الثورة الليبية: مخاطر الحرب الطويلة والتقسيم

بدأت الثورة الليبية سلمية لكن قمع النظام دفعها إلى حمل السلاح والتدويل، وهي اليوم بحاجة إلى إعادة تنظيم سياسي لكل ليبيا، وعسكري لقواتها، حتى تقصّر أمد المواجهات العسكرية وتتفادى مخاطر التقسيم.

مركز الجزيرة للدراسات


بدأت الثورة الليبية سلمية لكن قمع النظام دفعها إلى حمل السلاح والتدويل، وهي اليوم بحاجة إلى إعادة تنظيم سياسي لكل ليبيا، وعسكري لقواتها، حتى تقصّر أمد المواجهات العسكرية وتتفادى مخاطر التقسيم.





ليس ثمة شك في أن الرفض الشعبي لنظام القذافي لا يقل، إن لم يزد، عن الرفض الشعبي الذي أطلق ثورتي تونس ومصر.
انطلقت الثورة الليبية بمظاهرات 15 فبراير/ شباط 2011، ولكنها سميت بثورة 17 فبراير/ شباط احتراماً وإحياء لذكرى شهداء مظاهرات اليوم نفسه بمدينة بنغازي في 2006. فخلال شهر من اندلاع الثورة، كانت مظاهرات المدن الليبية السلمية المطالبة بالحرية والتغيير قد تحولت إلى انتفاضة مسلحة ردا على القمع المسلح لقوات القذافي؛ وقد نجح الليبيون في تحرير قطاعات واسعة من بلادهم من سلطة نظام الحكم؛ لكن محاربة النظام للرافضين له وقتله المدنيين جعل مجلس الأمن الدولي يصدر قرار 1973، لحماية الليبيين من بطش النظام الحاكم وكتائبه الأمنية وسلاحه الجوي.

قوات مسلحة منقسمة بين الشعب والقذافي
ليس ثمة شك في أن الرفض الشعبي لنظام القذافي لا يقل، إن لم يزد، عن الرفض الشعبي الذي أطلق ثورتي تونس ومصر بدليل نجاح الثورة السلمية خلال المرحلة الأولى في غالب المناطق الليبية ، إلا أن سبب عجزها عن الإطاحة سلميا بنظام القذافي من خلال المظاهرات الشعبية وانعطافها إلى العمليات المسلحة يعود إلى الانقسام في جسم القوات المسلحة الليبية، بخلاف الجيشين التونسي والمصري الذين ظلا موحدين تحت قيادة واحدة، ورفضت قيادتهما في البلدين قمع المظاهرات الشعبية، وقررتا في النهاية الانحياز للمطالب الشعبية والتضحية بنظام الحكم من أجل الحفاظ على جسم الدولة واستقرار البلاد. أما ليبيا فلقد شهدت تطوراً مختلفاً إلى حد كبير، حيث انحازت قوات الجيش الليبي، محدودة العدد وضعيفة التدريب، للثورة، لكن ما يعرف بالكتائب الأمنية، التي يعتقد أن تعدادها يصل إلى نحو عشرين ألفاً، حسنة التدريب والمجهزة بالسلاح الثقيل والمدرعات، ويقودها أبناء القذافي ومقربون منه، ظلت على ولائها للنظام الحاكم، ومارست دوراً قمعياً بشعاً ضد المتظاهرين في المدن الليبية الرئيسية، مستعينة بطائرات سلاح الجو الموالية للنظام. فضلا عن الدور المماثل الذي لعبته اللجان الثورية وأجهزة الأمن الداخلي.


وفّر التدخل الجوي الذي قدمته دول التحالف الدولي ضد قوات القذافي خلال النصف الثاني من مارس/ آذار دعماً لقوات الثورة الليبية التي كانت تواجه موقفاً صعباً في منطقة الوسط الليبي (بن جواد، بريقة، اجدابيا). ولكن التدخل الجوي الدولي لم يستطع أن يحسم الموقف العسكري لصالح الثوار؛ وذلك لعدة أسباب:



  1. تفكك قوات الجيش التي أعلنت تأييدها للثورة، وضعف تدريبها ومعداتها.
  2. قوات الثوار هي في أغلبها من المتطوعين الذي يفتقدون التنظيم العسكري الضروري لمواجهة جيش نظامي في ساحة معارك صحراوية، كما يفتقدون التدريب والتسليح الضروري.
  3. حملات القصف الجوي التي تقوم بها قوات التحالف الدولي تتسم بالانتقائية والتقطع.

