكنيسة للسؤال عن المرأة، حتى توترت الأجواء حولها ونشبت مواجهة أدت إلى مقتل 15 شخصا من الجانبين فضلا عن عشرات المصابين.


التصدع الاجتماعي: ترياق التعددية السياسية 


يرتبط رأب الصدع الاجتماعي بإمكانات معالجة الداء الذي أدى إلى مرض الاحتقان الطائفي، وليس فقط أعراضه التي تظهر في أزمات ومواجهات شتى. وإذا كانت هذه الأعراض تأخذ في معظمها الآن مضامين اجتماعية أكثر منها دينية مباشرة، فالداء الذي ينتجها هو ديني-طائفي بامتياز ولكنه ذو جذر سياسي يعود إلى الفراغ الذي أدى إليه إلغاء الأحزاب وحظر التعددية وتأميم السياسة في المجتمع المصري بعد ثورة 1952.


ففي غياب الانتماء السياسي والحزبي والنقابي الحر المرتبط بتعدد الاختيارات والتنافس السلمي، انغمس المصريون في انتمائهم الديني على نحو ظهرت تداعياته بعد فشل المشروع القومي الذي تعلقوا به وعوّضهم بدرجة أو بأخرى عن الانتماء السياسي التعددي.


وكانت هزيمة 1967 المفاجئة التي أسقطت ذلك المشروع صدمة مروعة دفعت الكثير منهم إلى مزيد من الانغماس في الدين بحثا عن خلاص من السماء، فامتلأت المساجد والكنائس بروادها على نحو غير مسبوق، وظهرت قصص دينية مثل ظهور السيدة العذراء في كنيسة الزيتون عام 1969 وغيرها.


ومع تنامي التعصب جيلا بعد جيل، لم تعد الخلافات الدينية المباشرة هي السبب المباشر وراء أزمات "الفتنة الطائفية"، بل المشاكل الاجتماعية الأكثر انتشارا وشيوعا. ولأن هذه المشاكل لا تنتهي، يصعب وضع "روشتة" شافية بشكل كامل وفوري. فالعلاج الذي يتجاوز المسكنات يتعلق بداء الاحتقان الطائفي الذي توسع نطاقه. ويتطلب هذا العلاج إنعاشا للحياة السياسية لا يتحقق بقرار. ولكن هذا القرار، الذي لم يُتخذ بعد بالرغم من إطاحة نظام الحكم الذي رسَّخ الفراغ، هو نقطة البداية في عملية سياسية تجعل حرية الاختيار مكفولة قانونا، وتحمي الأفراد من كل سلطة لا تعبر عن إرادتهم ويمكنهم محاسبتها.


ومن دون اتخاذ هذا القرار وإطلاق حرية تأسيس الأحزاب السياسية وإزالة القيود التي ما زالت باقية في القانون الجديد الذي ينظمها، وإجراء حوار وطني جدي وليس شكليا حول خريطة طريق للتغيير، وإشراك الشعب في إدارة شؤونه وبناء مؤسساته الديمقراطية العمالية والنقابية، قد لا تكفي الروح الجديدة التي تقترن بثورة 25 يناير لمحاصرة الأزمات والمواجهات الطائفية ناهيك عن القضاء عليها.





مع تنامي التعصب جيلا بعد جيل، لم تعد الخلافات الدينية المباشرة هي السبب المباشر وراء أزمات "الفتنة الطائفية"، بل المشاكل الاجتماعية الأكثر انتشارا وشيوعا.
هناك روح جديدة فعلا ظهرت في ردود الفعل على مواجهات إمبابة الطائفية. ومن أبرز معالمها اتجاه السلطة الانتقالية إلى تطبيق القانون الذي تم تعطيله في معظم الأزمات الطائفية السابقة، اكتفاء بالوسائل العرفية التي تحقق تهدئة مؤقتة ولا تنطوي على الردع اللازم للحد من انتشار الأعمال التي تؤدي إليها. فعندما تقترن الأزمة الطائفية بأعمال قتل أو حرق أو اعتداء من أي نوع، لابد من التعامل معها باعتبارها جريمة جنائية يطبق فيها القانون بتجرد من دون الاستغناء عن دور المجالس العرفية في المناطق التي تسودها ثقافة تقليدية.

غير أن القانون ينبغي أن يكون سيدا على الجميع بلا استثناء ومن دون ازدواج في المعايير. ويقتضي ذلك أن تخضع الكنيسة لأحكام القضاء حين تلجأ سيدة مسيحية إليه وتحصل على حكم يجيز تطليقها، فتلتزم بهذا الحكم ليس باعتباره عنوان الحقيقة فقط ولكن لدرء أحد أهم الأسباب المباشرة لـ "الفتنة الطائفية" أيضا.


يساهم إعمال القانون في معالجة أعراض داء الاحتقان الطائفي الذي ينخر المجتمع المصري، أما معالجة هذا الداء نفسه فهي تتطلب ملء الفراغ السياسي الذي تسبب فيه وأحدث تحولا نوعيا في اهتمامات المصريين والعلاقات بين مسلميهم ومسيحييهم. فلقد كانت مصر مجتمعا متماسكا يجعل المرشح المسيحي يفوز في انتخابات برلمانية في دائرة أغلبيتها الساحقة من المسلمين لاتفاقهم معه سياسيا، ويتبرّع أكثر من عشرة مسيحيين ضمن اكتتاب عام لتمويل شراء مقر المركز العام لجماعة "الإخوان المسلمين" عام 1944. لكن معظم المصريين الذين يعيشون الآن لا يعرفون هذا المجتمع الذي صار تاريخا. ومع ذلك، في إمكانهم أن يبنوا مثله إذا تمكنوا من معالجة الاحتقان الطائفي ووضع حد للتصدع الذي يهدد مجتمعهم الراهن منطلقين من روح ثورة 25 يناير وثقافتها.