ما نجم عن هذا الموقف أن منطقة الوسط الليبي تحولت إلى ساحة كر وفر بين قوات الثوار وكتائب النظام الأمنية. وقد استطاع النظام بعد أسبوعين من المقاومة الأهلية فرض سيطرته على مدينة الزاوية في أقصى الغرب الليبي. وبالرغم من أن مدينة مصراته الساحلية الغربية تستعصي على النظام وعلى محاولات قواته الشرسة للسيطرة عليها، إلا أنها تظل محاصرة، تفصلها عن طلائع قوات الثوار مدينة سرت وأكثر من مئة كيلومتر من الشريط الساحلي.


منذ بداية إبريل/ نيسان، سارعت القيادات العسكرية التابعة للمجلس الوطني المؤقت، الممثل لثورة الشعب الليبي والذي يجعل من مدينة بنغازي مقراً له، إلى القيام بدور أكثر نشاطاً وفعالية في إدارة القتال وقوات الثوار. ويعتقد أن المجلس الوطني قد تلقى مؤخراً بعضاً من شحنات الأسلحة، التي ستعزز من أداء قوات الثوار العسكري. وفي الآن نفسه، تبذل جهودا حثيثة لإعادة بناء نواة جيش وطني، وتنظيم قوات الثوار في كتائب أكثر انضباطاً وقدرة على العمل طبقاً للشروط الخاصة بالحرب في المسرح الليبي.


تآكل نظام العقيد ونهايته



لابد أن تتسارع وتيرة التنظيم السياسي للشعب الليبي في المناطق المحررة، وتلك غير المحررة بصورة كاملة، وأن تتزايد وتيرة الاتصال بين القوى الشعبية الليبية في المناطق المحررة وتلك التي تقع تحت سيطرة النظام.
من جهة أخرى، وبالرغم من استمرار الكتائب الأمنية في القتال فإن الشواهد تتزايد على إنهاكها ويأسها، لاسيما في الجبهة الشرقية، وهو ما يزيد من حاجة النظام للمرتزقة الأفارقة. ومع تصاعد الضغوط الدولية السياسية والقانونية، يستمر تآكل النظام في طرابلس بصورة مطردة، من انشقاق مندوبه في الأمم المتحدة وعدد واسع من سفرائه ودبلوماسييه في الخارج، إلى هروب وزير خارجيته إلى لندن. أما عربياً، فثمة شواهد على أن الجزائر (وربما سورية بدرجة أقل) تلعب دوراً خفياً في مد يد العون للنظام. ماعدا ذلك، تكاد كل الدول العربية قد تخلت عن القذافي، سواء لإيمانها ببشاعة حكمه أو لرؤيتها الواقعية لوضعه وانعدام فرص استمراره.

في النهاية، لا يكاد يوجد شك في أن الثورة الليبية ستطيح بنظام القذافي. فمهما كان التعقيد الذي يحيط بمسار الثورة الليبية، فقد بات من المستحيل أن يستطيع القذافي، ومن تبقى من نظامه، حكم ليبيا وشعبها من جديد. ولكن ثمة مخاطر تحيط بالثورة الليبية ومستقبل ليبيا؛ بعضها يتعلق بالمدى الزمني الذي يمكن أن تأخذه الحرب بين النظام وشعبه، وبكل ما قد تجره الحرب من دمار وموت، وما يمكن أن يؤدي إليه مثل هذا الوضع، مثل بروز دعوات إلى تدخل عسكري غربي على الأرض، لا تكتفي بالتدخل الجوي الجاري منذ صدور قرار مجلس الأمن 1973؛ وبعضها يتعلق بتوجه بعض القوى الغربية لفرض وقف لإطلاق النار، دون أن يرافقه انسحاب لقوات القذافي الأمنية من المدن الليبية وتوفير مناخ من الحرية للشعب الليبي في كافة أنحاء البلاد، وهو ما يمكن أن يفرض تقسيماً واقعياً بين غرب ليبيا وشرقها، ومن ثم توفير فرصة للتدخل الغربي المباشر وغير المباشر في كل من الشطرين.


في مواجهة مثل هذه المخاطر، لابد أن تتسارع وتيرة التنظيم السياسي للشعب الليبي في المناطق المحررة، وتلك غير المحررة بصورة كاملة، وأن تتزايد وتيرة الاتصال بين القوى الشعبية الليبية في المناطق المحررة وتلك التي تقع تحت سيطرة النظام. ومن الضروري، إضافة إلى ذلك، أن يتسع نطاق الدور الذي تلعبه الدول والقوى الشعبية العربية إلى جانب الثورة الليبية، لاسيما دور مصر وقواها الشعبية.